فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ} أي: لا تنقصوهم حقوقهم بطريق من الطرق، كالكيل والوزن وغيرهما، فهو تعميم بعد تخصيص؛ لأنه أعم من أن يكون في المقدار وغيره. والبخس: الهضم والنقص. ويقال للمكس: البخس، قال زهير:
أفي كل أسواق العراق إتاوة وفي ** كل ما باع امرؤ بخس درهم

ألا تستحي منا ملوك وتتقي ** محارمنا لا تتقي الدم بالدم

وروي (مكس درهم). يريد زهير: أخذ الخراج وما هو اليوم في الأسواق من رسوم وظلم. وكان قوم شعيب يأخذون من كل شيء يباع شيئًا، كما تفعل السماسرة، أو كانوا يمكسون الناس، أو كانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء، فنهوا عن ذلك، كذا في الكشاف وشرحه.
قال القاشاني: لما رأى شعيب عليه السلام، ضلالتهم بالشرك، واحتجابهم عن الحق بالجبت، وتهالكهم على كسب الحطام بأنواع الرذائل، وتماديهم في الحرص على جمع المال بأسوأ الخصال؛ نهاهم عن ذلك، وقال: إني أراكم بخير في استعدادكم من إمكان حصول كمال وقبول هداية، وإني أخاف عليكم إحاطة خطيئاتكم؛ لاحتجابكم عن الحق، ووقوفكم مع الغير، وصرف أفكاركم بالكلية إلى طلب المعاش، وإعراضكم عن المعاد، وقصور هممكم على إحراز الفاسدات الفانيات عن تحصيل الباقيات الصالحات، فلازموا التوحيد والعدالة واعتزلوا عن الشرك والظلم، الذي هو جماع الرذائل وأم الغوائل.
{وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أي: لا تعملوا فيها الفساد. يعم أيضًا تنقيص الحقوق وغيره، كالسرقة، والدعاء إليه، والصد عن الإيمان ونحوها.
القول في تأويل قوله تعالى: {بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} [86].
{بَقِيَّةُ اللّهِ} أي: ثوابه الباقي على وفاء الكيل والوزن، أو ما أبقاه عليكم بعد التنزه عن الحرام، أو ما تفضل عليكم من الربح بعد وفائهما: {خَيْرٌ لَّكُمْ} أي: في دينكم ودنياكم: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فإن المؤمن يبارك له إذا تنزه عن الحرام. أو مصدقين بما أقول.
وقال القاشاني: أي: إن كنتم مصدقين ببقاء شيء، فما يبقى لكم عند الله من الكمالات والسعادات الأخروية، خير لكم من تلك المكاسب الفانية التي تشقون بها، وتشقون على أنفسكم في كسبها وتحصيلها، ثم تتركونها بالموت، ولا يبقى منها معكم شيء إلا وبال التبعات والعذاب اللازم، لما في نفوسكم من رواسخ الهيئات.
{وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} أي: رقيب لأحفظكم عن القبائح وأكفكم عنها بسيطرة. وإنما أنا مبلغ نذير.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [87].
{قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} أي: من الأصنام، أجابوا به أمرهم بالتوحيد على الاستهزاء والتهكم بصلواته، والإشعار بأن مثله لا يدعو إليه داع عقلي، وإنما دعاك إليه خطرات ووساوس من جنس ما تواظب عليه. وكان شعيب كثير الصلاة، فلذلك جمعوا وخصوا الصلاة بالذكر. وقرئ: {أصلاتك} بالإفراد- قاله القاضي.
{أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء} من نقص ونحوه: {إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} أي: الموصوف بالحلم والرشد في قومك، يعنون أن ما تأمر به لا يطابق حالك، وما شهرت به.
كما قال قوم صالح عليه السلام: {قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} [هود: من الآية 62]، أو قالوا ذلك تهكمًا به، والمراد أنه على الضد من ذلك. قيل: وهذا أرجح؛ لأنه أنسب بتهكمهم قبله، والأدق هو الأول لمماثلته لما خوطب به صالح، وتعقيبه بمثل ما عقب به، وهو قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [88].
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} أي: أخبروني إن كنت على برهان يقيني مما أتاني ربي من العمل والنبوة: {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} أي: مالًا حلالًا مكتسبًا بلا بخس وتطفيف، أو حكمة ونبوة، وكمالًا وتكميلًا، بالاستقامة على التوحيد. هل يصح لي أن أخون الوحي، وأترك النهي عن الشرك والظلم، والإصلاح بالتزكية والتحلية. وهو اعتذار عما أنكروه عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء. وحذف جواب (أرأيتم) لما دل عليه في مثله، كما مر في نبأ نوح وصالح عليهما السلام، وعلى خصوصيته هنا من قوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} أي: وما أريد أن آتي ما أنهكم عنه، لأستبد به دونكم، فلو كان صوابًا لآثرته، ولم أعرض عنه، فضلًا عن أن أنهى عنه- أفاده القاضي-.
وفي التاج: يقال خالفه إلى الشيء: عصاه إليه، أو قصده بعد ما نهاه عنه، وهو من ذلك.
قال القاشاني: أي: ما أقصد إلى جر المنافع الدنيوية الفانية، بارتكاب الظلم الذي أنهاكم عنه.
{إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ} أي: إصلاح نفوسكم بالتزكية، والتهيئة لقبول الحكمة، ما دمت مستطيعًا متمكنًا منه: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ} أي: وما كوني موفقًا للإصلاح إلا بمعونة الله وتأييده: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي: أعتمد: {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي: أرجع في السراء والضراء.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} [89].
{وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي} أي: لا يكسبنكم عدواتي: {أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ} من الغرق والريح والصيحة: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} فإن منازلهم قريبة منكم، وقد علمتم ما نزل بهم من قلب الأرض وإمطار الحجارة. وذلك لأن مخالفة الرسل تقتضي أحد هذه الأمور.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [90].
{وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ} أي: من عبادة الأصنام: {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} أي: بالتوحيد، أو بالرجوع عن البخس والتطفيف: {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ} أي: للمستغفرين التائبين: {وَدُودٌ} أي: مبالغ في المحبة لهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [91].
{قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ} أي: ما نفهم: {كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ} كالتوحيد، وحرمة البخس. يعنون أنهم لا يقبلونه، أو قالوا ذلك استهانة به، كما يقول الرجل لمن لا يعبأ بحديثه: ما أدري ما تقول! أو جعلوا كلامه هذيانًا وتخليطًا لا ينفعهم كثير منه، و(الكثير) مراد به الكل، أو قالوه فرارًا من المكابرة.
قال أبو السعود: الفقه معرفة غرض المتكلم من كلامه. أي: ما نفهم مرادك، وإنما قالوه بعد ما سمعوا منه دلائل الحق البين على أحسن وجه وأبلغه، وضاقت عليهم الحيل، فلم يجدوا إلى محاورته سبيلًا، سوى الصدود عن منهاج الحق، والسلوك إلى سبيل الشقاء، كما هو ديدن المفحم المحجوج، يقابل البينات بالسب والإبراق والإرعاد. فجعلوا كلامه المشتمل على فنون الحكم والمواعظ، وأنواع العلوم والمعارف، من قبيل ما لا يفهم معناه، ولا يدرك فحواه، وأدمجوا في ضمن ذلك أن في تضاعيفه ما يستوجب أقصى ما يكون من المؤاخذة والعقاب. ولعل ذلك ما فيه من التحذير من عواقب الأمم السالفة، ولذلك قالوا: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} أي: لا قوة لك، فتمتنع منا إن أردنا بك سوءًا: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ} أي: قومك وأنهم على ملتنا: {لَرَجَمْنَاكَ} أي: قتلناك برمي الأحجار، أو شر قتلة: {وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} أي: لا تعز علينا ولا تكرم حتى نكرمك ونمنعك من الرجم.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [92].
