فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

{قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله}.
يعني أهيب عندكم من الله وأمنع حتى تركتم قتلي لمكان رهطي عندكم فالأولى أن تحفظوني في الله ولأجل الله لا لرهطي لأن الله أعز وأعظم: {واتخذتموه وراءكم ظهريًا} يعني ونبذتم أمر الله وراء ظهوركم وتركتموه كالشيء الملقى الذي لا يلتفت إليه: {إن ربي بما تعملون محيط} يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بأحوالكم جميعًا لا يخفى عليه منها شيء فيجازيكم بها يوم القيامة: {ويا قوم اعملوا على مكانتكم} يعني على تؤدتكم وتمكنكم من أعمالكم وقيل المكانة الحالة والمعنى اعملوا حال كونكم موصفين بعناية المكنة والقدرة من الشر: {إني عامل} يعني ما أقدر عليه من الطاعة والخير وهذا الأمر في قوله اعملوا فيه وعيد وتهديد عظيم ويدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {سوف تعلمون} أينا الجاني على نفسه المخطئ في فعله.
فإن قلت أي فرق بين إدخال الفاء ونزعها في قوله سوف تعلمون.
قلت إدخال الفاء في قوله: فسوف تعلمون، وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل ونزعها في قوله سوف تعلمون وصل خفي تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر كأنهم قالوا فما يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت فقال سوف تعلمون يعني عاقبة ذلك فوصل تارة بالفاء وتارة بالاستئناف للتفنن في البلادة كما هو عادة بلغاء العرب وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف للتفنن في البلادة كما هو عادة بلغاء العرب وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه والمعنى سوف تعلمون: {من يأتيه عذاب يخزيه} يعني بسبب عمله السيء أو أينا الشقي الذي يأتيه عذاب يخزيه: {ومن هو كاذب} يعني فيما يدعيه: {وارتقبوا} يعني وانتظروا العاقبة ما يؤول إليه أمري وأمركم: {إني معكم رقيب} أي منتظر، والرقيب بمعنى المراقب.
{ولما جاء أمرنا} يعني بعذابهم وإهلاكهم: {نجينا شعيبًا والذين آمنوا معه برحمة منا} يعني بفضل منا بأن هديناهم للإيمان ووفقناهم للطاعة: {وأخذت الذين ظلموا} يعني ظلموا أنفسهم بالشرك والبخس: {الصيحة} وذلك أن جبريل عليه السلام صاح بهم صيحة فخرجت أرواحهم وماتوا جميعًا، وقيل: أتتهم صيحة واحدة من السماء فماتوا جميعًا: {فأصبحوا في ديارهم جاثمين} يعني ميتين وهو إستعارة من قولهم جثم الطير إذا قعد ولطأ بالأرض: {كأن لم يغنوا فيها} يعني كأن لم يقيموا بديارهم مدة من الدهر مأخوذ من وقولهم غني بالمكان إذا أقام فيه مستغنيًا به عن غيره: {ألا بعدًا} يعني هلاكًا: {لمدين كما بعدت ثمود} قال ابن عباس لم تعذب أمتان قط بعذاب واحد إلى قوم شعيب وقوم صالح فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم وأما قوم شعيب فأخذتهم الصيحة من فوقهم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{قَالَ يا قوم أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله}
والظاهر في قوله: واتخذتموه، أن الضمير عائد على الله تعالى أي: ونسيتموه وجعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به.
والظهري بكسر الظاء منسوب إلى الظهر من تغييرات النسب، ونظيره قولهم في النسب إلى الأمس إمسى بكسر الهمزة، ولما خاطبوه خطاب الإهانة والجفاء جريًا على عادة الكفار مع أنبيائهم، خاطبهم خطاب الاستعطاف والتلطف جريًا على عادته في إلانة القول لهم، والمعنى: أعز عليكم من الله حتى جعلتم مراعاتي من أجلهم ولم يسندوها إلى الله، وأنا أولى وأحق أن أراعي من أجله، فالمراعاة لأجل الخالق أعظم من المراعاة لأجل المخلوق، والظهري المنسي المتروك الذي جعل كأنه خلف الظهر.
