فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ}
استئناف للتنويه بشأن الأنباء التي مَرّ ذكرُها.
واسم الإشارة إلى المذكور كلّه من القصص من قصة نوح عليه السلام وما بعدها.
والأنباء: جمع نبأ، وهو الخبر، وتقدّم في سورة الأنعام (34) في قوله: {ولقد جاءك من نبأى المرسلين وجملة نقصّه عليك} حال من اسم الإشارة.
وعبّر بالمضارع مع أن القصص مضى لاستحضار حالة هذا القصص البليغ.
وجملة: {منها قائم وحصيد} معترضة.
حال من: {القرى}.
و: {قائم} صفة لموصوف محذوف دلّ عليه عطف: {وحصيد}، والمعنى: منها زَرع قائم وزرع حصيد، وهذا تشبيه بليغ.
والقائم: الرزع المستقل على سُوقه.
والحصيد: الزرع المحصود، فعيل بمعنى مفعول.
وكلاهما مشبّه به للباقي من القرى والعافي.
والمرادُ بالقائم ما كان من القرى التي قصّها الله في القرآن قُرى قائمًا بعضها كآثار بلد فرعون كالأهرام وبلهوبة وهو المعروف بأبي الهول وهيكل الكرنك بمصر، ومثل آثار نينوى بلد قوم يونس، وأنطاكية قرية المرسلين الثلاثة، وصنعاء بلد قوم تُبّع، وقرى بائدة مثل ديار عاد، وقرى قوم لوط، وقرية مدين.
وليس المراد القرى المذكورة في هذه السورة خاصة.
والمقصود من هذه الجملة الاعتبار.
وضمير الغيبة في: {ظلمناهم} عَائد إلى: {القرى} باعتبار أهلها لأنّهم المقصود.
وإنّما لم يظلمهم الله تعالى لأنّ ما أصابهم به من العذاب جزاء عن سوء أعمالهم فكانوا هم الظّالمين أنفسَهم إذ جرّوا لأنفسهم العذاب.
وفرع على ظلمهم أنفسَهم انتفاء إغناء آلهتهم عنهم شيئًا، ووجه ذلك الترتب والتفريع أن ظلمهم أنفسهم مَظهره في عبادتهم الأصنام، وهم لمّا عبدوها كانوا يعبدونها للخلاص من طوارق الحدثان ولتكون لهم شفعاء عند الله وكانوا في أمن من أن ينالهم بأس في الدنيا اعتمادًا على دفع أصنامهم عنهم فلمّا جاء أمرهم بضد ذلك كان ذلك الضدّ مضادًا لتأميلهم وتقديرهم.
والغرض من هذا التفريع التعريض بتحذير المشركين من العرب من الاعتماد على نفع الأصنام، فقد أيقن المشركون أن أولئك الأمم كانوا يعبدون الأصنام كيف وهؤلاء اقتبسوا عبادة الأصنام من الأمم السّابقين وأيقنوا أنهم قد حَلّ بهم من الاستئصال ما شاهدوا آثاره، فذلك موعظة لهم لو كانوا مهتدين.
وجملة: {وما زادوهم غير تتبيب} عِلاوة وارتقاء على عدم نفعهم عند الحاجة بأنّهم لم يكن شأنهم عدم الإغناء عنهم فحسبُ ولكنهم زادتهم تتبيبًا وخسرانًا، أي زادتهم أسبابَ الخسران.
والتتبيب: مصدر تبّبه إذا أوقعه في التبَاب وهو الخسارة.
وظاهر هذا أن أصنامهم زادتهم تتبيبًا لمّا جاء أمر الله، لأنّه عطف على الفعل المقيّد بـ: {لمّا} التوقيتية المفيدة أنّ ذلك كان في وقت مجيء أمر الله وهو حلول العذاب بهم.
ووجه زيادتهم إياهم تتبيبًا حينئذٍ أنّ تصميمهم على الطمع في إنقاذهم إيّاهم من المصائب حالت دونهم ودون التوبة عند سماع الوعيد بالعذاب.
ويجوز أن يكون العطف لمجرّد المشاركة في الصفة دون قيدها، أي زادوهم تتبيبًا قبل مجيء أمر الله بأنْ زادهم اعتقادهم فيها انصرافًا عن النظر في آيات الرّسل وزادهم تأميلهم الأصنام، وقد كانت خرافات الأصنام ومناقبها الباطلة مغرية لهم بارتكاب الفواحش والضلال وانحطاط الأخلاق وفساد التّفكير جرأة على رسل الله حتى حقّ عليهم غضب الله المستوجب حلول عذابه بهم.
{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ}
الإشارة إلى المذكور من استئصال تلك القرى.
وهو ما يدل عليه قوله: {أخذ ربك}.
والتقدير: وكذلك الأخذ الذي أخذنا به تلك القرى أخذ ربك إذا أخذ القرى.
والتشبيه في الكيفيّة والعاقبة.
والمقصود من هذا التّذييل تعريض بتهديد مشركي العرب من أهل مكّة وغيرها.
والظلم: الشرك.
وجملة: {إنّ أخذه أليم شديد} في موضع البيان لمضمون: {وكذلك أخذ ربّك}.
وفيه إشارة إلى وجه الشّبه.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ}
بيان للتعريض وتصريح بعد تلويح.
والمعنى: وكذلك أخذ ربك فاحْذروه وحذروا ما هو أشدّ منه وهو عذاب الآخرة.
والإشارة إلى الأخذ المتقدّم.
وفي هذا تخلّص إلى موعظة المسلمين والتّعريض بمدحهم بأن مثلهم من ينتفع بالآيات ويعتبر بالعبر كقوله: {وما يعقلها إلاّ العالمون} [العنكبوت: 43].
وجُعل عذاب الدنيا آية دالة على عذاب الآخرة لأنّ القرى الظالمة توعّدها الله بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة كما في قوله تعالى: {وإنّ للذين ظلموا عذابًا دون ذلك} [الطور: 47] فلمّا عاينوا عذاب الدّنيا كان تحققه أمارة على تحقق العذاب الآخر.
وجملة: {ذلك يوم مجموع له الناس} معترضة للتنويه بشأن هذا اليوم حتّى أنّ المتكلّم يبتدئ كلامًا لأجل وصفه.
والإشارة بـ: {ذلك} إلى الآخرة لأنّ ماصدقها يومُ القيامة، فتذكير اسم الإشارة مراعاة لمعنى الآخرة.
واللاّم في: {مجموع له} لام العلّة، أي مجموع الناس لأجله.
ومجيء الخبر جملة اسمية في الإخبار عن اليوم يدلّ على معنى الثّبات، أي ثابت جمع الله الناس لأجل ذلك اليوم، فيدلّ على تمكن تعلق الجمع بالنّاس وتمكّن كون ذلك الجمع لأجل اليوم حتّى لقّب ذلك اليوم يومَ الجمع في قوله تعالى: {يوم يجمعكم ليوم الجمع} [التغابن: 9].
وعطف جملة: {وذلك يوم مشهود} على جملة: {ذلك يوم مجموع له الناس} لزيادة التّهويل لليوم بأنّه يُشهد.
وطُوي ذكر الفاعل إذ المراد يشهده الشّاهدون، إذ ليس القصد إلى شاهِدين معيّنين.
والإخبار عنه بهذا يُؤذن بِأنّهم يشهدونه شهودًا خاصًا وهو شهود الشيء المهول، إذ من المعلوم أن لا يقصد الإخبار عنه بمجرّد كونه مرئيًا لكن المراد كونه مرئيًا رؤية خاصة.
ويجوز أن يكون المشهود بمعنى المحقّق أيّ مشهود بوقوعه، كما يقال: حقّ مشهود، أيْ عليه شهود لا يستطاع إنكاره، واضح للعيان.
ويجوز أن يكون المشهود بمعنى كثير الشّاهدين إياه لشهرته، كقولهم: لفلان مجلس مشهود، كقول أم قيس الضبّيّة:
ومشهد قد كفيتَ الناطقين به ** في محفل من نواصي الخيل مَشهود

