فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأنشد الفراء في حذف الياء:
كَفَّاكَ كَفٌّ ما تُليقُ درهما ** جودًا وأخرى تُعْطِ بالسيفِ الدَّمَا

أي تعطي.
وقد حكى سيبويه والخليل أن العرب تقول: لا أدرِ، فتحذف الياء وتجتزئ بالكسرة، إلا أنهم يزعمون أن ذلك لكثرة الاستعمال.
قال الزجاج: والأجود في النحو إثبات الياء؛ قال: والذي أراه اتباع المصحف وإجماع القراء؛ لأن القراءة سنة؛ وقد جاء مثله في كلام العرب.
{لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} الأصل تتكلم؛ حذفت إحدى التاءين تخفيفًا.
وفيه إضمار؛ أي لا تتكلم فيه نفس إلا بالمأذون فيه من حسن الكلام؛ لأنهم ملجئون إلى ترك القبيح.
وقيل: المعنى لا تكلم بحجة ولا شفاعة إلا بإذنه.
وقيل: إن لهم في الموقف وقتًا يمنعون فيه من الكلام إلا بإذنه.
وهذه الآية أكثر ما يسأل عنها أهل الإلحاد في الدِّين.
فيقول لمَ قال: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} و: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35- 36] وقال في موضع من ذكر القيامة: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27].
وقال: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل: 11].
وقال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} [الصافات: 24].
وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} [الرحمن: 39].
والجواب ما ذكرناه، وأنهم لا ينطقون بحجة تجب لهم وإنما يتكلمون بالإقرار بذنوبهم، ولوم بعضهم بعضًا، وطرح بعضهم الذنوب على بعض؛ فأما التكلم والنطق بحجة لهم فلا؛ وهذا كما تقول للذي يخاطبك كثيرًا، وخطابه فارغ عن الحجة: ما تكلمت بشيء، وما نطقت بشيء، فسمّي من يتكلم بلا حجة فيه له غير متكلم.
وقال قوم: ذلك اليوم طويل، وله مواطن ومواقف في بعضها يمنعون من الكلام، وفي بعضها يطلق لهم الكلام؛ فهذا يدلّ على أنه لا تتكلم نفس إلا بإذنه: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} أي من الأنفس، أو من الناس؛ وقد ذَكَرهم في قوله: {يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس}. والشقي الذي كتبت عليه الشَّقاوة. والسّعيد الذي كتبت عليه السّعادة؛ قال لَبيد:
فمنهم سعيدٌ آخذ بنصِيبهِ ** ومنهم شَقيٌّ بالمعيشةِ قانع

وروى الترمذي عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب قال: لما نزلت هذه الآية: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا نبي الله فعلامَ نعمل؟ على شيء قد فُرغ منه، أو على شيء لم يُفرَغ منه؟ فقال: «بل على شيء قد فُرغ منه وجرت به الأقلامُ يا عُمر ولكن كل مُيسَّر لما خُلِق له» قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن عمر؛ وقد تقدم في الأعراف.
قوله تعالى: {فَأَمَّا الذين شَقُواْ} ابتداء: {فَفِي النار} في موضع الخبر، وكذا: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} قال أبو العالية: الزّفير من الصدر، والشهيق من الحلق؛ وعنه أيضًا ضد ذلك.
وقال الزجاج: الزّفير من شدة الأنين، والشّهيق من الأنين المرتفع جدًا؛ قال: وزعم أهل اللغة من الكوفيين والبصريين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمير في النّهيق، والشّهيق بمنزلة (آخر) صوت الحمار في النّهيق.
وقال ابن عباس رضي الله عنه عكسه؛ قال: الزفير الصوت الشديد، والشّهيق الصوت الضعيف. وقال الضحاك ومقاتل: الزفير مثل أول نهيق الحمار، والشهيق مثل آخره حين فرغ من صوته؛ قال الشاعر:
حَشْرَجَ في الجوفِ سَحِيلًا أو شَهَقْ ** حتى يُقالَ ناهقٌ وما نَهَقْ