وقيل: الضمير في واتخذتموه به عائد على الشرع الذي جاء شعيب عليه السلام.
وقيل: الظهري العون وما يتقوى به.
قال المبرد: فالمعنى واتخذتم العصيان عنده لدفعي انتهى.
فيكون على حذف مضاف أي: واتخذتموه أي عصيانه.
قال ابن عطية: وقالت فرقة: واتخذتموه أي وأنتم متخذون الله سند ظهوركم وعماد آمالكم.
فقول الجمهور: على أن كفر قوم شعيب كان جحدًا بالله وجهلًا به، وهذا القول الثاني على أنهم كانوا يقرون بالخالق الرازق ويعتقدون الأصنام وسائط ووسائل، ومن اللفظة الاستظهار بالبينة.
وقال ابن زيد: الظهري الفضل، مثل الحمال يخرج معه بابل ظهارية يعدها إن احتاج إليها، وإلا فهي فضلة.
محيط أحاط بأعمالكم فلا يخفى عليه شيء منها، وفي ضمنه توعد وتهديد، وتقدم تفسير نظير قوله: {ويا قوم اعملوا على مكانتكم} وخلاف القراء في مكانتكم.
وجوز الفراء، والزمخشري: في من يأتيه أن تكون موصولة مفعولة بقوله: تعلمون أي: تعلمون الشقي الذي يأتيه عذاب يخزيه والذي هو كاذب، واستفهامية في موضع رفع على الابتداء، وتعلمون معلق كأنه قيل: أينا يأتيه عذاب يخزيه، وأينا هو كاذب.
قال ابن عطية: والأول أحسن، يعني كونها مفعولة قال: لأنها موصولة، ولا يوصل في الاستفهام، ويقضي بصلتها إن المعطوفة عليها موصولة لا محالة انتهى.
وقوله: ويقضي بصلتها إلخ لا يقضي بصلتها، إذ لا يتعين أن تكون موصولة لا محالة كما قال، بل تكون استفهامية إذا قدرتها معطوفة على من الاستفهامية، كما قدّرناه وأينا هو كاذب.
قال الزمخشري: (فإن قلت): أي فرق بين إدخال الفاء ونزعها في سوف تعلمون؟ (قلت): أدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل، ونزعها وصل خفي تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر كأنهم قالوا: فماذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا، وعملت أنت؟ فقال: سوف تعلمون، يوصل تارة بالفاء، وتارة بالاستئناف، كما هو عادة البلغاء من العرب.
وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف، وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه.
قال الزمخشري: (فإن قلت): قد ذكر عملهم على مكانتهم، وعمله على مكانته، ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم، فكان القياس أن يقول من يأتيه عذاب يجزيه، ومن هو صادق حتى ينصرف من يأتيه عذاب يخزيه إلى الجاحدين، ومن هو صادق إلى النبي المبعوث إليهم.
(قلت): القياس ما ذكرت، ولكنهم لما كانوا يعدونه كاذبًا قال: ومن هو كاذب يعني في زعمكم ودعواكم تجهيلًا لهم انتهى.
وفي ألفاظ هذا الرجل سوء أدب، والذي قاله ليس بقياس، لأن التهديد الذي وقع ليس بالنسبة إليه، ولا هو داخل في التهديد المراد بقوله: سوف تعلمون، إذ لم يأت التركيب اعملوا على مكانتكم، وأعمل على مكانتي، ولا سوف تعلمون.
واعلم أن التهديد مختص بهم.
واستسلف الزمخشري قوله: قد ذكر عملهم على مكانتهم، وعمله على مكانته، فبنى على ذلك سؤالًا فاسدًا، لأن المترتب على ما ليس مذكورًا لا يصح البتة، وجميع الآية والتي قبلها إنما هي بالنسبة إليهم على سبيل التهديد، ونظيره في سورة تنزيل: {فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم} فهذا جاء بالنسبة للمخاطبين في قوله: قل يا قوم اعملوا على مكانتكم كما جاء هنا، وارتقبوا: انتظروا العاقبة، وما أقول لكم.
