فصل: قال ابن عجيبة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: هو استثناء من قوله سبحانه: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106] ورد بأن المقابل لا يجري فيه هذا ويبقى الاشكال، وأجيب بأن المراد ذكر ما تحتمله الآية والإطراد ليس بلازم، وتعقب بأنه ليس المراد إلا بيان ضعف هذا الوجه وكفى بعدم الإطراد ضعفًا، وقيل: {إِلا} بمعنى سوى كقولك: لك عليّ ألفان إلا الألف التي كانت يعني سواها، ونقل ذلك عن الزجاج والفراء والسجاوندي، والمعنى سوى ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها على مدة بقاء السموات والأرض، والاستثناء في ذلك منقطع، ويحتمل أن يريدوا أن: {إِلا} بمعنى غير صفة لما قبلها والمعنى يخلدون فيها مقدار مدة السموات والأرض سوى ما شاء الله تعالى مما لا يتناهى، وضعف هذا القيل بأنه يلزم حمل السموات والأرض على هذين الجسمين المعروفين من غير نظر إلى معنى التأييد وهو فاسد، وقيل: {إِلا} بمعنى الواو أي وما شاء ربك زائدًا على ذلك، واستشهد على مجيئها بمعنى الواو بقوله:
وكل أخر مفارقه أخوه ** لعمر أبيك (إلا) الفرقدان

وفيه أن هذا قول مردود عند النحاة، وقال العلامة الطيبي: الحق الذي لا محيد عنه أن يحمل: {مَا} على من لإرادة الوصفية وهي المرحومية، و: {خالدين} حال مقدرة من ضمير الاستقرار أن في النار، والمعنى وأما الذين شقوا ففي النار مقدرين الخلود إلا المرحوم الذي شاء الله تعالى أن لا يستقر مخلدًا فيفيد أن لا يستقر فيها مطلقًا أو يستقر غير مخلد، وأحوال العصاة على هذا النهج كما علم من النصوص، وفي ذلك إيذان بأن إخراجهم بمحض رحمة الله تعالى فينطبق عليه قوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ} وتعقب بأنه لا يجري في المبال إلا بتأويل الإمام وقد مر ما فيه، أو بجعله من أصل الحكم ويقتضي أن لا يدخلوا أصلًا، وإذا أول بمقدرين فلو جعل استثناء من مقدرين لم يتجه، ومن قوله تعالى: {فِى النار} فلا يكون لهم دخول أصلًا، ودلالة: {مَا} لإبامه إما على التفخيم أو التحقير ولا يطابق المقام، وقيل: وقيل، والأوجه أن يقال: إن الاستثناء في الموضعين مبني على الفرض والتقدير فمعنى إلا ما شاء إن شاء لو فرض أن الله تعالى شاء إخراجهم من النار أو الجنة في زمان لكان مستثنى من مدة خلودهم لكن ذلك لا يقع لدلالة القواطع على عدم وقوعه، وهذا كما قال الطيبي من أسلوب: {حتى يَلِجَ الجمل في سَمّ الخياط} [الأعراف: 40]: {وَلاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الاولى} [الدخان: 56] وذكر أنه وقف على نص من قبل الزجاج يوافق ذلك.
وفي المعالم عن الفراء أيضًا ما يوافقه حيث نقل عنه أنه قال: هذا استثناء استثناه سبحانه ولا يفعله كقولك: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وعزيمتك أن تضربه، وحذو القذة بالقذة ما نقله قبل عن بعضهم أن المعنى لو شاء لأخرجهم لكنه لا يشاء لأنه سبحانه حكم لهم بالخلود.
