فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما ما ذكره من الاستثناء في أهل الجنة من قوله: خالدين، فلا يتمشى لأنهم مع ما أعطاهم الله من رضوانه، وما تفضل عليهم به من سوى ثواب الجنة، لا يخرجهم ذلك عن كونهم خالدين في الجنة، فلا يصح الاستثناء على هذا، بخلاف أهل النار فإنه لخروجهم من عذابها إلى الزمهرير يصح الاستثناء.
وقال ابن عطية: وأما قوله إلا ما شاء ربك، فقيل فيه: إن ذلك على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام، فهو على نحو قوله: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} استثناء في واجب، وهذا الاستثناء هو في حكم الشرط كأنه قال: إن شاء الله، فليس يحتاج أن يوصف بمتصل ولا منقطع.
وقيل: هو استثناء من طول المدة، وذلك على ما روي أن جهنم تخرب ويعدم أهلها، وتخفق أبوابها، فهم على هذا يخدلون حتى يصير أمرهم إلى هذا، وهذا قول محيل.
والذي روى ونقل عن ابن مسعود وغيره: أنها تخلو من النار إنما هو الدرك الأعلى المختص بعصاة المؤمنين، وهو الذي يسمى جهنم، وسمى الكل به تجوزًا.
وقيل: إلا بمعنى الواو، فمعنى الآية: وما شاء الله زائدًا على ذلك.
وقيل: في هذه الآية بمعنى سوى، والاستثناء منقطع كما تقول: لي عندك ألفا درهم إلا الألف التي كنت أسلفتك، بمعنى سوى تلك الألف.
فكأنه قال: خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، سوى ما شاء الله زائدًا على ذلك، ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى بعد هذا: {عطاء غير مجذوذ}، وهذا قول الفرّاء.
وقيل: سوى ما أعد لهم من أنواع العذاب مما لا يعرف كالزمهرير.
وقيل: استثناء من مدة السموات والأرض التي فرطت لهم في الحياة الدنيا.
وقيل: في البرزخ بين الدنيا والآخرة.
وقيل: في المسافات التي بينهم في دخول النار إذ دخولهم إنما هو زمرًا بعد زمر.
وقيل: الاستثناء من قوله: {ففي النار}، كأنه قال: إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك، وهذا قول رواه أبو نصرة عن جابر، أو عن أبي سعيد الخدري، ثم أخبر منبهًا على قدرة الله تعالى فقال: {إن ربك فعال لما يريد} انتهى.
وقال أبو مجلز: {إلا ما شاء ربك} أن يتجاوز عنه بعذاب يكون جزاؤه الخلود في النار، فلا يدخله النار.
وقيل: معنى {إلا ما شاء ربك} كما شاء ربك قيل: كقوله: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا من قد سلف} أي كما قد سلف.
وقرأ الحسن: {شقوا} بضم الشين، والجمهور بفتحها.
وقرأ ابن مسعود، وطلحة بن مصرّف، وابن وثاب، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وحفص سعدوا بضم السين، وباقي السبعة والجمهور بفتحها.
وكان علي بن سليمان يتعجب من قراءة الكسائي سعدوا مع علمه بالعربية، ولا يتعجب من ذلك إذ هي قراءة منقولة عن ابن مسعود ومن ذكرنا معه.
وقد احتج الكسائي بقولهم: مسعود، قيل: ولا حجة فيه لأنه يقال: مكان مسعود فيه، ثم حذف فيه وسمى به، وقال المهدوي: من قرأ {سعدوا} فهو محمول على مسعود، وهو شاذ قليل لأنه لا يقال سعده الله، إنما يقال: أسعده الله.
وقال الثعلبي: سعد وأسعد بمعنى واحد، وانتصب عطاء على المصدر أي: أعطوا عطاء بمعنى إعطاء كقوله: {والله أنبتكم من الأرض نبتًا} أي إنباتًا.
ومعنى غير مجذوذ: غير مقطوع، بل هو ممتد إلى غير نهاية.
{فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ} لما ذكر تعالى قصص عبدة الأوثان من الأمم السالفة، واتبع ذلك بذكر أحوال الأشقياء والسعداء، شرح للرسول صلى الله عليه وسلم أحوال الكفار من قومه، وإنهم متبعو آبائهم كحال من تقدم من الأمم في اتباع آبائهم في الضلال.
