فصل: تفسير الآيات (87- 88):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (87- 88):

قوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان الحاصل ما دعاهم إليه ترك ما كان عليه آباؤهم من السفه في حق الخالق بالشرك والخلائق بالخيانة، وكان ذلك الترك عندهم قطيعة وسفهًا، كان ذلك محكًا للعقول ومحزًا للآراء يعرف به نافذها من جامدها، فكان كأنه قيل: ما قالوا؟ فقيل: {قالوا يا شعيب} سموه باسمه جفاء وغلظة وانكروا عليه مستهزئين بصلاته: {أصلواتك تأمرك} أي تفعل معك فعل من كان يأمر دائمًا بتكليفنا: {أن نترك ما يعبد} أي على سبيل المواظبة: {آباؤنا أو} نترك: {أن نفعل} أي دائمًا: {في أموالنا ما نشاء} من قطع الدرهم والدينار وإفساد المعاملة والمقامرة ونحوها مما يكون إفسادًا للمال، يعنون أن ما تأمرنا به لا يمشي على منهاج العقل، فما يأمرك به إلا ما نراك تفعله من هذا الشيء الذي تسميه صلاة، أي أنه من وداي: فعلك للصلاة؛ ومادة صلا- واوية ويائية مهموزة وغير مهموزة بجميع تقاليبها- تدور على الوصلة، فالصلاة لصلة العبد بربه، وكذا الدعاء والاستغفار، وصلوات اليهود: كنائسهم اللاتي تجمعهم، والصلا: وسط الظهر ومجمعه وما حول الذنب أيضًا، والمصلى من الخيل: التابع للسابق، وصال الفحل- إذا حمل على العانة، ولصوت الرجل ولَصَيته: عبته، كأنك ألصقت به العيب، والواصلة واضحة في ذلك، وكأنها الحقيقة التي تفرعت منها جميع معاني المادة، وسيأتي شرح ذلك عند قوله تعالى: {بالغدو والآصال} في سورة الرعد إن شاء الله، فمعنى الآية حينئذ: أما تعانيه من الصلوات: الحقيقية ذات الأركان، والمعنوية من الدعاء والاستغفار وجميع أفعال البر الحاملة على أنواع الوصل الناهية عن كل قطيعة تأمرك بمجاهرتنا لآبائنا بالقطيعة مع تقدير حضورهم ومشاهدتهم لما نفعل مما يخالف أغراضهم وبترك التنمية لأموالنا بالنقص وهو مع مخالفة أفعال الآباء تبذير فهو سفه- فدارت شبهتهم في الأمرين على تلقيد الآباء وتنزيههم عن الغلط لاحتمال أن يكون لأفعالهم وجه من الصواب خفي عنهم، وزادت في الأموال بظن التبذير- فقد صرت بدعائنا إلى كل من الأمرين حينئذ داعيًا إلى ضد ما أنت متلبس به: {إنك} إذًا: {لأنت} وحدك: {الحليم} في رضاك بما يغضب منه ذوو الأرحام: {الرشيد} في تضييع الأموال، يريدون بهذا كما زعموا- سلخه من كل ما هو متصف به دونهم من هاتين الصفتين الفائقتين بما خيل إليهم سفههم أنه دليل عليه قاطع، وعنوا بذلك نسبته إلى السفه والغي على طريق التهكم.
