فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: لا تميلوا، قاله ابن عباس.
الثاني: لا تدنوا، قاله سفيان.
الثالث: لا ترضوا أعمالهم، قاله أبو العالية.
الرابع: لا تدهنوا لهم في القول وهو أن يوافقهم في السر ولا ينكر عليهم في الجهر.
ومنه قوله تعالى: {ودّوا لو تدهن فيدهنون} [القلم: 9]، قاله عبد الرحمن بن زيد.
{فتمسكم النار} يحتمل وجيهن:
أحدهما: فيمسكم عذاب النار لركونكم إليهم.
الثاني: فيتعدى إليكم ظلمهم كما تتعدى النار إلى إحراق ما جاورها، ويكون ذكر النار على هذا الوجه استعارة وتشبيهًا، وعلى الوجه الأول خبرًا ووعيدًا. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب} الآية تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم وذكر قصة موسى مثل له، أي لا يعظم عليك أمر من كذبك، فهذه هي سيرة الأمم، فقد جاء موسى، بكتاب فاختلف الناس عليه.
وقوله: {ولولا كلمة سبقت من ربك} إلى آخر الآية، يحتمل أن يريد به أمة موسى، ويحتمل أن يريد به معاصري محمد عليه السلام؛ وأن يعمهم اللفظ أحسن-عندي- ويؤكد ذلك قوله: {وإن كلًا} والكلمة هاهنا عبارة عن الحكم والقضاء والمعنى: {لقضي بينهم} أي لفصل بين المؤمن والكافر، بنعيم هذا وعذاب هذا.... ووصف الشك بالمريب تقوية لمعنى الشك.
وقرأ الكسائي وأبو عمرو: {وإنَّ كلًا لمَا} بتشديد النون وتخفيف الميم من: {لما} وقرأ ابن كثير ونافع بتخفيفهما، وقرأ حمزة بتشديدهما، وكذلك حفص عن عاصم؛ وقرأ عاصم- في رواية أبي بكر- بتخفيف إنْ وتشديد الميم من لمّا وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم: {وإن كلًا لمًّا} بتشديد الميم وتنوينها.
وقرأ الحسن بخلاف: {وإنْ كلّ لما} بتخفيف إن ورفع كلٌّ وشد لمّا.
وكذلك قرأ أبان بن تغلب إلا أنه خفف لما.
وفي مصحف أبيّ وابن مسعود {وإن كل إلا ليوفينهم} وهي قراءة الأعمش، قال أبو حاتم: الذي في مصحف أبيّ: {وإن من كل إلا ليوفينهم أعمالهم}. فأما الأول فإن فيها على بابها، وكلًا اسمها، وعرفها أن تدخل على خبرها لام. وفي الكلام قسم تدخل لامه أيضًا على خبر: «إن» فلما اجتمع لامان فصل بينهما بما- هذا قول أبي علي- والخبر في قوله: {ليوفينهم}، وقال بعض النحاة: يصح أن تكون ما خبر: «إن» وهي لمن يعقل لأنه موضع جنس وصنف، فهي بمنزلة من، كأنه قال: وإن كلًا لخلق ليوفينهم؛ ورجح الطبري هذا واختاره، اما أنه يلزم القول أن تكون ما موصوفة إذ هي نكرة، كما قالوا: مررت بما معجب لك، وينفصل بأن قوله: {ليوفينهم} يقوم معناه مقام الصفة، لأن المعنى: وإن كلًا لخلق موفى عمله، وأما من خففها- وهي القراءة الثانية في ترتيبنا فحكم إن وهي مخففة حكمها مثقلة، وتلك لغة فصيحة، حكى سيبويه أن الثقة أخبره: أنه سمع بعض العرب يقول: إن عمرًا لمنطلق وهو نحو قول الشاعر:
ووجه مشرق النحر ** كأن ثدييه حقان

رواه أبو زيد.
