فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لأن العالم القديم كان عالم انعزال، لا التحام فيه أو مواصلة؛ فقد يوجد عيب وآفة في مكان، ولا يوجد هذا العيب أو تلك الآفة في مكان آخر.
وكل رسول يأتي ليعالج عيبًا محددًا في المكان الذي أرسله الله إليه، ولكن رسول الله محمدًا صلى الله عليه وسلم جاء وهو الرحمة المهداة للجميع وخاتم الأنبياء والمرسلين جاء صلى الله عليه وسلم والدنيا على ميعاد بالالتقاء الإيماني، فلما تقاربت البلاد عن طريق سرعة الاتصالات، وما يحدث في عصرنا الآن بقارة أمريكا نجده عندنا في نفس اليوم أو غدًا، فالعالم الآن عالم التقاء، وتعددت الداءات فيه وتوحدت بسبب سرعة الالتقاء عن طريق عدم التمييز بين الخبيث والطيب.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم الرسل.
وكانت خيبة آل مدين هي عدم عبادة الله وحده، وكذلك كانت فيهم خسيسة التطفيف في الكيل والميزان، لذلك يقول الحق سبحانه على لسان شعيب عليه السلام: {وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} [هود: 84].
وحين قرأ العلماء هذا القول الكريم لم يلتفتوا إلى أن المراد ليس نقص المكيل والموزون، لأنه لو شاء لقال: ولا تنقصوا المكيل أو الموزون هذا إذا نظرنا إلى الأمر من وجهة ما يريد البائع، ولكن القول هنا يقصد أن يأخذ كل ذي حق حقه، أن يأخذ المشتري حقه من السلعة، وأن يأخذ البائع حقه في الربح.
إذن: فهذا القول الكريم يشمل البائع والمشتري معًا.
والكيل كما نعرف هو تعديل شيء بشيء، فإن كان في الخفة والثقل؛ فالأمر يحتاج إلى ميزان، وإن كان تعديل شيء بشيء في الكم، فهذا يحتاج إلى الكيل، وهذا هو الأمر المشهور في الكيل والميزان، وأي تعديل شيء بشيء يحتاج إلى ما يناسبه؛ فالقماش مثلًا يتم تعديله بالمتر، والأرض يتم تعديلها بالمساحة؛ أي: قياس الطول والعرض، وبعض الأشياء تُباع بالحجم، وهذا يعني قياس الطول والعرض والارتفاع واستخراج الناتج بعملية ضرب كل منهم في الآخر.
إذن: فالأمر المهم هو أن يأخذ كل إنسان حقه، حتى وإن كان تأجير قوة عامل لينجز عملًا، فأنت تعدل زمن وقوة العمل بالأجر الملائم، والأمر المشهور هو الكيل والميزان، لكن بقية التقييمات موجودة؛ ليأخذ كل ذي حق حقه.
لأن الإنسان لو أخذ غير حقه لاستمرأ أن يأخذ حقوق الناس، ولو أكل بعض الناس حقوق البعض الآخر؛ لَزهدَ من أكلتْ حقوقهم في العمل.
وأنت حين تعطي للإنسان أقل مما يستحق، أو تأخذ من جهده فوق ما تدفع له من أجر، تجده يبطئ في العمل، ولا ينجز المطلوب منه على تمام الدقة، ومن هنا يحدث الخلل.
ولذلك أقول: إن إعطاء كل ذي حق حقه يزيد من جودة الأداء في العمل.
وعلينا أن نترك صاحب الطموح ليعمل؛ بدلًا من أن يخزن ماله أو يكنزه؛ لأن صاحب الطموح حين يقيم مشروعًا أو بناءً؛ فهو يفيد الفقراء وينفعهم حتى وإن كان لا يفكر في ذلك فالذي يبني عمارة سكنية ينفع الصناع والعمال ومنتجي المواد اللازمة للبناء دون أن يقصد وسينتفع العامل الفقير دون أن يقصد صاحب العمل وربما انتفع كل الفقراء مما يصنعه صاحب العمل، قبله فيما يفعل.