ولما اتهموه بالقطيعة والسفه، شرع في إبطال ما قالوا ونفي التهمة فيهن وأخرج مخرج الجواب لمن كأنه قال: ما أجابهم به؟ فقيل: {قال يا قوم} مستعطفًا لهم بما بينهم من عواطف القرابة منبهًا لهم على حسن النظر فيما ساقه على سبيل الفرض والتقدير ليكون أدعى إلى الوفاق والإنصاف: {أرءيتم} أي أخبروني: {إن كنت} أي كونًا هو في غاية الثبات: {على بينة} أي برهان: {من ربي} الذي أحسن إليّ بما هو إحسان إليكم، وعطف على جملة الشرط المستفهم عنه قوله: {و} قد: {رزقني} وعظم الرزق بقوله: {منه رزقًا حسنًا} جليلًا ومالًا جمًا حلالًا لم أظلم فيه أحدًا، والجواب محذوف لتذهب النفس فيه كل مذهب، ويمكن أن يقال فيه: هل يسع عاقلًا أن ينسبني إلى السفه بتبذير المال بترك الظلم، أو يسعني أن أحلم عمن عبد غيره وأترك دعاءكم إلى الله، فقد بان بهذا أني ما أمرتكم بما يسوءكم من ترك ما ألفتم وتعرضت لغضبكم كلكم، وتركت مثل أفعالكم إلا خوفًا من غضبه ورجاء لرضاه، فظهر أن لا تهمة في شيء من أمري ولا خطأ، ما فعلت قط ما نهيتكم عنه فيما مضى: {وما أريد} أي في وقت من الأوقات: {أن أخالفكم} أي بأن أذهب وحدي: {إلى ما أنهاكم عنه} في المستقبل، وما نقص مال بترك مثل أفعالكم، فهو إرشاد إلى النظر في باب:
لا تنه عن خلق وتأتي بمثله ** عار عليك إذا فعلت عظيم

فابدأ بنفسك فانهها عن غيها ** فإذا انتهيت عنه فأنت حكيم

وقد نبهت هذه الأجوبة الثلاثة على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتي ويذر أحد حقوق ثلاثه أهمها وأعلاها حق الله وثانيها حق النفس وثالثها حق العباد على وجه الإخلاص في الكل فثبت ببعده عن التهمة مع سداد الأفعال وحسن المقاصد- حلمه صلى الله عليه وسلم ورشده، فلذلك أتبعه بما تضمن معناه مصرحًا به فقال: {إن} أي ما: {أريد} أي شيئًا من الأشياء: {إلا الإصلاح} وأقر بالعجز فقال: {ما استطعت} أي مدة استطاعتي للاصلاح وهو كما أردت فإن مالي- مع اجتنابي ما أنتم عليه- صالح، ليس بدون مال أحد منكم، فعلم، مشاهدة أن لا تبذير في العدل، وأما التوحيد فهو- مع انتفاء التهمة عنى فيه- دعاء إلى القادر على كل شيء الذي لا خير إلى منه ولا محيص عن الرجوع إلأيه؛ ثم تبرأ من الحول والقوة، وأسند الأمر إلى من هو له فقال: {وما توفيقي} إي فيما استطعت من فعل الإصلاح: {إلا بالله} أي الذي له الكمال كله؛ ثم بين أنه الأهل لأن يرجى فقال مشيرًا إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مرتب العلم بالمبدأ: {عليه} أي وحده: {توكلت} ولما طلب التوفيق لإصابة الحق فيما يأتي ويذر من الله والاستعانة به في مجامع أمره وأقبل عليه بكليته وحسم أطماع الكفار عنه وأظهر الفراغ عنهم وعدم المبالاة بهم، وكان في قوله: {ما استطعت} إقرار بأنه محل التقصير، أخبر بأنه لا يزال يجدد التوبة لعظم الأمر، وعبر عن ذلك بعبارة صالحة للتحذير من يوم البعث تهديدًا لهم فقال منبهًا على معرفة المعاد ليكمل الإيمان بالله واليوم الآخر: {وإليه} أي خاصة: {أنيب} أي أرجع معنى سبقي للتوبة وحسًا تيقني بالبعث بعد الموت؛ والوفيق: خلق قدرة ما هو وفق الأمر من الطاعة، من الموافقة للمطابقة؛ والتوكل على الله: تفويض الأمر إليه على الرضاء بتدبيره مع التمسك بطاعته. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: {أصلاتك} بغير واو.
والباقون: {أصلواتك} على الجمع.
المسألة الثانية:
اعلم أن شعيبًا عليه السلام أمرهم بشيئين، بالتوحيد وترك البخس فالقوم أنكروا عليه أمره بهذين النوعين من الطاعة، فقوله: {أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا} إشارة إلى أنه أمرهم بالتوحيد وقوله: {أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء} إشارة إلى أنه أمرهم بترك البخس.
أما الأول: فقد أشاروا فيه إلى التمسك بطريقة التقليد، لأنهم استبعدوا منه أن يأمرهم بترك عبادة ما كان يعبد آباؤهم يعني الطريقة التي أخذناها من آبائنا وأسلافنا كيف نتركها، وذلك تمسك بمحض التقليد.
المسألة الثالثة:
في لفظ الصلاة وهاهنا قولان: الأول: المراد منه الدين والإيمان، لأن الصلاة أظهر شعار الدين فجعلوا ذكر الصلاة كناية عن الدين، أو نقول: الصلاة أصلها من الإتباع ومنه أخذ المصلي من الخيل الذي يتلو السابق لأن رأسه يكون على صلوى السابق وهما ناحيتا الفخذين والمراد: دينك يأمرك بذلك.
