فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج أبو الشيخ عن سنان قال: استثنى في أهل التوحيد، ثم قال: {عطاء غير مجذوذ}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {ما دامت السماوات والأرض} قال: لكل جنة سماء وأرض.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: {ما دامت السماوات والأرض} قال: سماء الجنة وأرضها.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن رضي الله عنه في قوله: {ما دامت السماوات والأرض} قال: تبدل سماء غير هذه السماء وأرض غير هذه الأرض، فما دامت تلك السماء وتلك الأرض.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: إذا كان يوم القيامة أخذ الله السموات السبع والأرضين فطهرهن من كل قذر ودنس، وفصيرهن أرضًا بيضاء فضة نورًا يتلألأ، فصيرهن أرضًا للجنة، والسموات والأرض اليوم في الجنة كالجنة في الدنيا يصيرهن الله على عرض الجنة ويضع الجنة عليها، وهي اليوم على أرض زعفرانية عن يمين العرش، فأهل الشرك خالدين في جهنم ما دامت أرضًا للجنة.
وأخرج البيهقي في البعث والنشور عن ابن عباس في قوله: {إلا ما شاء ربك} قال: فقد شاء ربك أن يخلد هؤلاء في النار وأن يخلد هؤلاء في الجنة.
وأخرج أبو الشيخ عن السدي رضي الله عنه في قوله: {فأما الذين شقوا...} قال: فجاء بعد ذلك من مشيئة الله فنسخها، فأنزل الله بالمدينة: {إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقًا} [النساء: 168] إلى آخر الآية. فذهب الرجاء لأهل النار أن يخرجوا منها وأوجب لهم خلود الأبد. وقوله: {وأما الذين سعدوا} الآية. قال: فجاء بعد ذلك من مشيئة الله ما نسخها، فأنزل بالمدينة: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات} [النساء: 122] إلى قوله: {ظلًا ظليلًا} [النساء: 57] فأوجب لهم خلود الأبد.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {إلا ما شاء ربك} قال: استثنى الله أمر النار أن تأكلهم.
وأخرج ابن المنذر عن الحسن عن عمر رضي الله عنه قال: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم يوم على ذلك يخرجون فيه.
وأخرج إسحق بن راهويه عن أبي هريرة قال: سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد وقرأ: {فأما الذين شقوا...} الآية.
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن إبراهيم قال: ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية: {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك} قال: وقال ابن مسعود ليأتين عليها زمان تخفق أبوابها.
وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: جهنم أسرع الدارين عمرانًا، وأسرعهما خرابًا.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه في قوله: {إلا ما شاء ربك} قال: الله أعلم بمشيئته على ما وقعت.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: قد أخبر الله بالذي شاء لأهل الجنة فقال: {عطاء غير مجذوذ} ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار.
وأخرج ابن المنذر عن أبي وائل. أنه كان إذا سئل عن الشيء من القرآن؟ قال: قد أصاب الله به الذي أراد.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في البعث والنشور عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {لهم فيها زفير وشهيق} قال: الزفير الصوت الشديد في الحلق، والشهيق الصوت الضعيف في الصدر. وفي قوله: {غير مجذوذ} قال: غير مقطوع. وفي لفظ: غير منقطع.
وأخرج ابن الأنباري في الوقف عن ابن عباس رضي الله عنهما. أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله: {لهم فيها زفير وشهيق} ما الزفير؟ قال: زفير كزفير الحمار. قال فيه أوس بن حجر:
ولا عذران لاقيت أسماء بعدها ** فيغشى علينا إن فعلت وتعذر

فيخبرها أن رب يوم وقفته ** على هضبات السفح تبكي وتزفر

أخرج ابن مردويه عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «سلوا الله العافية فإنه لم يعط أحد أفضل من معافاة بعد يقين، وإياكم والريبة فإنه لم يؤت أحد أشر من ريبة بعد كفر».