إذن: فمن المهم أن يأخذ كل إنسان حقه قبل أن يجف عرقه؛ مصداقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه».
وهكذا نعلم أن الدين في ظاهر الأمر يحض على الإيثار، وفي واقع الأمر، هو يحرص على تأكيد ثواب الإنسان عند ربه؛ لأن الذي يؤثر غيره على نفسه ولو كان به خصاصة لو كان معه مال قليل وأعطاه لآخر عنده ضائقة، وليس عند هذا الآخر مال، هنا يكون صاحب المال القليل قد آثر الآخر على نفسه في ظاهر الأمر، ولكنه سيأخذ أضعاف هذا المال ثوابًا من عند الله تعالى.
وهكذا يعلمنا الدين النفعية الراقية، وهي النفعية التي يعاملنا بها الله سبحانه؛ وحين نترك قانون النفعية ليسيطر على حركة الناس، فنحن نوفر سيولة الانتفاع في المجتمع.
وهنا في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها عرفنا أن شعيبًا قال لأهل مدين: {وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} [هود: 84].
أي: أنكم يا أهل مدين غير مضطرين لذلك؛ لأن من يبيع منكم عنده سلع، ومن يشتري إنما يملك نقودًا، فاكتفوا بالخير الذي عندكم، وليأخذ كل ذي حق حقه، وهذه قضية يغفل عنها كثير من الناس؛ فالذي يبيع قد يبيع صنفًا واحدًا، فإن غش في الكيل أو الميزان، فسوف يغشه ويخدعه غيره في الأصناف الأخرى التي تلزمه لحياته.
وإن اشتغل واحد في إنقاص الكيل والميزان، فالآخرون سيفعلون مثل ذلك في كل ما يخص حياته؛ لأن المخادع الواحد، سيلقي مخادعين كثيرين، وهنا يقول شعيب عليه السلام: ما الذي يضطركم إلى ذلك وأنتم بخير؟
ثم يقول محذرًا: {وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} [هود: 84].
لانك حين تنقص شيئًا وأنت تبيع أو تزيد شيئًا حين تشتري، فأنت لا تخدع من تتعامل معه، وإنما تخدع نفسك.
وكلنا يعلم أن الغفلة قد تطرأ على البائع، وقد تطرأ على المشتري، وقد يحاول بائع أن يستغل غفلة المشتري فيزيد من ثقل الميزان بإصبعه، وقد يحاول المشتري أن يستغل غفلة البائع بأن يرفع كفة الميزان بإصبعه من غير أن يراه البائع، فيأخذ غير حقه، وهذا نوع من خداع النفس؛ لأن الحق سبحانه إنما يأمر بالاستقامة في البيع والشراء؛ لأن الانتفاع بأي شيء مهما كَثُر، فهو موقوت بعمر الإنسان في الدنيا، وعمر الإنسان موقوت، ولكن الذي يغش ويخدع إنما يُعرِّض نفسه لعذاب الله سبحانه في الآخرة، وهو عذاب بلا أمد ولا نهاية.
وهكذا يسلِّم الإنسان نفسه لفائدة قليلة في الدنيا الزائلة، ثم يلقى عذابًا لا ينتهي في آخرة غير زائلة.
والعذاب في الآخرة عذاب محيط، بمعنى أن المعذَّب لا يستطيع أن يفلت منه، فأنت في الدنيا بإمكانك أن تحتال في النجاة من العذاب، وقد تلجأ إلى من هو أقوى منك ليحميك، ولكنك في الآخرة تواجه يومًا لا بيع فيه ولا خُلَّة ولا شفاعة، إن كنت من أهل النار.
يقول الحق سبحانه بعد ذلك ما جاء على لسان شعيب مواصلًا الحديث إلى أهل مدين: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}
وفي الآية الكريمة السابقة قال الحق سبحانه: {وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان} [هود: 84].
