فصل: تفسير الآيات (110- 113):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وذكر ذلك في تفسير قوله: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} وعلى مذهب أبي سعيد الخدري حيث يقول: انتهى القرآن كله إلى هذه الآية: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وعلى مذهب قتادة حيث يقول: في قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} الله أعلم بتبينه على ما وقعت وعلى مذهب ابن زيد حيث يقول: أخبرنا الله بالذي يشاء لأهل الجنة فقال عطاء: غير مجذوذ ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار والقول بأن النار وعذابها دائم بدوام الله خبر عن الله بما يفعله فإن لم يكن مطابقا لخبره عن نفسه بذلك وإلا كان قولا عليه بغير علم والنصوص لا تفهم ذلك والله أعلم.
فصل: وها هنا مذاهب أخرى باطله منها قول من قال أنهم يعذبون في النار مدة لبثهم في الدنيا وقول من قال تنقلب عليهم طبيعة نارية يلتذون بها كما يلتذ صاحب الجرب بالحك وقول من يقول أنها تفنى هي والجنة جميعا ويعودان عدما وقول من يقول تفنى حركاتها وتبقى أهلها في سكون دائم ولم يوفق للصواب في هذا الباب غير الصحابة ومن سلك سبيلهم. وبالله التوفيق.
فصل: فإن قيل فما الحكمة في كون الكفار أكثر من المؤمنين وأهل النار أضعاف أضعاف أهل الجنة كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وقال: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} وقال: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وبعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون وواحد إلى الجنة وكيف نشأ هذا عن الرحمة الغالبة وعن الحكمة البالغة وهلا كان الأمر بالضد من ذلك، قيل هذا السؤال من أظهر الأدلة على قول الصحابة والتابعين في هذه المسألة وأن الأمر يعود إلى الرحمة التي وسعت كل شيء وسبقت الغضب وغلبته وعلى هذا فاندفع السؤال بالكلية ثم نقول المادة الأرضية اقتضت حصول التفاوت في النوع الإنساني كما في المسند والترمذي عنه صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فكان منهم الخبيث والطيب والسهل والحزن وغير ذلك». فاقتضت مادة النوع الإنساني تفاوتهم في أخلاقهم وإراداتهم وأعمالهم ثم اقتضت حكمة العزيز الحكيم أن ابتلى المخلوق من هذه المادة بالشهوة والغضب والحب والبغض ولوازمها وابتلاه بعدوه الذي لا يألوه خبالا ولا يغفل عنه ثم ابتلاه مع ذلك بزينة الدنيا وبالهوى الذي أمر بمخالفته هذا على ضعفه وحاجته وزين له حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث وأمره بترك قضاء أوطاره وشهواته في هذه الدار الحاضرة العتيدة المشاهدة إلى دار أخرى غايته إنما تحصل فيها بعد طي الدنيا والذهاب بها وكان مقتضى الطبيعة الإنسانية أن لا يثبت على هذا الابتلاء أحد وأن يذهب كلهم مع ميل الطبع ودواعي الغضب والشهوة فلم يحل بينهم وبين ذلك خالقهم وفاطرهم بل أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه وبين لهم مواقع رضاه وغضبه ووعدهم على مخالفة هواهم وطبائعهم أكمل اللذات في دار النعيم فلم تقو عقول الأكثرين على إيثار الآجل المنتظر بعد زوال الدنيا على هذا العاجل الحاضر المشاهد وقالوا كيف يباع نقد حاضر وهو قبض باليد بنسيئة مؤخرة وعدنا بحصولها بعد طي الدنيا وخراب العالم ولسان حال أكثرهم يقول: خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به فساعد