فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والظاهر في قوله: رزقًا حسنًا أنه الحلال الطيب من غير بخس ولا تطفيف أدخلتموه أموالكم.
قال ابن عباس: الحلال، وكان شعيب عليه السلام كثير المال.
وقيل: النبوة.
وقيل: العلم.
وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه المعنى: لست أريد أن أفعل الشيء الذي نهيتكم عنه من نقص الكيل والوزن واستأثر بالمال قاله: ابن عطية.
وقال قتادة: لم أكن لأنهاكم عن أمر ثم أرتكبه.
وقال صاحب الغنيان: ما أريد أنْ أخالفكم في السرّ إلى ما أنهاكم عنه في العلانية.
ويقال: خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مولّ عنه، وخالفني عنه إذا ولّى عنه وأنت قاصده، ويلقاك الرجل صادرًا عن الماء فتسأله عن صاحبه فتقول: خالفني إلى الماء، تريد أنه قد ذهب إليه واردًا، وأنا ذاهب عنه صادرًا.
والمعنى أنّ أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لاستبد بها دونكم، فعلى هذا الظاهر أن قوله: أن أخالفكم في موضع المفعول لأريد، أي وما أريد مخالفتكم، ويكون خالف بمعنى خلف نحو: جاوز وجاز أي: وما أريد أن أخلفكم أي: أكون خلفًا منكم.
وتتعلق إلى باخالفكم، أو بمحذوف أي: مائلًا إلى ما أنهاكم عنه، ولذلك قال بعضهم: فيه حذف يقتضيه إلى تقديره: وأميل إلى، أو يبقى أن أخالفكم على ظاهر ما يفهم من المخالفة، ويكون في موضع المفعول به بأريد، وتقدر: مائلًا إلى، أو يكون أن أخالفكم مفعولًا من أجله، وتتعلق إلى بقوله وما أريد بمعنى، وما أقصد أي: وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه، ولذلك قال الزجاج: وما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه.
والظاهر أن ما مصدرية ظرفية أي مدة استطاعتي للإصلاح، وما دمت متمكنًا منه لا آلوا فيه جهدًا.
وأجاز الزمخشري في ما وجوهًا أحدها: أن يكون بدلًا من الإصلاح أي: المقدر الذي استطعته، أو على حذف مضاف تقديره: إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت، فهذان وجهان في البدل.
والثالث: أن يكون مفعولًا كقوله:
ضعيف النكاتة أعداءه

أي ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم، وهذا الثالث ضعيف، لأن المصدر المعرّف بأل لا يجوز إعماله في المفعول به عند الكوفيين، وأما البصريون فإعماله عندهم فيه قليل.
وما توفيقي أي لدعائكم إلى عبادة الله وحده، وترك ما نهاكم عنه إلا بمعونة الله.
أو وما توفيقي لأنْ تكون أفعالي مسددة موافقة لرضا الله لا بمعونته، عليه توكلت لا على غيره، وإليه أنيب أرجع في جميع أقوالي وأفعالي.
وفي هذا طلب التأييد من الله تعالى، وتهديد للكفار وحسم لأطماعهم أن ينالوه بشر. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قَالُواْ يا شعيب أصلاتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا...} من الأوثان أجابوا بذلك أمرَه عليه السلام إياهم بعبادة الله وحدَه المتضمنَ لنهيهم عن عبادة الأصنامِ ولقد بالغوا في ذلك وبلغوا أقصى مراتبِ الخلاعة والمُجون والضلال حيث لم يكتفوا بإنكار الوحي الآمرِ بذلك حتى ادّعَوا أن لا أمرَ به من العقل واللُّب أصلًا وأنه من أحكام الوسوسةِ والجنون، وعلى ذلك بنوا استفهامَهم وقالوا بطريق الاستهزاءِ: أصلاتُك التي هي من نتائج الوسوسةِ وأفاعيلِ المجانين تأمُرك بأن نترك عبادةَ الأوثانِ التي توارَثْناها أبًا عن جد؟ وإنما جعلوه عليه السلام مأمورًا مع أن الصادرَ عنه إنما هو الأمرُ بعبادة الله وغيرُ ذلك من الشرائع، لأنه عليه السلام لم يكن يأمرهم بذلك من تلقاء نفسه بل من جهة الوحي وأنه كان يعلمهم بأنه مأمورٌ بتبليغه إليهم، وتخصيصُهم بإسناد الأمر إلى الصلاة من بين سائر أحكامِ النبوة لأنه عليه الصلاة والسلام كان كثيرَ الصلاةِ معروفًا بذلك، وكانوا إذا رأوه يصلي يتغامزون ويتضاحكون فكانت هي من بين سائر شعائرِ الدينِ ضِحْكةً لهم وقرئ أصلواتُك: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء} جوابٌ عن أمره عليه السلام بإيفاء الحقوقِ ونهيِه عن البخس والنقصِ معطوفٌ على ما، أي أو أن نتركَ أن نفعلَ في أموالنا ما نشاء من الأخذ والإعطاءِ والزيادةِ والنقصِ، وقرئ بالتاء في الفعلين عطفًا على مفعول تأمُرك أي أصلاتك تأمرك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء، وتجويزُ العطفِ على ما قيل يستدعي أن يراد بالترك معنيان متخالفان، والمرادُ بفعله عليه السلام إيحابُ الإيفاءِ والعدلِ في معاملاتهم لا نفسُ الأيفاء، فإن ذلك ليس من أفعاله عليه السلام بل من أفعالهم، وإنما لم نقُلْ عطفًا على أن نترُك لأن الترك ليس مأمورًا به على الحقيقة، بل المأمورُ به تكليفُه عليه السلام إياهم وأمرُه بذلك، والمعنى أصلاتُك تأمرُك أن تكلِّفَنا أن نترك ما يعبدُ آباؤُنا، وحملُه على معنى أصلاتُك تأمرك بما ليس في وُسعك وعُهدتك من أفاعيل غيرِك ليكون ذلك تعريضًا منهم بركاكة رأيِه عليه السلام واستهزاءً به من تلك الجهةِ يأباه دخولُ الهمزةِ على الصلاة دون الأمرِ ويستدعي أن يصدُر عنه عليه السلام في أثناء الدعوةِ ما يدل على ذلك أو يوهمه وأبى ذلك فتأمل.
وقرئ بالنون في الأول والتاء في الثاني عطفًا على أن نترك أي أو أن نفعل نحن في أموالنا عند المعاملةِ ما تشاء أنت من التسوية والإيفاء {إِنَّكَ لاَنتَ الحليم الرشيد} وصفوه عليه السلام بالوصفين على طريقة التهكم، وإنما أرادوا بذلك وصفَه بضدّيهما كقول الخزَنة: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} ويجوز أن يكون تعليلًا لما سبق من استبعاد ما ذكروه على معنى إنك لأنت الحليمُ الرشيد على زعمك، وأما وصفُه بهما على الحقيقة فيأباه مقامُ الاستهزاء، اللهم إلا أن يُراد بالصلاة الدينُ كما قيل.
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ} أي حجة واضحةٍ وبرهانٍ نيِّر، عبّر عما آتاه الله تعالى من النبوة والحكمة ردًا على مقالتهم الشنعاءِ في جعلهم أمرَه ونهيَه غيرَ مستندٍ إلى سند: {مّن رَّبّى} ومالكِ أموري، وإيرادُ حرفِ الشرط مع جزمه عليه السلام بكونه على ما هو عليه من البينات والحججِ لاعتبار حال المخاطَبين ومراعاةِ حُسنِ المحاورةِ معهم كما ذكرناه في نظائره: {وَرَزَقَنِى مِنْهُ} أي من لديه: {رِزْقًا حَسَنًا} هو النبوةُ والحِكمةُ أيضًا عبّر عنهما بذلك تنبيهًا على أنهما مع كونهما بينةً رزقٌ حسنٌ، كيف لا وذلك مناطُ الحياةِ الأبديةِ له ولأمته، وجوابُ الشرط محذوفٌ يدل عليه فحوى الكلامِ أي أتقولون والمعنى إنكم نظمتموني في سلك السفهاءِ والغُواةِ وعددتم ما صدر عني من الأوامر والنواهي من قبيل ما لا يصِح أن يتفوّه به عاقل وجعلتموه من أحكام الوسوسةِ والجنون واستهزأتم بي وبأفعالي حتى قلتم إن أمرتُكم به من التوحيد وتركِ عبادة الأصنامِ والاجتنابِ عن البخس والتطفيفِ ليس مما يأمر به آمرُ العقلِ ويقضي به قاضي الفِطنة، وإنما تأمُر به صلاتُك التي هي من أحكام الوسوسةِ والجنون فأخبروني إن كنت من جهة ربي ومالكِ أمورِي ثابتًا على النبوة والحِكمةِ التي ليس وراءَها غايةٌ للكمال ولا مطمَحٌ لطامح ورزقني بذلك رزقًا حسنًا أتقولون في شأني وشأنِ أفعالي ما تقولون مما لا خيرَ فيه ولا شرَّ وراءه هذا هو الجوابُ الذي يستدعيه السباقُ والسياقُ ويساعده النظمُ الكريمُ.
