فصل: قال المظهري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {إلا ما شاء ربك}، للناس هنا كلام واختلاف. وأحسن ما قيل فيه؛ ما ذكره البقاعي، قال: والذي ظهر لي والله أعلم أنه لما تكرر الجزم بالخلود في الدارين، وأن الشرك لا يغفر، والإيمان موجب للجنة، فكان ربما يُظن أنه لا يمكن غير ذلك، كما ظنه المعتزلة، لاسيما إذا تأمل القطع في مثل قوله: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]، مع تقييد غيره بالمشيئة في قوله: {وَيَغفِر مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} جاء هذا الاستثناء معلمًا أن الأمر فيه إلى الله كغيره من الأمور، له أن يفعل في كلها ما يشاء، وإن جُزم القوم فيه، لكنه لا يقع غير ما أخبره به، وهذا كما تقول: اسكن هذه الدار عمرك ألا ما شاء زيد، وقد لا يشاء زيد شيئًا. فكما أن التعليق بدوام السماوات والأرض غير مراد الظاهر، كذلك الاستثناء فلا يشاء الله قطع الخلود لأحد من الفريقين، وسوقه هكذا أدل على القدرة وأعظم في تقليد المنة.
وقال الجلال السيوطي، في «البدور السافرة في أمور الآخرة»: اعلم أن للعلماء في هذا الاستثناء أقوالًا، أشبهها بالصواب: أنه ليس باستثناء، وإنما «إلا». بمعنى «سوى» كما تقول: لي عليك ألف درهم إلا ألفان، التي لي عليك، أي: سوى الألفين، والمعنى: خالدين فيها قدر مدة السماوات والأرض في الدنيا سوى ما شاء ربك من الزيادة عليها، فلا منتهى له. وذلك عبارة عن الخلود. والنكتة في تقديم ذكر مدة السماوات والأرض: التقريب إلى الأذهان بذكر المعهود أولًا. ثم أردفه بما لا إحاطة للدهر به، والجري على عادة العرب في قولهم في الإخبار عن دوام الشيء وتأبيده: لا آتيك ما دامت السماوات والأرض. اهـ ومثله لابن عطية. قال: ويؤيده هذا التأويل قوله بعدُ: {عطاء غير مَجذُوذ} أي: غير مقطوع، وهذا قول الفراء، فإنه يقدر الاستثناء المنقطع بسوى، وسيبويه بلكن. اهـ وقال الورتجبي: قال ابن عطاء: {إلا ما شاء ربك} من الزوائد لأهل الجنة من الثواب. ومن الزوائد لأهل النار من العقاب. اهـ: {إن ربك فعال لما يريد} من غير حجر ولا اعتراض.
{وأما الذين سُعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك} كما تقدم: {عطاء غير مَجْذُوذٍ}: غير مقطوع، وهو تصريح بأن الثواب غير مقطوع، وتنبيه على أن المراد من الاستثناء تعليم الأدب فقط. والله تعالى أعلم.
الإشارة: السعادة على قسمين: سعادة الظاهر، وسعادة الباطن. والشقاو ة كذلك. أما سعادة الظاهر ففي الدنيا بالراحة من التعب، وفي الآخرة بالنجاة من العذاب. وأما سعادة الباطن ففي الدنيا براحة القلب من كد الهموم والأحزان، واليقين والاطمئنان، في حضرة الشهود والعيان، وفي الآخرة بدوام النظر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر. وشقاوة الظاهر باتصال الكد والتعب. وشقاوة الباطن بالبعد عن الله، وافتراقه عن حضرة مولاه.
قال في نوادر الأصول: الشقاوة: فراق العبد من الله، والسعادة اندساسه إليه. اهـ وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه في حزبه الكبير: والسعيد من أغنيته عن السؤال منك، والشقي حقًا من حرمته مع كثرة السؤال لك.
قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي في حاشيته عليه: ومدار السعادة: الجمع على الله والغيبة عمن سواه، فيفنى العبد عن وجوده، ويبقى بربه، فيشغله استغراقه في شهوده عن الشعور بغيريته، وينمحي عنه أمل شيء يرجى، أو خوف شيء يُتقى، فليس له عن سوى الحق إخبار، ولا مع غيره قرار. وعندما حل بهذه الحضرة، وظفر بقُرة عينه، وحياة روحه، وسر حياته، لا يتصور منه سُول، ولا فوات مأمول، «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدته كانت الأكوان معك»، «اشْتَاقَتْ الجَنَّةُ إِلى عَليِّ وعَمَّارٍ وسَلمَانَ وصهيب وبلال» كما في الأثر.
