فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ويا قوم أوفوا} أي: أتموا اتمامًا حسنًا: {المكيال والميزان} أي: الكيل والوزن وآلتهما. فإن قيل: النهي عن النقصان أمر بالإيفاء فما فائدة قوله تعالى: {أوفوا}؟
أجيب: بأنهم نهوا أوّلًا عن القبيح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان؛ لأنّ في التصريح بالقبيح نفيًا عن المنهي وتغييرًا له، ثم ورد الأمر بالإيفاء الذي هو حسن في العقول مصرحًا بلفظه لزيادة ترغيب فيه وبعث عليه وجيء به مقيدًا: {بالقسط}، أي: ليكون الإيفاء على وجه العدل والتسوية من غير زيادة ولا نقصان أمرًا بما هو الواجب؛ لأنّ ما جاوز العدل فضل وأمر مندوب إليه غير المأمور به، وقد يكون محظورًا كما في الربا وقوله تعالى: {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} تعميم بعد تخصيص فإنه أعم من أن يكون في المقدار أو في غيره، فإنهم كانوا يأخذون من كل شيء يباع كما تفعل السماسرة وكانوا، يمسكون الناس، وكانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء، فنهوا عن ذلك، فظهر بهذا البيان أنّ هذه الأشياء غير مكررة بل في كل واحد منها فائدة زائدة. والحاصل: أنه تعالى نهى في الآية الأولى عن النقصان في المكيال والميزان، وفي الثانية: أمر بإعطاء قدر الزيادة ولا يحصل الجزم واليقين بأداء الواجب إلا عند أداء ذلك القدر من الزيادة، ولهذا قال الفقهاء: إنه تعالى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصل إلا عند غسل جزء من الرأس، فكأنه تعالى نهى أوّلًا عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصًا لتحصل له تلك الزيادة. وفي الثاني: أمر بأن يسعى في تنقيص مال نفسه ليخرج بالتعيين عن العهدة كما قيده بقوله تعالى: {بالقسط}، وفي الآية الثالثة نهى عن النقص في كل الأشياء وكذا قوله تعالى: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} فإنّ العثو يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد، ومفسدين حال مؤكدة لمعنى عاملها. وفائدتها: إخراج ما يقصد به الإصلاح كما فعله الخضر عليه السلام.
{بقيت الله} قال ابن عباس: يعني ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن: {خير لكم} مما تأخذونه بالتطفيف. وقال مجاهد: مما يحصل لكم في الدنيا من المال الحرام: {إن كنتم مؤمنين}، أي: مصدّقين بما قلت لكم وأمرتكم به.
فائدة: {بقيت} رسمت هنا بالتاء المجرورة وقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي والباقون وقفوا عليها بالهاء: {وما أنا عليكم بحفيظ} أعلم جميع أعمالكم وأقدر على كفكم عما يكون منها فسادًا. ولما أمرهم شعيب عليه السلام بشيئين بالتوحيد وبترك البخس.
{قالوا} له: {يا شعيب} سموه باسمه استخفافًا وغلظة وأنكروا عليه متهزئين به: {أصلواتك تأمرك}، أي: تفعل معك فعل من يأمر دائمًا بتكليفنا: {أن نترك ما يعبد}، أي: على سبيل المواظبة: {آباؤنا} من الأصنام، فحذف الذي هو التكليف؛ لأنّ الإنسان لا يؤمر بفعل غيره، قالوا له ذلك في جواب أمره لهم بالتوحيد: {أو} نترك: {أن نفعل}، أي: دائمًا: {في أموالنا ما نشاء} من قطع الدراهم والدنانير وإفساد المعاملة والمقامرة ونحوها مما يكون إفسادًا للمال، قالوا ذلك في جواب النهي عن التطفيف والأمر بالإيفاء، وإنما أضافوا ذلك إلى صلاته تهكمًا واستهزاء بها وإشعارًا بأن مثل هذا لا يدعو إليه داع عقلي، وإنما دعاك إليه خطرات ووساوس من جنس ما تواظب عليه، وكان شعيب عليه الصلاة والسلام كثير الصلاة في الليل والنهار، وكان قومه إذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا. وقصدوا بقولهم أصلواتك تأمرك السخرية