وفي البحر عن ابن عطية نقلًا عن بعض ما هو بمعناه أيضًا حيث قال: وأما قوله تعالى: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} فقيل فيه: إنه على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام فهو على نحو قوله جل وعلا: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَاء الله ءامِنِينَ} [الفتح: 27] استثناء في واجب، وهذا الاستثناء في حكم الشرط كأنه قيل: إن شارء ربك فليس يحتاج أن يوصف بمتصل ولا منقطع، وممن ذهب إلى ذلك أيضًا الفاضل ميرزاجان الشيرازي في تعليقاته على تفسير القاضي ونص على أنه من قبيل التعليق بالمحال حتى يثبت محالية المعلق ويكون كدعوى الشيء مع بينة، وهو أحد الأوجه التي ذكرها السيد المرتضى في درره، وتفسير الاستثناء الأول بالشرط أخرجه ابن مردويه عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك الجلال السيوطي في الدر المنثور، ولعل النكتة في هذا الاستثناء على ما قيل: إرشاد العبد إلى تفويض الأمور إليه جل شأنه وإعلامهم بأنها منوطة بمشيئته جل وعلا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لاحق لأحد عليه ولا يجب عليه شيء كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ}.
وذكر بعض الأفاضل أن فائدته دفع توهم كون الخلود أمرًا واجبًا عليه تعالى لا يمكن له سبحانه نقضه كما ذهب إليه المعتزلة حيث أخبر به جل وعلا مؤكدًا، والمراد بالذين شقوا على هذا الوجه الكفار فقط فانهم الأحقاء بهذا الاسم على الحقيقة وبالذين سعدوا المؤمنون كافة مطيعهم وعاصيهم فيكون التقسيم في قوله سبحانه: {فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] للانفصال الحقيقي ولا ينافيه قوله تعالى: {فَفِى الجنة} [هود: 108] لأنه يصدق بالدخول في الجملة.
وفي الكشف بعد نقل أن الاستثناء من باب: {حتى يَلِجَ الجمل} [الأعراف: 40] فإن قلت: فقد حصل مغزي الزمخشري من خلود الفساق، قلت: لا كذلك لأنهم داخلون في السعداء، والآية تقتضي خلود السعيد وذلك بعد دخوله فيها لا محالة، ولا تنفي كينونته في النار قبل دخوله في الجنة فإن اللفظ لا يقتضي أن يدخلوا أعني السعداء كلهم في الجنة معا كيف والقاطع يدل على دخولهم أولا فأولا عى حسب مراتبهم انتهى فتأمل، فإن الآية من المعضلات.
وإنما لم يضمر في: {إِنَّ رَبَّكَ} إلخ كما هو الظاهر لتربية المهابة وزيادة التقرير، واللام في: {لَّمًّا} قيل: للتقوية أي فعال ما يريده سبحانه لا يتعاصى عليه شيء بوجه من الوجوه.
{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} الكلام فيه ما علمت خلا أنه لم يذكر هاهنا أن لهم بهجة وسرورًا كما ذكر في أهل النار: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106] لأن المقام مقام التحذير والإنذار، و: {سُعِدُواْ} بالبناء للمفعول قراءة حمزة والكسائي وحفص، ونسبت إلى ابن مسعود وطلحة بن مصرف وابن وثاب والأعمس، وقرأ جمهور السبعة: {سُعِدُواْ} بالبناء للفاعل، واختار ذلك علي بن سليمان، وكان يقول: عجبًا من الكسائي كيف قرأ: {سُعِدُواْ} مع علمه بالعربية، وهذا عجيب منه فإنه ما قرأ إلا ما صح عنده ولم يقرأ بالرأي ولم يتفرد بذلك، وروي عنه أنه احتج لذلك بقولهم: مسعود، وتعقب بأنه لا حجة فيه لاحتمال أنه كان مسعود فيه، وذكر أن الفراء حكى أن هذيلًا تقول: سعده الله تعالى بمعنى أسعده، وقال الجوهري: سعد بالكسر فهو سعيد مثل قولهم: سلم فهو سليم، وسعد فهو مسعود، وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري: ورد سعده الله تعالى فهو مسعود، وأسعده الله تعالى فهو مسعد، وما ألطف الإشارة في شقوا وسعدوا على قراءة البناء للفاعل في الأول والبناء للمفعول في الثاني، فمن وجد ذلك فليحمد الله تعالى.