والثاني: أن المراد منه هذه الأعمال المخصوصة، روي أن شعيبًا كان كثير الصلاة وكان قومه إذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا، فقصدوا بقولهم: أصلاتك تأمرك السخرية والهزؤ، وكما أنك إذا رأيت معتوهًا يطالع كتبًا ثم يذكر كلامًا فاسدًا فيقال له: هذا من مطالعة تلك الكتب على سبيل الهزؤ والسخرية فكذا ههنا.
فإن قيل: تقدير الآية: أصلواتك تأمرك أن نفعل في أموالنا ما نشاء وهم إنما ذكروا هذا الكلام على سبيل الإنكار، وهم ما كانوا ينكرون كونهم فاعلين في أموالهم ما يشاؤن، فكيف وجه التأويل.
قلنا: فيه وجهان: الأول: التقدير: أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا وأن نترك فعل ما نشاء، وعلى هذا فقوله: {أَوْ أَن نَّفْعَلَ} معطوف على ما في قوله: {مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا} والثاني: أن تجعل الصلاة آمرة وناهية والتقدير: أصلواتك تأمرك بأن نترك عبادة الأوثان وتنهاك أن نفعل في أموالنا ما نشاء، وقرأ ابن أبي عبلة: {أَوْ أَن تَفْعَلْ في أَمْوَالِنَا مَا تَشَاء} بتاء الخطاب فيهما وهو ما كان يأمرهم به من ترك التطفيف والبخس والاقتناع بالحلال القليل وأنه خير من الحرام الكثير.
ثم قال تعالى حكاية عنهم: {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} وفيه وجوه:
الوجه الأول: أن يكون المعنى إنك لأنت السفيه الجاهل إلا أنهم عكسوا ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية به، كما يقال للبخيل الخسيس لو رآك حاتم لسجد لك.
والوجه الثاني: أن يكون المراد إنك موصوف عند نفسك وعند قومك بالحلم والرشد.
والوجه الثالث: أنه عليه السلام كان مشهورًا عندهم بأنه حليم رشيد، فلما أمرهم بمفارقة طريقتهم قالوا له: إنك لأنت الحليم الرشيد المعروف الطريقة في هذا الباب، فكيف تنهانا عن دين ألفيناه من آبائنا وأسلافنا، والمقصود استبعاد مثل هذا العمل ممن كان موصوفًا بالحلم والرشد، وهذا الوجه أصوب الوجوه.
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أنه تعالى حكى عن شعيب عليه السلام ما ذكره في الجواب عن كلماتهم فالأول قوله: {قَالَ ياقوم أَرَءيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ رزقًا حسنًا} وفيه وجوه: الأول: أن قوله: {إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى} إشارة إلى ما آتاه الله تعالى من العلم والهداية والدين والنبوة وقوله: {وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} إشارة إلى ما آتاه الله من المال الحلال، فإنه يروى أن شعيبًا عليه السلام كان كثير المال.
واعلم أن جواب إن الشرطية محذوف والتقدير: أنه تعالى لما آتاني جميع السعادات الروحانية وهي البينة والسعادات الجسمانية وهي المال والرزق الحسن فهل يسعني مع هذا الإنعام العظيم أن أخون في وحيه وأن أخالفه في أمره ونهيه، وهذا الجواب شديد المطابقة لما تقدم وذلك لأنهم قالوا له: {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} فكيف يليق بك مع حلمك ورشدك أن تنهانا عن دين آبائنا فكأنه قال إنما أقدمت على هذا العمل، لأن نعم الله تعالى عندي كثيرة وهو أمرني بهذا التبليغ والرسالة، فكيف يليق بي مع كثرة نعم الله تعالى على أن أخالف أمره وتكليفه.
الثاني: أن يكون التقدير كأنه يقول لما ثبت عندي أن الاشتغال بعبادة غير الله والاشتغال بالبخس والتطفيف عمل منكر، ثم أنا رجل أريد إصلاح أحوالكم ولا أحتاج إلى أموالكم لأجل أن الله تعالى آتاني رزقًا حسنًا فهل يسعني مع هذه الأحوال أن أخون في وحي الله تعالى وفي حكمه.
