فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والحق سبحانه يقول: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1].
كذلك الأخذ الذي أخذ الله به القرى التي كذَّبت أنبياءها.
لذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ} أي: أن الأخذ الذي أخذ به الله القرى الكافرة، إنما هو مثل حي لكل من يكفر.
والحق سبحانه يقول: {والفجر وَلَيالٍ عَشْرٍ والشفع والوتر واليل إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ} [الفجر: 1- 5].
أي: أن الحق سبحانه يقسم لعل كل صاحب عقلٍ يستوعب ضرورة الإيمان، ويضرب الأمثلة بالقوم الذين جاءهم الأخذ بالعذاب، فيقول سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ العماد التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد الذين طَغَوْاْ فِي البلاد فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 6- 14].
فهو سبحانه قد أخذ كل هؤلاء أخذ العزيز المقتدر.
وقوله سبحانه هنا: {وكذلك} [هود: 102]. أي: مثل الأخذ الذي أخِذَتْ به القرى التي كذَّبت رسلها، فظلمت نفسها. والأخذ هنا عقاب على العمل، بدليل أنه أنجى شعيبًا عليه السلام وأخذ قومه بسبب ظلمهم، فالذات الإنسانية بريئة، ولكن الفعل هو الذي يستحق العقاب. ومثال ذلك: نجده في قصة نوح عليه السلام حين قال له الحق سبحانه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46]. فالذي وضع ابن نوح في هذا الموضع هو أن عمله غير صالح؛ لذلك فلا يقولن نوح: إنه ابني.
فليس الإهلاك بعلَّة الذات والدم والقرابة، بل الإهلاك بعلة العمل، فأنت لا تكره شخصًا يشرب الخمر لذاته، وإنما تكرهه لعمله، ونحن نعلم أن البنوة للأنبياء ليست بنوة الذوات، وإنما بنوة الأعمال.
وكذلك نجد الحق سبحانه ينبه إبراهيم عليه السلام ألا يدعو لكل ذريته، فحين كرَّم الحق سبحانه إبراهيم عليه السلام وقال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124].
جاء الطلب والدعاء من إبراهيم عليه السلام لله تعالى: {وَمِن ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124].
لأن إبراهيم عليه السلام أراد أن تمتد الإمامة إلى ذريته أيضًا، فجاء الرد من الله سبحانه: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124].
وظلت هذه القضية في بؤرة شعور إبراهيم عليه السلام، وعلم تمامًا أن البنوَّة للأنبياء ليست بنوة ذوات، بل هي بنوة أعمال.
ولذلك نجد دعاء إبراهيم عليه السلام حين نزل بأهله في وادٍ غير ذي زرع، وقال: {رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} [البقرة: 126].
وهنا انتبه إبراهيم عليه السلام وأضاف: {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [البقرة: 126].
فجاء الرد من الحق سبحانه موضحًا خطأ القياس؛ لأن الرزق عطاء ربوبية يستوي فيه المؤمن والكافر، والطائع والعاصي؛ فلا تخلط بين عطاء الربوبية وعطاء الألوهية؛ لأن عطاء الألوهية تكليف، وعطاء الربوبية رزق، لذلك قال الحق سبحانه: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير} [البقرة: 126].
فأنت يا إبراهيم دعوتَ برزق الأهل بالثمرات لمن آمن، لأن بؤرة شعورك تعي الدرس، لكن هناك فرقًا بين عطاء الألوهية في التكليف، وعطاء الربوبية في الرزق، فمن كفر سيرزقه ربه، ويمتعه قليلًا ثم يكون له حساب آخر.
إذن: فأخْذُ الحق سبحانه للظالمين بكفرهم هو عنف التناول لمخالفٍ، وتختلف قوة الأخذ بقوة الأخذ، فإذا كان الآخذ هو الله سبحانه، فهو أخْذ عزيز مقتدر.
وهو أخذ لمن ظلموا أنفسهم بقمة الظلم وهو الكفر، وإن كان الظلم لحقوق الآخرين فهو فسق، وأيضًا ظلم النفس فسق؛ لأن الحق سبحانه حين يُحرِّم عليك أن تظلم غيرك فهو قد حرَّم عليك أيضًا ظلم نفسك.
ويصف الحق سبحانه أخذه للظالمين بقوله: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
أي: أن أخذه موجع على قدر طلاقة قدرته سبحانه.
وهَبْ أن إنسانًا أساء إلى إنسان، فالحق سبحانه أعطى هذا الإنسان أن يرد السيئة بسيئة، حتى لا تتراكم الانفعالات وتزداد.
لذلك يقول الحق سبحانه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126].
