فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)}
استوطؤوا مركب الجهل، واستحلبوا مشْربَ التقليد، وأعْفُوا قلوبَهم من استعمال الفكرِ، واستبصارِ طريقِ الرُّشدِ.
قوله جلّ ذكره: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا}.
البَيِّنَةُ نورٌ تَسْتَبْصٍرُ به ما خَفِيَ عليك تحت غطاء الغفلة.
والرزق الحسن ما به دوام الاستقلال، وما ذلك إلا مقتضى عنايته الأزلية، وحُسْنُ توليه لشأنك- في جميع ما فيه صلاحك- من إتمام النعمة ودوام العصمة.
وقيل الرزق الحسنُ ما تعنَّي صاحبُه لِطَلبِه، ولم يصبْه نَصَبٌ بسببه.
وقيل الرزق الحَسَنُ ما يستوفيه بشهود الرزق ويحفظه عند التنعم بوجود الرَّزَّاق.
ويقال الرزق الحسن ما لا يُنْسِي الرزَّاق، ويحمل صاحبَه على التوسعة والإنفاق.
قوله جلّ ذكره: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}.
يمكن للواعظ أو الناصح أنْ يساهِل المأمورَ في كل ما يأمره به، ولكن يجب ألا يجيز له ما ينهاه عنه؛ فإنَّ الإتيانَ بجميع الطاعات غير مُمْكن، ولكنَّ التجرُّد عن جميع المحرَّمات واجبٌ.
ويقال مَنْ لم يكنْ له حُكْمٌ على نفسه في المنع عن الهوى لم يكن له حُكْمٌ على غيره فيما يرشده إليه من الهدى.
قوله جلّ ذكره: {إِنّ أُرِيدُ إلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اْسْتَطَعْتُ}.
مَدَارُ الأمر إلى الأغراض المقضية حُسْنُ القصد بالإصلاح، فيَقْرِنُ اللَّهُ به حسن التيسير، ومَنْ انطوى على قصدٍ بالسوء وَكَلَ الحقُّ بشأنه التعويق.
قوله جلّ ذكره: {وَمَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ}.
حقيقةُ التوفيق ما ينفق به الشيء، وفي الشريعة التوفيق ما تنفق به الطاعة، وهو قدرة الطاعة، ثم كل ما تقرب العبد به من الطاعة من توفير الدواعي وفنون المَنْهيات يُعدُّ من جملة التوفيق- على التوسُّع.
والتوفيق بالله ومن اللهِ، وهو- سبحانه- بإعطائه متفضِّلٌ.
قوله جلّ ذكره: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإلَيْهِ أُنِيبُ}.
التوكل تفويض الأمر إلى الله، وأمارته تركُ التدبير بشهود التقدير، والثقة بالموعود عند عدم الموجود. ويتبين ذلك بانتفاء الاضطراب عند عدم الأسباب.
ويقال التوكلُ السكون، والثقةُ بالمضمون.
ويقال التوكل سكون القلب بمضمون الرَّبّ. اهـ.

.قال التستري:

قوله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أَنْهَاكُمْ} [88] قال: كل عالم أعطي علم الشر، وليس هو مجانبًا للشر، فليس بعالم، ومن أعطي علم الطاعات وهو غير عامل بها، فليس بعالم.
وقد سأل رجل سهلًا فقال: يا أبا محمد، إلى من تأمرني أن أجلس إليه؟ فقال: إلى من تحملك جوارحه لا لسانه. اهـ.

.تفسير الآيات (89- 91):

قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما بين لهم عذره بما انتفت به تهمته، أتبعه بما يدلهم على أن الحق وضح لهم وضوحًا لم يبق معه إلا المعاندة، فحذرهم عواقبها وذكرهم أمر من ارتكابها فقال: {ويا قوم} وأعز الناس عليّ: {لا يجرمنكم} أي يحملنكم: {شقاقي} أي شقاقكم لي على: {أن يصيبكم} من العذاب: {مثل ما} أي العذاب الذي: {أصاب قوم نوح} بعد طول أعمارهم وتنائي أقطارهم: {أو قوم هود} على شدة أبدانهم وتمادي أمانهم: {أو قوم صالح} مع نحتهم البيوت من الصخور وتشييدهم عوالي القصور.
ولما كان للمقاربة أثر المشاكلة والمناسبة، غير الأسلوب تعظيمًا للتهويل فقال: {وما قوم لوط} أي على قبح أعمالهم وسوء حالهم وقوة أخذهم ووبالهم: {منكم ببعيد} أي لا في الزمان ولا في المكان فأنتم أجدر الناس بذكر حالهم للاتعاظ بها، وإنما فسرت جرم بحمل لأن ابن القطاع نقل أنه يقال: جرمت الرجل: حملته على الشيء، وقد عزا الرماني تفسيرها بذلك للحسن وقتادة، ويجوز أن تفسر بما تدور عليه المادة من القطع، أي لا يقطعنكم شقاقي عن اتباع ما أدعوكم إليه خوف أن يصيبكم، وقد جوزه الرماني.