والرقيب بمعنى الراقب فعيل للمبالغة، أو بمعنى المراقب كالعشير والجليس، أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع، ويحسن هذا مقابلة فارتقبوا.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما بال ساقتي قصة عاد وقصة مدين جاءتا بالواو والساقتان الوسطيان بالفاء؟ (قلت): قد وقعت الوسطيان بعد ذكر الوعد وذلك قوله: {إن موعدهم الصبح}، {ذلك وعد غير مكذوب} فجيء بالفاء التي للتسبب كما تقول: وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت وكيت، وأما الأخريان فلم يقعا بتلك المنزلة، وإنما وقعتا مبتدأتين، فكان حقهما أن يعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما؟ كما تعطف قصة على قصة انتهى.
وتقدم تفسير مثل ولما جاء أمرنا إلى قوله كان لم يغنوا فيها.
وقرأ السلمي وأبو حيوة: كما بعدت بضم العين من البعد الذي هو ضد القرب، والجمهور بكسرها، أرادت العرب التفرقة بين البعد من جهة الهلاك، وبين غيره، فغيروا البناء وقراءة السلمي جاءت على الأصل اعتبار المعنى البعد من غير تخصيص كما يقال: ذهب فلان، ومضى في معنى القرب.
وقيل: معناه بعد الهم من رحمة الله كما بعدت ثمود منها.
وقال ابن قتيبة: بعد يبعد إذا كان بعده هلكة، وبعد يبعد إذ أتاني.
وقال النحاس: المعروف في اللغة بعد يبعد بعدًا وبعدًا إذا هلك.
وقال المهدوي: بعد يستعمل في الخير والشر، وبعد في الشر خاصة.
وقال ابن الأنباري: من العرب من يسوي بين الهلاك والبعد الذي هو ضد القرب، فيقول فيهما بعد يبعد، وبعد يبعد.
وقال مالك بن الريب: في بعد بمعنى هلك:
يقولون لا تبعدوهم يدفنونني ** وأين مكان البعد إلا مكانيا

وبعد الفلان دعاء عليه، ولا يدعى به إلا على مبغض كقولك: سحقًا للكافرين.
وقال أهل علم البيان: لم يرد في القرآن استطراد إلا هذا الموضع، والاستطراد قالوا: هو أن تمدح شيئًا أو تذمه، ثم تأتي في آخر الكلام بشيء هو غرضك في أوله.
قال حسان:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني ** فنجوت منجى الحرث بن هشام

ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ** ونجا برأس طمرة ولجام

.اهـ.

.قال أبو السعود:

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ}
{قَالَ} عليه السلام في جوابهم: {ياقوم أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله} فإن الاستهانةَ بمن لا يَتعزّز إلا به عز وجل استهانةٌ بجنابه العزيز وإنما أنكر عليهم أعزِّيّةَ رهطِه منه تعالى مع أن ما أثبتوه هو مطلقُ عزةِ رهطِه لا أعزّيتُهم منه عز وجل مع الاشتراك في أصل العزةِ لتثنية التقريعِ وتكريرِ التوبيخِ حيث أنكر عليهم أولًا ترجيح جنب الرهطِ على جنبة الله تعالى حظًا من العزة أصلًا: {واتخذتموه} بسبب عدم اعتدادِكم بمن لا يرِدُ ولا يصدُر إلا بأمره: {وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا} أي شيئًا منبوذًا وراء الظهر منسيًا لا يبالى به، منسوبٌ إلى الظهر، والكسر لتغيير