وقيل: الزّفير إخراج النفَس، وهو أن يمتلئ الجوف غمًّا فيخرج بالنفس، والشَّهيق ردّ النفَس وقيل: الزفير ترديد النفَس من شدّة الحزن؛ مأخوذ من الزَّفْر وهو الحَمْل على الظهر لشدّته؛ والشهيق النفس الطويل الممتدّ؛ مأخوذ من قولهم: جبل شاهق؛ أي طويل.
والزفير والشهيق من أصوات المحزونين.
قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض} {مَا دَامَتِ} في موضع نصب على الظرف؛ أي دوام السموات والأرض، والتقدير: وقت ذلك. واختلف في تأويل هذا؛ فقالت طائفة منهم الضحاك: المعنى ما دامت سموات الجنة والنار وأرضهما والسماء كل ما علاك فأظلك، والأرض ما استقر عليه قدمك؛ وفي التنزيل: {وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر: 74].
وقيل: أراد به السماء والأرض المعهودتين في الدنيا وأجرى ذلك على عادة العرب في الإخبار عن دوام الشيء وتأبيده؛ كقولهم: لا آتيك ما جَنَّ ليلٌ، أو سال سيلٌ، وما اختلف الليل والنهار، وما ناح الحمام، وما دامت السموات والأرض، ونحو هذا مما يريدون به طولًا من غير نهاية؛ فأفهمهم الله تخليد الكفرة بذلك.
وإن كان قد أخبر بزوال السموات والأرض.
وعن ابن عباس أن جميع الأشياء المخلوقة أصلها من نور العرش، وأن السموات والأرض في الآخرة تردّان إلى النور الذي أخذتا منه؛ فهما دائمتان أبدًا في نور العرش.
قوله تعالى: {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} في موضع نصب؛ لأنه استثناء ليس من الأول؛ وقد اختلف فيه على أقوال عشرة: الأولى: أنه استثناء من قوله: {فَفِي النَّارِ} كأنه قال: إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك؛ وهذا قول رواه أبو نَضْرة عن أبي سعيد الخُدْرِي وجابر رضي الله عنهما.
وإنما لم يقل من شاء؛ لأن المراد العدد لا الأشخاص؛ كقوله: {مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3].
وعن أبي نَضْرَة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلا من شاء ألا يدخلهم وإن شقوا بالمعصية». الثاني: أن الاستثناء إنما هو للعصاة من المؤمنين في إخراجهم بعد مدّة من النار؛ وعلى هذا يكون قوله: {فَأَمَّا الذين شَقُواْ} عامًا في الكفرة والعصاة، ويكون الاستثناء من {خَالِدِينَ}؛ قاله قتادة والضّحاك وأبو سِنان وغيرهم.
وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل ناس جهنم حتى إذا صاروا كالحُمَمَة أخرجوا منها ودخلوا الجنة فيقال هؤلاء الجهنميون». وقد تقدّم هذا المعنى في النساء وغيرها.
الثالث: أن الاستثناء من الزَّفير والشَّهيق؛ أي لهم فيها زفير وشهيق إلا ما شاء ربك من أنواع العذاب الذي لم يذكره، وكذلك لأهل الجنة من النعيم ما ذكر، وما لم يذكر.
حكاه ابن الأنباري.
الرابع: قال ابن مسعود: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَواتُ وَالأَرْضُ} لا يموتون فيها، ولا يخرجون منها: {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} وهو أن يأمر النار فتأكلهم وتفنيهم، ثم يجدد خلقهم.
قلت: وهذا القول خاص بالكافر والاستثناء له في الأكل، وتجديد الخلق.
الخامس: أن {إلا} بمعنى {سوى} كما تقول في الكلام: ما معي رجل إلاّ زيد، ولي عليك ألفا درهم إلا الألف التي لي عليك.
قيل: فالمعنى ما دامت السموات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود.
السادس: أنه استثناء من الإخراج، وهو لا يريد أن يخرجهم منها.
كما تقول في الكلام: أردت أن أفعل ذلك إلا أن أشاء غيره، وأنت مقيم على ذلك الفعل؛ فالمعنى أنه لو شاء أن يخرجهم لأخرجهم، ولكنه قد أعلمهم أنهم خالدون فيها، ذكر هذين القولين الزّجاج عن أهل اللغة، قال: ولأهل المعاني قولان آخران، فأحد القولين: {خَالِدينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} من مقدار موقفهم على رأس قبورهم، وللمحاسبة، وقدر مكثهم في الدنيا، والبرزخ، والوقوف للحساب.
والقول الآخر: وقوع الاستثناء في الزيادة على النعيم والعذاب، وتقديره: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} من زيادة النعيم لأهل النعيم، وزيادة العذاب لأهل الجحيم.
قلت: فالاستثناء في الزيادة من الخلود على مدة كون السماء والأرض المعهودتين في الدنيا واختاره التّرمذي الحكيم أبو عبد الله محمد بن علي، أي خالدين فيها مقدار دوام السموات والأرض، وذلك مدّة العالم، وللسماء والأرض وقت يتغيران فيه، وهو قوله سبحانه: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ} [إبراهيم: 48] فخلق الله سبحانه الآدميين وعاملهم، واشترى منهم أنفسهم وأموالهم بالجنة، وعلى ذلك بايعهم يوم الميثاق، فمن وفّى بذلك العهد فله الجنة، ومن ذهب برقبته يخلّد في النار بمقدار دوام السموات والأرض؛ فإنما دامتا للمعاملة؛ وكذلك أهل الجنة خلود في الجنة بمقدار ذلك؛ فإذا تمت هذه المعاملة وقع الجميع في مشيئة الله؛ قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بالحق} [الدخان: 38 39] فيخلّد أهل الدارين بمقدار دوامهما، وهو حق الربوبية بذلك المقدار من العظمة؛ ثم أوجب لهم الأبد في كلتا الدارين لحقّ الأحديّة، فمن لقيه موحّدًا لأحديته بقي في داره أبدًا، ومن لقيه مشركًا بأحديّته إلهًا بقي في السجن أبدًا؛ فأعلم الله العباد مقدار الخلود، ثم قال: {إلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} من زيادة المدّة التي تعجز القلوب عن إدراكها لأنه لا غاية لها؛ فبالاعتقاد دام خلودهم في الدارين أبدًا.
وقد قيل: إن {إلا} بمعنى الواو، قاله الفراء وبعض أهل النظر وهو الثامن والمعنى: وما شاء ربك من الزيادة في الخلود على مدّة دوام السموات والأرض في الدنيا.
وقد قيل في قوله تعالى: {إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ} [البقرة: 150] أي ولا الذين ظلموا.
وقال الشاعر:
وكلُّ أخٍ مفارقُه أخوه ** لعَمرُ أبيكَ إلا الفَرْقَدان