التوفيق الإلهي من علم أنه يصلح لمواقع فضله فأمده بقوة إيمان وبصيرة رأى في ضوءها حقيقة الآخرة ودوامها وما أعد الله فيها لأهل طاعته وأهل معصيته ورأى حقيقة الدنيا وسرعة انقضائها وقله وفائها وظلم شركائها وأنها كما وصفها الله سبحانه لعب ولهو وتفاخر بين أهلها وتكاثر في الأموال والأولاد وأنها كغيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما فنشأنا في هذه الدار ونحن منها وبنوها لا نألف غيرها وحكمت العادات وقهر السلطان الهوى وساعده داعي النفوس وتقاضاه موجب الطباع وغلب الحس على العقل وكانت الدولة له والناس على دين الملك ولا ريب أن الذي يخرق هذه الحجب ويقطع هذه العلائق ويخالف العوائد ولا يستجيب لدواعي الطبع ويعصي سلطان الهوى لا يكون إلا الأقل ولهذا كانت المادة النارية أقل اقتضاء لهذا الصنف من المادة الترابية لخفة النار وطيشها وكثرة نقلتها وسرعة حركتها وعدم ثباتها والماء المادة الملكية فتر به من ذلك فلذلك كان المخلوق خيرا كله فالعقلاء المخاطبون مخلوقون من هذه المواد الثلاث واقتضت الحكمة أن يكونوا على هذه الصفة والخلقة ولو كانوا على غير ذلك لم يحصل مقصود الامتحان والابتلاء وتنوع العبودية وظهور آثار الأسماء والصفات فلو كان أهل الإيمان والخير هم الأكثرين الغالبين لفاتت مصلحة الجهاد وتوابعه التي هي من أجل أنواع العبودية وفات الكمال المترتب على ذلك فلا أحسن مما اقتضاه حكمة أحكم الحاكمين في المخلوق من هذه المواد ثم أنه سبحانه يخلص ما في المخلوق من تينك المادتين من الخبث والشر ويمحصه ويستخرج طيبه إلى دار الطيبين ويلقي خبثه حيث تلقى الخبائث والأوساخ وهذا غاية الحكمة كما هو الواقع في جواهر المعادن المنتفع بها من الذهب والفضة والحديد والصفر فخلاصة هذه المواد وطيبها أقل من وسخها وخبثها والناس زرع الأرض والخير الصافي من الزرع بعد زوانه وقصله وعصفه وتبنه أقل من بقية الأجزاء وتلك الأجزاء كالصور له والوقاية كالحطب والشوك للثمر والتراب والحجارة للمعادن النفيسة.
فصل: الوجه السابع والثلاثون قوله وأي حكمة في تسليط أعدائه على أوليائه يسومونهم سوء العذاب فكم لله في ذلك من حكم باهرة منها حصول محبوبة من عبودية الصبر والجهاد وتحمل الأذى فيه والرضى عنه في السراء والضراء والثبات على عبوديته وطاعته مع قوة المعارض وغلبته وشوكته وتمحيص أوليائه من أحكام البشرية ودواعي الطباع ببذل نفوسهم له وأذى أعدائه لهم وتميز الصادق من الكاذب ومن يريده ويعبده على جميع الحالات ممن يعبده على حرف وليحصل له مرتبة الشهادة التي هي من أعلى المراتب ولا شيء أبر عند الحبيب من بذل محبة نفسه في مرضاته ومجاهدة عدوه فكم لله في هذا التسليط من نعمة ورحمة وحكمة وإذا شئت أن تعلم ذلك فتأمل الآيات من أواخر آل عمران من قوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} إلى قوله: {نَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} فكان هذا التمييز من بعض حكم ذلك التسليط ولولا ذلك التسليط لم تظهر فضيلة الصبر والعفو والحكم وكظم الغيظ ولا حلاوة النصر والظفر والقهر فإن الأشياء يظهر حسنها بأضدادها ولولا ذلك التسليط لم تستوجب الأعداء المحق والإهانة والكبت فاستخرج ذلك التسليط من القوة إلى الفعل ما عند أوليائه فاستحقوا كرامتهم عليه وما عند أعدائه فاستحقوا عقوبتهم عليه فكان هذا التسليط مما أظهر حكمته وعزته ورحمته ونعمته في الفريقين وهو العزيز الحكيم، الوجه