وهؤلاء إشارة إلى مشركي العرب باتفاق، وأنَّ ديدنهم كديدن الأمم الماضية في التقليد والعمى عن النظر في الدلائل والحجج.
وهذه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وعدة بالانتقام منهم، إذ حالهم في ذلك حال الأمم السالفة، والأمم السالفة قد قصصنا عليك ما جرى لهم من سوء العاقبة.
والتشبيه في قوله: كما يعبد، معناه أنّ حالهم في الشرك مثل حال آبائهم من غير تفاوت، وقد بلغك ما نزل بأسلافهم، فسينزل بهم مثله.
وما يعبد استئناف جرى مجرى التعليل للنهي عن المرية، وما في مما وفي كما يحتمل أن تكون مصدرية وبمعنى الذي.
وقرأ الجمهور: لموفوهم مشددًا من وفى، وابن محيصن مخففًا من أوفى، والنصيب هنا قال ابن عباس: ما قدر لهم من خير ومن شر.
وقال أبو العالية: من الرزق.
وقال ابن زيد: من العذاب، وكذا قال الزمخشري قال: كما وفينا آباءهم أنصباءهم، وغير منقوص حال من نصيبهم، وهو عندي حال مؤكدة، لأنّ التوفية تقتضي التكميل.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): كيف نصب غير منقوص حالًا من النصيب الموفى؟ (قلت): يجوز أن يوفى وهو ناقص، ويوفى وهو كامل.
ألا تراك تقول: وفيته شطر حقه، وثلث حقه، وحقه كاملًا وناقصًا؟ انتهى وهذه مغلطة إذا قال: وفيته شطر حقه، فالتوفية وقعت في الشطر، وكذا ثلث حقه، والمعنى أعطيته الشطر أو الثلث كاملًا لم أنقصه منه شيئًا.
وأما قوله: وحقه كاملًا وناقصًا، أما كاملًا فصحيح، وهي حال مؤكدة لأن التوفية تقتضي الإكمال، وأما وناقصًا فلا يقال لمنافاته التوفية.
والخطاب في فلا تك متوجه إلى من داخله الشك، لا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعنى: والله أعلم قل يا محمد لكل من شك لا تك في مرية مما يعبد هؤلاء، فإنّ الله لم يأمرهم بذلك، وإنما اتبعوا في ذلك آباءهم تقليدًا لهم وإعراضًا عن حجج العقول. اهـ.

.قال أبو السعود:

{يَوْمَ يَأْتِ} أي حين يأتي ذلك اليومُ المؤخَّرُ بانقضاء أجلِه كقوله تعالى: {أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة} وقيل: يومَ يأتي الجزاءُ الواقعُ فيه، وقيل: أي الله عز وجل فإن المقام مقامُ تفخيمِ شأنِ اليوم وقرئ بإثبات الياء على الأصل: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ} أي لا تتكلم بما ينفع وينجّي من جواب أو شفاعةٍ، وهو العاملُ في الظرف أو الانتهاء المحذوفِ في قوله تعالى: {إِلاَّ لاِجَلٍ مَّعْدُودٍ} أي ينتهي الأجل يوم يأتي أو المضمر المعهود أعني أذكر: {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} عز سلطانه في التكلم كقوله تعالى: {لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} وهذا في موطن من مواطنِ ذلك اليومِ وقولُه عز وجل: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} في موقف آخرَ من مواقفه كما أن قولَه سبحانه: {يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تجادل عَن نَّفْسِهَا} في آخرَ منها أو المأذونُ فيه الجواباتُ الحقةُ والممنوعُ عنه الأعذار الباطلةُ، نعم قد يُؤذن فيها أيضًا لإظهار بطلانِها كما في قول الكفرة: {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ونظائرِه: {فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ} وجبت له النارُ بموجب الوعيد: {وَسَعِيدٌ} أي ومنهم سعيدٌ، حُذف الخبرُ لِدلالة الأولِ عليه وهو من وجبت له الجنةُ بمقتضى الوعد، والضميرُ لأهل الموقفِ المدلولِ عليهم بقوله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ} أو للناس، وتقديمُ الشقيِّ على السعيد لأن المقامَ مقامُ التحذير والإنذار.
