فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)}
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {منها قائم} يعني بها قرى عامرة: {وحصيد} يعني قرى خامدة.
وأخرج أبو الشيخ عن قتادة في قوله: {ذلك من أنباء القرى نقصه عليك} قال: قال الله ذلك لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قائمًا} يرى مكانه: {وحصيد} لا يرى له أثر، وقال في آية أخرى: {هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا} [مريم: 98].
وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج: {منها قائم} خاو على عروشه: {وحصيد} ملصق بالأرض.
وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك: {منها قائم وحصيد} قال: الحصيد الذي قد خرب ودمر.
أخرج أبو الشيخ عن الفضل بن مروان رضي الله عنه في قوله: {وما ظلمناهم} قال: نحن أغنى من أن نظلم.
وأخرج أبو الشيخ عن أبي عاصم رضي الله عنه: {فما أغنت عنهم آلهتهم} قال: ما نفعت.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن عمر رضي الله عنهما في قوله: {وما زادوهم غير تتبيب} يعني غير تخسير.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد: {وما زادوهم غير تتبيب} قال: تخسير.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه: {وما زادوهم غير تتبيب} أي هلكة.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن زيد رضي الله عنه: {وما زادوهم غير تتبيب} قال: وما زادوهم إلا شرًا، وقرأ: {تبت يدا أبي لهب وتب} [المسد: 1] وقال: التب الخسران: والتتبيب ما زادوهم غير خسران، وقرأ: {ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارًا} [فاطر: 39].
وأخرج الطستي عن ابن عباس. أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله: {وما زادوهم غير تتبيب} قال: غير تخسير. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت بشر بن أبي حازم الشاعر وهو يقول:
هم جدعوا الأنوف فارعبوها ** وهم تركوا بني سعد تبابا

أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله سبحانه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}».
وأخرج أبو الشيخ عن أبي عمران الجوني رضي الله عنه قال: لا يغرنكم طول النسيئة ولا حسن الطلب، فإن أخذه أليم شديد.
وأخرج ابن أبي داود عن سفيان رضي الله عنه قال: في قراءة عبد الله {كذلك أخذ ربك} بغير واو.
وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه قرأها {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى بظلم}.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد رضي الله عنه قال: إن الله تعالى حذر هذه الأمة سطوته بقوله: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}.
أخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله: {إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة} يقول: انا سوف نفي لهم بما وعدنا في الآخرة، كما وفينا للأنبياء أنا ننصرهم.
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود} قال: يوم القيامة.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد. مثله.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك في الآية قال: ذاك يوم القيامة يجتمع فيه الخلق كلهم، ويشهده أهل السماء وأهل الأرض. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ القرى نَقُصُّهُ}
يجوز أن يكون {نقصُّه} خبرًا، و{مِنْ أبناء} حال، ويجوز العكس، قيل: وثَمَّ مضافٌ محذوف، أي: من أنباء أهل القرى ولذلك أعاد الضمير عليها في قوله: {وما ظلمْناهم}.
قوله: {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} {حصيد} مبتدأ محذوفُ الخبر، لدلالةِ خبر الأول عليه، أي: ومنها حصيد وهذا لضرورةِ المعنى.
وهل لهذه الجملةِ محلٌّ من الإِعراب؟ فقال الزمخشري: لا محلّ لها لأنها مستأنفةٌ. وقال أبو البقاء: إنها في محلِّ نصبٍ على الحال من مفعول نَقُصُّه.
ويجوز في {ذلك} أوجه، أحدها: أنه مبتدأ وقد تقدم. والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدر يفسِّره {نقصُّه} فهو من باب الاشتغال، أي: نَقُصُّ ذلك في حال كونه من أنباء القرى، وقد تقدَّم في قوله: {ذلك مِنْ أَنَبَاءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ} [آل عمران: 44] أوجه، وهي عائدةٌ هنا.
و{الحَصِيد} بمعنى محصود، وجمعه: حصدى وحِصاد مثل مريض ومرضى ومِراض، وهذا قول الأخفش، ولكن باب فعيل وفَعْلَى أن يكونَ في العقلاء نحو: قتيل وقَتْلَى.
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ}
قوله تعالى: {لَّمَّا جَاءَ أَمْرُ}: قال الزمخشري: {لما} منصوب ب {أَغْنَتْ}. وهو بناءً منه على أنَّ {لمَّا} ظرفية. والظاهر أنَّ {ما} نافية، أي: لم تُغْن. ويجوز أن تكونَ استفهاميةً، و{يَدْعون} حكاية حال، أي: التي كانوا يَدْعون، و{ما زادوهم} الضميرُ المرفوع للأصنام، والمنصوبُ لعَبَدَتِها، وعبَّر عنهم بواوِ العقلاء لأنهم نَزَّلوهم منزلتَهم.
{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)}
قوله تعالى: {وكذلك}: خبرٌ مقدم، و{أَخْذُ} مبتدأ مؤخر، والتقدير: ومثْلُ ذلك الأَخْذِ اللَّهِ الأمم السالفة أَخْذُ ربك. و{إذا} ظرف مُتَمَحِّض، ناصبُه المصدر قبله وهو قريبٌ مِنْ حكاية الحال، والمسألةُ من باب التنازع فإنَّ الأَخْذَ يَطْلب {القرى}، و{أَخَذَ} الفعل أيضًا يطلبها، وتكون المسألة من إعمال الثاني للحذف من الأول.
وقرأ أبو رجاء والجحدري: {أَخَذ ربك إذ أَخَذَ} جَعَلَهما فعلين ماضيين، و{ربُّك} فاعل. وقرأ طلحة بن مصرف كذلك، إلا أنه ب {إذا} كالعامَّة قال ابن عطية: وهي قراءةٌ متمكنة المعنى، ولكن قراءة الجماعة تُعْطي الوعيد واستمراره في الزمان، وهو الباب في وَضْع المستقبل مَوْضِعَ الماضي.
وقوله: {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} جملةٌ حالية.
والتَّتْبيب: التَّخْسيرُ يقال: تَبَّبَ غيرُه فتبَّ هو بنفسه، فيُستعمل لازمًا ومتعديًا، ومنه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]. وتبَّبْتُه تَتْبِيبًا، أي: خَسَّرْته تخسيرًا. قال لبيد:
ولقد بَلِيْتُ وكلُّ صاحبِ جِدَّةٍ ** لِبِلىً يعودُ وذاكمُ التَّتْبيبُ

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)}
قوله تعالى: {ذلك يَوْمٌ} {ذلك} إشارةٌ إلى يوم القيامة، المدلولِ عليه بالسياق من قوله: {عذابَ الآخرة}. و{مجموع} صفةٌ ل {اليوم} جَرَتْ على غير مَنْ هي له فلذلك رَفَعَت الظاهرَ وهو الناس، وهذا هو الإِعراب نحو، مررت برجلٍ مضروبٍ غلامُه. وأعرب ابن عطية {الناس} مبتدأ مؤخرًا و{مجموع} خبره مقدمًا عليه، وفيه ضعف؛ إذ لو كان كذلك لقيل: مجموعون، كما يقال: الناس قائمون ومضروبون، ولا يقال: قائم ومضروب إلا بضعف. وعلى إعرابه يحتاج إلى حذف عائد، إذ الجملةُ صفة لليوم، وهو الهاء في له، أي: الناس مجموع له، و{مشهود} متعيِّنٌ لأن يكونَ صفة فكذلك ما قبله.
وقوله: {مَّشْهُودٌ} من بابِ الاتساعِ في الظرف بأنْ جَعَلَه مشهودًا، وإنما هو مشهودٌ فيه، وهو كقوله:
ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْمًا وعامِرًا ** قليلٌ سوى الطعنِ النِّهالِ نوافلُهْ