فيكون من نحو قوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا يومئذٍ يوَدّ الذين كفروا} [النساء: 41، 42] الآية.
وجملة: {وما نؤخّره إلاّ لأجل معدود} معترضة بين جملة: {ذلك يوم مجموع له النّاس} وبين جملة: {يوم يأتي لا تكلّم نفس} [هود: 105] إلخ.
والمقصود الردّ على المنكرين للبعث مستدلّين بتأخير وقوعه في حين تكذيبهم به يحسبون أنّ تكذيبهم به يغيظ الله تعالى فيعجّله لهم جهلًا منهم بمقام الإلهيّة، فبيّن الله لهم أن تأخيره إلى أجل حدّده الله له من يوم خَلَقَ العالم كما حدّد آجال الأحياء، فيكون هذا كقوله تعالى: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قُلْ لكم ميعاد يوممٍ لا تستأخرون عنه ساعةً ولا تستقدمون} [سبأ: 29، 30].
والأجل: أصله المدة المنظَر إليها في أمر، ويطلق أيضًا على نهاية تلك المدّة، وهو المراد هنا بقرينة اللاّم، كما أريد في قوله تعالى: {فإذا جاء أجلهم} [الأعراف: 34].
والمعدود: أصله المحسوب، وأطلق هنا كناية عن المعيّن المضبوط بحيث لا يتأخر ولا يتقدم لأنّ المعدود يلزمه التعيّن، أو كناية عن القرب. اهـ.