أي والفرقدان.
وقال أبو محمد مكيّ: وهذا قول بعيد عند البصريين أن تكون {إلا} بمعنى الواو، وقد مضى في البقرة بيانه.
وقيل: معناه كما شاء ربك؛ كقوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] أي كما قد سلف، وهو التاسع، العاشر وهو أن قوله تعالى: {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} إنما ذلك على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام؛ فهو على حدّ قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَاءَ الله آمِنِينَ} [الفتح: 27] فهو استثناء في واجب، وهذا الاستثناء في حكم الشرط كذلك؛ كأنه قال: إن شاء ربك، فليس يوصف بمتصل ولا منقطع؛ ويؤيده ويقويه قوله تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} ونحوه عن أبي عُبيد قال: تقدّمت عزيمة المشيئة من الله تعالى في خلود الفريقين في الدارين؛ فوقع لفظ الاستثناء، والعزيمة قد تقدّمت في الخلود، قال: وهذا مثل قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَاءَ الله آمِنِينَ} [الفتح: 27] وقد علم أنهم يدخلونه حتمًا، فلم يوجب الاستثناء في الموضعين خيارًا؛ إذ المشيئة قد تقدّمت بالعزيمة في الخلود في الدارين والدخول في المسجد الحرام؛ ونحوه عن الفراء.
وقول حادي عشر وهو أن الأشقياء هم السعداء، والسعداء هم الأشقياء لا غيرهم، والاستثناء في الموضعين راجع إليهم؛ وبيانه أن {ما} بمعنى {من} استثنى الله عز وجل من الداخلين في النار المخلدين فيها الذين يخرجون منها من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بما معهم من الإيمان، واستثنى من الداخلين في الجنة المخلدين فيها الذين يدخلون النار بذنوبهم قبل دخول الجنة ثم يخرجون منها إلى الجنة.
وهم الذين وقع عليهم الاستثناء الثاني؛ كأنه قال تعالى: {فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} ألا يخلده فيها، وهم الخارجون منها من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بإيمانهم وبشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهم بدخولهم النار يسمون الأشقياء، وبدخولهم الجنة يسمون السعداء؛ كما روى الضّحّاك عن ابن عباس إذ قال: الذين سعِدوا شَقُوا بدخول النار ثم سعِدوا بالخروج منها ودخولهم الجنة.
وقرأ الأعمش وحفص وحمزة والكسائي: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} بضم السين.
وقال أبو عمرو: والدليل على أنه سَعِدوا أن الأول شَقُوا ولم يقل أشقوا.
قال النحاس: ورأيت عليّ بن سليمان يتعجب من قراءة الكسائي: {سُعِدوا} مع علمه بالعربية! إذ كان هذا لحنًا لا يجوز؛ لأنه إنما يقال: سَعِد فلان وأسعده الله، وأسعد مثل أُمرِض؛ وإنما احتج الكسائي بقولهم: مسعود ولا حجة له فيه؛ لأنه يقال: مكان مسعود فيه، ثم يحذف فيه ويسمى به.
قال المهدوي: ومن ضمّ السين من {سعدوا} فهو محمول على قولهم: مسعود وهو شاذ قليل؛ لأنه لا يقال: سعده الله، إنما يقال: أسعده الله.
وقال الثعلبي: {سُعِدوا} بضم السين أي رزقوا السعادة؛ يقال: سُعِد وأسعِد بمعنى واحد وقرأ الباقون: {سَعدوا} بفتح السين قياسًا على {شَقُوا} واختاره أبو عبيد وأبو حاتم.
وقال الجوهري: والسعادة خلاف الشّقاوة؛ تقول: منه سَعِد الرجل بالكسر فهو سعيد، مثل سَلِم فهو سليم، وسعُد فهو مسعود؛ ولا يقال فيه: مُسْعَد، كأنهم استغنوا عنه بمسعود.
وقال القشيريّ أبو نصر عبد الرحيم: وقد ورد سَعَده الله فهو مسعود، وأسعده الله فهو مسعَد؛ فهذا يقوي قول الكوفيين.
وقال سيبويه: لا يقال سُعِد فلان كما لا يقال شُقي فلان؛ لأنه مما لا يتعدى.
{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي غير مقطوع؛ من جَذّه يَجُذُّه أي قطعه؛ قال النابغة:
تَجُذُّ السَّلُوقِيَّ المضاعَفَ نَسْجُهُ ** وتُوقِدُ بالصُّفَّاحِ نارَ الحُبَاحِبِ