والهزء، كما أنك إذا رأيت معتوهًا يطالع كتبًا ثم يذكر كلامًا فاسدًا فيقال له: هذا فائدة مطالعة تلك الكتب على سبيل الهزء فكذا هنا. وقرأ حفص وحمزة والكسائي: أصلاتك بالإفراد، والباقون بالجمع والتاء بالرفع في القراءتين، وغلظ ورش اللام في أصلواتك، وقولهم له: {إنك لأنت الحليم الرشيد} تهكم به، وقصدوا وصفه بضدّ ذلك كما يقال للبخيل الخسيس: لو رآك حاتم لسجد لك، وعللوا إنكار ما سمعوه منه واستبعدوه بأنه موسوم بالحلم والرشد المانعين من المبادرة إلى مثل ذلك، ثم أخرج قوله عليه الصلاة والسلام على تقدير سؤال بقوله: {قال يا قوم} مستعطفًا لهم لما بينهم من عواطف القرابة منبهًا لهم على أحسن النظر فيما ساقه على سبيل الفرض؛ والتقدير: ليكون أدعى إلى سبيل الوفاق والإنصاف: {أرأيتم}، أي: أخبروني: {إن كنت على بينة}، أي: برهان: {من ربي} وعطف على جملة الشرط المستفهم عنه قوله: {ورزقني} والضمير في: {منه} لله تعالى، أي: من عنده بإعانته بلا كدّ مني في تحصيله. وعظم الرزق بقوله: {رزقًا حسنًا} جليلًا ومالًا حلالًا لم أظلم فيه أحدًا، وجواب الشرط محذوف، أي: فهل يسوغ مع هذا الإنعام الجامع للسعادات الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه فأخالفه في أمره ونهيه، وهذا اعتذار عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء: {وما أريد أن أخالفكم}، أي: وأذهب: {إلى ما أنهاكم عنه} فأرتكبه: {إن}، أي: ما: {أريد}، أي: فيما آمركم به وأنهاكم عنه: {إلا الإصلاح}، أي: ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتي ونصيحتي وأمري بالمعروف ونهي عن المنكر: {ما استطعت}، أي: وهو الإبلاغ والإنذار فقط، ولا استطيع إجباركم على الطاعة؛ لأنّ ذلك إلى الله تعالى فإنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء: {وما توفيقي}، أي: لإصابة الحق والصواب: {إلا بالله}، أي: إلا بمعونته وتأييده: {عليه} لا على غيره: {توكلت}، أي: اعتمدت في جميع أموري، فإنه القادر على كل شيء، وما عداه عاجز، وهذه الصيغة تفيد الحصر فلا ينبغي للإنسان أن يتوكل على أحد إلا على الله تعالى، وفيه إشارة إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مراتب المبدأ وأمّا قوله: {وإليه أنيب} ففيه إشارة إلى معرفة المعاد، وهو أيضًا يفيد الحصر؛ لأنّ قوله وإليه أنيب يدل على أنه لا مآب للخلق إلا إلى الله تعالى، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ذكر شعيبًا قال: «خطيب الأنبياء» لحسن مراجعته قومه.
{ويا قوم لا يجرمنكم}، أي: لا يكسبنكم: {شقاقي}، أي: خلافي وهو فاعل بيجرم، والضمير مفعول أوّل، والمفعول الثاني: {أن يصيبكم} عذاب العاجلة على كفركم وأفعالكم الخبيثة. قال في الكشاف: جرم مثل كسب في تعديه إلى مفعول واحد وإلى مفعولين، تقول: جرم ذنبًا وكسبه وجرمته ذنبًا وكسبته إياه. ومنه قوله تعالى: {لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح} من الغرق: {أو قوم هود} من الريح العقيم: {أو قوم صالح} من الرجفة: {وما قوم لوط منكم ببعيد} لا في الزمان ولا في المكان؛ لأنهم كانوا حديثي عهد بهلاكهم، وكانوا جيران قوم لوط وبلادهم قريبة من بلادهم، فإن القرب في الزمان والمكان يفيد زيادة المعرفة وكمال الوقوف على الأحوال، فكأنه يقول: اعتبروا بأحوالهم واحذروا من مخالفة الله ومنازعته حتى لا ينزل بكم مثل ذلك العذاب. فإن قيل: لِمَ قال ببعيد ولم يقل ببعيدين؟
أجيب: بأنّ التقدير: وما إهلاكهم بشيء بعيد، وأيضًا يجوز أن يسوى في قريب وبعيد وقليل وكثير بين المذكر والمؤنث لورودهما على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما انتهى.