حتى لا تبيت انفعالاتك عندك قهرًا، ولكن من كان لديه قوة ضبط النزوع فعليه أن ينظر في قول الحق سبحانه: {والكاظمين الغيظ} [آل عمران: 134].
إذن: فإما أن ترد السيئة بعقاب مماثل لها، وإما أن تكظم غيظك، أي: لا تُترجم غيظك إلى عمل نزوعي، وإما أن ترتقي إلى الدرجة الأعلى وهي أن تعفو؛ لأن الله تعالى يحب من يحسن بالعفو.
ولذلك حين سألوا الحسن البصري: كيف يُحسِن الإنسان إلى من أساء إليه؟
أجاب: إذا أساء إليك عبد، ألاَ يُغضب ذلك ربه منه؟ قالوا: نعم. قال: وحين يغضب الله من الذي أساء إليك؛ ألا يقف إلى جانبك؛ أفلا تحُسِن إلى من جعل الله يقف إلى جانبك؟
ولهذا السبب يُروى عن أحد الصالحين أنه سمع أن شخصًا اغتابه؛ فأهدى إليه مع خادمه طبقًا من بواكير الرطب، وتعجب الخادم متسائلًا: لماذا تهديه الرطب وقد اغتابك؟
قال العارف بالله: بَلِّغْهُ شكري وامتناني لأنه تصدَّق عليَّ بحسناته عندما اغتابني، وحسناته بلا شك أنفَسُ من هذا الرطب.
ولذلك يقال: إن الذي يعفو أذكى فهمًا ممن عاقب، لأن الذي يعاقب إنما يعاقب بقوته؛ والذي يعفو فهو الذي يترك العقاب لقوة الله تعالى، وهي قوة لا متناهية.
وهكذا نفهم قول الحق سبحانه: {وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
أي: أخذٌ موجعٌ على قدر قوة الله سبحانه؛ وهو أخذ شديد؛ لأن الشدة تعني: جمع الشيء إلى الشيء بحيث يصعب انفكاكه؛ أو أن تجمع شيئين معًا وتقبضهما بحيث يصعب تحلل أي منهما عن الآخر.
وهذه أقوى غاية القوة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة}
من يخاف عذاب الآخرة، فإن هذه الآيات التي تخبر عن الذي حدث للأمم السابقة، إنما تلفته إلى ضرورة الإيمان بأن الله سبحانه يحاسب كل إنسان على الإيمان وعلى العمل.
ومن يسمع لقصص الأقوام السابقة؛ ويعتبر بما جاء فيها؛ وينتفع بالخبرة التي جاءت منها؛ فهو صاحب بصيرة نافذة؛ فكل ما حدث للأقوام السابقة آيات ملفتة.
ولذلك يقال: إن لكل آية من مواليد؛ هي العبر بالآيات ومن لا يؤمن فهو لن يعتبر؛ مصداقًا لقول الحق سبحانه: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105].
إذن: فقد شاء الحق سبحانه أن يلفتنا بالآيات لنعتبر بها ونكون من أولي الألباب؛ فلا ندخل في دائرة من لا يخافون العذاب؛ أولئك الذي يتلقّون العذاب خزيًا في الدنيا وجحيمًا في الآخرة؛ وعذاب الآخرة لا نهاية له؛ والفضيحة فيه أمام كل الخلق.
لذلك قال الحق سبحانه: {ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [هود: 103].
أي: أن الفضيحة في هذا اليوم تكون مشهودة من كل البشر؛ من لدن آدم إلى آخر البشر؛ لذلك تكون فضيحة مدوية أمام من يعرفهم الإنسان؛ وأمام من لا يعرفهم.
وقول الحق سبحانه: {ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس} [هود: 103].
وكلمة {مجموع} تقتضي وجود جامع؛ والمجموع يتناسب مع قدرة الجامع؛ فما بالنا والجامع هو الحق الخالق لكل الخلق سبحانه وتعالى.
ولا يجتمع الخلق يومها عن غفلة؛ بل يجتمعون وكلهم انتباه؛ فالحق سبحانه يقول: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} [إبراهيم: 42].
ويقول الحق سبحانه أيضًا: {واقترب الوعد الحق فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ} [الأنبياء: 97].
وهنا يقول سبحانه: {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [هود: 103].
أي: أن الخلق سيشهدون هذا الفضح المخزي لمن لم يعتبر بالآيات.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك في ميعاد هذا اليوم: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ}
وهكذا نعلم أن تأخر مجيء يوم القيامة؛ لا يعني أنه لن يأتي؛ بل سوف يأتي لا محالة ولكن لكل حدث ميعاد ميلاد، ولكم في تتابع مواليدكم ما يجعلكم تثقون بأن مواليد الأحداث إنما يحددها الله.