الثامن والثلاثون قوله وأي حكمة في تكليف الثقلين وتعريضهم بذلك العقوبة وأنواع المشاق، فاعلم أنه لولا التكليف لكان خلق الإنسان عبثا وسدى والله يتعالى عن ذلك وقد نزه نفسه عنه كما نزه نفسه عن العيوب والنقائص قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} وقال: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} قال الشافي لا يؤمر ولا ينهى ومعلوم أن ترك الإنسان كالبهائم مهملا معطلا مضاد للحكمة فإنه خلق لغاية كماله وكماله أن يكون عارفا بربه محبا له قائما بعبوديته قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وقال: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} وقال: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فهذه المعرفة وهذه العبودية هما غاية الخلق والأمر وهما أعظم كمال الإنسان والله تعالى من عنايته به ورحمته له عرضه لهذا الكمال وهيأ له أسبابه الظاهرة والباطنة ومكنه منها ومدار التكليف على الإسلام والإيمان والإحسان وهي ترجع إلى شكر المنعم كلها دقيقها وجليلها منه وتعظيمه وإجلاله ومعاملته بما يليق أن يعامل به فتذكر آلاؤه وتشكر فلا يكفر ويطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى هذا مع تضمن التكليف لإيصاف العبد بكل خلق جميل وإثباته بكل فعل جميل وقول سديد واجتنابه لكل خلق سيئ وترك كل فعل قبيح وقول زور فتكليفه متضمن لمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال وصدق القول والإحسان إلى الخليقة وتكميل نفسه بأنواع الكمالات وهجر أضداد ذلك والتنزه عنها مع تعريضه بذلك التكليف للثواب الجزيل الدائم ومجاورة ربه في دار البقاء فأي الأمرين أليق بالحكمة هذا أو إرساله هملا كالخيل والبغال والحمير يأكل ويشرب وينكح كالبهائم أيقتضي كماله المقدس ذلك فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم وكيف يليق بذلك الكمال طي بساط الأمر والنهي والثواب والعقاب وترك إرسال الرسل وإنزال الكتب وشرع الشرائع وتقرير الأحكام وهل عرف الله من جوز عليه خلاف ذلك وهل ذلك إلا من سوء الظن به قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} فحسن التكليف في العقول كحسن الإحسان والإنعام والتفضل والطول بل هو من أبلغ أنواع الإحسان والإنعام ولهذا سمى سبحانه ذلك نعمة ومنة وفضلا ورحمة وأخبر أن الفرح به خير من الفرح بالنعم المشتركة بين الأبرار والفجار قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا} فنعمة الله هاهنا نعمته بمحمد صلى الله عليه وسلم وما بعثه به من الهدى ودين الحق وقال: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} وقال: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِينًا} وقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ} وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وقال لرسوله: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} وهل النعمة والفضل في الحقيقة إلا ذلك وتوابعه وثمرته في القلوب والأبدان في الدنيا والآخرة وهل في العقول السليمة والفطرة المستقيمة أحسن من ذلك وأليق بكمال الرب وأسمائه وصفاته، الوجه التاسع والثلاثون قوله في مناظرة الأشعري للجبائي في الإخوة الثلاثة الذين مات أحدهم صغيرا وبلغ الآخر كافرا والثالث مسلما أنها مناظرة كافية في إبطال الحكمة والتعليل ورعاية الأصلح، فلعمر الله أنها مبطلة لطريقة أهل