نعم، إن رد إليه تصور منه الدعاء على وجه العبودية، وأداء الأمر وإظهار الفاقة، لا على وجه الاقتضاء والسببية. «جل حكم الأزل أن ينضاف إلى الأسباب والعلل».
ثم قال: وعلى ما تقرر في السعادة، فالشقاوة: احتجاب العبد بوجوده عن شهوده، فلا يَنفَكُّ عن أمل، ولا عن خوف عطب. فيستحثه الطبع للسؤال جلبًا أو دفعًا. وهو في ذلك في شقاء، سواء أعطى أو منع؛ لفقده قرةَ عينه وراحة قلبه، لأسْره في طبعه، ومكابدة أمره وهلعه. كما قال تعالى: {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعًا إِلاَّ المصلين} [المعارج: 19 22]، فلم يستثن من كد الطبع ومكابدته غير أهل الصلاة الدائمة، وهم أهل الوجهة لله، المواجَهين بعناية الله، المتحققين بذكر الله. وقد وَرَدَ: «هُمُ القَوْم لاَ يَشْفَى جَلِيسُهُم» فضلًا عنهم. وعلى الجملة: فالمراد بالسعادة والشقاوة في كلامه أي الشاذلي الباطنة لا الظاهرة، والقلبية لا القالبية. وإن كان قد تطلق على ذلك أيضًا، لكن لكل مقام مقال. وقد قال تعالى: {فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} [طه: 123].
قال في نوادر الأصول: تَابعُ القرآن قد أجير من شقاء العيش في الدنيا؛ لراحة قلبه من غموم الدنيا وظلماتها، وسَيره في الأمور بقلبه في راحة؛ لأنه منشرحُ الصدر واسعه، وبدنه في راحة؛ لأنه ميسر عليه أمور الدنيا، تُهيأ له في يسر؛ لضمان الله، واكتنافه له. وكذا يجار في الآخرة من شقاء العيش في سجون النيران. أعاذنا الله من ذلك. اهـ.

.قال المظهري:

{يَوْمَ يَأْتِ} أي الجزاء أو اليوم على أن اليوم بمعنى حين أو اللّه عز وجل كقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ}- {وجاء ربّك} قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة يأت بحذف الياء اجتزاء عنها بالكسرة ونافع وأبو عمرو والكسائي بالياء أصلا فقط وابن كثير في الحالين- والظرف متعلق باذكر أو بانتهاء المحذوف أو بقوله: {لا تَكَلَّمُ} بحذف احدى التاءين أي لا تتكلم {نَفْسٌ} ما ينفع وينجى من جواب أو شفاعة {إِلَّا بِإِذْنِهِ} أي الا اذن اللّه نظيره لا يتكلّمون الّا من اذن له الرّحمن {فَمِنْهُمْ} الضمير لاهل الموقف دل عليهم قوله: {لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ} أو للناس في قوله تعالى: {يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ... شَقِيٌّ} كتب عليه الشقاوة {وَسَعِيدٌ} (105) كتب له السعادة عن على بن أبى طالب رضي الله عنه قال خرجنا على جنازة- فبينا نحن بالبقيع إذ خرج علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبيده مخصرة- فجاء ثم جلس فنكت بها الأرض ساعة ثم قال ما من نفس منفوسة الا قد كتب مكانها من الجنة أو النار والا قد كتب شقى وسعيد- قال فقال رجل ألا نتكل على كتابنا يا رسول اللّه وندع العمل- قال لا ولكن اعملوا فكل ميسر فاما أهل الشقاء فيسروا لعمل أهل الشقاوة واما أهل السعادة فيسروا لعمل أهل السعادة قال ثم تلا {فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى} الآية رواه البغوي وفي الصحيحين نحوه.
{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} (106) قال ابن عباس الزفير الصوت الشديد والشهيق الصوت الضعيف- وقال الضحاك ومقاتل الزفير أول نهيق الحمار والشهيق آخره إذا ردّده في جوفه- وكذا في القاموس- وقال أبو العالية الزفير في الحلق والشهيق في الصدر- وقال البيضاوي الزفير إخراج النفس والشهيق رده واستعمالهما في أول النهيق وآخره- وفي القاموس أيضا زفر يزفر زفرا وزفيرا أخرج نفسه بعد مده إياه والجملة في موضع الحال والعامل فيها الظرف المستقر.
{خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ} قال الضحاك أي ما دامت سموات الجنة والنار وارضهما- وكلما علاك سماء وكلما استقر عليه قدمك ارض- ولا شك ان اجتماع الناس المذكور فيما سبق يدل على ان لهم مظل ومقل- وقال أهل المعاني هذه عبارة عن التأبيد على عادة العرب يقولون لا يأتيك ما دامت السموات والأرض يعنون ابدا {إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ} ظاهر هذه الآية يقتضى انقطاع استقرارهم في النار- ويؤيده ما روى عن ابن مسعود قال ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا- وعن أبى هريرة مثله وبه قال من الصوفية الشيخ محى الدين ابن العربي- لكن هذا القول مردود بالإجماع والنصوص قال اللّه تعالى: {فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ} أخرج الطبراني وأبو نعيم وابن مردوية عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو قيل لأهل النار إنكم ماكثون عدد كل حصاة لفرحوا بها- ولو قيل لاهل الجنة انكم ماكثون عدد كل حصاة لحزنوا ولكن جعل لهم الابد- وأخرج الطبراني في الكبير والحاكم وصححه عن معاذ ابن جبل ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعثه إلى اليمن فلما قدم عليهم قال يا أيها الناس انى رسول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليكم يخبركم ان المردّ إلى اللّه إلى جنة أو نار خلود بلا موت واقامة بلا ظعن في أجساد لا تموت- وأخرج الشيخان عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يدخل أهل الجنة الجنة واهل النار النار ثم يقوم مؤذن بينهم يا أهل النار لا موت ويا أهل الجنة لا موت كل خالد فيما هو فيه- وأخرج البخاري عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقال يا أهل الجنة خلود ولا موت ويا أهل النار خلود ولا موت- وحديث ذبح الموت والنداء بقوله يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت- أخرجه الشيخان عن ابن عمرو أبى سعيد والحاكم وصححه عن أبى هريرة- قال البغوي معنى قول ابن مسعود وابى هريرة ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد عند أهل السنة ان ثبت ان لا يبقى فيها أحد من أهل الايمان- واما مواضع الكفار فممتلية أبدا وقد ذكرت في تفسير قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيها أَحْقابًا} انها في حق أهل الأهواء من أهل القبلة وعند اكثر المفسّرين المراد بالاحقاب احقاب غير متناهية- ولما كان الإجماع على خلود الكفار في النار اختلفوا في تفسير هذه الآية وتأويل هذين الاستثنائين- والمختار عندى ان الاستثناء في هذه الآية محمول على انهم يخرجون من الجحيم إلى الحميم فـ {يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} وهكذا ابدا- قال البغوي في تفسير قوله تعالى: {يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} انهم يسعون بين الحميم وبين الجحيم- فإذا استغاثوا من النار جعل عذابهم الحميم الانى الّذي صار كالمهل قال اللّه تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ} أو من النار إلى الزمهرير روى الشيخان عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه قال اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضى بعضا فاذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف- فاشد ما يجدون من الحر من حرها وأشد ما يجدون من الزمهرير من زمهريرها وكذا أخرج البزار عن أبى سعيد وأخرج أبو سعيد مثله من حديث انس- وقال بعض المحققين الاستثناء في أهل الشقاء يرجع إلى قوم مؤمنين يدخلهم اللّه النار بذنوب اقترفوها ثم يخرجهم منها- عن انس ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ليصيبن أقواما سفع من النار بذنوب أصابوها عقوبة- ثم يدخلهم اللّه الجنة بفضل رحمته فيقال لهم الجهنميون رواه البخاري- وعن عمران بن حصين عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يخرج قوم من النار بشفاعة محمّد صلى اللّه عليه وسلم فيدخلون الجنة ويسمون الجهنميون رواه البخاري ونحوه عن المغيرة بن شعبة عند الطبراني وزاد فيدعون اللّه ان يمحو عنهم الاسم فيمحو اللّه عنهم- وعن جابر بن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان ناسا من أمتي يعذبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء اللّه ان يكونوا- ثم يعيرهم أهل الشرك ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم- فلا يبقى موحد الا أخرجه اللّه- ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ} وقد روى معناه في حديث طويل