وهكذا نعلم أن عدم الإنقاص في الكيل والميزان مطلوب، وكذلك توفية المكيال والميزان مطلوبة؛ لأنهما أمر واحد، والحق سبحانه لا يتكلم عن المكيل ولا عن الموزون إلا بإطلاقهما، وهو كل عمل فيه واسطة بين البائع والمشتري.
وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول الحق سبحانه: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطفيين: 1- 3].
ذلك لأن البائع قد يقول لك: أنت مأمون فزِنْ أنت لنفسك أو كِلْ أنت لنفسك، وقد تخدع البائع فتأخذ أكثر من حقك؛ وقد يفعل البائع عكس ذلك، وفي مثل هذا بؤس للاثنين.
وهنا يقول شعيب عليه السلام: {ويا قوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط} [هود: 85].
والحق سبحانه هنا تكلم عن النقص وعن الإيفاء.
ثم يقول سبحانه: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ} [هود: 85].
وهذا كلام عام لا ينحصر في مكيل أو موزون، فقد يأتي مشترٍ ليبخس من قيمة سلعة ما، أو أن يأخذ رشوة لقضاء مصلحة، أو يخطف ما ليس حقًّا له، أو يغتصب، أو يختلس، وكلها أمور تعني: أخذ غير حق بوسائل متعددة.
ونحن نعلم أن الخطف إنما يعني أن يمد إنسان يده إلى ما يملكه آخر ويأخذه ويجري، أما الغصب، فهو أن يمد إنسان يده ليأخذ شيئًا، فيقاومه صاحب الشيء، لكن المغتصب يأخذ الشيء عنوة، أما المختلس فهو المأمون على شيء فاختلسه، والمرتشي هو من أخذ مالًا أو شيئًا مقابل خدمة هي حق لمن يطلبها.
إذن: فقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ} [هود: 85].
تضم أشياء متعددة.
والبخس هو أن تضر غيرك ضررًا، بإنقاص حقه، سواء أكان له حجم، أو ميزان، أو كَمٌّ، أو كَيْفٌ.
وكلمة أشياء مفردها: شيء، ويقولون عن الشيء: جنس الأجناس فالثمرة يقال لها: شيء، وكل الثمر يقال له: شيء.
والحق سبحانه وتعالى يوصينا ألا يغرنا أي شيء مهما كان قليلًا.
ونحن نلحظ هنا أن كلمة الناس جمع، وكلمة أشياءهم جمع أيضًا، وإذا قوبل جمع بجمع اقتضت القسمة آحادًا. أي: لا تبخس الفرد شيئًا، وإنْ قَلَّ.
ونجد واحدًا من العارفين بالله قد استأجر مطيَّة من خان ليذهب بها من مكان إلى مكان آخر، فلما ركب المطية وقع منه السوط الذي يحركها به، فأوقف الدابة مكانها وعاد ماشيًا على قدميه إلى موقع سقوط السوط ليأخذه، ثم رجع ماشيًا إلى مكان الدابة ليركبها، فقال له واحد من الناس: لماذا لم ترجع بالدابة إلى موقع السوط لتأخذه وتعود؛ فأجاب العارف بالله: لقد استأجرتها لأصِلَ بها إلى مكان في اتجاه معين، ولم يتضمن اتفاقي مع صاحبها أن أبحث بها عن السوط.
ونجد عارفًا آخر جلس يكتب كتابًا، وكان الناس في ذلك الزمان يجففون الحبر الزائد بوضع قليل من الرمال فوق الصفحات المكتوبة، ولم يجد العارف بالله ما يجفف به المكتوب، فأخذ حفنة من تراب بجانب جدار، ثم ذهب إلى صاحب الجدار وقال له: أنا أخذت ترابًا من جانب جدارك فقوِّمه فقال صاحب الجدار: والله لِورَعِك لا أقوِّم، أي: أنه قد تسامح في هذا الأمر.
ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} [هود: 85].
وكلمة عثا، يَعْثي، ويعثوا، وعثى. يعثي؛ كلها تعني: زاول فسادًا، أي: أن يعمد الإنسان إلى الصالح في ذاته فيفسده، مثل طَمْر بئر ماء، أو حفر طريق يسير فيه الناس، وهو كل أمر يخرج الصالح في ذاته عن صلاحه.