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص} قال: ما قدر لهم من خير وشر.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله: {وإنا لموفوهم نصيبهم} قال: موفوهم نصيبهم من العذاب.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي العالية رضي الله عنه: {وإنا لموفوهم نصيبهم} قال: من الرزق.
وأخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تبارك وتعالى يوفي كل عبد ما كتب له من الرزق فاجملوا في المطلب، دعوا ما حرم وخذوا ما حل». اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)}
وقرأ أبو عمرو والكسائي ونافع {يأتي} بإثبات الياء وصلًا وحَذْفِها وقفًا. وقرأ ابن كثير بإثباتها وصلًا ووقفًا، وباقي السبعة قرؤوا بحذفها وصلًا ووقفًا. وقد وَرَدَت المصاحف بإثباتها وحذفها: ففي مصحف أُبَي إثباتُها، وفي مصحف عثمان حَذْفُها، وإثباتُها هو الوجه لأنها لام الكلمة وإنما حذفوها في القوافي والفواصل لأنها محلُّ وقوف وقالوا: لا أَدْرِ، ولا أبالِ. وقال الزمخشري: والاجتزاءُ بالكسرة عن الياءِ كثيرٌ في لغة هُذَيْل. وأنشد ابن جرير في ذلك:
كفَّاك كفٌّ ما تُليقُ دِرْهمًا ** جُوْدًا وأخرى تُعْطِ بالسيف الدَّما

والناصبُ لهذا الظرف فيه أوجه، أحدها: أنه {لا تَكَلَّمُ} والتقدير: لا تَكَلَّمُ نفسٌ يومَ يأتي ذلك اليوم. وهذا معنى جيد لا حاجةَ إلى غيره. والثاني: أن ينتصب ب واذكر مقدرًا. والثالث: أن ينتصبَ بالانتهاءِ المحذوفِ في قوله: {إلا لأجل}، أي: ينتهي الأجل يوم يأتي. والرابع: أنه منصوبٌ ب {لا تَكَلَّم} مقدَّرًا، ولا حاجةَ إليه.
والجملةُ من قوله: {لا تَكَلَّمُ} في محلّ نصبٍ على الحال من ضمير اليوم المتقدم في {مشهود}، أو نعتًا له لأنه نكرة. والتقدير: لا تَكَلَّم نفسٌ فيه إلا بإذنه، قاله الحوفي وقال ابن عطية: {لا تكلَّم نفسٌ} يَصِحُّ أن تكون جملةً في موضع الحال من الضمير الذي في {يأتي} وهو العائد على قوله: {ذلك يومٌ}، ويكون على هذا عائدٌ محذوف تقديره: لا تَكَلَّم نفسٌ فيه، ويصح أن يكون قوله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ} صفةً لقوله: {يوم يأتي}.
وفاعلُ {يأتي} فيه وجهان، أظهرهما: أنه ضميرُ {يوم} المتقدِّم. والثاني: أنه ضمير اللَّه تعالى كقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله} [البقرة: 210] وقوله: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} والضميرُ في قوله: {فمنهم} الظاهر عَوْدُه على الناس في قوله: {مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس}. وجعله الزمخشري عائدًا على أهلِ الموقف وإن لم يُذْكَروا، قال: لأنَّ ذلك معلومٌ؛ ولأن قوله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ} يدلُّ عليه، وكذا قال ابنُ عطية.
قوله: {وَسَعِيدٌ} خبره محذوف: أي: ومنهم سعيدٌ، كقوله: {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} [هود: 100].
{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)}
قوله تعالى: {شَقُواْ}: الجمهورُ على فتح الشين لأنه مِنْ شَقِي فعلٌ قاصِر. وقرأ الحسن بضمها فاستعمله متعديًا، فيقال: شَقاه اللَّه، كما يقال أشقاه اللَّه.