ولما رهبهم، أتبعه الترغيب في سياق مؤذن بأنهم إن لم يبادروا إلى المتاب بادرهم العذاب، بقوله عاطفًا لهذا الأمر على ذلك النهي المتقدم: {واستغفروا ربكم} أي اطلبوا ستر المحسن إليكم، ونبه على مقدار التوبة بأداة التراخي فقال: {ثم توبوا إليه} ثم علل ذلك مرغبًا في الاقبال عليه بقوله: {إن ربي} أي المختص لي بما ترون من الإحسان دينًا ودنيا: {رحيم ودود} أي بليغ الإكرام لمن يرجع إليه بأن يحفظه على ما يرضاه بليغ التحبب إليه، ولم يبدأه بالاستعطاف على عادته بقوله: يا قوم، إشارة إلى أنه لم يبق لي وقت آمن فيه وقوع العذاب حتى أشتغل فيه بالاستعطاف، فربما كان الأمر أعجل من ذلك فاطلبوا مغفرته بأن بأن تجعلوها غرضكم ثم توصلوا إليها بالتوبة؛ فثم على بابها في الترتيب، وأما التراخي فباعتبار عظم مقدار التوبة وعلو رتبتها لأن الغفران لا يحصل بالطلب إلا إن اقترن بها، هذا الشأن في كل كبيرة من أنها لا تكفر إلا بالتوبة، وذلك لأن الطاعة المفعولة بعدها يكون مثلها كبيرة في جنس الطاعات كما أن تلك كبيرة في جنس المعاصي فلا تقوى الطاعة على محوها وتكرر الطاعات يقابله تكرر المعاصي بالإصرار الذي هو بمنزلة تكرير المعصية في كل حال، فلما رأوه لا ينزع عنهم ولم يقدروا لكلامه على جواب، أيأسوه من الرجوع إليه بأن أنزلوا أنفسهم عنادًا في الفهم لهذا الكلام الواضح جدًا إلى عداد البهائم، وهددوه فأخبر تعالى عنهم بذلك استئنافًا في جواب من يقول: ما قالوا بعد هذا الدعاء الحسن؟ بقوله: {قالوا يا شعيب} منادين له باسمه جفاء وغلظة: {ما نفقه} أي الآن لأن ما تخص بالحال: {كثيرًا مما تقول} وإذا لم يفهم الكثير من الكلام لم يفهم مقصوده، يعنون: خفض عليك واترك كلامك فإنا لا نفهمه تهاونًا به كما يقول الإنسان لخصمه إذا نسبه إلى الهذيان: أنا لا أدري ما تقول، ولما كان غرضهم مع العناد قطع الأمر، خصوًا عدم الفهم بالكثير ليكون أقرب إلى الإمكان، وكأنهم- والله أعلم- أشاروا إلى أنه كلام غير منتظم فلا حاصل له ولا لمضمونه وجود في الخارج.
ولما كان في ذلك إشارة إلى أنه ضعيف العقل لأن كلامة مثل كلام المجانين، أتبعوه قولهم: {وإنا لنراك} أي رؤية مجددة مستمرة: {فينا ضعيفًا} أي في البدن وغيره، فلا تتعرض لسخطنا فإنك لا تقدر على الامتناع من مكروه نحله بك بقوة عقل ولا جسم ولا عشيرة، وأشاروا إلى ضعف العشيرة بتعبيرهم بالرهط في قولهم: {ولولا رهطك لرجمناك} أي قتلناك شر قتلة- فإن الرهط من ثلاثة إلى عشرة وأكثر ما قيل: إن فخذه أربعون- فما أنت علينا بممتنع لضعفك وقلة قومك: {وما أنت} أي خاصة، لأن ما لنفي الحال اختصاص بالزمان، والقياس أن يكون مدخولها فعلًا أو شبهه، وحيث أوليت الاسم لاسيما الضمير دل على أن التقديم للاهتمام والاختصاص: {علينا بعزيز} بكريم مودود، تقول: أعززت فلانًا- إذا كان له عندك ود، بل قومك هم الأعزة عندنا لموافقتهم لنا، ولو كان المراد: ما عززت علينا، لكان الجواب: لم لا أعز وقد شرفني الله- أو نحو هذا، ويصح أن يراد بالعزيز القوي الممتنع، ويصير إفهامه لامتناع رهطه محمولًا على أن المانع لهم موافقتهم لهم لا قوتهم؛ والفقه: فهم الكلام على ما تضمن من المعنى، وقد صار اسمًا لضرب من علوم الدين، وأصل الرهط: الشدة، من الترهيط لشدة الأكل، ومنه الراهطاء: جحر اليربوع لشدته وتوثقه ليخبأ فيه ولد. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

وأما الوجه الرابع: من الوجوه التي ذكرها شعيب عليه السلام فهو قوله: {ويا قوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم} قال صاحب الكشاف: جرم مثل كسب في تعديته تارة إلى مفعول واحد وأخرى إلى مفعولين يقال جرم ذنبًا وكسبه وجرمه ذنبًا وكسبه إياه، ومنه قوله تعالى: {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم} أي لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب، وقرأ ابن كثير: {يَجْرِمَنَّكُمْ} بضم الياء من أجرمته ذنبًا إذا جعلته جارمًا له أي كاسبًا له.