والأصل: مشهود فيه، وشَهِدْنا فيه، فاتُّسِع فيه بأنْ وَصَل الفعلُ إلى ضميره من غير واسطة، كما يصل إلى المفعول به. قال الزمخشري: فإن قلت: أيُّ فائدة في أن أوثر اسمُ المفعول على فِعْله؟ قلت: لِما في اسم المفعول من دلالته على ثبات معنى الجمع لليوم، وأنَّه لابد أن يكونَ ميعادًا مضروبًا لجمع الناس له، وأنه هو الموصوفُ بذلك صفةً لازمة.
{وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)} والضمير في {نُؤَخِّره} يعودُ على {يوم}. وقال الحوفي: على الجزاء. وقرأ الأعمش: {وما يُؤَخِّره}، أي اللَّه تعالى. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)}
لمن يكن في جملة مَنْ قصَّ عليه مِنَ الأنبياء عليهم السلام مَنْ أكثر منه تبجيلا، ولا فيمن ذكره من الأمم أعظم من أمته تفضيلًا، فكما تَقَدَّم على الأنبياء عليهم السلام تقدَّمَتْ أمتُه على الأمم، قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 11].
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)}
لا يجوز الظلمُ في وصفه؛ فَتَصرُّفُه في مُلْكه بحقِّ إلهيته- مطلقٌ؛ يحكم بحسب إرادته ومشيئته، ولا يتوجه حقٌّ عليه، فكيف يجوز الظلمُ في وصفه؟
ويقال هذا الخطاب لو كان من مخلوقٍ مع مخلوق لأشبه العذر، ولكن في صفته لا يجوز العذر إذ الخلقُ خلقُه، والمُلْكُ مُلْكُه، والحُكْمُ حُكْمُه.
{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)}
إنَّ الحقَّ- سبحانه- يمهل ولكن لا يهمل، ويحكم ولكن لا يعجّل، وهو لا يُسأل عمَّا يفعل.
وقيل إذا أخذ النفوسَ بالتوفيق فلا سبيل للخذلان إليها، وإذا أخذ القلوبَ بالتحقيق فلا طريق للحرمان عليها. قال تعالى: {إنَّ بَطْشَ ربِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج: 12].
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)}
مشهودٌ يشهدِه مَنْ حُشِرَ من جميع الخلائق في ذلك اليوم.
ويقال الأيام ثلاثة: يومٌ مفقود وهو أمسِ ليس بيدك منه شيء، ويومٌ مقصود وهو غدٌ لا تدري أتدركه أم لا، ويومٌ مشهودٌ وهو اليوم الذي أنت فيه؛ فالمفقودُ لا يرجع، والمقصود ربما لا تبلغ، والمشهود وقتك وهو مُعَرَّضٌ للزوال... فاستغله فيما ينفع.
{وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)}
الأَجَلُ لا يَتَقَدَّم ولا يتأخر لكل (.......)، والآجالُ على ما عَلِمها الحقُّ- سبحانه- وأرادها جاريةٌ؛ فلا طلبٌ يُقَدَّمُ أو يؤخر وقتًا إذا جاء أجلُه، وكذلك للوصول وقت، فلا طلب مع رجاء الوصول، ولا طلب مع خوف الزوال، ولقد قيل:
عيبُ السلامةِ أنَّ صاحبَها ** متوقِّعٌ لقواصم الظَّهرِ

وفضيلةُ البلوى ترقبُ أهلِها ** عَقِبَ البلاء- مَسَرَّةَ الدهر

.اهـ.

.التفسير الإشاري:

قال العلامة نظام الدين النيسابوري:
التأويل: {ولا تنقصوا} مكيال المحبة وميزان الطلب، فمكيال المحبة عداوة ما سوى الله، وميزان الطلب السير على قدمي الشريعة والطريقة: {إني أراكم بخير} هو حسن الاستعداد الفطري وإني أخاف عذاب فساد الاستعداد في طلب غير الحق: {بالقسط} في تعظيم أمرالله والشفقة على خلق الله.
{ولا تبخسوا الناس أشياءهم} حقوق النصيحة وحسن العشرة في الله ولله: {ولا تعثوا} في أرض وجودكم: {مفسدين}، {بقية الله} بقاؤكم ببقائه: {خير لكم} مما فاتكم بإيفاء المكيال والميزان: {رزقًا حسنًا} نورًا تامًا أراني به إصلاح الأمور والاستعدادات إن ساعدني التوفيق: {وما} معاملة: {قوم لوط} من معاملتكم: {ببعيد} لأن الكفر كله ملة واحدة: {وما أمر فرعون برشيد} لأن فرعون النفس أمارة بالسوء: {إذا أخذ القرى} قرى الأجساد: {منها قائم} قابل لتدارك ما فات. ومنها ما هو محصود بفوات الاستعداد والله تعالى أعلم بالصواب. اهـ.

.تفسير الآيات (105- 109):

قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان كأنه قيل: يا ليت شعري ماذا يكون حال الناس إذا أتى ذلك الأجل وفيها الجبابرة والرؤساء وذوو العظمة والكبراء! أجيب بقوله: {يوم يأت} أي ذلك الأجل لا يقدرون على الامتناع بل ولا على مطلق الكلام، وحذف ابن عامر وعاصم وحمزة الياء اجتزاء عنها بالكسرة كما هو فاشٍ في لغة هذيل، وكان ذلك إشارة إلى أن شدة هوله تمنع أهل الموقف الكلام أصلًا في مقدار ثلثية، ثم يؤذن لهم في الكلام في الثلث الآخر بدلالة المحذوف وقرينة الاستثناء، فإن العادة أني يكون المستثنى أقل من المستثنى منه: {لا تكلم} ولو أقل كلام بدلالة حذف التاء: {نفس} من جميع الخلق في ذلك اليوم الذي هو يوم الآخرة، وهو ظرف هذا الأجل وهو يوم طويل جدًا ذو ألوان وفنون وأهوال وشؤون، تارة يؤذن فيه في الكلام، وتارة يكون على الأفواه الختام، وتارة يسكتهم الخوف والحسرة والآلام، وتارة ينطقهم الجدال والخصام: {إلا بإذنه} أي بإذن ربك المكرر ذكره في هذه الآيات إشارة إلى حسن التربية وإحكام التدبير.
ولما علم من هذا أنه يوم عظمة وقهر، سبب عن تلك العظمة تقسيم الحاضرين فقال: {فمنهم} أي الخلائق الحاضرين لأمره: {شقي} ثبتت له الشقاوة فيسر في الدنيا لأعمالها: {وسعيد} ثبتت له السعادة فمشى على منوالها؛ والتأخير: الإذهاب عن جهة الشيء بالإبعاد منه، وضده التقديم؛ والأجل: الوقت المضروب لوقوع أمر من الأمور؛ واللام تدل على العلة والغرض والحكمة بخلاف إلى؛ والشقاء: قوة أسباب البلاء.
ولما كان أكثر الخلق هالكًا مع أن المقام مقام تهديد وتهويل، بدأ تعالى بالأشقياء ترتيبًا للنشر على ترتيب اللف فقال: {فأما الذين شقوا} أي أدركهم العسر والشدة: {ففي النار} أي محكوم لهم بأنهم يدخلون الناء التي هي النار لو علمتم: {لهم فيها زفير} أي عظيم جدًا: {وشهيق} من زفر- إذا أخرج نفسه بعد مدِّه إياه، وشهيق- إذ تردد البكاء في صدره- قاله في القاموس؛ وقال ابن كثير في تفسير سورة الأنبياء: الزفير خروج أنفاسهم، والشهيق: ولوج أنفسهم؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الزفير: الصوت الشديد، والشهيق: الصوت الضعيف، وعن الضحاك ومقاتل: الزفير أول نهيق الحمار، والشهيق آخره حين يفرغ من صوته إذا رده في جوفه، وسيأتي كلام الزماني في ذلك: {خالدين فيها} أي بلا انقطاع، وعبر عنه بقوله جريًا على أساليب العرب: {ما دامت السماوات والأرض}.