البدع من المعتزلة والقدرية الذين يوجبون على ربهم مراعاة الأصلح لكل عبد وهو الأصلح عندهم فيشرعون له شريعة بعقولهم ويحجرون عليه ويحرمون عليه أن يخرج عنها ويوجبون عليه القيام بها وكذلك كانوا من أحمق الناس وأعظمهم تشبيها للخالق بالمخلوق في أفعاله وأعظمهم تعطيلا عن صفات كماله فنزهوه عن صفات الكمال وشبهوه بخلقه في الأفعال وأدخلوه تحت الشريعة الموضوعة بآراء الرجال وسموا ذلك عدلا وتوحيدا بالزور والبهتان وتلك التسمية ما أنزل الله بها من سلطان فالعدل قيامه بالقسط في أفعاله والتوحيد وإثبات صفات كماله شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام فهذا العدل والتوحيد الذي جاء به المرسلون وذلك التوحيد والعدل الذي جاء به المعطلون، والمقصود أن هذه المناظرة وإن أبطلت قول هؤلاء وزلزلت قواعدهم فإنها لا تبطل حكمة الله التي اختص بها دون خلقه وطوى بساط الإحاطة بها عنهم ولم يطلعهم منها إلا على ما نسبته إلى ما خفي عنهم كقطرة من بحار الدنيا فكم لله سبحانه من حكمة في ذلك الذي أخرمه صغيرا وحكمة في الذي مد له في العمر حتى بلغ وأسلم وحكمة في الذي أبقاه حتى بلغ وكفر ولو كان كل من علم أنه إذا بلغ يكفر يخترمه صغيرا لتعطل الجهاد والعبودية التي يحبها الله ويرضاها ولم يكن هناك معارض وكان الناس أمة واحدة ولم تظهر آياته وعجائبه في الأمم ووقائعه وأيامه في أعدائه وإقامة الحجج وجدال أهل الباطل بما يدحض شبهتهم وينصر الحق ويظهره على الباطل إلى أضعاف أضعاف ذلك من الحكم التي لا يحصيها إلا الله والله سبحانه يحب ظهور أسمائه وصفاته في الخليقة فلو اخترم كل من علم أنه يكفر إذا بلغ لفات ذلك وفواته مناف لكمال تلك الأسماء والصفات واقتضائها لآثارها وقد تقدم بسط ذلك أتم من هذا، الوجه الأربعون قوله أنه سبحانه رد الأمر إلى محض مشيئة بقوله: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} وقوله: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} وقوله: {فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء} وقوله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} فهذا كله حق ولكن أين فيه إبطال حكمته وحمده والغايات المحمودة المطلوبة بفعله وأنه لا يفعل شيئا لشيء ولا يأمر بشيء لأجل شيء ولا سبب لفعله ولا غاية أفترى أصحاب الحكمة والتعليل يقولون إنه لا يفعل بمشيئته أو أنه يسئل عما يفعل بل يقولون إنه يفعل بمشيئته مقارنا للحكمة والمصلحة ووضع الأشياء مواضعها وأنه يفعل ما يشاء بأسباب وحكم ولغايات مطلوبة وعواقب حميدة فهم مثبتون لملكه وحده وغيرهم يثبت ملكا بلا حمد أو نوعا من الحمد ومع هضم الملك إذ الرب تعالى له كمال وكمال الحمد فكونه يفعل ما يشاء يمنع من أن يشاء بأسباب وحكم وغايات وأنه لا يشاء إلا ذلك وأما قوله: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} فهذا لكمال علمه وحكمته لا لعدم ذلك وأيضا فسياق الآية في معنى آخر وهو إبطال إلهية من سواه وإثبات الألوهية له وحده فإنه سبحانه قال: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} فأين في هذا ما يدل على إبطال التعليل بوجه من الوجوه ولكن أهل الباطل يتعلقون بألفاظ نزلوها على باطلهم لا تنزل عليه وبمعان متشابهة يشتبه فيها الحق بالباطل فعمدتهم المتشابه من الألفاظ والمعاني فإذا فصلت وبينت يتبين أنها لا دلالة فيها وأنها مع ذلك قد تدل على نقيض مطلوبهم وبالله التوفيق. اهـ.