وأما ما قيل من أن المحذوفَ أيصِحّ لي أن لا آمرَكم بترك عبادةِ الأوثانِ والكفِّ عن المعاصي، أو أهل يسعْ لي مع هذا الإنعام الجامعِ للسعادات الروحانيةِ والجُسمانية أن أخونَ في وحيه وأخالفَه في أمره ونهيِه فبمعزل من ذلك، وإنما يناسب تقديرُه إن حمل كلامُهم على الحقيقة وأريد بالصلاة الدينُ على معنى: أدينُك يأمرُك أن تكلفنا بترك عبادةِ آلهتِنا القديمة وتركِ التصرّفِ المطلق في أموالنا وتخالفنا في ذلك وتشُقَّ عصانا، وهذا مما لا ينبغي أن يصدُر عنك فإنك أنت المشهورُ بالحلم الفاضلِ والرشدِ الكاملِ فيما بيننا كما كان قولُ قومِ صالح: {قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هذا} مسرودًا على ذلك النمطِ فأُجيبوا بما أجيبوا به، وعلى هذا الوجهِ يكون المرادُ بالرزق الحسنِ الحلالَ الذي آتاه الله تعالى، والمعنى حينئذ أخبروني إن كنت نبيًا من عند الله تعالى ورزقني مالًا حلالًا أستغني به عن العالمين أيصِحّ أن أخالف أمرَه وأوافقَكم فيما تأتون وما تذرون.
{وَمَا أُرِيدُ} بنهيي إياكم عما أنهاكم عنه من البخس والتطفيف: {أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ} أي أقصِدَه بعد ما ولَّيتم عنه وأستبِدَّ به دونكم.
يقال: خالفت زيدًا إلى كذا إذا قصدتُه وهو مولَ عنه وخالفتُه عن كذا إذا كان الأمرُ على العكس: {إِنْ أُرِيدُ} بما أباشره من الأمر والنهي: {إِلاَّ الإصلاح} إلا أن أُصلِحَكم بالنصيحة والموعظة: {مَا استطعت} أي مقدارَ ما استطعتُه من الإصلاح، والتقييدُ به للاحتراز عن الاكتفاء بالإصلاح في الجملة لا عن إرادة ما ليس في وُسعه منه: {وَمَا تَوْفِيقِى} أي كوني موفقًا لتحقيق ما أنتحيه من إصلاحكم: {إِلاَّ بالله} أي بتأييده ومعونتِه بل الإصلاحُ من حيث الخلقُ مستندٌ إليه سبحانه وإنما أنا من مباديه الظاهرةِ قاله عليه السلام تحقيقًا للحق وإزاحةً لما عسى يوهمه إسنادُ الاستطاعةِ إليه بإرادته من استبداده بذلك: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في ذلك مُعرِضًا عما عداه فإنه القادرُ على كل مقدورٍ وما عداه عاجزٌ محْضٌ في حد ذاتِه بل معدومٌ ساقطٌ عن درجة الاعتبار بمعزل عن مرتبة الاستمدادِ به والاستظهار: {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي أرجِعُ فيما أنا بصدده، ويجوز أن يكون المرادُ وما كوني موفقًا لإصابة الحقِّ والصوابِ في كل ما آتي وأذر إلا بهدايته ومعونتِه عليه توكلتُ، وهو إشارةٌ إلى محض التوحيدِ الذاتي والفعليِّ وإليه أنيب، أي عليه أقبل بشراشِر نفسي في مجامع أموري. وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ على الماضي الأنسبِ للتقرر والتحقّقِ كما في التوكل لاستحضار الصورةِ والدلالةِ على الاستمرار، ولا يخفى ما في جوابه عليه السلام من مراعاة لطفِ المراجعةِ ورِفق الاستنزالِ والمحافظةِ على قواعد حسنِ المجاراة والمحاورَة وتمهيدِ معاقدِ الحقِّ بطلب التوفيقِ من جناب الله تعالى والاستعانةِ في أموره، وحسمِ أطماعِ الكفار وإظهار الفراغِ عنهم وعدمِ المبالاة بمعاداتهم، وأما تهديدُهم بالرجوع إلى الله تعالى للجزاء كما قيل فلا لأن الإنابةَ إنما هي الرجوعُ الاختياريُّ بالفعل إلى الله تعالى لا الرجوعُ الاضطراريُّ للجزاء أو ما يعمه. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا} من الأصنام أجابوا بذلك أمره عليه السلام إياهم بعبادة الله تعالى وحده المتضمن لنهيهم عن عبادة الأصنام وغرضهم منه إنكار الوحي الآملا لكنهم بالغوا في ذلك إلى حيث أنكروا أن يكون هناك آمر من العقل وزعموا أن ذلك من أحكام الوسوسة والجنون قاتلهم الله أني يؤفكون، وعلى هذا بنوا استفهامهم وأخرجوا كلامهم وقالوا بطريق الاستهزاء: {أصلاتك} التي هي من نتائج الوسوسة وأفاعيل المجانين تأمرك بأن نترك ما استمر على عبادته آباؤنا جيلًا بعد جيل من الأوثان والتماثيل.