{واستغفروا ربكم}، أي: آمنوا به: {ثم توبوا إليه} عن عبادة غيره؛ لأنّ التوبة لا تصح إلا بعد الإيمان وقد مرّ مثل ذلك: {إن ربي رحيم}، أي: عظيم الرحمة للتائبين: {ودود}، أي: محب لهم. ولما بلغ عليه السلام في التقرير والبيان أجابوه بأنواع فاسدة.
الأوّل: {قالوا} له: {يا شعيب ما نفقه}، أي: ما نفهم: {كثيرًا مما تقول}. فإن قيل: إنه كان يخاطبهم بلسانهم فلم قالوا: {ما نفقه}؟
أجيب: بأنهم كانوا لا يلقون إليه أذهانهم لشدّة نفرتهم عن كلامه وهو قوله تعالى: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه} أو أنهم فهموه ولكنهم ما أقاموا له وزنًا، فذكروا هذا الكلام على وجه الاستهانة، كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه: ما أدري ما تقول. النوع الثاني: قولهم له: {وإنا لنراك فينا ضعيفًا}، أي: لا قوّة لك فتمتنع منا إن أردناك بسوء أو ذليلًا لا عز لك، وقيل: أعمى بلغة حمير، قاله قتادة، وفي هذا تجويز العمي على الأنبياء إلا أنّ هذا اللفظ لا يحسن الاستدلال به في إثبات هذا المعنى؛ لأنه ترك الظاهر من غير دليل، وقيل: ضعيف البصر، قاله الحسن. النوع الثالث: قولهم له: {ولولا رهطك}، أي: عشيرتك وعزتهم عندنا لكونهم على ملتنا لا لخوف من شوكتهم: {لرجمناك} بالحجارة حتى تموت، والرهط من الثلاثة إلى عشرة، وقيل: إلى السبعة، والمقصود من هذا الكلام أنهم بينوا له أنه لا حرمة له عندهم ولا وقع له في صدورهم وأنهم إنما لم يقتلوه لأجل احترام رهطه. النوع الرابع: قولهم له: {وما أنت علينا بعزيز}، أي: لا تعز علينا ولا تكرم حتى نكرمك من القتل ونرفعك عن الرجم، وإنما يعز علينا رهطك؛ لأنهم من أهل ديننا ولم يختاروك علينا ولم يتبعوك دوننا، ولما خوّف الكفار شعيبًا عليه السلام بالقتل والإيذاء حكى الله تعالى عنهم ما ذكروه في هذا المقام وهو نوعان: الأوّل: {قال} لهم: {يا قوم} مستعطفًا لهم مع غلظتهم عليه: {أرهطي أعز عليكم من الله} المحيط بكل شيء قدرة وعلمًا حتى نظرتم إليهم فيّ لقرابتي منهم، ولم تنظروا إلى الله تعالى في قربي منه لما ظهر عليّ من كرامته تعالى: {واتخذتموه وراءكم ظهريًا}، أي: جعلتموه كالمنسيّ المنبوذ وراء الظهر بإشراككم به، والإهانة لرسوله. قال في الكشاف: والظهريّ منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب، ونظيره قولهم في النسبة إلى الأمس أمسيّ بكسر الهمزة، وقوله: {إنّ ربي بما تعملون محيط}، أي: إنه عليم بأحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها. النوع الثاني: قوله: {ويا قوم اعملوا على مكانتكم} والمكانة الحالة التي يمكن صاحبها من عمله، والمعنى: اعملوا حال كونكم موصوفين بغاية المكنة والقدرة وكل ما في وسعكم وطاقتكم من إيصال الشرور إليّ، {إني} أيضًا: {عامل} بما آتاني الله من القدرة والطاعة: {سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب} فمن موصولة مفعول العلم. فإن قيل: لم لم يقل فسوف تعلمون؟
أجيب: بأنّ إدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل وأمّا حذف الفاء فيجعله جوابًا عن سؤال مقدّر وهو المسمى في علم البيان بالاستئناف البياني، تقديره أنه لما قال: {ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل} فكأنهم قالوا: فماذا يكون بعد ذلك فقال: سوف تعلمون، فظهر أن حذف حرف الفاء هاهنا أكمل في بيان الفصاحة والتهويل؛ لأنه استئناف: {وارتقبوا}، أي: انتظروا عاقبة أمركم: {إني معكم رقيب}، أي: منتظر، والرقيب بمعنى الراقب من رقبه كالضريب والصريم، بمعنى الضارب والصارم أو بمعنى المراقب كالعشير والنديم، أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع.