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} أي: من أمره ووحيه ودينه: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} أي: نسيتموه وجعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به، و(الظهري) منسوب إلى الظهر، والكسر من تغييرات النسب كما قالوا: (إِمسي) بالكسر في النسبة إلى (أمس) و(دُهري) بالضم بالنسبة إلى (الدهر): {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} أي: عالم لا يخفى عليه فيجازيكم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} [93].
{وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي: غاية تمكنكم واستطاعتكم، أو على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها، من كفركم وعداوتكم: {إِنِّي عَامِلٌ} أي: على مكانتي التي كنت عليها من الثبات على الإسلام والمصابرة.
{سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} أي: منتظر لهلاككم. وفي زيادة (معكم) إظهار منه عليه السلام لكمال الوثوق بأمره.
قال الزمخشري: فإن قلت: أي: فرق بين إدخال الفاء ونزعها في: {سَوْفَ تَعْلَمُونَ}؟ قلت: إدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل، ونزعها وصل خفي تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر، كأنهم قالوا: فما يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا، وعلمت أنت؟ فقال: سوف تعلمون! فوصل تارة بالفاء، وتارة بالاستئناف، للتفنن في البلاغة، كما هو عادة بلغاء العرب، وأقوى الوصلين، وأبلغهما الاستئناف؛ للإشعار بأنه مما يسأل عنه، ويعتني به، ولذا كان أبلغ في التهويل.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [94].
{وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا} إنما ذكره بالواو، كما في قصة عاد، إذ لم يسبقه ذكر وعد يجري مجرى السبب له بخلاف قصتي صالح ولوط، فإنه ذكر بعد الوعد، وذلك قوله: {وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: من الآية 65]، وقوله: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْح} [هود: من الآية 81]، فلذلك جاء بفاء السببية. أفاده القاضي.
{وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ} أي: بالعذاب: {فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أي: ميتين.
القول في تأويل قوله تعالى: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [95].
{كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ} أي: يقيموا: {فِيهَا أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} شبههم بهم، لأن عذابهم كان أيضًا بالصيحة، وكانوا قريبًا منهم في المنزل، نظراءهم في الكفر وقطع الطريق، وكانوا أعرابًا مثلهم. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

.قِصَّةُ شُعَيْبٍ عليه السلام مَعَ قَوْمِهِ:

تَقَدَّمَتْ قِصَّةُ شُعَيْبٍ فِي بِضْعِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ مِنَ الْآيَةِ 85- 93، وَهَا هِيَ ذِي نُسِّقَتْ هُنَا فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ آيَةً مِنَ الْآيَةِ 84- 95، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ وَالْمَوَاعِظِ مَا لَيْسَ فِي الْأُخْرَى، مَعَ السَّلَامَةِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَاوُتِ وَالتَّعَارُضِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى نَسَبِهِ وَمَا وَرَدَ فِيهِ وَفِي قَوْمِهِ فِي تَفْسِيرِهَا مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فَتُرَاجَعَ.
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)}.
هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي تَبْلِيغِ شُعَيْبٍ قَوْمَهُ الدَّعْوَةَ وَهِيَ: الْأَمْرُ بِتَوْحِيدِ اللهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَالنَّهْيُ عَنْ أَشَدِّ الرَّذَائِلِ فُشُوًّا فِيهِمْ، وَالْأَمْرُ بِالْفَضِيلَةِ الَّتِي تُقَابِلُهَا.