النسب كالإِمسيّ في النسبة إلى الأمس: {إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ} من الأعمال السيئة التي من جملتها عدمُ مراعاتِكم لجانبه: {مُحِيطٌ} لا يخفى عليه منها خافيةٌ وإن جعلتموه منسيًا فيجازيكم عليها. ويحتمل أن يكون الإنكارُ للرد والتكذيب فإنهم لما ادَّعَوا أنهم لا يكفّون عن رجمه عليه السلام لقوته وعزّتِه بل لمراعاة جانب رهطِه ردّ عليهم ذلك بأنكم ما قدَّرتم الله حقَّ قدرِه العزيزِ ولم تراعوا جنابَه القويَّ فكيف تراعون جانبَ رهطي الأذلة: {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا} لما رأى عليه السلام إصرارَهم على الكفر وأنهم لا يرعوون عما هم عليه من المعاصي حتى اجترأوا على العظيمة التي هي الاستهانةُ به والعزيمةُ على رجمه لولا حُرمةُ رهطِه، قال لهم على طريقة التهديد: اعملوا: {على مَكَانَتِكُمْ} أي على غاية تمكّنِكم واستطاعتِكم يقال: مكُن مكانةً إذا تمكّن أبلغَ التمكّن وإنما قاله عليه السلام ردًا لما ادَّعَوا أنهم أقوياءُ قادرون على رجمه وأنه ضعيفٌ فيما بينهم لا عزةَ له، أو على ناحيتكم وجِهَتكم التي أنتم عليها من قولهم: مكانٌ ومكانة كمقام ومقامة، والمعنى اثبُتوا على ما أنتم عليه من الكفر والمشاقّةِ لي وسائرِ ما أنتم عليه مما لا خيرَ فيه، وابذُلوا جهدكم في مضارّتي وإيقافي ما في نيتكم وإخراج ما في أمنيتكم من القوة إلى الفعل: {إِنّى عامل} على مكانتي حسبما يؤيدني الله ويوفقني بأنواع التأييدِ والتوفيق: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} لما هدّدهم عليه السلام بقوله: اعمَلوا على مكانتكم إني عاملٌ كان مظِنّةَ أن يسألَ منهم سائلٌ فيقولَ: فماذا يكون بعد ذلك؟ فقيل: سوف تعلمون: {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} وصَف العذابَ بالإخزاء تعريضًا بما أوعدوه عليه السلام به من الرجم فإنه مع كونه عذابًا فيه خِزيٌ ظاهرٌ حيث لا يكون إلا بجناية عظيمةٍ توجبه: {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} عطفٌ على مَنْ يأتيه لا على أنه قسيمُه بل حيث أوعدوه بالرجم وكذبوه قيل: سوف تعلمون مَن المعذَّبُ ومن الكاذب، وفيه تعريضٌ بكذبهم في ادعائهم القوةَ والقُدرةَ على رجمه عليه السلام وفي نسبته إلى الضعف والهوانِ وفي ادعائهم الإبقاءَ عليه جانبِ الرهطِ، والاختلافُ بين المعطوفَين بالفعلية والاسميةِ لأن كذبَ الكاذبِ بمرتقَبٍ كإتيان العذاب بل إنما المرتقَبُ ظهورُ الكذبِ السابق المستمرّ. و(من) إما استفهاميةٌ معلِّقةٌ للعلم عن العمل كأنه قيل: سوف تعلمون أيُّنا يأتيه عذابٌ يُخزيه وأيُّنا كاذبٌ، وإما موصولةٌ أي سوف تعرِفون الذي يأتيه عذابٌ والذي هو كاذب: {وارتقبوا} وانتظروا مآلَ ما أقول: {إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ} منتظرٌ، فعيل بمعنى الراقب كالصريم، أو المراقب كالشعير أو المرتقب كالرفيع وفي زيادة معكم إظهارٌ منه عليه السلام لكمال الوثوق بأمره.
{وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا} أي عذابُنا كما ينبئ عنه قوله تعالى: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أو وقتُه فإن الارتقابَ مؤذِنٌ بذلك: {نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا} وهي الإيمانُ الذي وفقناهم له أو بمرحمة كائنةٍ منّا لهم، وإنما ذكر بالواو كما في قصة عاد لِما أنه لم يسبِقْه فيها ذكرُ وعدٍ يجري مجرى السببِ المقتضي لدخول الفاءِ في معلوله كما في قصتي صالحٍ ولوط. فإنه قد سبق هنالك سابقةُ الوعد بقوله: {ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} وقوله: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح}، {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ} عدل إليه عن الضمير تسجيلًا عليهم بالظلم وإشعارًا بأن ما أخذهم إنما أخذهم بسبب ظلمِهم الذي فُصّل فيما سبق فنونُه: {الصيحة} قيل: صاح بهم جبريلُ عليه السلام فهلكوا، وفي سورة الأعراف: {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة}، وفي سورة العنكبوت: {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} أي الزلزلة، ولعلها من روادف الصيحةِ المستتبِعة لتموّج الهواء المفضي إليها كما مر فيما قبل: {فَأَصْبَحُواْ في دِيَارِهِمْ جاثمين} ميتين لازمين لأماكنهم لا بَراحَ لهم منها، ولمّا لم يُجعل متعلَّقُ العلمِ في قوله تعالى: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ} إلخ، نفسَ مجيءِ العذابِ بل من يجيئه ذلك جُعل مجيئُه بعد ذلك أمرًا مسلَّمَ الوقوعِ غنيًا عن الإخبار به حيث جعل شرطًا وجُعل تنجيةُ شعيبٍ عليه السلام وإهلاكُ الكفرة جوابًا له ومقصودَ الإفادة، وإنما قدّم تنجيتُه اهتمامًا بشأنها وإيذانًا بسبق الرحمةِ التي هي مقتضى الربوبيةِ على الغضب الذي يظهر أثرُه بموجب جرائرِهم وجرائمهم: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ} أي لم يقيموا: {فِيهَا} متصرفين في أطرافها متقلبين في أكنافها: {أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} العدولُ عن الإضمار إلى الإظهار ليكون أدلَّ على طغيانهم الذي أدّاهم إلى هذه المرتبةِ وليكون أنسبَ بمن شُبّه هلاكُهم بهلاكهم أعني ثمود، وإنما شُبّه هلاكُهم بهلاكهم لأنهما أُهلكتا بنوع من العذاب وهو الصيحة، غير أن هؤلاءِ صيح بهم من فوقهم وأولئك من تحتهم وقرئ بعُدت بالضم على الأصل فإن الكسرَ تغييرٌ لتخصيص معنى البُعد بما يكون سببَ الهلاك والبعدُ مصدرٌ لهما والبُعدُ مصدرٌ للمكسور. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَالَ يا قوم أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله} أي من نبي الله على ما قال عليه الرحمة، ووجه الاستدلال كما قال العلامة وغيره: إنه لو لم يكن قصدهم اختصاصه بنفي العزة بل مجرد الإخبار بعدم عزته عليهم لم يستقم هذا الجواب ولم يكن مطابقًا لمقالهم إذ لا دلالة لنفي العزة عنه على ثبوتها للغير، وإنما يدل على ذلك اختصاصه بنفي العزة.
واعترض صاحب الإيضاح بأن هذا من باب أنا عارف وهو لا يفيد الاختصاص وفاقًا وإنما يفيده التقديم على الفعل مثل أنا عرفت، وكون المشتقات قريبة من الأفعال في التقوى لا يقتضي كونها كالأفعال في الاختصاص والتمسك بالجواب ضعيف لجواز أن يكون جوابًا لقولهم: {لَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك} [هود: 91] فإنه يدل على أن رهطه هم الأعزة حيث كان الامتناع عن رجمه بسببهم لا بسببه ومعلوم بحسب الحال والمقام أن ذلك لعزتهم لا لخوفهم، وتعقبه السيد السند بأن صاحب الكشاف صرح بالتخصيص في قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 100] فكيف يقال: باب أنا عارف لا يفيد الاختصاص اتفاقًا وإن جعله جوابًا لما: {أَنتَ عَلَيْهِمْ بِعَزِيزٍ} هو الظاهر بأن يجعل التنوين للتعظيم فيدل على ثبوت أصل العزة له عليه السلام ولا دلالة لقولهم: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك} [هود: 91] على اشتراك العزة فلا يلائمه أرهطى أعز عليكم، ثم قال: فإن قيل: شرط التخصيص عند السكاكي أن يكون المقدم بحيث إذا أخر كان فاعلًا معنويًا ولا يتصور ذلك فيما نحن فيه قلنا: إن الصفة بعد النفي تستقل مع فاعلها كلامًا فجاز أن يقال: ما عزيز أن على أن يكون أنت تأكيدًا للمستتر ثم يقدم ويدخل الباء على: {عَزِيزٌ} بعد تقديم: {أَنتَ} وجعله مبتدأ.