عن أبى موسى الطبراني والبيهقي وابن أبى حاتم- وعن أبى سعيد الطبراني- وفي دخول المؤمنين المذنبين النار وخروجهم منها أحاديث بلغت حد التواتر- قال البيضاوي فساق المؤمنين يخرجون من النار وذلك كاف فى صحة الاستثناء لان زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض وهم المراد بالاستثناء الثاني فانهم يفارقون عن الجنة ايام عذابهم فان التأبيد من مبدا معين ينتقض باعتبار الابتداء كما ينتقض باعتبار الانتهاء وهؤلاء وان شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بايمانهم- ولا يقال فعلى هذا لم يكن قوله تعالى: {فمنهم شقى وسعيد} تقسيما صحيحا لان من شرطه ان يكون صفة كل قسم منتفية عن قسيمه- لان ذلك الشرط انما يكون في الانفصال الحقيقي أو مانع الجمع والمراد هاهنا منع الخلوّ- والمعنى ان أهل الموقف لا يخرجون عن القسمين ولا يخرج حالهم عن الشقاوة والسعادة وذلك لا يمنع اجتماع الامرين في شخص باعتبارين انتهى- وقيل ما شاء هاهنا بمعنى من شاء والمراد بهم أيضا عصاة المؤمنين في الاستثنائين- ومرجع هذا القول إلى القول الثاني وقيل المستثنى في الفريقين زمان توقفهم في الموقف للحساب لان الظاهر يقتضى ان يكونوا في النار أو في الجنة حين يأتى اليوم- أو مدة لبثهم في الدنيا والبرزخ ان كان الحكم مطلقا غير مقيد باليوم- وعلى هذا التأويل يحتمل ان يكون الاستثناء من الخلود على ما عرفت في كلام البيضاوي المذكور سابقا- وقيل هو استثناء من قوله تعالى: {لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} وقال السيوطي في البدور السافرة أشبه الأقوال بالصواب انه ليس باستثناء وانما الا بمعنى سوى كما تقول لك علىّ الف درهم الا الألفان القديمان أي سوى الألفين- والمعنى خالدين فيها مدة دوام السموات والأرض في الدنيا سوى ما شاء ربك من الزيادة عليها مما لا منتهى له- وذلك عبارة عن الخلود- والنكتة في تقديم ذكر مدة السموات والأرض التقريب إلى الأذهان بذكر المعهود اولا- ثم اردافه بما لا احاطة للذهن به- وقيل الا بمعنى الواو يعنى ما دامت السموات والأرض في الدنيا وما شاء ربك من الخلود كقوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} يعنى ولا للذين ظلموا- وقال الفراء هذا استثناء استثناه ولا يفعله كقولك واللّه اضربنك الا ان ارى غير ذلك وعزيمتك ان تضربه- فالمعنى الا ما شاء ربك يعنى لو شاء ربك لاخرجهم منها ولكنه لم يشأ- وقال قتادة اللّه اعلم بثنياه {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107)}
{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا} قرأ حفص وحمزة وخلف- أبو محمّد والكسائي بضم السين على البناء للمفعول من سعد اللّه بمعنى أسعده- والباقون بالفتح على البناء للفاعل فهو لازم ومتعد {فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ} قد ذكرت الأقوال في هذا الاستثناء فيما سبق- والمختار عندى ان أهل الجنة ينعمون في بعض احيانهم بما هو أعلى من الجنة- وذلك هو الاستغراق في رؤية اللّه تعالى- وكمال الاتصال بجنابه بلا كيف قال المفسرون في تفسير قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ} ان تقديم الجار والمجرور يقتضى الحصر ويفيد انهم إذا راوا ربهم يستغرقون في رؤيته تعالى لا ينظرون حينئذ إلى غيره- وعن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نور فرفعوا رؤسهم فإذا الرب تبارك وتعالى قد اشرف عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة- وذلك قوله تعالى: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} قال فينظر إليهم وينظرون إليه- فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتّى يحجب عنهم ويبقى نوره وبركته في ديارهم- رواه ابن ماجة وابن أبى الدنيا والدار قطنى- وقال المجدد للالف الثاني رضي الله عنه في المكتوب المائة من المجلد الثالث في تحقيق سر اشتغال قلب يعقوب بمحبة يوسف عليهما السلام ان جنة كل رجل عبارة عن ظهور اسم من اسماء اللّه تعالى الّذي هو مبدا لتعيّن ذلك الرجل- وان ذلك الاسم يتجلى بصورة الأشجار والأنهار والقصور والحور والغلمان- واستحكم هذا المكشوف بقوله صلى اللّه عليه وسلم ان الجنة طيبة التربة عذبة الماء وانها قيعان وان غراسها هذه يعنى سبحان اللّه والحمد لله ولا اله الا اللّه واللّه اكبر- ثم قال المجدد رضي الله عنه ان تلك الأشجار والأنهار قد تصير في حين من الأحيان على هيئة الاجرام الزجاجية- فتصير وسيلة إلى رؤية اللّه سبحانه غير متكيفة ثم تعود إلى حالها الّذي كانت عليه- فيشغل المؤمن بنفسها