والمجتمع كله بكل فرد فيه مأمور بعدم مزاولة الفساد، ولو طبَّق كل واحدٍ ذلك لصار المجتمع كله صالحًا، ولكن الآفة أن بعض الناس يحب أن يكون غيره غير مفسد، ولكنه هو نفسه يفسد، ولا يريد من أحد أن يعترض عليه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ} أي: ما يبقى لكم من الأمر الحلال خير لكم؛ لأن من يأخذ غير حقه يخطئ؛ لأنه يزيل البركة عن الحلال بالحرام؛ فمن يأخذ غير حقه يسلط الله عليه أبوابًا تنهب منه الزائد عن حقه.
وأنت تسمع من يقول: فلان هذا إنما يحيا في بركة، أي: أن دخله قليل، ولكن حالته طيبة، ويربي أولاده بيسر، على عكس إنسان آخر قد يكون غنيًّا من غير حلال، لكنه يحيا في ضنك العيش.
وقد تجد هذا الإنسان قد انفتحت عليه مصارف الدنيا فلا يكفي ماله لصد همومه، لأن الله سبحانه قد جَرَّأ عليه مصارف سوء متعددة.
وقد يستطيع الإنسان أن يخدع غيره من الناس، ولكنه لن يستطيع أن يخدع ربه أبدًا.
وقول الحق سبحانه: {بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ} [هود: 86].
أي: أن الله تعالى يُذهِب عمن يراعي حقوق غيره مصارف السوء.
وسبق أن قلنا قديمًا: فلننظر إلى رزق السلب لا إلى رزق الإيجاب؛ لأن الناس في غالبيتها تنظر إلى رزق الإيجاب، بمعنى البحث عن المال الكثير، وينسون أن الحق سبحانه وتعالى قد يسلط مصارف السوء على صاحب المال الكثير الذي جمعه من غير حق، بينما يسلب عن الذي يرعى حقوق الناس تلك المصارف من السوء.
ومن يُربُّون أولادهم من سُحْت أو حرام، لا يبارك الله فيهم؛ لأن هناك في تكوينهم شيئًا حرامًا. فنجد على سبيل المثال ابن المرتشي يأخذ دروسًا خصوصية ويرسب، بينما ابن المنضبط والملتزم بتحصيل الكسب الحلال مقبل على العلم وناجح. أو قد يرزق الله تعالى صاحب المال الحرام زوجة لا يرضيها أي شيء، بل تطمع في المزيد دائمًا، بينما يعطي الله سبحانه من يرعى حقوق الناس زوجة تقدر كل ما يفعله.
يقول الحق سبحانه: {بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [هود: 86].
أي: إن كنتم مؤمنين بأن الله تعالى رقيب، وأنه سبحانه قيُّوم؛ فلا تأخذ حقًّا غير حقك؛ لأنك لن تستغل إلا نفسك؛ لأن الله سبحانه وتعالى رقيب عليك.
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله: {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود: 86].
أي: أن شعيبًا عليه السلام قد أوضح لأهل مدين: أنا لن أقف على رأس كل مفسد لأمنعه من الإفساد؛ لأن كل إنسان عليه أن يكون رقيبًا على نفسه ما دام قد آمن بالله سبحانه، وما دام قد عرف أن الحق سبحانه قد قال: {بَقِيَّةُ الله} [هود: 86].
أي: أن ما يبقى إنما تشيع فيه البركة.
وهذه هي فائدة الإيمان: ما يأمر به وما ينهي عنه.
وهذا أمر يختلف عن القانون الوضعي؛ لأن عين القانون الوضعي قاصرة عما يخفى من أمور الناس فكأنها تحميهم من الوقوع تحت طائلته.. أما القانون الإلهي فهو محيط بأحوال الناس المعلنة، والخافية.
ومن يتأمل الآيات الثلاث: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود: 84- 86].