ومن لم يجد فلا يلومنّ إلا نفسه: {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي غير مقطوع عنهم ولا مخترم، ومصدره الجذ، وقد جاء جذذت وجددت بالذال المعجمة والدال كما قال ابن قتيبة، وبالمعجمة أكثر، ونصب: {عطاءًا} على المصدرية من معنى الجملة لأن قوله سبحانه: {سُعِدُواْ فَفِى الجنة خالدين فِيهَا} يقتضي إعذاءًا وإنعامًا فكأنهم قيل: يعطيهم إعطاءًا وهو إما اسم مصدر هو الاعطاء، أو مصدر بحذف الزوائد كقوله تعالى: {أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتًا} [نوح: 17]، وقيل: هو نصب على الحالية من المفعول المقدر للمشيئة، أو تمييز، فإن نسبة مشيئة الخروج إلى الله تعالى تحتمل أن تكون على جهة عطاء مجذوذ، وعلى جهة عطاء غير مجذوذ فهو رافع للإبهام عن النسبة، ولعل النصب على المصدرية أولى وكأنه جيء بذلك اعتناءًا ومبالغة في التأبيد ودفعًا لما يتوهم من ظاهر الاستثناء من الانقطاع، وقيل: إن ذلك لبيان أن ثواب أهل الجنة وهو إما نفس الدخول.
أو ما هو كاللازم البين له لا ينقطع فيعلم منه أن الاستثناء ليس للدلالة على الانقطاع كما في العقاب بل للدلالة على ترادف نعم ورضوان من الله تعالى؛ أو لبيان النقص من جانب المبدأ ولهذا فرق في النظم بين التأبيد من حيث تمم الأول بقوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] للدلالة على أنه ينعم بعض من يعذبه ويبقى غيره كما يشاء ويختار؛ والثاني بقوله تعالى: {عطاءًا} إلخ بيانًا لأن إحسانه لا ينقطع، ومن الناس من تمسك بصدر الآية أنه لا يبقى في النار أحد ولم يقل بذلك في الجنة، وتقوى مطلبه ذاك بما أخرجه ابن المنذر عن الحسن قال: قال عمر: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه، وبما أخرج إسحاق بن راهويه عن أبي هريرة قال: سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، وقرأ {وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الذين شَقُواْ} [هود: 106] الآية، وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ عن إبراهيم قال: ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية: {خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} [هود: 801] قال: وقال ابن مسعود: ليأتين عليها زمان تصفق فيه أبوابها، وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: جهنم أسرع الدارين عمرانًا وأسرعهما خرابًا إلى غير ذلك من الآثار.
وقد نص ابن الجوزي على وضع بعضها كخبر عن عبد الله بن عمرو بن العاص بأتي على جهنم يوم ما فيها من ابن آدم أحد تصفق أبوابها كأنها أبواب الموحدين، وأول البعض بعضها؛ ومر شيى من الكلام في ذلك، وأنت تعلم أن خلود الكفار مما أجمع عليه المسلمون ولا عبرة بالمخالف، والقواطع أكثر من أتي تحصى، ولا يقاوم واحدًا منها كثير من هذه الأخبار، ولا دليل في الآية على ما يقوله المخالف لما علمته من الوجوه فيها ولا حاجة إلى دعوى النسخ فيها كما روي عن السدى بل لا يكاد يصح القول بالنسخ ي مثل ذلك، هذا وقد ذكر أن في الآية صيغة الجمع مع التفريق والتقسيم أما الجمع ففي قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [هود: 105] فإن النفس كما تقرر عامة لكونها نكرة في سياق النفي، وأما التفريق ففي قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] وأما التقسيم ففي قوله سبحانه: {فَأَمَّا الذين شَقُواْ} [هود: 106] إلخ ونظيرها في ذلك قول الشريف القيرواني:
لمختلفي الحاجات جمع ببابه ** فهذا له فن وهذا له فن

فللخامل العليا وللمعدم الغني ** وللمذنب العتبي وللخائف الأمن