{ولما جاء أمرنا} بعذابهم وإهلاكهم: {نجينا شعيبًا والذين آمنوا معه برحمة}، أي: بفضل: {منا} بأن هديناهم للإيمان ووفقناهم للطاعة. فإن قيل: لم جاءت قصة عاد وقصة مدين بالواو وقصة صالح ولوط بالفاء؟
أجيب: بأنّ قصة عاد ومدين لم يسبقهما ذكر وعد يجري مجرى السبب له بخلاف قصتي صالح ولوط فإنهما ذكرا بعد الوعد وذلك قوله تعالى: {وعد غير مكذوب} وقوله: {إنّ موعدهم الصبح} فلذلك جاءا بفاء السببية: {أخذت الذين ظلموا}، أي: ظلموا أنفسهم بالشرك والبخس: {الصيحة}، أي: صيحة جبريل عليه السلام صاح بهم صيحة خرجت أرواحهم وماتوا جميعًا، وقيل: أتتهم صيحة من السماء: {فأصبحوا في ديارهم جاثمين}، أي: باركين على الركب ميتين.
{كأن لم يغنوا}، أي: كأنهم لم يقيموا: {فيها}، أي: ديارهم مدّة من الدهر، مأخوذ من قولهم: غني بالمكان إذا أقام فيه مستغنيًا به عن غيره: {ألا بعدًا}، أي: هلاكًا: {لمدين كما بعدت ثمود} إنما شبههم بهم؛ لأنّ عذابهم كان أيضًا بالصيحة لكن صيحتهم كانت من تحتهم وصيحة مدين كانت من فوقهم، قال ابن عباس: لم يعذب الله تعالى أمّتين بعذاب إلا قوم شعيب وقوم صالح؛ فأمّا قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وأمّا قوم شعيب فأخذتهم الصيحة من فوقهم. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} أي وأرسلنا إلى مدين، وهم قوم شعيب، أخاهم في النسب شعيبًا.
وسموا مدين باسم أبيهم، وهو مدين ابن إبراهيم.
وقيل: باسم مدينتهم.
قال النحاس: لا ينصرف مدين لأنه اسم مدينة، وقد تقدّم الكلام على هذا في الأعراف بأبسط مما هنا، وقد تقدّم تفسير: {قَالَ يَاقَوْمٌ اعبدوا الله مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ} في أوّل السورة، وهذه الجملة مستأنفة؛ كأنه قيل: ماذا قال لهم شعيب لما أرسله الله إليهم؟ وقد كان شعيب عليه السلام يسمى خطيب الأنبياء لحسن مراجعته لقومه، أمرّهم أوّلًا بعبادة الله سبحانه الذي هو الإله وحده لا شريك له، ثم نهاهم عن أن ينقصوا المكيال والميزان، لأنهم كانوا مع كفرهم أهل تطفيف، كانوا إذا جاءهم البائع بالطعام أخذوا بكيل زائد، وكذلك إذا وصل إليهم الموزون أخذوا بوزن زائد، وإذا باعوا باعوا بكيل ناقص ووزن ناقص؛ وجملة: {إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} تعليل للنهي: أي لا تنقصوا المكيال والميزان لأني أراكم بخير: أي بثروة وسعة في الرزق، فلا تغيروا نعمة الله عليكم بمعصيته والإضرار بعباده، ففي هذه النعمة ما يغنيكم عن أخذ أموال الناس بغير حقها، ثم ذكر بعد هذه العلة علة أخرى، فقال: {وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} فهذه العلة فيها الإذكار لهم بعذاب الآخرة كما أن العلة الأولى فيها الإذكار لهم بنعيم الدنيا؛ ووصف اليوم بالإحاطة والمراد العذاب، لأن العذاب واقع في اليوم؛ ومعنى إحاطة عذاب اليوم بهم، أنه لا يشذ منهم أحد عنه، ولا يجدون منه ملجأ ولا مهربًا، واليوم: هو يوم القيامة، وقيل: هو يوم الانتقام منهم في الدنيا بالصيحة.