.تفسير الآيات (110- 113):

قوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر في هذه الآية إعراضهم عن الإتباع مع ما أتى به من المعجزات وأنزل عليه من الكتاب، سلاه بأخيه عليهما السلام لأن الحال إذا عم خف، وابتدأ ذكره بحرف التوقع بما دعا إلى توقعه من قرب ذكره مع فرعون مع ذكر كتابه أول السورة فقال تعالى: {ولقد آتينا} أي بما لنا من العظمة: {موسى الكتاب} أي التوراة الجامعة للخير.
ولما كان الضار والمسلي نفس الاختلاف، بني للمفعول قوله: {فاختلف فيه} فآمن به قوم وكفر به آخرون مع أنه إمام ورحمة وكتب سبحانه له فيه من كل شيء موعظة وتفصيلًا لكل شيء، وكان معجبًا لأهل ذلك الزمان كما اختلف في كتابك مع إعجابه لأهل هذا الزمان وبيانه للهدى أتم بيان، إشارة إلى أن الخلق مهما جاءهم عن الله، وهو لا يكون إلاّ مصحوبًا بالأدلة القاطعة نأوا عنه واختلفوا فيه، ومهما تلقفوه عن آبائهم تلقوه بالقبول وناضلوا عنه وسمحوا فيه بالمهج وإن كان منابذًا للعقول، فكان قوم موسى باختلافهم في الكتاب كل قليل يأبى فريق منهم بعض أحكامه ويريدون نقض إبرامه كما سلف بيانه غير مرة عن نص التوراة وسفر يوشع إلى أن آل أمرهم الآن إلى أن صاروا ثلاث فرق: ربانيين، وقرابين، وسامرة؛ يضلل بعضهم بعضًا، ومع ذلك فلم يعاجلهم بالأخذ مع قدرته على ذلك كما فعل بمن قص أمره من الأمم لما سبق من حكمه بتأخيرهم إلى الأجل المعدود، وفصل بين هذا وبين قصة موسى عليه السلام مع فرعون ليكون مع ما دعا إلى تقديم ما تقدم من الآيات أوقع في التسلية وأبلغ في التعزية والتأسية كما هو شأن كل ما ألقي إلى المحتاج شيئًا فشيئًا: {ولولا كلمة} أي عظيمة لا يمكن تغييرها لأنها من كلام الملك الأعظم: {سبقت من ربك} أي المحسن إليك وإليهم بإرسالك رحمة للعالمين: {لقُضي} أي لوقع القضاء: {بينهم} أي بين من اختلف في كتاب موسى عاجلًا، ولكن سبقت الكلمة أن القضاء الكامل إنما يكون يوم القيامة كما قال في سورة يونس: {فما اختلفوا حتى جاءهم العلم}- الآية.
ولما كان الاختلاف قد يكون بغير الكفر بين أنه به، فقال مؤكدًا لأن كل طائفة من اليهود تنكر شكها فيه وفعلها فعل الشاك: {وإنهم لفي شك} أي عظيم محيط بهم: {منه} أي من القضاء أو الكتاب: {مريب} أي موقع في الريب والتهمة والاضطراب مع ما رأوا من الآيات التي منها سماع كلام الله ورؤية ما كان يتجلى في جبل الطور من الجلال ويتبدى لهم في قبة الزمان من خارق الأحوال: {وإن كلًا} من المختلفين في الحق من قوم موسى وغيرهم ممن هو على الحق وممن هو على الباطل؛ و: {إن} عند نافع وابن كثير وأبي بكر عن عاصم عاملة مع تخفيفها من الثقيلة في قراءة غيرهم اعتبارًا بأصلها: {لما} هي في قراءة ابن عامر وحمزة وعاصم بالتشديد الجازمة حذف فعلها- قال ابن الحاجب: وهو شائع فصيح، وفي قراءة غيرهم بالتخفيف مركبة من لام الابتداء و: {ما} المؤكدة بنفي نقيض ما أثبته الكلام ليكون ثبوته مع نفي نقيضه على أبلغ وجه.