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} مَعْطُوفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَهُ مِثْلُهُ، أَيْ وَأَرْسَلْنَا إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ فِي النَّسَبِ شُعَيْبًا {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} اعْبُدُوا اللهَ وَحْدَهُ وَلَا تَعْبُدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} فَيُعْبَدُ، وَهَذَا مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مَا هُوَ خَاصٌّ بِهِمْ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ فَقَالَ: {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} فِيمَا تَكِيلُونَ وَمَا تَزِنُونَ مِنَ الْمَبِيعَاتِ كَمَا هِيَ عَادَتُكُمْ، وَكَانُوا تُجَّارًا مُطَفِّفِينَ {إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} 83: 2 و3 أَيْ: يُنْقِصُونَ، {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} أَيْ بِثَرْوَةٍ وَاسِعَةٍ فِي الرِّزْقِ، يَجِبُ أَنْ تَرْفَعَ أَنْفُسَكُمْ عَنْ دَنَاءَةِ بَخْسِ حُقُوقِ النَّاسِ وَأَكْلِ أَمْوَالِهِمْ بِالْبَاطِلِ، بِمَا تُنْقِصُونَ مِنَ الْمَبِيعِ لَهُمْ مِنْ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ.
وَهُوَ كُفْرٌ لِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْكُمْ بِالْغِنَى وَالسَّعَةِ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْكُمْ شُكْرُهَا بِالزِّيَادَةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِحْسَانِ، فَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ النُّقْصَانِ {وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} أَيْ: عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ بِكُمْ إِذَا أَنْتُمْ أَصْرَرْتُمْ عَلَى شِرْكِكُمْ بِاللهِ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ، وَكَفْرِكُمْ بِنِعَمِهِ بِنَقْصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ. وَهَذَا الْيَوْمُ يَصْدُقُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَوْمِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ.
{وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} لَا يَنْسَيَنَّ الْقَارِئُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حِكْمَةِ تَكْرَارِ النِّدَاءِ بِلَقَبِ {قَوْمِي} مِنَ الِاسْتِعْطَافِ، وَهَذَا أَمْرٌ بِالْوَاجِبِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ لِتَأْكِيدِهِ، وَتَنْبِيهٌ لِكَوْنِ عَدَمِ التَّعَمُّدِ لِلنَّقْصِ لَا يَكْفِي لِتَحَرِّي الْحَقِّ، بَلْ يَجِبُ مَعَهُ تَحَرِّي الْإِيفَاءِ بِالْعَدْلِ وَالسَّوِيَّةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، وَإِنْ كَانَتِ الثِّقَةُ بِهِ لَا تَحْصُلُ أَوْ لَا تُتَيَقَّنُ إِلَّا بِزِيَادَةٍ قَلِيلَةٍ، فَهِيَ قَدْ تَدْخُلُ فِي بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
وَتَعَمُّدُهَا فِي الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ لِلنَّاسِ سَخَاءٌ فَهُوَ فَضِيلَةٌ مَنْدُوبٌ، وَفِي الِاكْتِيَالِ أَوِ الْوَزْنِ عَلَيْهِمْ طَمَعٌ فَهُوَ رَذِيلَةٌ مَحْظُورٌ {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} هَذَا أَعَمُّ مِمَّا سَبَقَهُ، فَإِنَّ الْبَخْسَ يَشْمَلُ النَّقْصَ وَالْعَيْبُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، يُقَالُ: بَخَسَهُ- مِنْ بَابِ نَفَعَ- حَقَّهُ وَبَخَسَهُ مَالَهُ وَبَخَسَهُ عِلْمَهُ وَفَضْلَهُ. وَالْأَشْيَاءُ جَمْعُ شَيْءٍ وَهُوَ أَعَمُّ الْأَلْفَاظِ، وَجَمْعُهُ يَشْمَلُ مَا لِلْأَفْرَادِ وَمَا لِلْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ مِنْ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ وَمَعْدُودٍ وَمَحْدُودٍ بِحُدُودِ الْحِسِّيَّةِ وَمِنْ حُقُوقٍ مَادِّيَّةٍ وَمَعْنَوِيَّةٍ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا وَبَيَّنَّا الْعِبْرَةَ فِيهِ بِتَعَامُلِ أَهْلِ الشَّرْقِ مَعَ أَهْلِ الْغَرْبِ فِي هَذَا الْعَصْرِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (7: 85).