وإنما جعلوه عليه السلام لم يكن يأمرهم من تلقاء نفسه بل من جهة الوحي وأنه كان يعلمهم بأنه مأمور بتبليغه إليهم، وتخصيصهم إسناد الأمر إلى الصلاة من بين سائر أحكام النبوة لأنه عليه السلام كان كثير الصلاة معروفًا بذلك، بل أخرج ابن عساكر عن الأحنف أنه عليه السلام كان أكثر الأنبياء صلاة، وكانوا إذا رأوه يصلي يتغامزون ويتضاحكوم فكانت هي من بين شعائر الدين ضحكة لهم، وقيل: إن ذلك لأنه عليه السلام كان يصلي ويقول لهم: إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإلى الأول ذهب غير واحد، وهذا الإسناد حقيقي لا مجازي غاية ما في الباب أنهم قصدوا الحقيقة تهكمًا، واختيار المضارع ليدل على العموم بحسب الزمان، وقوله سبحانه: {تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ} على تقدير بتكليف أن نترك فحذف المضاف وهو تكليف، فدخل الجار على: {إن} ثم حذف وحذفه قبلها مطرد، وعرف التخاطب في مثله يقتضي ذلك، وقيل: إن الداعي إليه أن الشخص لا يكلف بفعل غيره لأنه غير مقدور له أصلًا، وقيل: لا تقدير، والمعنى أصلاتك تأمرك بما ليس في وسعك وعهدتك من أفاعيل غيرك وغرضهم من ذلك التعريض بركاكة رأيه وحاشاه عليه السلام، والاستهزاء به من تلك الجهة، وتعقب بأنه يأباه دخول الهمزة على الصلاة دون الأمر، ويستدعي أن يصدر عنه عليه السلام في أثناء الدعوة ما يدل على ذلك أو يوهمه، وأني ذلك؟ فتأمل، وقرأ أكثر السبعة أصلواتك بالجمع، وأمر الجمع بين القراءتين سهل، وقوله تعالى: {أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أموالنا مَا نَشَؤُا} أجابوا به أمره عليه السلام بإيفاء الحقوق ونهيه عن البخس والنقص وهو عطف على: {مَا} وأو بمعنى الواو أي وأن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا من التطفيف وغيره، ولا يصح عطفه على: {أَن نَّتْرُكَ} لاستحالة المعنى إذ يصير حينئذ تأمرك بفعلنا في أموالنا ما نشاء من التطفيف وغيره وهم منهيون عن ذلك لا مأمورون به، وحمل: {مَا} على ما أشرنا إليه هو الظاهر، وقيل: كانوا يقرضون الدراهم والدنانير ويجرونها مع الصحيحة على جهة التدليس فنهوا عن ذلك فقالوا ما قالوا، وروي هذا عن محمد بن كعب، وأدخل بعضهم ذلك الفعل في العثى في الأرض فيكون انلهي عنه نهيًا عنه، ولا مانع من اندراجه في عموم: {مَا}.