وهو منقول من جرم المتعدي إلى مفعول واحد، وعلى هذا فلا فرق بين جرمته ذنبًا وأجرمته إياه، والقراءتان مستويتان في المعنى لا تفاوت بينهما إلا أن المشهورة أفصح لفظًا كما أن كسبه مالًا أفصح من أكسبه.
إذا عرفت هذا فنقول: المراد من الآية لا تكسبنكم معاداتكم إياي أي يصيبكم عذاب الاستئصال في الدنيا مثل ما حصل لقوم نوح عليه السلام من الغرق، ولقوم هود من الريح العقيم ولقوم صالح من الرجفة، ولقوم لوط من الخسف.
وأما قوله: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ} ففيه وجهان: الأول: أن المراد نفي البعد في المكان لأن بلاد قوم لوط عليه السلام قريبة من مدين، والثاني: أن المراد نفي البعد في الزمان لأن إهلاك قوم لوط عليه السلام أقرب الإهلاكات التي عرفها الناس في زمان شعيب عليه السلام، وعلى هذين التقديرين فإن القرب في المكان وفي الزمان يفيد زيادة المعرفة وكمال الوقوف على الأحوال فكأنه يقول اعتبروا بأحوالهم واحذروا من مخالفة الله تعالى ومنازعته حتى لا ينزل بكم مثل ذلك العذاب.
فإن قيل: لم قال: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ} وكان الواجب أن يقال ببعيدين؟
أجاب عنه صاحب الكشاف من وجهين: الأول: أن يكون التقدير ما إهلاكهم شيء بعيد.
الثاني: أنه يجوز أن يسوى في قريب وبعيد وكثير وقليل بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما.
وأما الوجه الخامس: من الوجوه التي ذكرها شعيب عليه السلام فهو قوله: واستغفروا ربكم من عبادة الأوثان ثم توبوا إليه عن البخس والنقصان إن ربي رحيم بأوليائه ودود.
قال أبو بكر الأنباري: الودود في أسماء الله تعالى المحب لعباده، من قولهم وددت الرجل أوده، وقال الأزهري في كتاب شرح أسماء الله تعالى ويجوز أن يكون ودود فعولًا بمعنى مفعول كركوب وحلوب، ومعناه أن عباده الصالحين يودونه ويحبونه لكثرة إفضاله وإحسانه على الخلق.
واعلم أن هذا الترتيب الذي راعاه شعيب عليه السلام في ذكر هذه الوجوه الخمسة ترتيب لطيف وذلك لأنه بين أولًا أن ظهور البينة له وكثرة إنعام الله تعالى عليه في الظاهر والباطن يمنعه عن الخيانة في وحي الله تعالى ويصده عن التهاون في تكاليفه.
ثم بين ثانيًا أنه مواظب على العمل بهذه الدعوة ولو كانت باطلة لما اشتغل هو بها مع اعترافكم بكونه حليمًا رشيدًا، ثم بين صحته بطريق آخر وهو أنه كان معروفًا بتحصيل موجبات الصلاح وإخفاء موجبات الفتن، فلو كانت هذه الدعوة باطلة لما اشتغل بها، ثم لما بين صحة طريقته أشار إلى نفي المعارض وقال لا ينبغي أن تحملكم عداوتي على مذهب ودين تقعون بسببه في العذاب الشديد من الله تعالى، كما وقع فيه أقوام الأنبياء المتقدمين، ثم إنه لما صحح مذهب نفسه بهذه الدلائل عاد إلى تقرير ما ذكره أولًا وهو التوحيد والمنع من البخس بقوله: {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} ثم بين لهم أن سبق الكفر والمعصية منهم لا ينبغي أن يمنعهم من الإيمان والطاعة لأنه تعالى رحيم ودود يقبل الإيمان والتوبة من الكافر والفاسق لأن رحمته وحبه لهم يوجب ذلك، وهذا التقرير في غاية الكمال.
{قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)}
اعلم أنه عليه السلام لما بالغ في التقرير والبيان، أجابوه بكلمات فاسدة.