{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أَيْ: وَلَا تُفْسِدُوا فِيهَا حَالَ كَوْنِكُمْ مُتَعَمِّدِينَ لِلْإِفْسَادِ، يُقَالُ: عَثِيَ يَعْثَى (كَرَضِيَ يَرْضَى) عِثِيًّا بِكَسْرَتَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ- وَعَثَا يَعْثُو (كَغَزَا يَغْزُو) عُثُوًّا بِضَمَّتَيْنِ وَالتَّشْدِيدُ أَيْضًا- أَفْسَدَ، وَهَذَا نَهْيٌ آخَرُ عَامٌّ يَشْمَلُ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ، كَقَطْعِ الطُّرُقِ وَتَهْدِيدِ الْأَمْنِ وَالْخُرُوجِ عَلَى السُّلْطَانِ وَقَطْعِ الشَّجَرِ وَقَتْلِ الْحَيَوَانِ، وَقَيْدِهِ بِقَصْدِ الْإِفْسَادِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ مَا هُوَ إِفْسَادٌ فِي الظَّاهِرِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْإِصْلَاحُ أَوْ دَفْعُ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ، كَالَّذِي يَقَعُ فِي الْحَرْبِ مِنْ قَطْعِ الْأَشْجَارِ، أَوْ فَتْحِ سُدُودِ الْأَنْهَارِ، أَوْ إِحْرَاقِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ بِالنَّارِ، وَمِنْهُ خَرْقُ الْخَضِرِ لِلسَّفِينَةِ الَّتِي كَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ لِمَنْعِ الْمَلِكِ الظَّالِمِ الَّذِي وَرَاءَهُمْ مِنْ أَخْذِهَا إِذَا أَعْجَبَتْهُ. وَالْإِفْسَادُ: تَعْطِيلٌ يَشْمَلُ مَصَالِحَ الدُّنْيَا، وَصِفَاتِ النَّفْسِ وَأَخْلَاقَهَا، وَأُمُورَ الدِّينِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ فَاشِيَّةٌ فِي هَذَا الْعَصْرِ.
{بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ} أَيْ: مَا يَبْقَى لَكُمْ بَعْدَ إِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْمِيزَانِ مِنَ الرِّبْحِ الْحَلَالِ، خَيْرٌ لَكُمْ مِمَّا تَأْخُذُونَهُ بِالتَّطْفِيفِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْحَرَامِ، أَوْ {بَقِيَّةُ اللهِ} الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الَّتِي يَبْقَى أَثَرُهَا الْحَسَنُ فِي الدُّنْيَا وَثَوَابُهَا فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ رِزْقُ اللهِ، وَمُجَاهِدٌ: طَاعَةُ اللهِ، وَالرَّبِيعُ: وَصِيَّةُ اللهِ، وَالْفَرَّاءُ: مُرَاقَبَةُ اللهِ، وَقَتَادَةُ: حَظُّكُمْ مِنَ اللهِ {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بِهِ حَقَّ الْإِيمَانُ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الَّذِي يُطَهِّرُ النَّفْسَ مِنْ دَنَاءَةِ الطَّمَعِ، وَيُحَلِّيهَا بِفَضِيلَةِ الْقَنَاعَةِ وَالْكَرَمِ وَالسَّخَاءِ {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} فَأَحْفَظُكُمْ مِنْ هَذِهِ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ أَوْ أُعَاقِبُكُمْ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا أَنَا مُبَلِّغٌ عَلِيمٌ وَنَاصِحٌ أَمِينٌ.
{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)}.
هَذِهِ الْآيَاتُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ كَأَمْثَالِهَا مِنَ الْمُرَاجَعَاتِ فِي مُنَاقَشَةِ قَوْمِ شُعَيْبٍ لَهُ بِالْآرَاءِ التَّقْلِيدِيَّةِ فِي التَّدَيُّنِ وَالْإِيمَانِ، وَالنَّظَرِيَّاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالْأَمْوَالِ.