{فَأَمَّا الذين شَقُواْ} أي سبَقَت لهم الشقاوةُ: {فَفِى النار} أي مستقرّون فيها: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} الزفيرُ إخراجُ النفَسِ والشهيقُ ردُّه وجاء استعمالُهما في أول النهيق وآخرِه قال الشماخ يصف حمارَ الوحش:
بعيدُ مدى التطريب أولُ صوتِه ** زفيرٌ ويتلوه شهيقٌ مُحشرَجُ

والمرادُ بهما وصفُ شدةِ كربِهم وتشبيهُ حالِهم بحال من استولت على قلبه الحرارةُ وانحصر فيه روحُه أو تشبيهُ صراخِهم بأصواتِ الحميرِ وقرئ شقوا بالضم والجملةُ مستأنفةٌ كأن سائلًا قال: ما شأنُهم فيها؟ فقيل: لهم فيها كذا وكذا، أو منصوبةُ المحلِّ على الحالية من النار أو من الضمير في الجار والمجرور كقوله عز اسمُه: {خالدين فِيهَا} خلا أنه إن أريد حدوثُ كونِهم في النار فالحالُ مقدرةٌ: {مَا دَامَتِ السموات والأرض} أي مدةَ دوامِها وهذا التوقيتُ عبارةٌ عن التأبيد ونفيِ الانقطاع بناءً على منهاج قولِ العرب: ما دام تعار وما أقام ثَبيرٌ وما لاح كوكب وما اختلف الليلُ والنهار وما طما البحرُ وغيرُ ذلك من كلمات التأبيد لا تعليقِ قرارِهم فيها بدوام هذه السمواتِ والأرض فإن النصوصَ القاطعةَ دالةٌ على تأبيد قرارِهم فيها وانقطاعِ دوامِهما وإن أريد التعليقُ فالمراد سمواتُ الآخرة وأرضُها كما يدل على ذلك النصوصُ كقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} وقولِه تعالى: {وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء} وجزم كلُّ أحدٍ بأن أهلَ الآخرةِ لابد لهم من مِظلّة ومِقلّة دائمتين يكفي في تعليق دوامِ قرارِهم فيها بدوامهما، ولا حاجة إلى الوقوف على تفاصيل أحوالِهما وكيفياتهما: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} استثناءٌ من الخلود على طريقة قوله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الاولى} وقوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} وقولِه تعالى: {حتى يَلِجَ الجمل في سَمّ الخياط} غير أن استحالة الأمورِ المذكورةِ معلومةٌ بحكم العقلِ، واستحالةَ تعلّق المشيئةِ بعدم الخلودِ معلومةٌ بحكم النقل يعني أنهم مستقرّون في النار في جميع الأزمنةِ إلا في زمان مشيئةِ الله تعالى لعدم قرارِهم فيها وإذ لا إمكان لتلك المشيئةِ ولا لزمانها بحكم النصوصِ القاطعة الموجبةِ للخلود فلا إمكانَ لانتهاء مدةِ قرارِهم فيها ولدفع ما عسى يُتوّهم من كون استحالةِ تعلق مشيئةِ الله تعالى بعدم الخلود بطريق الوجوبِ على الله تعالى قال: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ} يعني أنه في تخليد الأشقياءِ في النار بحيث يستحيل وقوعُ خلافةِ فعالٌ بموجب إرادته قاضٍ بمقتضى مشيئتِه الجارية على سنن حكمته الداعيةِ إلى ترتيب الأجزيةِ على أفعال العبادِ، والعدولُ من الإضمار إلى الإظهار لتربية المهابةِ وزيادةِ التقريرِ، وقيل: هو استثناءُ من الخلود في عذاب النار فإنهم لا يخلّدون فيه بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع أُخَرَ من العذاب وبما هو أغلظُ منها كلِّها وهو سَخَطُ الله تعالى عليهم وخَسْؤه لهم وإهانتُه إياهم، وأنت تدري أنا وإن سلّمنا أن المرادَ بالنار ليس مطلقَ دارِ العذاب المشتملةِ على أنواع العذابِ بل نفسَ النار فما خلا عذابَ الزمهريرِ من تلك الأنواعِ مقارِنٌ لعذاب النار فلا مِصداقَ في ذلك للاستثناء، ولك أن تقول إنهم ليسوا بمخلدين في العذاب الجُسماني الذي هو عذابُ النار بل لهم من أفانين العذاب ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وهي العقوباتُ والآلامُ الروحانية التي لا يقف عليها في هذه الحياة الدنيا المنغمِسون في أحكام الطبيعةِ المقصورُ إدراكُهم على ما ألِفوا من الأحوال الجُسمانية، وليس لهم استعدادٌ لتلقّي ما وراء ذلك من الأحوال الروحانيةِ إذا ألقيَ إليهم، ولذلك لم يتعرّض لبيانه واكتُفي بهذه المرتبةِ الإجماليةِ المنبئةِ عن التهويل، وهذه العقوباتُ وإن كانت تعتريهم وهم في النار لكنهم ينسَوْن بها عذابَ النارِ ولا يُحِسّون به، وهذه المرتبةُ كافيةٌ في تحقيق معنى الاستثناءِ هذا، وقد قيل: إلا بمعنى سوى وهو أوفقُ بما ذكر وقيل: ما بمعنى مَنْ على إرادة معنى الوصفيةِ فالمعنى إن الذين شقُوا في النار مقدرين الخلود فيها إلا الذين شاء الله عدم خلودِهم فيها وهم عصاةُ المؤمنين.
{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ} الكلامُ فيه كالكلام فيما سبق خلا أنه لم يُذكر هاهنا أن لهم فيها بهجةً وسرورًا كما ذكر في أهل النارِ من أنه لهم فيها زفيرٌ وشهيق لأن المقام مقامُ التحذيرِ والإنذار: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} إنْ حمل على طريقة التعليقِ بالمُحال فقوله سبحانه: {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} نُصب على المصدرية من معنى الجملة لأن قوله تعالى: {فَفِى الجنة خالدين فِيهَا} يقتضي إعطاءً وإنعامًا فكأنه قيل: يعطيهم عطاءً وهو إما اسمُ مصدرٍ هو الإعطاءُ أو مصدرٌ بحذف الزوائدِ كقوله تعالى: {أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتًا} وإن حُمل على ما أعد الله لعباده الصالحين من النعيم الروحاني الذي عبّر عنه بما لا عينٌ رأت ولا أذن سمِعت ولا خطَر على قلب بشر فهو نصبٌ على الحالية من المفعول المقدر للمشيئة، أو تمييزٌ فإن نسبةَ مشيئةِ الخروج إلى الله تعالى يحتمل أن تكون على جهة عطاءٍ مجذوذ وعلى جهة عطاءٍ غيرِ مجذوذ فهو رافعٌ للإبهام عن النسبة. قال ابن زيد: أخبرنا الله تعالى بالذي يشاء لأهل الجنةِ فقال: {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} ولم يُخبرنا بالذي يشاء لأهل النارِ ويجوز أن يتعلق بكلا النعيمين أو بالأول دفعًا لما يتوهم من ظاهر الاستثناءِ من انقطاعه.