من يتأمل هذه الآيات يجد عناصر الصيانة للحركة في المجتمع كله، والمجتمع إن لم تُصَنْ حركته يفسد؛ لأن حركة المجتمع أرادها الحق سبحانه حركة تكاملية، لا تكرار فيها؛ ولو تكررت المواهب لما احتاج أحد إلى مواهب غيره.
والمصلحة العامة تقتضي أن يحتاج كل إنسان إلى موهبة الآخر، فمن يدرس الدكتوراه فهو يحتاج إلى من يكنس الشارع، ومن يعالج الناس ليشفيهم الله نجده يحتاج إلى من يقوم بإصلاح المجاري.
وماذا كان رد أهل مدين على قول شعيب؟. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ}
قوله تعالى: {وَلاَ تَنقُصُواْ}: نَقَصَ يتعدَّى لاثنين، إلى أولهما بنفسه، وإلى ثانيهما بحرف الجر، وقد يُحْذَفُ، تقول: نَقَصْت زيدًا مِنْ حقَّه، وهو هنا كذلك؛ إذ المرادُ: ولا تَنْقُصوا الناسَ من المكيال، ويجوز أن يكون متعدِّيًا لواحدٍ على المعنى، والمعنى: لا تُقَلِّلوا وتُطَفِّفوا، ويجوز أن يكون المكيالَ مفعولًا أول والثاني محذوف، وفي ذلك مبالغة، والتقدير: ولا تَنْقُصوا المكيالَ والميزانَ حَقَّهما الذي وَجَبَ لهما وهو أبلغُ في الأمر بوفائهما.
قوله: {مُّحِيطٍ} صفة لليوم، ووُصِف به من قولهم: أحاط به العدوُّ، وقوله: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42]. قال الزمخشري: إنَّ وَصْفَ اليوم بالإِحاطة أبلغُ مِنْ وصف العذاب بها قال: لأنَّ اليومَ زمانٌ يشتمل على الحوادث، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذَّب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه.
وزعم قومٌ أنه جُرَّ على الجِوار، لأنه في المعنى صفةٌ للعذاب، والأصلُ: عذاب يوم محيطًا. وقال آخرون: التقدير: عذاب يومٍ محيطٍ عذابُه. قال أبو البقاء: وهو بعيدٌ؛ لأنَّ محيطًا قد جَرَى على غير مَنْ هوله، فيجب إبرازُ فاعله مضافًا إلى ضمير الموصوف.
{بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)}
قوله تعالى: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}: قال ابن عطية: وجواب هذا الشرط متقدم يعني على مذهب مَنْ يراه لا على [مذهب] جمهور البصريين. والعامَّة على تشديد ياء {بقيَّة}. وقرأ إسماعيل بن جعفر من أهل المدينة بتخفيفها. قال ابن عطية: وهي لغةٌ. وهذا لا ينبغي أن يُقال، بل يُقال: إنْ لم يُقْصد الدلالةُ على المبالغة جيء بها مخففةً، وذلك أن فَعِل بكسر العين إذا كان لازمًا فقياسُ الصفة منه فَعِل بكسر العين نحو: سَجِيَت المرأة فهي سَجِيَة فإن قَصَدْت المبالغة قيل: سَجِيَّة لأنَّ فعيلًا من أمثلة المبالغة فكذلك بقيَّة وبَقِية أي بالتشديد والتخفيف. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ}
أخبر سبحانه عن قصتهم، وما أصابهم من العذاب الأليم، وما نالهم من البلاء العظيم.
وفي الظاهر لهم كانت أجرامُهم كاليسيرة، ولعدم الفهم يعدون أمثالها صغيرة، ولا يقولون إنها كبيرة، وإن ذلك تطفيف في المكيال.
وليس قَدْرُ الأَجرام لأعيانها، ولكن لمخالفة الجبارِ عَظُمَ شأنُها، قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هِيِْنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15].
{بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)} يعني القليل من الحلالِ أجدى من الكثير المُعْقِب للوَبالِ لم يقابلوا نصيحَته لهم إلا بالعِناد والتمادي فيما هو دائمٌ من الجحد والكنود. اهـ.