وقول الحق سبحانه: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ} [هود: 104].
يتطلب أن نعرف أن كلمة الأجل تطلق مرة على مدة عمر الكائن من لحظة ميلاده إلى لحظة نهايته.
والحق سبحانه يقول: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38]. وتطلق كلمة الأجل مرة أخرى على لحظة النهاية وحدها، مصداقًا لقول الحق سبحانه: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34].
ولنعرف جميعًا أن كل أجل وإن طال فهو معدود، وكل معدود قليل مهما بدا كثيرًا؛ لذلك فَلْنقُلْ أن كل معدود قليل. ما دُمْنَا قادرين على إحصائه. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)} إلى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)}
التفسير:
نقص المكيال يشمل معنيين: بأن ينقص في الإيفاء من القدر الواجب، ويزيد في الاستيفاء على القدر الواجب فيلزم في كلا الحالين نقصان حق الغير. ثم علل النهي بقوله: {إني أراكم بخير} أي بثروة وسعة تغنيكم عن التطفيف، أو بنعمة من الله حقها أن تشكر لتزداد لا أن تكفر فتزال: {وإني أخاف عليكم} عن ابن عباس أنه فسر الخوف بالعلم. وقال آخرون: إنه الظن الغالب لأنه كان يجوز ازدجارهم وانتهاءهم. والعذاب المحيط المهلك المستأصل كأنه أحاط بهم بحيث لا ينفلت منهم أحد. وزيادة اليوم لأجل المبالغة والإِسناد المجازي باعتبار ما هو واقع فيه واشتمل عليه ذلك اليوم. قيل: هو عذاب الاستئصال في الدنيا. وقيل: عذاب الآخرة والأظهر العموم. قوله: {أوفوا المكيال} إلى قوله: {أشياءهم} قد مر تفسير مثله في الأعراف. وقوله: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} مضى تفسيره في أوائل البقرة، بقي في الآية سؤال وهو أنه سبحانه نهى أوّلًا عن النقص ثم أمر بالإيفاء فهل فيه فائدة سوى التأكيد والتقرير؟ والجواب بعد تسليم أن النهي عن الشيء أمر بضده، هو أن النهي عن النقص في المبايعة وإن كان يفيد تصريحة تعييرًا وتوبيخًا لكنه يوهم النهي عن أصل المبايعة، فلدفع هذا الخيال أمر بإيفاء الكيل، ففيه إباحة أصل المبايعة، مع التصريح بالنعت المستحسن في العقول لزيادة الترغيب.
وفي أيضًا فائدة أخرى من قبل تقييد الإيفاء بالقسط ليعلم أن ما جاوز العدل ليس بواجب بل هو فضل ومروءَة لا تقف عند حد، وإنما الواجب شيء من الإيفاء بقدر ما يخرج عن العهدة بيقين كما أن غسل الوجه لا يحصل باليقين إلا عند غسل شيء من الرأس: {بقية الله} قيل: ثواب الله. وقيل: طاعته ورضاه كقوله: {والباقيات الصالحات خير} [الكهف: 46] وقيل: أي ما يبقى لكم من الحلال بعد التنزه عما هو حرام عليكم: {خير لكم} بشرط أن تؤمنوا لأن شيئًا من الأعمال لا ينفع مع الكفر إن كنتم مصدقين لي فيما أنصح لكم. ولا ريب أن الأمانة تجر الرزق لاعتماد الناس وإقبالهم عليه فينفتح له أبواب المكاسب، والخيانة تجر الفقر لتنفر الناس عنه وعن معاملته وصحبته. قالت المعتزلة. في إضافة البقية إلى الله دليل على أن الحرام لا يسمى رزق الله. وقرئ: {تقية الله} بالتاء الفوقانية أي اتقاؤه الصارف عن المعاصي والقبائح: {وما أنا عليكم بحفيظ} أحفظ أعمالكم لأجازيكم إنما أنا مبلغ ناصح وقد أعذر من أنذر. قوله: {أصلاتك} قيل: أي دينك وإيمانك لأن الصلاة عماد الدين فعبر عن الشيء باسم معظم أركانه. وقيل: المراد الأتباع لأنه أصل الصلاة ومنه المصلي للذي يتلو السابق والمعنى دينك أي أتباعه يأمرك بذلك. والأظهر أن المراد به الأعمال المخصوصة يروى أن شعيبًا عليه السلام كان كثير الصلاة فكان قومه إذا رأوه يصلي تغمزوا وتضاحكوا فقصدوا بقولهم: {أصلاتك تأمرك} السخرية والهزء فكأن الصلاة التي يداوم عليها ليلًا ونهارًا هي من باب الجنون والوساوس. ومعنى: {تأمرك أن نترك} تأمرك بتكليف أن نترك على حذف المضاف لأن الإنسان لا يؤمر بفعل غيره. وقوله: {أو أن نفعل} معطوف على ما في ما يعبد أي تأمرك