ويكون القول في فصل ما بين اللامين حسبما تقدم، ويدخلها القول الآخر من أن تكون ما خبر إن وأما من شددهما أو خفف إنْ وشدد الميم ففي قراءتيهما إشكال، وذلك أن بعض الناس قال: إن لما بمعنى إلا، كما تقول: سألتك لما فعلت كذا وكذا بمعنى إلا فعلت قال أبو علي: وهذا ضعيف لأن لما هذه لا تفارق القسم، وقال بعض الناس: المعنى لمن ما أبدلت النون ميمًا، وأدغمت في التي بعدها فبقي لمما فحذفت الأولى تخفيفًا لاجتماع الأمثلة، كما قرأ بعض القراء: {والبغي يعظكم} [النحل: 90] به بحذف الياء مع الياء وكما قال الشاعر:
وأشمت العداة بنا فأضحوا ** لدى يتباشرون بما لقينا

قال أبو علي وهذا ضعيف؛ وقد اجتمع في هذه السورة ميمات أكثر من هذه في قوله: {أمم ممن معك} [هود: 48] ولم يدغم هناك فأحرى أن لا يدغم هنا.
قال القاضي أبو محمد: وقال بعض الناس أصلها: لمن ما، ف من خبر: «إن» وما زائدة وفي التأويل الذي قبله أصله: لمن ما، ف ما هي الخبر دخلت عليها من على حد دخولها في قول الشاعر:
وإنا لمن ما نضرب الكبش ضربة ** على رأسه تلقي اللسان من الفم

وقالت فرقة لما أصلها لمًا منونة، والمعنى: وإن كلًا عامًا حصرًا شديدًا، فهو مصدر لم يلم، كما قال: {وتأكلون التراث أكلًا لمًّا} [الفجر: 19] أي شديدًا قالت: ولكنه ترك تنوينه وصرفه وبني منه فعلى كما فعل في تترى فقرئ: تترى.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، حكي عن الكسائي أنه قال: لا أعرف وجه التثقيل في لما، قال أبو علي: وأما من قرأ: {لمَّا} بالتنوين وشد الميم فواضح الوجه كما بينا، وأما من قرأ: {وإن كل لما} فهي المخففة من الثقيلة، وحقها- في أكثر لسان العرب- أن يرتفع ما بعدها، ولما هنا بمعنى إلا، كما قرأ جمهور القراء: {إن كل نفس لما عليها حافظ} [الطارق: 4]. ومن قرأ: {إلا} مصرحة فمعنى قراءته واضح، وهذه الآية وعيد.
وقرأ الجمهور: {يعملون} بياء على ذكر الغائب، وقرأ الأعرج {تعملون} بتاء على مخاطبة الحاضر.
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا}
أمر النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستقامة وهو عليها إنما هو أمر بالدوام والثبوت، وهذا كما تأمر إنسانًا بالمشي والأكل ونحوه وهو ملتبس به. والخطاب بهذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين تابوا من الكفر، ولسائر أمته بالمعنى، وروي أن بعض العلماء رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال له: يا رسول الله بلغنا عنك أنك قلت: شيبتني هود وأخواتها فما الذي شيبك من هود؟ قال له: قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت}.
قال القاضي أبو محمد: والتأويل المشهور في قوله عليه السلام: شيبتني هود وأخواتها- أنها إشارة إلى ما فيها مما حل بالأمم السابقة، فكان حذره على هذه الأمة مثل ذلك شيبه عليه السلام.
وقوله: {أمرت} مخاطبة تعظيم، وقوله: {ومن} معطوف على الضمير في قوله: {فاستقم}، وحسن ذلك دون أن يؤكد لطول الكلام بقوله: {كما أمرت}. و: {لا تطغوا} معناه: ولا تتجاوزوا حدود الله تعالى، والطغيان: تجاوز الحد ومنه قوله: {طغى الماء} [الحاقة: 11] وقوله في فرعون: {إنه طغى} [طه: 24-43، النازعات: 17]، وقيل في هذه معناه: ولا تطغينكم النعم، وهذا كالأول.