فالأول: قولهم: {ياشعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
لقائل أن يقول: أنه عليه السلام كان يخاطبهم بلسانهم، فلم قالوا: {مَا نَفْقَهُ} والعلماء ذكروا عنه أنواعًا من الجوابات: فالأول: أن المراد: ما نفهم كثيرًا مما تقول، لأنهم كانوا لا يلقون إليه أفهامهم لشدة نفرتهم عن كلامه وهو كقوله: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} [الأنعام: 25] الثاني: أنهم فهموه بقلوبهم ولكنهم ما أقاموا له وزنًا، فذكروا هذا الكلام على وجه الاستهانة كما يقول الرجل لصاحبه إذ لم يعبأ بحديثه: ما أدري ما تقول.
الثالث: أن هذه الدلائل التي ذكرها ما أقنعتهم في صحة التوحيد والنبوة والبعث، وما يجب من ترك الظلم والسرقة، فقولهم: {مَا نَفْقَهُ} أي لم نعرف صحة الدلائل التي ذكرتها على صحة هذه المطالب.
المسألة الثانية:
من الناس من قال: الفقه اسم لعلم مخصوص، وهو معرفة غرض المتكلم من كلامه واحتجوا بهذه الآية وهي قوله: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ} فأضاف الفقه إلى القول ثم صار اسمًا لنوع معين من علوم الدين، ومنهم من قال: إنه اسم لمطلق الفهم.
يقال: أوتي فلان فقهًا في الدين، أي فهمًا.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين». أي يفهمه تأويله.
والنوع الثاني: من الأشياء التي ذكروها قولهم: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} وفيه وجهان: الأول: أنه الضعيف الذي يتعذر عليه منع القوم عن نفسه، والثاني: أن الضعيف هو الأعمى بلغة حمير.
واعلم أن هذا القول ضعيف لوجوه: الأول: أنه ترك للظاهر من غير دليل، والثاني: أن قوله: {فِينَا} يبطل هذا الوجه؛ ألا ترى أنه لو قال: إنا لنراك أعمى فينا كان فاسدًا، لأن الأعمى أعمى فيهم وفي غيرهم، الثالث: أنهم قالوا بعد ذلك: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك} فنفوا عنه القوة التي أثبتوها في رهطه، ولما كان المراد بالقوة التي أثبتوها للرهط هي النصرة، وجب أن تكون القوة التي نفوها عنه هي النصرة، والذين حملوا اللفظ على ضعف البصر لعلهم إنما حملوه عليه، لأنه سبب للضعف.
واعلم أن أصحابنا يحوزون العمى على الأنبياء، إلا أن هذا اللفظ لا يحسن الاستدلال به في إثبات هذا المعنى لما بيناه.
وأما المعتزلة فقد اختلفوا فيه فمنهم من قال: إنه لا يجوز لكونه متعبدًا فإنه لا يمكنه الاحتراز عن النجاسات، ولأنه ينحل بجواز كونه حاكمًا وشاهدًا، فلأن يمنع من النبوة كان أولى، والكلام فيه لا يليق بهذه الآية، لأنا بينا أن الآية لا دلالة فيها على هذا المعنى.
والنوع الثالث: من الأشياء التي ذكروها قولهم: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك}
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
قال صاحب الكشاف: الرهط من الثلاثة إلى العشرة، وقيل إلى السبعة، وقد كان رهطه على ملتهم.
قالوا لولا حرمة رهطك عندنا بسبب كونهم على ملتنا لرجمناك، والمقصود من هذا الكلام أنهم بينوا أنه لا حرمة له عندهم، ولا وقع له في صدورهم، وأنهم إنما لم يقتلوه لأجل احترامهم رهطه.
المسألة الثانية:
الرجم في اللغة عبارة عن الرمي، وذلك قد يكون بالحجارة عند قصد القتل، ولما كان هذا الرجم سببًا للقتل لا جرم سموا القتل رجمًا، وقد يكون بالقول الذي هو القذف، كقوله: {رَجْمًا بالغيب} [الكهف: 22] وقوله: {وَيَقْذِفُونَ بالغيب مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ: 53] وقد يكون بالشتم واللعن، ومنه قوله: {الشيطان الرجيم} [النحل: 98] وقد يكون بالطرد كقوله: {رُجُومًا للشياطين} [الملك: 5].
إذا عرفت هذا ففي الآية وجهان: الأول: {لرجمناك} لقتلناك.
الثاني: لشتمناك وطردناك.
النوع الرابع: من الأشياء التي ذكروها قولهم: {وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} ومعناه أنك لما لم تكن علينا عزيزًا سهل علينا الإقدام على قتلك وإيذائك.
واعلم أن كل هذه الوجوه التي ذكروها ليست دافعًا لما قرره شعيب عليه السلام من الدلائل والبينات، بل هي جارية مجرى مقابلة الدليل والحجة بالشتم والسفاهة. اهـ.