فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والمعنى أنكم عددتم ما صدر عني من الأوامر والنواهي من قبيل ما لا يصح أن يتفوه به عاقبل وجعلتموه من أحكام الوسوسة والجنون واستهزأتم بي وبأفعالي وقلتم، فأخبروني إن كنت من جهة ربي ومالك أموري ثابتًا على النبوة والحكمة التي ليس وراءها غاية للكمال ولا مطمح لطامح ورزقني لذلك رزقًا حسنًا أتقولون في شأني وشأن أفعالي ما تقولون مما لا خير فيه ولا شر وراءه؟ا وادّعى أن هذا هو الجواب الذي يستدعيه السياق ويساعده النظم الكريم.
وفسر القاضي الرزق الحسن بما آتاه الله تعالى من المال الحلال، ومعنى كون ذلك منه تعالى أنه من عنده سبحانه وباعانته بلا كد في تحصيله، وقدر جواب الشرط فهل يسع لي مع هذا الأنعام الجامع للسعادة الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه وأخالفه في أمره ونهيه، وذكر أن هذا الكلام منه عليه السلاماعتذارا عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء، وقدر بعضهم ما قدره العلامة الطيبي. وزعم شيخ الإسلام أن ذينك التقديرين بمعزل عما يستدعيه السياق، وأنهما إنما يناسبان إن حمل كلامهم على الحقيقة؛ وأريد بالصلاة الدين حسبما نقل عن أبي مسلم. وعطاء، ويكون المراد بالرزق الحسن على ذلك ما آتاه الله تعالى من الحلال فقط كما روي عن الضحاك.
ويكون المعنى حينئذ أخبروني إن كنت نبيا من عند الله تعالى ورزقني مالًا حلالًا أستغني به عن العالمين أيصح أن أخالف أمره أو أوافقكم فيما تأتون وما تذرون انتهى. وأقول: لا يخفى أن المناسب للمقام حمل الرزق الحسن على ما آتاه الله تعالى من الحلال الخالي عن التطفيف والبخس، وتقدير جواب الشرط نحو ما قدره القاضي ليس في الكلام ما يأبى عنه، ولا يتوقف على حمل الكلام على الحقيقة والصلاة على الدين بل يتأتى تقدير ذلك، ولو كان الكلام على سبيل التهكم والصلاة بالمعنى المتابدر بأن يقال: إنهم قاتلهم الله تعالى لما قالوا في ظلال الضلال وقالوا ما قالوا في حق نبيهم وما صدر منه من الأفعال لم يكن لهم مقصود إلا ترك الدعوة وتركهم وما يفعلون، ولم يتعرض عليه السلام صريحًا لرد قولهم المتضمن لرميه وحاشاه بالوسوسة، والجنون، والسفه والغواية إيذانًا بأن ذلك مما لا يستحق جوابًا لظهور بطلانه وتعرض لجوابهم عما قصدوه بكلامهم ذلك بما يكون فيه قطع أطماعهم من أول الأمر مع الإشارة إلى رد ما تضمنته مقالتهم الشنعاء فكأنه عليه السلام قال لهم: يا قوم إنكم اجترأتم على هذه المقالة الشنيعة وضمنتموها ما هو ظاهر البطلان لقصد أن أترككم وشأنكم من عبادة الأوثان ونقص المكيال والميزان فأخبروني إن كنت نبيًا من عند الله تعالى ومستتنيا بما رزقني من المال الحلال عنكم وعن غيركم أيصح أن أخالف وحيه وأوافق هواكم لا يكون ذلك من أصلا فإذن لا فائدة لكم في هذا الكلام الشنيع، وربما يقال: إن في هذا الجواب إشارة إلى وصفهم بنحو ما وصفوه به عليه السلام كأنه قال: إن طلبكم مني ترك الدعوة وموافقة الهوى مع أني مأمور بدعوتكم وغنى عنكم مما لا يصدر عن عاقل ولا يرتكبه إلا سفيه غاو، وكأن التعرض لذكر الرزق مع الكون على بينة للإشارة إلى وجود المقتضى وارتفاع ما يظن مانعًا، ولا يخفى ما في إخراج الجواب على هذا الوجه من الحسن فتأمل.