وقرأ الجمهور تعملون بتاء، وقرأ الحسن والأعمش: {يعملون} بياء من تحت- وقرأ الجمهور: {ولا تركَنوا} بفتح الكاف، وقرأ طلحة بن مصرف وقتادة والأشهب العقيلي وأبو عمرو- فيما روى عنه هارون- بضمها، وهو لغة، يقال: ركن يركَن وركن يركُن، ومعناه السكون، إلى شيء والرضا به قال أبو العالية: الركون: الرضا. قال ابن زيد: الركون: الإدمان.
قال القاضي أبو محمد: فالركون يقع على قليل هذا المعنى وكثيره، والنهي هنا يترتب من معنى الركون على الميل إليهم بالشرك معهم إلى أقل الرتب من ترك التغيير عليهم مع القدرة، و: {الذين ظلموا} هنا هم الكفار، وهو النص للمتأولين، ويدخل بالمعنى أهل المعاصي.
وقرأ الجمهور {فتَمسكم}، وقرأ يحيى وابن وثاب وعلقمه والأعمش وابن مصرف وحمزة- فيما روي عنه- {فتِمسكم} بكسر التاء وهي لغة في كسر العلامات الثلاث دون الياء التي للغائب، وقد جاء في الياء يِيجل ويِيبى، وعللت هذه بأن الياء التي وليت الأولى ردتها إلى الكسر. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}
قوله تعالى: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} الكلمة: أن الله عز وجل حكم أن يؤخرهم إلى يوم القيامة لما علم في ذلك من الصلاح؛ ولولا ذلك لقضى بينهم أجلهم بأن يثيب المؤمن ويعاقب الكافر.
قيل: المراد بين المختلفين في كتاب موسى؛ فإنهم كانوا بين مصدّق (به) ومكذّب.
وقيل: بين هؤلاء المختلفين فيك يا محمد بتعجيل العقاب، ولكن سبق الحكم بتأخير العقاب عن هذه الأمة إلى يوم القيامة.
{وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} إن حملت على قوم موسى؛ أي لفي شك من كتاب موسى فهم في شك من القرآن.
قوله تعالى: {وَإِنَّ كُلًا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} أي إن كلًا من الأمم التي عددناهم يرون جزاء أعمالهم؛ فكذلك قومك يا محمد.
واختلف القراء في قراءة: {وَإِنَّ كُلًا لَّمَّا} فقرأ أهل الحرمين نافع وابن كثير وأبو بكر معهم {وَإِنْ كُلًا لَمَا} بالتخفيف، على أنها إن المخففة من الثقيلة معملة؛ وقد ذكر هذا الخليل وسيبويه، قال سيبويه: حدثنا من أثق به أنه سمع العرب تقول: إن زيدًا لمنطلقٌ؛ وأنشد قول الشاعر:
كأنْ ظِبْيَةً تَعْطُو إلى وَارِقِ السَّلَمْ

أراد كأنها ظبية فخفّف ونصب ما بعدها؛ والبصريون يجوزون تخفيف إنّ المشدّدة مع إعمالها؛ وأنكر ذلك الكسائيّ وقال: ما أدري على أي شيء قرئ وَإِنْ كُلًا! وزعم الفراء أنه نصب كلاّ في قراءة من خفف بقوله: لَيُوفينهم أي وإن ليوفينهم كلاّ؛ وأنكر ذلك جميع النحويين، وقالوا: هذا من كبير الغلط؛ لا يجوز عند أحد زيدًا لأضربنه.
وشدّد الباقون: {إنّ} ونصبوا بها {كلاّ} على أصلها.
وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر {لَمَّا} بالتشديد.
وخففها الباقون على معنى: وإن كلا ليوفينهم، جعلوا {ما} صلة.
وقيل: دخلت لتفصل بين اللامين اللتين تتلقيان القسم، وكلاهما مفتوح ففصل بينهما بما.
وقال الزجاج: لام لمّا لام إنّ وما زائدة مؤكدة؛ تقول: إن زيدًا لمنطلق؛ فإنّ تقتضي أن يدخل على خبرها أو اسمها لام كقولك: {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى} [الزمر: 21].