وقرأ الأخوان وحفص {سُعِدُوا} بضم السين، والباقونَ بفتحها، الأُولى مِنْ قولهم: سَعَدَه اللَّه، أي: أسعده، حكى الفراء عن هُذَيل أنها تقول: سَعَده اللَّه بمعنى أَسْعد. وقال الجوهري: سَعِد فهو سعيد كسَلِمَ فهو سليم، وسُعِد فهو مسعود. وقال ابن القشيري: وَرَدَ سَعَده اللَّه فهو مَسْعود، وأسعد فهو مُسْعَد. وقيل: يُقال: سَعَده وأَسْعده فهو مَسْعود، استَغْنوا باسم مفعول الثلاثي. وحُكي عن الكسائي أنه قال: هما لغتان بمعنىً، يعني فَعَل وأَفْعل، وقال أبو عمرو بن العلاء: يُقال: سُعِد الرجل كما يُقال جُنَّ. وقيل: سَعِده لغة.
وقد ضَعَّف جماعةٌ قراءةَ الأخَوين، قال المهدوي: مَنْ قرأ: {سُعِدوا} فهو محمولٌ على مَسْعود، وهو شاذ قليل، لأنه لا يُقال: سَعَده اللَّه، إنما يقال: أسعده اللَّه. وقال بعضُهم: احتجَّ الكسائي بقولهم: مسعود. قيل: ولا حُجَّةَ فيه، لأنه يُقال: مكان مسعود فيه ثم حُذِف فيه وسُمِّي به. وكان عليّ بن سليمان يتعجَّب مِنْ قراءة الكسائي: {سُعِدوا} مع علمه بالعربية، والعجبُ مِنْ تعجُّبه. وقال مكي: قراءةُ حمزةَ والكسائي: {سُعِدوا} بضم السين حملًا على قولهم: مسعود وهي لغةٌ قليلة شاذة، وقولهم: مَسْعود إنما جاء على حذف الزوائد كأنه مِنْ أسعده اللَّه، ولا يُقال: سَعَدَه اللَّه، وهو مثل قولهم: أجنَّه اللَّه فهو مجنون، أتى على جَنَّه اللَّه، وإنْ كان لا يُقال ذلك، كما لا يقال: سَعَده اللَّه.
وضَمُّ السين بعيدٌ عند أكثر النحويين إلا على حذف الزوائد. وقال أبو البقاء: وهذا غيرُ معروفٍ في اللغة ولا هو مقيسٌ.
وقوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ}: هذه الجملةُ فيها احتمالان، أحدهما: أنها مستأنفة، كأن سائلًا سأل حين أَخْبَرَ أنهم في النار: ماذا يكون لهم؟ فقيل: لهم كذا. الثاني: أنها منصوبةٌ المحلِّ، وفي صاحبها وجهان، أحدهما: أنه الضمير في الجارِّ والمجرور وهي {ففي النار}. والثاني: أنها حالٌ من {النار}.
والزَّفير: أولُ صوت الحمار، والشَّهيق: آخره، قال رؤبة:
حَشْرَجَ في الصدر صَهِيْلًا وشَهَقْ ** حتى يُقالَ ناهِقٌ وما نَهَقْ

وقال ابن فارس: الشَّهيق ضد الزفير؛ لأنَّ الشهيق ردُّ النفسَ، والزَّفير: إخراج النفَس مِنْ شدة الحزن مأخوذ من الزِّفْرِ وهو الحِمْل على الظهر، لشدته. وقال الزمخشري نحوه، وأنشد للشماخ:
بعيدٌ مدى التَّطْريْبِ أولُ صوتِه ** زفير ويَتْلوه شهيق مُحَشْرِج

وقيل: الشَّهيق: النَّفَس الممتدُّ، مأخوذ مِنْ قولهم جبل شاهق أي عالٍ. وقال الليث: الزَّفير: أن يملأَ الرجلُ صدرَه حالَ كونه في الغمِّ الشديد من النفسَ ويُخْرِجُه، والشهيق أن يُخْرِجَ ذلك النفسَ، وهو قريبٌ مِنْ قولهم: تنفَّس الصعداء. وقال أبو العالية والربيع بن أنس: الزفير في الحَلْق والشَّهيقُ في الصدر. وقيل: الزفير للحمار والشهيق للبَغْل.