بقي أن الذي ذكره النحاة على ما قال أبو حيان في مثل هذا الكلام أعني: {أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ} إلخ أن تقدر الجملة الاستفهامية على أنها في موضع المفعول الثاني لأرأيتم المتضمنة معنى أخبروني المتعدية إلى مفعولين والغالب في الثاني أن يكون جملة استفهامية، وجواب الشرط ما يدل عليه الجملة السابقة مع متعلقها، والتقدير إن كنت على بينة من ربي فأخبروني هل يسع لي إلخ فافهم ولا تغفل: {وَمَا أُرِيدُ} بنهي إياكم عما أنهاكم عنه من البخس والتطفيف: {أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ} أي أقصده بعد ما وليتم عنه فأستبد به دونكم كما هو شأن بعض الناس في المنع عن بعض الأمور يقال: خالفني فلأن إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه، وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده.
قال في البحر: والظاهر على ما ذكروه أن: {أَنْ أُخَالِفَكُمْ} في موضع المفعول به لأريد أي وما أريد مخلفتكم، ويكون خالف بمعنى خلف نحو جاوز وجاز، ويكون المعنى وما أريد أن أكون خلفًا منكم، و: {إلى} متعلقة بأخالف أو بمحذوف أي مائلًا إلى ما أنهاكم عنه، وقيل: في الكلام فعل محذوف معطوف على المذكور أي وأميل إلى إلخ، ويجوز أن يبقى أخالف على ظاهره من املخالفة، ويكون: {إن} وما بعدها في موضع المفعول به لأريد ويقدر مائلًا إلى كما تقدم، أو يكون: {إن} وما بعدها في موضع المفعول له، و: {إلى مَا} متعلقًا بأريد أي وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه، وقال الزجاج في معنى ذلك: أي ما أقد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه: {إِنْ أُرِيدُ} أي ما أريد بما أقول لكم: {إِلاَّ الإصلاح} أي إلا أن أصلحكم بالنصيحة والموعظة: {مَا استطعت} أي مدة استطاعتي ذلك وتمكني منه لا آلو فيه جهدًا فما مصدرية ظرفية.
وجوز فيها أن تكون موصولة بدلًا من الإصلاح أي المقدار الذي استطعته أو: {إِلاَّ الإصلاح} إصلاح ما استطعت، وهي إما بدل بعض أو كل لأن المتبادر من الإصلاح ما يقدر عليه، وقيل: بدل اشتمال، وعليه وعلى الأول يقدر ضمير أي منه لأنه في مثل ذلك لابد منه؛ وجوز أيضًا أن تكون مفعولًا به للمصدر المذكور كقوله:
ضعيف النكاية أعداءه ** يخال الفرار يراخي الأجل

أي ما أريد إلا أن أصلح ما استذعت إصلاحه من فاسدكم، والأبلغ الأظهر ما قدمناه لأن في احتمال البدلية إضمارًا وفوات المبالغة؛ وفي الاحتمال الأخير إعمال المصدر المعروف في المفعول به، وفيه مع أنه لا يجوز عند الكوفيين. ويقل عند البصريين فواتها، وزيادة إضمار مفعول: {استطعت}، {وَمَا تَوْفِيقِى} أي ما كوني موفقًا لتحقيق ما أتوخاه من إصلاحكم: {إِلاَّ بالله} أي بتأييده سبحانه ومعونته.
واختار بعضهم أن يكون المراد وما توفيقي لإصابة الحق والصواب في كل ما آتي وأذر إلا بهدايته تعالى ومعونته والظاهر أن المراد وما كل فرد من أفراد توفيقي لما صرحوا به من أن المصدر المضاف من صيغ العموم، ويؤول إلى هذا ما قيل: إن المعنى ما جنس توفيقي لأن انحصار الجنس يقتضي انحصار أفراده لكن على الأول بطريق المفهوم.