واللام في {ليوفينهم} هي التي يُتَلقى بها القسم، وتدخل على الفعل ويلزمها النون المشدّدة أو المخففة؛ ولما اجتمعت اللامان فصل بينهما بما وما زائدة مؤكدة، وقال الفراء: ما بمعنى من كقوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72] أي وإنّ كلًا لمن ليوفِينهم، واللام في {ليوفينهم} للقسم؛ وهذا يرجع معناه إلى قول الزجاج، غير أن ما عند الزجاج زائدة وعند الفراء اسم بمعنى من.
وقيل: ليست بزائدة، بل هي اسم دخل عليها لام التأكيد، وهي خبر إن و{ليوفينهم} جواب القسم، التقدير: وإنّ كلًا خَلْق ليوفينهم ربك أعمالهم.
وقيل: ما بمعنى من كقوله: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النساء} [النساء: 3] أي مَنْ؛ وهذا كله هو قول الفراء بعينه.
وأما من شدّد لما وقرأ: {وَإِنَّ كُلًا لَمَّا} بالتشديد فيهما وهو حمزة ومن وافقه فقيل: إنه لحن؛ حكي عن محمد بن يزيد أن هذا لا يجوز؛ ولا يقال: إنّ زيدًا إلاّ لأضربَنّه، ولا لَمّا لضربته.
وقال الكسائي: الله أعلم بهذه القراءة، وما أعرف لها وجهًا.
وقال هو وأبو علي الفارسي: التشديد فيهما مشكل.
قال النحاس وغيره: وللنحويين في ذلك أقوال: الأول: أن أصلها لمن ما فقلبت النون ميمًا، واجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الوسطى فصارت لما وما على هذا القول بمعنى من تقديره: وإن كلا لمن الذين؛ كقولهم:
وإنِّيَ لَمَّا أصْدِرُ الأمرَ وجهَهُ ** إذا هو أَعْيَا بالسَّبِيلِ مَصَادِرُه

وزيّف الزجاج هذا القول، وقال: من اسم على حرفين فلا يجوز حذفه.
الثاني؛ أن الأصل لِمن ما، فحذفت الميم المكسورة لاجتماع الميمات، والتقدير: وإنّ كُلًا لِمَنْ خَلْقٍ ليوفينهم.
وقيل: لمَّا مصدر لَمَّ وجاءت بغير تنوين حملًا للوصل على الوقف؛ فهي على هذا كقوله: {وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلًا لَّمًّا} [الفجر: 19] أي جامعًا للمال المأكول؛ فالتقدير على هذا: وإن كلًا ليوفينهم ربك أعمالهم توفية لمًّا؛ أي جامعة لأعمالهم جمعًا، فهو كقولك: قيامًا لأقومنّ.
وقد قرأ الزهري {لَمًّا} بالتشديد والتنوين على هذا المعنى.
الثالث: أن لمّا بمعنى إلاّ حكى أهل اللغة: سألتك بالله لمّا فعلت؛ بمعنى إلاَّ فعلت؛ ومثله قوله تعالى: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] أي إلا عليها؛ فمعنى الآية: ما كل واحد منهم إلا ليوفينهم؛ قال القُشيريّ: وزيّف الزجاج هذا القول بأنه لا نفي لقوله: {وَإِنَّ كُلًا لَّمَّا} حتى تقدر إلا ولا يقال: ذهب الناس لما زيد.
الرابع: قال أبو عثمان المازني: الأصل وإن كلاّ لَمَا بتخفيف لَمّا ثم ثقلت كقوله:
لقد خَشِيتُ أَنْ أَرَى جَدَبًّا ** في عامِنَا ذا بعدَ ما أَخْصَبَّا

وقال أبو إسحاق الزجاج: هذا خطأ إنما يخفّف المثقل، ولا يثقّل المخفّف.