وهكذا إلى ابد الآبدين- وقد ذكرنا زيادة الكلام في المقام في تفسير سورة القيامة في شرح اية الرؤية عَطاءً منصوب على انه مصدر مؤكّد يعنى اعطوا عطاء- أو على الحال من الجنة- قلت ويمكن ان يكون منصوبا على انه مفعول به لقوله تعالى: {إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ} يعنى هم في الجنة الا وقت مشية ربك {عطاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (108) أي غير مقطوع يعنى الوصال والرؤية بلا حجاب- ووجه تعبير ذلك بعطاء غير مجذوذ مع ان كل نعيم في الجنة عطاء غير مجذوذ- ان ذاته تعالى موجود متاصل بنفسه وغيره موجود بوجود ظل وجوده- فالموجود بنفسه هو اللّه وحده و{كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}- كالمستعير ثوب غيره عار بالنسبة إلى المالك- فعطاؤه تعالى اتصالا بذاته كانّه هو المتأصل الغير المنقطع وما عداه من النعيم مجذوذ وجوده في نفسه بالنسبة إليه واللّه اعلم- قال ابن زيد أخبرنا اللّه بالذي يشاء لاهل الجنة فقال: {عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} ولم يخبرنا بالذي يشأ لاهل النار بل قال هناك {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ}
{فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ} شك بعد ما أخبرناك من مال الناس {مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ} من عبادة هؤلاء المشركين في انها ضلال مؤد إلى مثل ما حل بمن قبلهم ممن قصصته عليك سوء عبادتهم- أو من حال ما يعبدونه في انه لا يضر ولا ينفع {ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما كان يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} حذف كان لدلالة قبل عليه- والجملة مستأنفة معناه تعليل النهى عن المرية في انهم واباؤهم سواء في الشرك أي ما يعبدون عبادة الا كعبادة ابائهم- أو ما يعبدون شيئا الا مثل ما عبدوه من الأوثان- وقد بلغك ما لحق آباءهم فسيلحقهم مثله- لان التماثل في الأسباب يقتضى التماثل في المسببات {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ} من العذاب كابائهم أو من الرزق فيكون عذر التأخير العذاب عنهم مع قيام موجبه.
{غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)} من النصيب تأكيد للتوفية- فانك قد تقول وفيته حقه وتريد به وفاء بعضه ولو مجازا {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ} التورية {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} فامن به قوم وكفر به قوم كما اختلف هؤلاء في القرآن تسلية للنبى صلى اللّه عليه وسلم {وَلَوْلا كَلِمَةٌ} الانظار إلى يوم القيامة {سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي بين المحق والمبطل بانزال العذاب على المبطل ليميز به عن المحق {وَإِنَّهُمْ} يعنى كفار مكة {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} أي من القرآن أو من العذاب {مُرِيبٍ} (110) موقع في الريب.
وَإِنَّ قرأ نافع وابن كثير وأبو بكر مخففة من الثقيلة عاملة اعتبارا للاصل والباقون مشددة كُلًّا التنوين بدل من المضاف إليه يعنى ان كل واحد من المختلفين المؤمنين منهم والكافرين لَمَّا قرأ عاصم وابن عامر وحمزة هاهنا وفي يس لّمّا جميع لّدينا- وفي الطارق لّمّا عليها حافظ بتشديد الميم- والباقون بتخفيفها- فمن قراها بالتخفيف فلام الاولى موطية للقسم والثانية للتأكيد أو بالعكس- وما مزيدة بينهما للفصل- وقيل ما بمعنى من كما في قوله تعالى: {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ} أي من طاب لكم- والمعنى واللّه {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} أو واللّه لمن ليوفينهم {رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ} أي جزاء أعمالهم- ومن قراها بالتشديد فاصله لمن ما- فقلبت النون ميما للادغام فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت اولا عن- والمعنى لمن ليوفيهم وما مزيدة- وقيل انه من لممت لمّا أي جمعته- ثم وقف على الالف عوض التنوين فصار لمّا- ثم اجرى الوصل مجرى الوقف- وجاز ان يكون مثل الدعوى والبشرى وغيرها من المصادر الّتي فيها الف التأنيث- وقرا الزهري {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا} بالتنوين وهو يؤيد هذا القول- والمعنى وان كلا جميعا- وقال صاحب الإيجاز لما فيه معنى الظرف وفي الكلام اختصار تقديره وان كلا لما بعثوا ليوفينهم {إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ} من خير أو شر {خَبِيرٌ} (111) فلا يفوت منه شيء وإن خفى. اهـ.