وعلى الثاني بطريق المنطوق، وتقدير المضاف بعد الباء مما التزمه كثير، وفيه على ما قيل: دفع الاستشكال بأن فاعل التوفيق هو الله تعالى، وأهل العربية يستقبحون نسبة الفعل إلى الفاعل بالباء لأنها تدخل على الآلة فلا يحسن ضربي بزيد، وإنما يقال: من زيد، فالاستعمال الفصيح بناءًا على هذا وما توفيقي إلا من عند الله ووجه الدفع بذلك التقدير ظاهر لأن الدخول ليس على الفاعل حينئذ.
وجوز أن يكون ذلك التقدير لما أن التوفيق وهو كون فعل العبد موافقًا لما يحبه الله تعالى ويرضاه لا يكون إلا بدلالة الله تعالى عليه، ومجرد الدلالة لا يجدي بدون المعونة منه عز شأنه: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في ذلك، أو في جميع أمور لا على غيره فإنه سبحانه القادر المتمكن من كل شيء، وغيره سبحانه عاجز في حد ذاته بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار كما أشار إليه الكتاب وعاينه أولو البصائر والألباب: {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي أرجع فيما أنا بصدده، أو أقبل بشراشرى في مجامع أموري لا إلى غيره، والجملة معطوفة على ما قبلها، وكأن إيثار صيغة الاستقبال فيها على الماضي الأنسب للتقرر والتحقق كما في التوكل لاستحضار الصورة والدلالة على الاستمرار، ولا يخفى ما في جوابه عليه السلام مما لا يكاد يوجد في كلام خطيب إلا أن يكون نبيًا.
وفي أنوار التنزيل أن لأجوبته عليه السلام الثلاثة يعني: {يَسْتَقْدِمُونَ قُلْ أَرَءيْتُمْ} الخ: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ} إلخ و: {إِنْ أُرِيدُ} إلخ على هذا النسق شأنًا، وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعى في كل ما يأته ويذره ثلاثة حقوق أهمها وأعلاها حق الله تعالى، فإن الجواب الأول: متضمن بيان حق الله تعالى من شكر نعمته والاجتهاد في خدمته. وثانيها: حق النفس، فإن الجواب الثاني متضمن بيان حق نفسه من كفها عما ينبغي أن ينتهي عنه غيره.
وثالثها: حق الناس فإن الجواب الثالث متضمن للإشارة إلى أن حق الغير عليه إصلاحه وإرشاده؛ وإنما لم يعطف قوله: {إِنْ أُرِيدُ} إلخ على ما قبله لكونه مؤكدًا ومقررًا له لأنه لو أراد الاستئثار بما نهى عنه لم يكن مريدًا للإصلاح، ولا ينافي هذا كونه متضمنًا لجواب آخر، وكأن قوله: {وَمَا تَوْفِيقِى} إلخ إزاحة لما عسى أن يوهمه إسناد الاستطاعة إليه بإرادته من استبداده بذلك، ونظير ذلك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وفيه مع ما بعده إشارة إلى محض التوحيد، وقال غير واحد: إنه قد اشتمل كلامه عليه السلام على مراعاة لطف المراجعة ورفق الاستنزال والمحافظة على حسن المجاراة والمحاورة، وتمهيد معاقد الحق بطلب التوفيق من جانبه تعالى والاستعانة به عز شأنه في أموره وحسم أطماع الكفار وإظهار الفراغ عنهم وعدم المبالاة بمعاداتهم، قيل: وفيه أيضًا تهديدهم بالرجوع إلى الله تعالى للجزاء، وذلك من قوله: {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} لأن الرجوع إليه سبحانه يكنى به عن الجزاء وهو وإن كان هنا مخصوصًا به لاقتضاء المقام له لكنه لا فرق فيه بينه وبين غيره، وفيه مع خفاء وجه الإشارة أن الإنابة إنما هي الرجوع الاختياري بالفعل إليه سبحانه لا الرجوع الاضطراري للجزاء وما يعمه، وقد يقال: إن في قوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} إشارة أيضًا إلى تهديدهم لأنه عز وجل الكافي المعين لمن توكل عليه لكن لا يتعين أن يكون ذلك تهديدًا بالجزاء يوم القيامة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا}
كانت الصلاة من عماد الأديان كلّها.