وقرأ الضحاك بن قيس وابن أبي عبلة وزيد بن علي بالتاء في الفعلين على الخطاب فعالعطف على مفعول: {تَأْمُرُكَ} أي أصلاتك تأمرك أن تفعل في أموالنا ما تشاء أي من إيفاء المكيال والميزان كما هو الظاهر، وقيل: من الزكاة، فقد كان عليه السلام يأمرهم بها كما روي عن سفيان الثوري، قيل: وفي الآية على هذا مع حمل الصلاة على ما يتبادر منها دليل على أنه كان في شريعته عليه السلام صلاة وزكاة، وأيد بما روي عن الحسن أنه قال: لم يبعث الله تعالى نبيًا إلا فرض عليه الصلاة والزكاة، وأنت تعلم أن حمل: {مَا تَشَاء} على الزكاة غير متعين بل هو خلاف ظاهر السوق، وحمل الصلاة على ذلك وإن كان ظاهرًا إلا أنه روى ابن المنذر وغيره عن الأعمش تفسيرها بالقراءة، ونقل عن غيره تفسيرها بالدعاء الذي هو المعنى اللغوي لها.
وعن أبي مسلم تفسيرها بالدين لأنها من أجل أموره، وعلى تقدير أن يراد منها الصلاة بالمعنى الآخر لا تدل الآية على أكثر من أن يكون له عليه السلام صلاة، ولا تدل على أنها من الأمور المكلف بها أحد من أمته فيمكن أن يكون ذلك من خصوصياته عليه السلام، وما وري عن الحسن ليس نصًا في الغرض كما لا يخفى، هذا وجوز أن يكون العطف على هذه القراءة على: {مَا} وتعقب بأنه يستدعي أن يحمل الترك على معنيين مختلفين ولا يترك على ما يتبادر منه.
وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة بالنون في الأول والتاء في الثاني، والعطف على مفعول: {تَأْمُرُكَ} والمعنى ظاهر مما تقدم: {إِنَّكَ لاَنتَ الحليم الرشيد} وصفوه عليه السلام بهذين الوصفين الجليلين على طريقة الاستعارة التهكمية، فالمراد بهما ضد معناهما، وهذا هو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإليه ذهب قتادة والمبرد وجوز أن يكونوا وصفوه بذلك بناءًا على الزعم، والجملة تعليل لما سبق من استبعاد ما ذكروه كأنهم قالوا: كيف تكلفنا بما تكلفنا مع أنك أنت الحليم الرشيد بزعمك؛ وقيل: يجوز أن يكون تعليلًا باقيًا على ظاهره بناءًا على أنه عليه السلام كان موصوفًا عندهم بالحلم والرشد، وكان ذلك بزعمهم مانعًا من صدور ما صدر منه عليه السلام، ورجح الأول بأنه الأنسب بما قبله لأنه تهكم أيضًا، ورجح الأخير بأنه يكون الكلام عليه نظير ما مر في قصة صالح عليه السلام من قوله له: {قَدْ كَانَتْ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هذا} [هود: 62] وتعقيبه بمثل ما عقب به ذلك حسبما تضمنه قوله سبحانه: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ} حجة ظاهرة.
{مّن رَّبّى} ومالك أموري: {وَرَزَقَنِى مِنْهُ} من لدنه سبحانه: {رِزْقًا حَسَنًا} هو النبوة والحكمة يدل على ذلك، والجواب عليه من باب إرخاء العنان.
والكلام المنصف كأنه عليه السلام قال: صدقتم فيما قلتم إني لم أزل مرشدًا لكم حليمًا فيما بينكم لكن ما جئت به ليس غير الإرشاد والنصيحة بكم، أنظروا بعين الانصاف وأنتم ألباء إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي وكنت نبيًا على الحقيقة أيصح لي وأنا مرشدكم والناصح لكم أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك؟ ثم إنه عليه السلام أكد معنى الإرشاد، وأدرج معنى الحلم فيما سيأتي من كلامه صلى الله عليه وسلم كذا قرره العلامة الطيبي.
واختار شيخ الإسلام عدم كونه باقيًا على الظاهر لما أن مقام الاستهزاء آب عنه، وذكر قدس سره أن المراد بالبينة والرزق الحسن النبوة والحكمة، وأن التعبير عنهما بذلك للتنبيه على أنهما مع كونهما بينة رزق حسن كيف لا وذلك مناط الحياة الأبدية له عليه السلام ولأمته؟ وأن هذا الكلام منه عليه السلام رد على مقالتهم الشنعاء المتضمنة زعم عدم استناد أمره ونهيه إلى سند، ثم قال: وجواب الشرط محذوف يدل عليه فحوى الكلام أي أتقولون.