ثم أكد النهي عن نقص الكيل والوزن بقوله: {وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط} والإيفاء: هو الإتمام.
والقسط: العدل، وهو عدم الزيادة والنقص وإن كان الزيادة على الإيفاء فضل وخير، ولكنها فوق ما يفيده اسم العدل، والنهي عن النقص، وإن كان يستلزم الإيفاء ففي تعاضد الدلالتين مبالغة بليغة وتأكيد حسن، ثم زاد ذلك تأكيدًا فقال: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} قد مرّ تفسير هذا في الأعراف، وفيه النهي عن البخس على العموم، والأشياء أعمّ مما يكال ويوزن، فيدخل البخس بتطفيف الكيل والوزن في هذا دخولًا أوّليًا.
وقيل: البخس: المكس خاصة، ثم قال: {وَلاَ تَعْثَوْاْ في الأرض مُفْسِدِينَ} قد مرّ أيضًا تفسيره في البقرة، والعثي في الأرض يشمل كل ما يقع فيها من الإضرار بالناس، فيدخل فيه ما في السياق من نقص المكيال والميزان، وقيده بالحال وهو قوله: {مُفْسِدِينَ} ليخرج ما كان صورته من العثي في الأرض، والمقصود به الإصلاح كما وقع من الخضر في السفينة: {بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ} أي: ما يبقيه لكم من الحلال بعد إيفاء الحقوق بالقسط أكثر خيرًا وبركة مما تبقونه لأنفسكم من التطفيف والبخس، والفساد في الأرض، ذكر معناه ابن جرير وغيره من المفسرين.
وقال مجاهد: بقية الله: طاعته.
وقال الربيع: وصيته.
وقال الفراء: مراقبته، وإنما قيد ذلك بقوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} لأن ذلك إنما ينتفع به المؤمن لا الكافر، أو المراد بالمؤمنين هنا: المصدّقون لشعيب: {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أحفظكم من الوقوع في المعاصي من التطفيف والبخس وغيرهما، أو أحفظ عليكم أعمالكم، وأحاسبكم بها وأجازيكم عليها.
وجملة: {قَالُواْ يَاشُعَيْبٌ أصلواتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا} مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: فماذا قالوا لشعيب؟ وقرئ: {أصلاتك} بالإفراد، و: {أن نترك} في موضع نصب.
وقال الكسائي: موضعها خفض على إضمار الباء، ومرادهم بما يعبد آباؤهم ما كانوا يعبدون من الأوثان، والاستفهام للإنكار عليه والاستهزاء به، لأن الصلوات عندهم ليست من الخير الذي يقال لفاعله عند إرادة تليين قلبه وتذليل صعوبته كما يقال لمن كان كثير الصدقة إذا فعل ما لا يناسب الصواب: أصدقتك أمرتك بهذا.
وقيل: المراد بالصلاة هنا: القراءة.
وقيل: المراد بها: الدين، وقيل: المراد بالصلوات: أتباعه، ومنه المصلى الذي يتلو السابق؛ وهذا منهم جواب لشعيب عن أمره لهم بعبادة الله وحده، وقولهم: {أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} جواب له عن أمرهم بإيفاء الكيل والوزن، ونهيهم عن نقصهما، وعن بخس الناس، وعن العثي في الأرض، وهذه الجملة معطوفة على {ما} في: {ما يعبد آباؤنا}.
والمعنى: أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا، وتأمرك أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء، من الأخذ والإعطاء، والزيادة والنقص.
وقرئ: {تفعل ما تشاء} بالفوقية فيهما.
قال النحاس: فتكون: {أو} على هذه القراءة للعطف على أن الأولى، والتقدير: أصلواتك تأمرك أن تفعل في أموالنا ما تشاء.