وكان المكذبون الملحدون قد تمالؤوا في كل أمة على إنكارها والاستهزاء بفاعلها: {أتواصوا به بل هم قومٌ طاغون} [الذاريات: 53]، فلما كانت الصلاة أخص أعماله المخالفة لمعتادهم جعلوها المشيرة عليه بما بلّغه إليهم من أمور مخالفة لمعتادهم بناء على التناسب بين السبب والمسبب في مخالفة المعتاد قصدًا للتهكم به والسخرية عليه تكذيبًا له فيما جاءهم به، فإسناد الأمر إلى الصلوات غير حقيقي إذ قد علِم كل العقلاء أن الأفعال لا تأمر؛ والمعنى أنّ صلاته تأمره بأنهم يتركون، أي تأمره بأن يحملهم على ترك ما يعبد آباؤهم.
إذ معنى كونه مأمورًا بعمل غيره أنه مأمور بالسعي في ذلك بأن يأمرهم بأشياء.
و: {ما} في قوله: {ما يعبد آباؤنا} موصولة صادقة على المعبودات.
ومعنى تركها ترك عبادتها كما يؤذن به فعل: {يعبد}.
ويجوز أن تكون: {ما} مصدرية بتقدير: أن نترك مثل عبادة آبائنا.
وقرأ الجمهور {أصلواتك} بصيغة جمع صلاة.
وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف {أصلاتك} بصيغة المفرد.
و: {أوْ} من قوله: {أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء} لتقسيم ما يأمرهم به لأن منهم من لا يتّجر فلا يطفف في الكيل والميزان فهو قسم آخر متميّز عن بقية الأمة بأنه مأمور بترك التطفيف.
فقوله: {أن نفعل} عطف على: {ما يعبد آباؤنا}، أي أن نترك فِعْلَ ما نشاء في أموالنا فنكون طوع أمرك نفعل ما تأمرنا بفعله ونترك ما تأمرنا بتركه.
وبهذا تعلم أن لا داعي إلى جعل: {أو} بمعنى واو الجمع، كما درج عليه كثير من المفسرين مثل البيضاوي والكواشي وجعلوه عطفًا على: {نترك} فتوجّسوا عدم استقامة المعنى كما قال الطبري. وتأوله بوجهين: أحدهما عن أهل البصرة والآخر عن أهل الكوفة، أحدهما مبني على تقدير محذوف والآخر على تأويل فعل: {تَأمرك} وكلاهما تكلف.
وأما الأكثر فصاروا إلى صرف: {أو} عن متعارف معناها وقد كانوا في سعة عن ذلك.
وسكت عنه كثير مثل صاحب الكشاف. وأومأ البغوي والنسفي إلى ما صرحنا به. وجملة: {إنك لأنت الحليم الرشيد} استئناف تهكم آخر.
وقد جاءت الجملة مؤكدة بحرف (إنّ) ولام القسم، وبصيغة القصر في جملة: {لأنت الحليم الرشيد} فاشتملت على أربعة مؤكدات.
والحليم، زيادة في التهكم: ذو الحلم أي العقل، والرشيد: الحسن التدبير في المال.
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا}
تقدّم نظير الآية في قصة نوح وقصة صالح عليهما السّلام.
والمراد بالرزق الحسن هنا مثل المراد من الرحمة في كلام نوح وكلام صالح عليهما السلام وهو نعمة النبوءة، وإنّما عبّر شعيب عليه السّلام عن النبوءة بالرزق على وجه التشبيه مشاكلة لقولهم: {أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء} [هود: 87] لأنّ الأموال أرزاق.
وجواب الشرط محذوف يدل عليه سياق الكلام، أو يدل عليه: {إن كنتُ على بينة من ربي}.