صلاتك بترك ما عبد آباؤنا وبترك أن نفعل: {في أموالنا ما نشاء} روي أنه كان ينهاهم عن قطع أطراف الدراهم كما كان يأمرهم بترك التطفيف والاقتناع بالحلال القليل من الحرام الكثير: {إنك لأنت الحليم الرشيد} قيل: إنه مجاز والمراد نسبته إلى غاية السفاهة والغواية فعكسوا تهكمًا به. وقيل: حقيقة وإنه كان معروفًا فيما بينهم بالحلم والرشد فكأنهم قالوا له: إنك المعروف بهذه السيرة فكيف تنهانا عن دين ألفناه وسيرة تعودناها. ثم أشار عليه السلام إلى ما آتاه الله من العلم والهداية والنبوة والكرامة والرزق الحلال الحاصل من غير بخس ولا تطفيف، وجواب الشرط محذوف اكتفي عنه بما ذكر في قصتي نوح وصالح، والمعنى أرأيتم إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي وقد آتاني بعد هذه السعادات الروحانية السعادات الدنيوية من الخيرات والمنافع الجليلة هل يسعني مع هذه الإكرامات أن أخون في وحيه ولا آمركم بترك الشرك وبفعل الطاعة والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك؟: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} يقال: خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه.
فالمعنى لا أجعل فعلي مخالفًا لقولي فلا أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها: {إن أريد إلا الإصلاح} إلا أن أصلحكم بالموعظة. والنصحية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {ما استطعت} ما للمدة ظرفًا للإصلاح أي مدة استطاعتي لإصلاحكم، أو بدل من الإصلاح أي المقدار الذي استطعته منه، أو المضاف محذوف أي إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت، أو مفعولًا للإصلاح فقد يعمل المصدر المعرف كقوله: ضعيف النكاية أعداءه. أي إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم. ثم بين أن كل ما يأتي ويذر فوقوعه بتسهيل الله وتأييده فقال: {وما توفيقي إلا بالله} والتوفيق أن توافق إرادة العبد إرادة الله: {عليه توكلت} أخصه بتفويض الأمور إليه لأنه مبدأ المبادئ: {وإليه أنيب} لأنه المعاد الحقيقي وفي ضمنه تهديد وفي ضمنه تهديد للكفار وحسم لأطماعهم منه. ثم أوعدهم بقوله: {لا يجرمنكم شقاقي} لا يكسبنكم خلافي: {إن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح} من الغرق: {أو قوم هود} من الريح العقيم: {أو قوم صالح} من الصيحة: {وما قوم لوط منكم ببعيد} لم يقل ببعيدة حملًا على لفظ القوم لأنه مؤنث، ولا ببعيدين حملًا على معناه ولكنه على تقدير مضاف أي وما إهلاكهم ببعيد لأنهم أهلكوا في عهد قريب من عهدهم. أو المراد وما هم بشيء بعيد أو بزمان أو مكان بعيد. وجوزوا أن يسوّى في بعيد وقريب وقليل وكثير بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما: {إن ربي رحيم ودود} يجوز أن يكون بمعنى فاعل أو مفعول كقوله: {يحبهم ويحبونه} [المائدة: 54] وهذا حث لهم على الاستغفار والتوبة، وتنبيه على أن سبق الكفر والمعصية لا ينبغي أن يمنعهم عن الإيمان والطاعة. ولما بالغ خطيب الأنبياء في التقرير والبيان: {قالوا يا شعيب ما نفقهُ كثيرًا مما تقول} إما لقلة الرغبة أو قالوا تهكمًا واستهانة كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه: ما أدري ما تقول. كأنهم جعلوا كلامه تخليطًا وهذيانًا لا ينفعهم كثير منه. وقيل: لأنه كان ألثغ: {وإنا لنراك فينا ضعيفًا} عن الحسن: مهينا أي لا عزة لك فيما بيننا ولا قوة فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكروهًا. وفسر بعضهم الضعيف بالأعمى لأن العمى سبب الضعف، أو لأنه لغة حمير. وزيف هذا القول أما عند من جوز العمى على الأنبياء فلأن لفظة: {فينا} يأباه لأن الأعمى فيهم وفي غيرهم، وأما عند من لا يجوزه- كبعض المعتزلة- فلأن الأعمى لا يمكنه الاحتراز من النجاسات وأنه يخل بجواز كونه حاكمًا وشاهدًا، فلأن يمنع من النبوة كان أولى.