{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} قَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ {صَلَوَاتُكَ} بِالْجَمْعِ وَاسْتُدِلَّ بِهَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ، وَحَمْزَةُ وَالكسائي: {صَلَاتُكَ} بِالْإِفْرَادِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ وَبِعِبَادَتِهِ عليه السلام، وَالصَّلَاةُ تَنْهَى صَاحِبَهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ بِمَا تُكْسِبُهُ مِنْ مُرَاقَبَةِ اللهِ- تَعَالَى-، وَمَنْ نَهَى نَفْسَهُ كَانَ جَدِيرًا بِأَنْ يَنْهَى غَيْرَهُ، يَعْنُونَ: أَهَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي تُدَاوِمُ عَلَيْهَا تَقْتَضِي بِتَأْثِيرِهَا فِي نَفْسِكَ أَنْ تَحْمِلَنَا عَلَى تَرْكِ مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُنَا مِنْ عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا تَقَرُّبًا إِلَى اللهِ بِهَا، وَتَشَفُّعًا عِنْدَهُ بِجَاهِ الْأَرْوَاحِ الَّتِي تَحْتَلُّهَا، أَوِ الْأَوْلِيَاءِ الَّتِي وُضِعَتْ لِذِكْرَاهُمْ، وَمَا أَنْتَ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَأَجْدَرُ بِاتِّبَاعِهِمْ {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} مِنْ تَنْمِيَةٍ وَاسْتِغْلَالٍ، وَتَصَرُّفٍ فِي الْكَسْبِ مِنَ النَّاسِ بِمَا نَسْتَطِيعُ مِنْ حَذْقٍ وَاحْتِيَالٍ، وَخَدِيعَةٍ وَاهْتِبَالٍ، وَهُوَ حَجْرٌ عَلَى حُرِّيَّتِنَا، وَتَحَكُّمٌ فِي ذَكَائِنَا؟ رَدُّوا بِهَذَا وَبِمَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ دَعْوَتَهُ مِنْ جَانِبِهَا الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ نَشْرًا مُرَتَّبًا عَلَى لَفٍّ، وَنَقْضًا لِمَا بُنِيَتْ عَلَيْهِ مِنْ حُجَّةٍ وَعَطْفٍ، وَلِذَلِكَ ذَيَّلُوهُ بِمَا يُشِيرُ إِلَى هَذَا النَّقْضِ، فَقَالُوا بِقَصْدِ التَّعْرِيضِ وَالتَّنْدِيدِ: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} الْحَلِيمُ: الْعَاقِلُ الْكَامِلُ فِي أَنَّاتِهِ وَتَرَوِّيهِ فَلَا يَتَعَجَّلُ بِأَمْرٍ قَبْلَ الثِّقَةِ مِنْ صِحَّتِهِ، وَالرَّشِيدُ: الرَّاسِخُ فِي هِدَايَتِهِ وَهَدْيِهِ، فَلَا يَأْمُرُ إِلَّا بِمَا اسْتَبَانَ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالرُّشْدِ، وَوَصَفَهُ بِهِمَا وَصْفًا مُؤَكَّدًا بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وإِنَّ واللَّامِ فِي تَعْلِيلِ إِنْكَارِهِمْ لِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ، كِلَاهُمَا صَرِيحٌ فِي الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ، وَالتَّعْرِيضِ بِمَا يَعْتَقِدُونَ مِنَ اتِّصَافِهِ بِضِدِّهِمَا، وَهُوَ الْجَهَالَةُ وَالسَّفَهُ فِي الرَّأْيِ، وَالْغَوَايَةُ فِي الْفِعْلِ بِهَوَسِ الصَّلَاةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: يَقُولُونَ: إِنَّكَ لَسْتَ بِحَلِيمٍ وَلَا رَشِيدٍ.