والتقدير: مَاذا يسعكم في تكذيبي، أو ماذا ينجيكم من عاقبة تكذيبي، وهو تحذير لهم على فرض احتمال أن يكون صادقًا، أي فالحزم أن تأخذوا بهذا الاحتمال، أو فالحزم أن تنظروا في كنه ما نهيتكم عنه لتعلموا أنّه لصلاحكم.
ومعنى: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} عند جميع المفسّرين من التّابعين فمَن بعدهم: ما أريد ممّا نهيتكم عنه أن أمنعكم أفعالًا وأنا أفعلها، أي لم أكن لأنْهاكم عنْ شيء وأنا أفعله.
وبيّن في الكشاف إفادة التركيب هذا المعنى بقوله يقال: خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مُوَلّ عنه... ويلقاك الرجلُ صادرًا عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول: خالفني إلى الماء، يريد أنه قد ذهب إليه واردًا وأنا ذاهب عنه صادرًا. اهـ.
وبيانه أن المخالفة تدل على الاتصاف بضد حاله، فإذا ذُكرت في غرض دلّت على الاتصاف بضده، ثم يبيّن وجه المخالفة بذكر اسم الشيء الذي حصل به الخلاف مدخولًا لحرف: {إلى} الدّال على الانتهاء إلى شيء كما في قولهم: خالفني إلى الماء لتضمين: {أخالفكم} معنى السعي إلى شيء.
ويتعلق: {إلى ما أنهاكم} بفعل: {أخالفكم}، ويكون: {أن أخالفكم} مفعول: {أريد}.
فقوله: {أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} أي أن أفعل خلاف الأفعال التي نهيتكم عنها بأن أصرفكم عنها وأنا أصير إليها.
والمقصود: بيان أنه مأمور بذلك أمرًا يعمّ الأمة وإياه وذلك شأن الشرائع، كما قال علماؤنا: إنّ خطاب الأمة يشمل الرسول عليه الصلاة والسّلام ما لم يدل دليل على تخصيصه بخلاف ذلك، ففي هذا إظهار أنّ ما نهاهم عنه ينهى أيضًا نفسه عنه.
وفي هذا تنبيه لهم على مَا فِي النهي من المصلحة، وعلى أن شأنه ليس شأن الجبابرة الذين ينهون عن أعمال وهم يأتونها، لأن مثل ذلك يُنْبِئ بعدم النصح فيما يأمرون وينهون، إذ لو كانوا يريدون النصح والخير في ذلك لاختاروه لأنفسهم وإلى هذا المعنى يرمي التوبيخ في قوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} [البقرة: 44] أي وأنتم تتلون كتاب الشريعة العامة لكم أفلا تعقلون فتعلموا أنكم أولَى بجلب الخير لأنفسكم.
والذي يظهر لي في معنى الآية أن المراد من المخالفة المعاكسة والمنازعة؛ إما لأنه عرف من ملامح تكذيبهم أنهم توهّموه ساعيًا إلى التملك عليهم والتجبر، وإما لأنّه أراد أن يقلع من نفوسهم خواطر الشر قبل أن تهجس فيها.
وهذا المحمل في الآية يسمح به استعمال التركيب ومقاصد الرسل وهو أشمل للمعاني من تفسير المتقدّمين، فلا ينبغي قصر تفسير الآية على ما قالوه لأنّه لا يقابل قول قومه: {أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء} [هود: 87]، فإنهم ظنوا به أنه مَا قَصَدَ إلاّ مخالفتهم وتخطئتهم ونفوا أن يكون له قصد صالح فيما دعاهم إليه، فكان مقتضى إبطال ظِنّتِهم أن يَنفي أن يريد مجرد مخالفتهم، بدليل قوله عقبه: {إن أريد إلاّ الإصلاح مَا استطعت}.
فمعنى قوله: {وما أريد أن أخالفكم} أنّه ما يريد مجرّد المخالفة كشأن المنتقدين المتقعرين ولكن يخالفهم لمقصد سام وهو إرادة إصلاحهم.