{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)}
وقوله تعالى: {خَالِدِينَ}: منصوبٌ على الحال المقدرة. قلت: ولا حاجةَ إلى قولِهم مقدرة، وإنما احتاجوا إلى التقدير في مثل قوله: {فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73]؛ لأنَّ الخلودَ بعد الدخول، بخلافِ هنا.
قوله: {مَا دَامَتِ} ما مصدرية وقتية، أي: مدة دوامهما. ودام هنا تامةٌ لأنها بمعنى بَقِيت.
قوله: {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} فيه أقوال كثيرة منتشرة لخّصتها في أربعةَ عشرَ وجهًا، أحدها: وهو الذي ذكره الزمخشريُّ فإنه قال: فإنْ قلت: ما معنى الاستثناء في قوله: {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} وقد ثَبَتَ خلودُ أهلِ الجنة والنار في الأبد مِنْ غير استثناء؟ قلت: هو استثناء مِن الخلود في عذاب النار، ومن الخلود في نعيم أهل الجنة، وذلك أنَّ أهل النار لا يُخَلَّدون في عذابها وحدَه، بل يُعَذَّبون بالزمهرير، وبأنواعٍ أُخَرَ من العذاب، وبما هو أشدُّ من ذلك وهو سُخْط اللَّه عليهم، وكذا أهل الجنة لهم مع نعيم الجنة ما هو أكبرُ منه كقوله: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} [التوبة: 72]، والدليل عليه قوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108]، وفي مقابله: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}، أي: يَفْعل بهم ما يريد من العذاب، كما يعطي أهل الجنة ما لا انقطاعَ له. قال الشيخ: ما ذكره في أهل النار قد يتمشى لأنهم يَخْرُجون من النار إلى الزمهرير فيصحُّ الاستثناء، وأما أهل الجنة فلا يخرجون من الجنة فلا يصحُّ فيهم الاستثناء. قلت: الظاهر أنه لا يصحُّ فيهما؛ لأنَّ أهلَ النار مع كونهم يُعَذَّبون بالزمهرير هم في النار أيضًا.
الثاني: أنه استثناءٌ من الزمان الدالِّ عليه قوله: {خالدين فيها ما دامَتِ السماواتُ والأرضُ} والمعنى: إلا الزمان الذي شاءه اللَّه فلا يُخَلَّدون فيها.
الثالث: أنه مِنْ قوله: {ففي النار} و{ففي الجنة}، أي: إلا الزمان الذي شاءَه اللَّهُ فلا يكون في النار ولا في الجنة، ويمكن أن يكون هذا الزمانُ المستثنى هو الزمان الذي يَفْصِل اللَّهُ فيه بين الخلق يومَ القيامة إذا كان الاستثناءُ مِن الكون في النار أو في الجنة، لأنه زمانٌ يخلو فيه الشقيُّ والسعيدُ مِنْ دخول النار والجنة، وأمَّا إن كان الاستثناءُ مِنْ الخلود يمكن ذلك بالنسبة إلى أهل النار، ويكون الزمانُ المستثنى هو الزمان الذي فات أهلَ النارِ العصاةَ من المؤمنين الذي يَخْرجون من النار ويَدْخلون الجنة فليسوا خالدين في النار، إذ قد أخرجوا منها وصاروا إلى الجنة. وهذا المعنى مَرْوِيٌّ عن قتادة والضحاك وغيرهما، والذين شَقُوا على هذا شامل للكفار والعصاة، هذا في طرفِ الأشقياء العُصاة ممكنٌ، وأمَّا حقُّ الطرف الآخر فلا يتأتَّى هذا التأويلُ فيه؛ إذ ليس منهم مَنْ يدخلُ الجنةَ ثم لا يُخَلَّد فيها.