.قال الشعراوي:

{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ}
وقد أهلك الحق سبحانه تلك القرى بالعذاب؛ لأنها كذَّبت أنبياءها. والخطاب موجَّه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لتثبيت فؤاده، والحق سبحانه إنما يبيِّن له أن الكافرين لن يكونوا بمنجىً من العذاب؛ كما أخذ الله سبحانه الأمم السابقة الكافرة بالعذاب.
وقول الحق سبحانه: {نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} [هود: 100].
يتطلب أن نفرِّق بين المعنى الشائع عن القصة، والمعنى الحقيقي لها، فبعض الناس يقول: إن القرآن فيه قصص، والقصص عادة تمتلئ بالتوسع، وتوضع فيها أحداث خيالية من أجل الحبكة.
ولهؤلاء نقول: أنتم لم تفهموا معنى كلمة القصة في اللغة العربية، لأنها تعني في لغتنا الالتزام الحرفي بما كان فيها من أحداث، فهي مأخوذة من كلمة: قصّ الأثر، ومن يقص الأثر إنما يتتبع مواقع الأقدام إلى أن يصل إلى الشيء المراد.
إذن: فقصص القرآن يتقصى الحقائق ولا يقول غيرها، أما ما اصطُلح عليه من عرف العامة أنه قصص، بما في تلك القصص من خيالات وعناصر مشوقة، فهذا ما يُسمَّى لغويًا بالروايات، ولا يُعتبر قصصًا.
وقصص الإهلاك للأمم التي كفرت إنما هو عبرة لمن لا يعتبر، والناس تعلم أن ما رواه القرآن من قصص هو واقع تدل عليه آثار الحضارات التي اندثرت، وبقيت منها بقايا أحجار ونقوش على المقابر.
ونحن نجد في آثار الحضارات السابقة ما هو قائم من بقايا أعمدة ونقوش، ومنها ما هو مُحطَّم.
ولذلك يقول الحق سبحانه في موضع آخر من القرآن: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وباليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137- 138].
أي: أنكم تشاهدون من الآثار ما هو قائم وما هو حطيم.
ويقول الحق سبحانه عن تلك القرى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ}
ويبيِّن الحق سبحانه هنا أنه حين أخذ تلك الأقوام بالعذاب لم يظلمهم؛ لأن معنى الظلم أن يكون لإنسانٍ الحق، فتسلبه هذا الحق.
وفي واقع الأمر أن تلك الأمم التي كفرت وأخذها الله بالعذاب، هي التي ظلمت نفسها بالشرك، وكذَّبت تلك الأقوام الرسل الذين جاءوا وفي يد كل منهم دليل الصدق وأمارات الرسالة.
وهكذا ظلم هؤلاء الكفار أنفسهم؛ لذلك لابد أن نعلم أن الحق سبحانه مُنزَّه عن أن يظلم أحدًا.
وهم حين أشركوا بالله تعالى آلهة أخرى، لماذا لم تتحرك تلك الآلهة المزعومة وتتدخل لتحمي مَنْ آمنوا بها؟!
ويخبرنا الحق سبحانه أن الحجارة التي عبدوها تلعنهم، وهم في النار، وهذه الأحجار تكون وقودًا للنار.
والحق سبحانه يقول عن النار: {فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة} [البقرة: 24].
وهؤلاء الذين عبدوا واحدًا من الناس أو بعضًا من الأصنام، إنما تجنَّوا، بالجهل على هذا الإنسان الذي عبدوه أو تلك الأحجار التي صلَّوا لها أو قدَّسوها.
والشاعر المسلم تأمل غار حراء وغار ثور وكلامها من الأحجار فوجد أن غار حراء قد شهد نزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم، وغار ثور حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اختفى فيه ومعه الصديق أبو بكر في أثناء الهجرة من مكة إلى المدينة، فتخيل الشاعر أن غار ثور قد حسد غار حراء وقال:
كَمْ حَسَدْنَا حِراءً حينَ يَرى الرُّوحَ ** أمينًا يَغْزُوكَ بالأنْوَارِ

فَحِرَاءٌ وثَوْرٌ صَارَا سَواءً ** بِهما تَشفَّعْ لأمَّةِ الأحْجَارِ

فغار حراء شهد جبريل عليه السلام وهو يهبط بالنور على محمد صلى الله عليه وسلم، لكن غار ثور نال أيضًا الشرف لحمايته الرسول في الهجرة.
ويقول الشاعر على لسان الأحجار:
عَبَدُونا ونَحْنُ أعْبَدُ للهِ ** مِنَ القائِمينَ بالأسْحَارِ

قَدْ تَجنَّوا جَهْلًا كمَا قَدْ تجَنَّوا ** علَى ابنِ مَرْيَمَ والحوَارِي

لِلمُغَالِي جَزَاؤهُ والمُغَالَى فيهِ ** تُنْجِيهِ رَحْمَةُ الغَفَّارِ

وهكذا لا تُغني عنهم آلهتهم المعبودة شيئًا سواء أكانت بشرًا أم حجارة، لم تُغنِ عنهم شيئًا ولم ترفع عنهم العذاب الذي تلقوه عقابًا في الدنيا وسعيرًا في الآخرة، وإذا كانوا قد دعوهم من دون الله في الدنيا، فحين جاء العذاب لم تتقدم تلك الآلهة لتحميهم من العذاب.
ويُنهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101].
أي: أن تخلّي تلك الآلهة التي أشركوها مع الله تعالى أو عبدوها من دون الله.. هذا التخلي يزيدهم ألمًا وإهلاكًا نفسيًا وتخسيرًا، لأن التتبيب هو القطع والهلاك.