ومن هنا يعلم حال الفاءين فاء: {فَمِنْهُمْ} وفاء: {فَأَمَّا} إلخ، قيل: وفي العدول عن فأما الشقى ففي النار خالدًا فيها إلخ وأما السعيد أو المسعود ففي الجنة خالدًا فيها إلخ إلى ما في النظم الجليل إشارة إلى سبق هذه الشقاوة والسعادة وأن ذلك أمر قد فرغ منه كما يدل عليه ما أخرجه أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا: لا يا رسول الله أما تخبرنا؟ فقال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وآبائهم وقبائلهم أجلهم على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدًا، ثم قال للذي في شماله: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وآبائهم وقبائلهم ثم أجملهم على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدًا، فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه؟ فقال: سدّدوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وأن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل، ثم قال صلى الله عليه وسلم بيده فنبذهما وقال: فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير وجاء في حديث الشقي من شقى في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه وحمل ذلك بعضهم على ظهور الأمر لملك الموكل بالنطفة وإلا فالأمر قبل ذلك، وبعضهم فسر الأمر بالثبوت العلمي الذي يظهر المعلوم منه إلى هذا الوجود الخارجي وهو ضرب من التأويل كما لا يخفى، ولا يأبى هذه الإشارة عند التأمل ما أخرجه الترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن مردويه وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: لما نزلت: {فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] قلت: يا رسول الله فعلام نعمل على شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال: بل على شيء قد فرغ وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له، وقيل: كان الظاهر هنا التعبير بالمضارع إلا أنه عبر بالماضي إشارة إلى تحقق الوقوع وأتى بالموصول جمعًا إيذانًا بأن المراد بشقى وسعيد فريق شقي وفريق سعيد، ولم يقل أشقياء وسعداء لأن الإفراد أوفق بما قبل، وقيل: الإفراد أولا للاشارة إلى أن كل فريق من حيث اتصافه بالشقاوة أو السعادة كشيء واحد، وجمع ثانيًا لما أن دخول كل فريق في الجنة والنار ليس جملة واحدة بل جمعًا جمعًا وزمرة وله شواهد من الكتاب والسنة.
{فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ} أي في شك، والفاء لترتيب النهي على ما قص من القصص وبين في تضاعيفها من العواقب الدنيوية والأخروية أي فلاتك في شك بعد أن بين لك ما بين: {مّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء} أي من عبادة هؤلاء المشركين في أنها ضلال مؤد إلى مثل ما حل بمن قبلهم ممن قصصت عليك سوء عاقبة عبادتهم فمن ابتدائية، وجوز أن تكون بمعنى في، و: {مَا} مصذرية، وجوز أن تكون موصولة وفي الكلام مضاف محذوف أي من حال ما يعبدونه من أنه لا يضر ولا ينفع إذ لا معنى للمرية في أنفسهم: {مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءابَاؤهُم مّن قَبْلُ} استئناف في بياني وقع تعليلًا في المعنى للنهي عن المرية، والاستثناء إما من مصدر مقدر أو مفعول محدوف أي هم وآباؤهم سواء في الشرك ما يعبدون عبادة إلا كعبادة آبائهم.
أو ما يعبدون شيئًا إلا مثل الذي عبدون من الأوثان وقد بلغك ما لحق آباؤهم بسبب ذلك فيلحقهم مثله لأنه التماثل في الأسباب يقتضي التماثل في المسببات، ومعنى: {كَمَا يَعْبُدُ} كما كان عبد فحذف لدلالة: {قَبْلُ} عليه، وكأن اختيار هذا للإشارة إلى أن ذلك كان عادة مستمرة لهم: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ} يعني هؤلاء الكفرة: {نَصِيبَهُمْ} حظهم من العذاب كما وفينا آباءهم حظوظهم.
أو من الرزق فيكون عذرًا لتأخر العذاب عنهم مع قيام ما يوجبه، وفي هذا من الإشارة إلى مزيد فضل الله تعالى وكرمه ما لا يخفى حيث لم يقطع رزقهم مع ما هم عليه من عبادة غيره، وفي التعبير بالنصيب على الأول تهكم لأنه ما يطلب ويراد والعذاب بمعزل عن ذلك، وتفسيره بما ذكر مروى عن ابن زيد، وبالرزق عن أبي العالية، وعن ابن عباس أن المراد به ما قدر من خير أو شر، وقرأ ابن محيصن: {لَمُوَفُّوهُمْ} مخففًا من أوفى: {غَيْرَ مَنقُوصٍ} حال مؤكدة من النصيب كقوله تعالى: {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25] وفائدته دفع توهم التجوز، وإلى هذا ذهب العلامة الطيبي، وقال: إنه الحق.