قال الشيخ: يمكن ذلك باعتبار أن يكونَ أريد الزمان الذي فاتَ أهلَ النار العصاة من المؤمنين، أو الذي فات أصحابَ الأعراف، فإنه بفوات تلك المدة التي دخل المؤمنون فيها الجنة وخُلِّدوا فيها صَدَقَ على العصاة المؤمنين وأصحابِ الأعراف أنهم ما خُلِّدوا في الجنة تخليدَ مَنْ دخلها لأولِ وَهْلة.
الرابع: أنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الجار والمجرور وهو قوله: {ففي النار} و{ففي الجنة}؛ لأنه لمَّا وقع خبرًا تحمَّل ضميرَ المبتدأ.
الخامس: أنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الحال وهو {خالدين}، وعلى هذين القولين تكون ما واقعةً على مَنْ يعقل عند مَنْ يرى ذلك، أو على أنواعٍ مَنْ يعقل كقوله: {مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النساء} [النساء: 3] والمراد ب ما حينئذٍ العصاةُ من المؤمنين في طرفِ أهل النار، وأمَّا في طرف أهل الجنة فيجوز أن يكونوا هم أو أصحابُ الأعراف، لأنهم لم يدخلوا الجنة لأولِ وهلة ولا خُلِّدوا فيها خلودَ مَنْ دَخَلها أولًا.
السادس: قال ابن عطية: قيل: إنَّ ذلك على طريقِ الاستثناء الذي نَدَبَ الشارعُ إلى استعماله في كل كلامٍ فهو كقولِه: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَاءَ الله آمِنِينَ} [الفتح: 27]، استثناء في واجب، وهذا الاستثناء هو في حكم الشرط، كأنه قال: إنْ شاء اللَّه، فليس يحتاج أن يُوْصَفَ بمتصل ولا منقطع.
السابع: هو استثناءٌ من طول المدة، ويروى عن ابن مسعود وغيره، أنَّ جهنمَ تخلو مِن الناس وتَخْفِق أبوابُها فذلك قولُه: {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ}. وهذا مردودٌ بظواهر الكتابِ والسنة، وما ذكرته عن ابن مسعود فتأويله أنَّ جهنم هي الدَّرَك الأَعْلى، وهي تَخْلو من العُصاة المؤمنين، هذا على تقديرِ صحةِ ما نُقِل عن ابن مسعود.
الثامن: أن إلا حرفُ عطفٍ بمعنى الواو، فمعنى الآية: وما شاءَ ربُّك زائدًا على ذلك.
التاسع: أن الاستثناءَ منقطعٌ، فيقدَّر ب لكن أو ب سوى، ونَظَّروه بقولك: لي عليك ألفا درهم، إلا الألفَ التي كنت أسلفتك بمعنى سوى تلك، فكأنه قيل: خالدين فيها ما دامت السماواتُ والأرضُ سوى ما شاء ربك زائدًا على ذلك. وقيل: سوى ما أعدَّ لهم مِنْ عذابٍ غيرِ عذابِ النار كالزَّمْهرير ونحوِه.
العاشر: أنه استثناءٌ من مدة السماوات والأرض التي فَرَطَت لهم في الحياة الدنيا.
الحادي عشر: أنه استثناءٌ من التدرُّج الذي بين الدنيا والآخرة.
الثاني عشر: أنه استثناءٌ من المسافات التي بينهم في دخول النار، إذ دخولُهم إنما هو زُمَرًا بعد زُمَر.
الثالث عشر: أنه استثناءٌ من قوله: {ففي النار} كأنه قال: إلا ما شاء ربُّك مِنْ تأخُّر قوم عن ذلك، وهذا القولُ مرويٌّ عن أبي سعيد الخدري وجابر.
الرابع عشر: أنَّ {إلا ما شاء} بمنزلة كما شاء، قيل: كقوله: {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22]، أي: كما قَدْ سَلَفَ.