الثالث: قوله: {إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى} أي ما حصل عنده من المعجزة وقوله: {وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} المراد أنه لا يسألهم أجرًا ولا جعلًا وهو الذي ذكره سائر الأنبياء من قولهم: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبّ العالمين}.
المسألة الثانية:
قوله: {وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} يدل على أن ذلك الرزق إنما حصل من عند الله تعالى وبإعانته وأنه لا مدخل للكسب فيه، وفيه تنبيه على أن الإعزاز من الله تعالى والإذلال من الله تعالى، وإذا كان الكل من الله تعالى فأنا لا أبالي بمخالفتكم ولا أفرح بموافقتكم، وإنما أكون على تقرير دين الله تعالى وإيضاح شرائع الله تعالى.
وأما الوجه الثاني: من الأجوبة التي ذكرها شعيب عليه السلام فقوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ} قال صاحب الكشاف: يقال خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه وخالفني عنه إذا ولَّى عنه وأنت قاصده، ويلقاك الرجل صادرًا عن الماء فتسأله عن صاحبه.
فيقول: خالفني إلى الماء، يريد أنه قد ذهب إليه واردًا وأنا ذاهب عنه صادرًا، ومنه قوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ} يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم فهذا بيان اللغة، وتحقيق الكلام فيه أن القوم اعترفوا بأنه حليم رشيد، وذلك يدل على كمال العقل، وكمال العقل يحمل صاحبه على اختيار الطريق الأصوب الأصلح، فكأنه عليه السلام قال لهم لما اعترفتم بكمال عقلي فاعلموا أن الذي اختاره عقلي لنفسي لابد وأن يكون أصوب الطرق وأصلحها والدعوة إلى توحيد الله تعالى وترك البخس والنقصان يرجع حاصلهما إلى جزأين، التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله تعالى وأنا مواظب عليهما غير تارك لهما في شيء من الأحوال ألبتة فلما اعترفتم لي بالحلم والرشد وترون أني لا أترك هذه الطريقة، فاعلموا أن هذه الطريقة خير الطرق، وأشرف الأديان والشرائع.
وأما الوجه الثالث: من الوجوه التي ذكرها شعيب عليه السلام فهو قوله: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت} والمعنى ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي، وقوله: {مَا استطعت} فيه وجوه: الأول: أنه ظرف والتقدير: مدة استطاعتي للإصلاح وما دمت متمكنًا منه لا آلو فيه جهدًا.
والثاني: أنه بدل من الإصلاح، أي المقدار الذي استطعت منه.
والثالث: أن يكون مفعولًا له أي ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه.
واعلم أن المقصود من هذا الكلام أن القوم كانوا قد أقروا بأنه حليم رشيد، وإما أقروا له بذلك لأنه كان مشهورًا فيما بين الخلق بهذه الصفة، فكأنه عليه السلام قال لهم إنكم تعرفون من حالي أني لا أسعى إلا في الإصلاح وإزالة الفساد والخصومة، فلما أمرتكم بالتوحيد وترك إيذاء الناس، فاعلموا أنه دين حق وأنه ليس غرضي منه إيقاع الخصومة وإثارة الفتنة، فإنكم تعرفون أني أبغض ذلك الطريق ولا أدور إلا على ما يوجب الصلح والصلاح بقدر طاقتي، وذلك هو الإبلاغ والإنذار، وأما الإجبار على الطاعة فلا أقدر عليه، ثم إنه عليه السلام أكد ذلك بقوله: {وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بالله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} وبين بهذا أن توكله واعتماده في تنفيذ كل الأعمال الصالحة على توفيق الله تعالى وهدايته.
واعلم أن قوله عليه السلام توكلت إشارة إلى محض التوحيد، لأن قوله عليه السلام توكلت يفيد الحصر، وهو أنه لا ينبغي للإنسان أن يتوكل على أحد إلا على الله تعالى وكيف وكل ما سوى الحق سبحانه ممكن لذاته فإن بذاته، ولا يحصل إلا بإيجاده وتكوينه، وإذا كان كذلك لم يجز التوكل إلا على الله تعالى وأعظم مراتب معرفة المبدأ هو الذي ذكرناه، وأما قوله: {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} فهو إشارة إلى معرفة المعاد، وهو أيضًا يفيد الحصر لأن قوله: {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} يدل على أنه لا مرجع للخلق إلا إلى الله تعالى وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ذكر شعيب عليه السلام قال: «ذاك خطيب الأنبياء» لحسن مراجعته في كلامه بين قومه. اهـ.