وفي الكشاف أنه جيء بهذه الحال عن النصيب الموفى لأنه يجوز أن يوفى وهو ناقص ويوفى وهو كامل ألا تراك تقول: وفيته شطر حقه وثلث حقه وحقه كاملا وناقصا انتهى، وتعقبه أبو حيان بأن هذه مغلطة لأنه إذا قيل: وفيته شطر حقه فالتوفية إنما وقعت في الشطر وكذا ثلث حقه، والمعنى أعطيته الشطر أو الثلث كاملًا لم أنقصهمنه شيئًا، وأما قولك: وفيته حقه كاملًا فالحال فيه مؤكدة لأن التوفية تقتضي الإكمال، وأما قولك: وفيته حقه ناقصًا فغير صحيح للمنافاة انتهى.
وقال ابن المنير: إنه وهم لأن التوفية تقتضي عدم نقصان الموفى كاملًا كان أو بعضًا فقولك: وفيته نصف حقه يستلزم عدم نقصان النصف الموفى، فالسؤال عن وجه انتصاب هذه الحال قائم بعد، والأوجه أن يقال: استعملت التوفية بمعنى الإعطاء كما استعمل الووفي بمعنى الأخذ، ومن قال: أعطيت فلانًا حقه كان جديرًا أن يؤكده بقوله: {غَيْرَ مَنقُوصٍ} انتهى، وفي الكشف أقول في تعليق التوفية بالنصف مع أن الكل حقه ما يدل على مطلوبه إذ لا فرق بين قولك: نصف حقه وحقه منصفًا، فجاز وفيته نصيبه منصفًا ونصيبه ناقصًا، ويحسن فائدة التأكيد ويظهر أن الواهم من هو فتأمل. اهـ.

.قال ابن عجيبة:

{يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} قلت: {يوم يأتي}: العامل في الظرف: «لا تكلم»، أو: اذكر، مضمر. والضمير في «يأتي»: يعود على اليوم. وقال الزمخشري: يعود على «الله»؛ لعود الضمير عليه في قوله: {إلا بإذنه}، وضمير «منهم» على أهل الموقف المفهوم من قوله: {لا تكلم نفس}.
يقول الحق جل جلاله: {يوم يأتي} ذلك اليوم المشهود، وهو: يوم الجزاء: {لا تكلم}؛ لا تتكلم: {نفس} بما ينفع وينجي في جواب أو شفاعة: {إلا بإذنه} تعالى، وهذا كقوله: {لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحما} [النبأ: 38]، وهذا موقف، وقوله: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35 38]، في موقف آخر. والمأذون فيه هي الجوابات الحقية، أو الشفاعات المرضية، والممنوع منه هي الأعذار الباطلة.
ثم قسّم أهل الموقف، فقال: {فمنهم شقي} وجبت له النار بمقتضى الوعيد؛ لكفره وعصيانه: {و} منهم: {سعيد} وجبت له الجنة بمقتضى الوعد؛ لإيمانه وطاعته: {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق}، الزفير: إخراج النفس، والشهيق: رده. ويستعملان في أول النهيق وآخره. أو الزفير: صوت المحزون، والشهيق: صوت الباكي. أو الزفير من الحلق، والشهيق من الصدر. والمراد بهما: الدلالة على شدة الكرب والغم، وتشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه، وانحصرت فيه روحه، أو تشبيه حالهم بأصوات الحمير. قاله البيضاوي.
{خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض} أي سماوات النار وأرضها. وهي دائمة أبدًا، ويدل عليه قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات} [إبراهيم: 48]، أو يكون عبارة عن التأبيد: كقوله العرب: ما لاح كوكب وما ناح الحمام، وشبه ذلك بما يقصد به الدوام، وهذا أصح.