{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)}
قوله تعالى: {عَطَاءً} نُصِبَ على المصدر المؤكد من معنى الجملةِ قبله؛ لأن قوله: {ففي الجنة خالدين} يقتضي إعطاء وإنعامًا فكأنه قيل: يُعْطيهم عَطاءً، وعطاء اسم مصدر، والمصدر في الحقيقة الإِعطاء على الإِفعال، أو يكونُ مصدرًا على حذف الزوائد كقوله: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتًا} [نوح: 17]، أو هو منصوب بمقدَّرٍ موافِقٍ له، أي: فَنَبَتُّم نباتًا، وكذلك هنا يقال: عَطَوْتُ بمعنى تناولْت.
و{غيرَ مَجْذوذ} نَعْتُه. والمجذوذ: المقطوع، ويقال لِفُتات الذهب والفضة والحجارة: جُذاذ من ذلك، وهو قريب من الجَدِّ بالمهملة في المعنى، إلا أن الراغب جَعَل جَدَّ بالمهملة بمعنى قَطْع الأرضِ المستوية، ومنه جَدَّ في سيره يَجِدُّ جَدًّا، ثم قال: وتُصُوِّر مِنْ جَدَدْتُ الأرضَ القَطْعُ المجردُ فقيل: جَدَدْتُ الثوب إذا قطعتَه على وجهِ الإِصلاح، وثوبٌ جديد أصله المقطوع، ثم جُعل لكل ما أُحْدِث إنشاؤه. والظاهرُ أن المادتين متقاربتان في المعنى، وقد ذكرْتُ لهما نظائرَ نحو: عَتَا وعَثا وكثب وكتب.
{فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ}
قوله تعالى: {مِّمَّا يَعْبُدُ} ما في {ممَّا يعبد} وفي {كما يَعبْدُ} مصدريةٌ. ويجوز أن تكونَ الأولى اسميةً دونَ الثانية.
قوله: {لَمُوَفُّوهُمْ} قرأ العامة بالتشديد مِنْ وفَّاه مشددًا، وقرأ ابن محيصن {لَمُوْفُوْهم} بالتخفيف مِنْ أَوْفَى، كقوله: {وَأَوْفُواْ بعهدي} [البقرة: 40]، وقد تقدَّم في البقرة أنَّ فيه ثلاثَ لغات.
قوله: {غَيْرَ مَنقُوصٍ} حالٌ مِنْ نصيبهم، وفي ذلك احتمالان، أحدهما: أن تكونَ حالًا مؤكدة، لأنَّ لفظ التوفية يُشْعر بعدم النقص، فقد استفيد معناها مِنْ عاملها وهو شأنُ المؤكدة. والثاني: أن تكونَ حالًا مُبَيِّنة. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف نُصِبَ {غيرَ منقوص} حالًا عن النصيب المُوَفَّى؟ قلت: يجوز أن يُوَفَّى وهو ناقصٌ ويوفَّى وهو كاملٌ، ألا تَراك تقول: وَفَّيْتُه شطرَ حَقِّه، وثلثَ حقِّه، وحقَّه كاملًا وناقصًا، فظاهر هذه العبارة أنها مبيِّنة؛ إذ عاملُها محتملٌ لمعناها ولغيره. إلا أن الشيخ قال بعد كلامه هذا: وهذه مَغْلَطَة، إذا قال: وفَّيته شطرَ حَقِّه فالتوفيهُ وَقَعَتْ في الشطر، وكذا في الثلث، والمعنى: أعطيته الشطرَ والثلثَ كاملًا لم أنقصه شيئًا، وأمَّا قوله: وحقَّه كاملًا وناقصًا أمَّا كاملًا فصحيح، وهي حالٌ مؤكدة؛ لأن التوفيةَ تقتضي الإِكمالَ، وأمَّا وناقصًا فلا يقال لمنافاته التوفيه. وفي مَنْع الشيخ أَنْ يُقال: وَفَّيْتُه حقَّه ناقصًا نظر، إذ هو شائعٌ في تركيبات الناسِ المعتبرِ قولهم؛ لأن المرادَ بالتوفية مطلقُ التَّأْدية. اهـ.