قوله تعالى: {فَلاَ تَكُ} جزم بالنهي؛ وحذفت النون لكثرة الاستعمال.
{فِي مِرْيَةٍ} أي في شك.
{مِّمَّا يَعْبُدُ هؤلاء} من الآلهة أنها باطل.
وأحسن من هذا: أي قل يا محمد لكل من شك لاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاَءِ أن الله عز وجل ما أمرهم به، وإنما يعبدونها كما كان آباؤهم يفعلون تقليدًا لهم.
{وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ} فيه ثلاثة أقوال: أحدها: نصيبهم من الرزق؛ قاله أبو العالية.
الثاني: نصيبهم من العذاب؛ قاله ابن زيد.
الثالث: ما وُعِدوا به من خير أو شر؛ قاله ابن عباس رضي الله عنهما. اهـ.

.قال الخازن:

{يوم يأت} يعني ذلك اليوم: {لا تكلم نفس إلا بإذنه} قيل: إن جميع الخلائق يسكتون في ذلك اليوم فلا يتكلم أحد فيه إلا بإذن الله تعالى.
فإن قلت كيف وجه الجمع بين هذه الآية وبين قوله سبحانه وتعالى: {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} وقوله إخبارًا عن محاجة الكفار: {والله ربنا ما كنا مشركين} والأخبار أيضًا تدل على الكلام في ذلك اليوم.
قلت: يوم القيامة يوم طويل وله أحوال مختلفة وفيه أهوال عظيمة ففي بعض الأحوال لا يقدرون على الكلام لشدة الأهوال وفي بعض الأحوال يؤذن لهم في الكلام فيتكلمون وفي بعضها تخفف عنهم تلك الأهوال فيحاجون ويجادلون وينكرون، وقيل: المراد من قوله لا تكلم نفس إلا بإذنه الشفاعة يعني لا تشفع نفس لنفس شيئًا إلا أن يأذن الله لها في الشفاعة: {فمنهم} يعني فمن أهل الموقف: {شقي وسعيد} الشقاوة خلاف السعادة والسعادة هي معاونة الأمور الإلهية للإنسان ومساعدته على فعل الخير والصلاح وتيسيره لها ثم السعادة على ضربين سعادة دنيوية وسعادة أخروية وهي السعادة القصوى لأن نهايتها الجنة وكذلك الشقاوة على ضربين أيضًا شقاوة دنيوية وشقاوة أخروية وهي الشقاوة القصوى لأن نهايتها النار فالشقي من سبق له الشقاوة في الأزل والسعيد من سبقت له السعادة في الأزل.
عن علي بن أبي طالب قال: «كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس وجعل ينكت بمخصرته ثم قال: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فسيصير لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فسيصير لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ: {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى}» الآية.