{فَلاَ تَكُ في مِرْيَةٍ} أي في شك، والفاءُ لترتيب النهي على ما قُصّ من القصص وبُيّن في تضاعيفها من العواقب الدنيوية والأخروية: {مّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء} أي من جهة عبادةِ هؤلاء المشركين وسوءِ عاقبتها أو من حال ما يعبُدونه من الأوثان في عدم نفعِه لهم. ولمّا كان مَساقُ النظمِ الكريم قبيل الشروعِ في القصص لبيان غايةِ سوءِ حال الكفرةِ وكمالِ حسنِ حال المؤمنين، وقد ضُرب لهم مثلُ فقيل: {مَثَلُ الفريقين كالاعمى والاصم والبصير والسميع هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} وقد قُص عَقيبَ ذلك من أنباء الأممِ السالفة مع رسلهم المبعوثةِ إليهم ما يتذكر به المتذكِّرُ نُهي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن كونه في شك من مصير أمرِ هؤلاءِ المشركين في العاجل والآجلِ ثم علل ذلك بطريق الاستئناف فقيل: {مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءابَاؤهُم} الذين قُصّت عليك قصصُهم: {مِن قَبْلُ} أي هم وآباؤُهم سواءٌ في الشرك، ما يعبدون عبادةً إلا كعبادتهم أو ما يعبدون شيئًا إلا مثلَ ما عبدوه من الأوثان، والعدولُ إلى صيغة المضارعِ لحكاية الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتِها، أو مثلَ ما كانوا يعبدونه فحُذف كان لِدلالة قولهِ: {من قبل} عليه، ولقد بلغك ما لحق بآبائهم فسيلحقهم مثلُ ذلك فإن تماثلَ الأسبابِ يقتضي تماثل المسبَّبات: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ} أي هؤلاء الكفرة: {نَصِيبَهُمْ} أي حظَّهم المعيَّنَ لهم حسب جرائمِهم وجرائرِهم من العذاب عاجلًا وآجلًا كما وفّينا آباءَهم أنصباءَهم المقدّرة لهم، أو من الرزق المقسومِ لهم فيكون بيانًا لوجه تأخُّرِ العذاب عنهم مع تحقق ما يوجبه: {غَيْرَ مَنقُوصٍ} حالٌ مؤكدة من النصيب كقوله تعالى: {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} وفائدتُه دفعُ توهّم التجوّزِ وجعلُها مقيدةً له لدفع احتمالِ كونِه منقوصًا في حد نفسه مبنيٌّ على الذهول عن كون العاملِ هو التوفيةَ فتأمل. اهـ.

.قال الألوسي:

{يَوْمَ يَأْتِ} أي ذلك اليوم المؤخر بانقضاء أجله المضروب حسبما تقتضيه الحكمة وهو المروى عن ابن جريج، وقبل: الضمير للجزاء أيضًا، وقيل: لله تعالى، وفيه من تفخيم شأن اليوم ما لا يخفى، ويعضده قراءة وما يؤخرخ بالياء، وتسبة الإتيان ونحوه إليه سبحانه أتت في غير ما آية، واعترض الأول بأت التقدير عليه يوم إتيان ذلك اليوم ولا يصح لأن تعرف اليوم بالاتيان يأبى تعرف الإتيان به، ولأن إتيان اليوم لا ينفك عن يوم الإتيان فيكفي الإسناد وتلغو الإضافة، ونقل العلامة الطيبي نصًا على عدم جوازه كما لا تقول: جئتك يوم بشرك، وأجيب أن كل زمان له شأن يعتبر تجدده كالعيد والنيروز والساعة مثلًا، يجري مجرى الزماني وإن كان في نفسه زمانًا فباعتبار تغاير الجهتين صحت الإضافة والإسناد كما يصح أن يقال: يوم تقوم الساعة، ويوم يأتي العيد، والعيد في يوم كذا، فالأول زمان وضميره أعني فاعل الفعل زماني، وإذًا حسن مثل قوله:
فسقى الغضى والساكنيه وإن هم ** شبوه بين جوانحي وضلوعي

فهذا أحسن.
وقرأ النحويان ونافع: {يَأْتِىَ} بإثبات الياء وصلًا وحذفها وقفًا، وابن كثير باثباتها وصلًا ووقفًا وهي ثابتة في مصحف أبي، وقرأ باقي السبعة بحذفها وصلًا ووقفًا، وسقطت في مصحف عثمان رضي الله تعالى عنه، وإثباتها وصلًا ووقفًا هو الوجه، ووجه حذفها في الوقف التشبيه بالفواصل، ووصلا ووقفًا التخفيف كما قالوا: لا أدر ولا أبال، وذكر الزمخشري أن الاجتزاء بالكسرة عن الياء كثير في لغة هذيل، ومن ذلك قوله:
كفاك ما تليق درهما جودًا ** وأخرى تعط بالسف الدما

وقرأ الأعمش يوم يأتون بواو الجمع، وكذا في مصحف عبد الله أي يوم يأتي الناس.
وأو أهل الموقف: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ} أي لا تتكلم بما ينفع وينجي من جواب أو شفاعة، وهذا الفعل على الأظهر هو الناصب للظرف السابق.