الخامس: قال أبو عبيد القاسم ابن سلاّم: يجوز أن يكون التشديد من قولهم: لَمَمْتُ الشيءَ أَلُمُّهُ لَمًّا إذا جمعته، ثم بنى منه فَعْلَى، كما قرئ: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} [المؤمنون: 44] بغير تنوين وبتنوين.
فالألف على هذا للتأنيث، وتمال على هذا القول لأصحاب الإمالة؛ قال أبو إسحاق: القول الذي لا يجوز غيره عندي أن تكون مخففة من الثقيلة، وتكون بمعنى ما مثل: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] وكذا أيضًا تشدّد على أصلها، وتكون بمعنى ما ولما بمعنى إلا حكى ذلك الخليل وسيبويه وجميع البصريين؛ وأن لما يستعمل بمعنى إلا قلت: هذا القول (الذي) ارتضاه الزجاج حكاه عنه النحاس وغيره؛ وقد تقدم مثله وتضعيف الزجاج له، إلا أن ذلك القول صوابه إنْ فيه نافية، وهنا مخففة من الثقيلة فافترقا وبقيت قراءتان؛ قال أبو حاتم: وفي حرف أُبَي: {وَإِنْ كُلٌّ إِلاَّ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} وروي عن الأعمش {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا} بتخفيف إن ورفع كل وبتشديد لما.
قال النحاس: وهذه القراءات المخالفة للسواد تكون فيها إنْ بمعنى ما لا غير، وتكون على التفسير؛ لأنه لا يجوز أن يقرأ بما خالف السواد إلا على هذه الجهة.
{إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} تهديد ووعيد.
قوله تعالى: {فاستقم كَمَا أُمِرْتَ} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره.
وقيل: له والمراد أمته؛ قاله السديّ.
وقيل: استقم اطلب الإقامة على الدّين من الله واسأله ذلك.
فتكون السين سين السؤال، كما تقول: أستغفر الله أطلب الغفران (منه) والاستقامة الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين والشمال؛ فاستقم على امتثال أمر الله.
وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك! قال: «قل آمنت بالله ثم استقم».
وروى الدارميّ أبو محمد في مسنده عن عثمان بن حاضر الأزديّ قال: دخلت على ابن عباس فقلت أوصني! فقال: نعم! عليك بتقوى الله والاستقامة، اتبع ولا تبتدع: {وَمَن تَابَ مَعَكَ} أي استقم أنت وهم؛ يريد أصحابه الذين تابوا من الشرك ومَن بعده ممن اتبعه من أمته.
قال ابن عباس ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية عليه، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرع إليك الشيب! فقال: «شيبتني هود وأخواتها» وقد تقدّم في أول السورة. وروي عن أبي عبد الرحمن السُّلَمِيّ قال سمعت أبا علي السَّرِي يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول اللها روي عنك أنك قلت: «شيبتني هود».
فقال: «نعم» فقلت له: ما الذي شيّبك منها؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم فقال: «لا ولكن قوله: فاستقم كما أمرت»: {وَلاَ تَطْغَوْاْ} نهي عن الطغيان والطغيان مجاوزة الحد؛ ومنه: {إِنَّا لما طغى الماء}.
وقيل: أي لا تتجبروا على أحد.
{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)} فيه أربع مسائل:
الأولى:
قوله تعالى: {وَلاَ تركنوا} الركون حقيقة الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به، قال قتادة: معناه لا تودّوهم ولا تطيعوهم.
ابن جريج: لا تميلوا إليهم.
أبو العالية: لا ترضوا أعمالهم؛ وكله متقارب.
وقال ابن زيد: الركون هنا الإدْهَان وذلك ألا ينكر عليهم كفرهم.
الثانية:
قرأ الجمهور: {تَرْكَنُوا} بفتح الكاف؛ قال أبو عمرو: هي لغة أهل الحجاز.
وقرأ طلحة بن مُصرِّف وقتادة وغيرهما: {تركُنوا} بضم الكاف؛ قال الفراء: وهي لغة تميم وقيس.
وجوز قوم ركَن يركَن مثل منَعَ يَمنَع.
الثالثة:
قوله تعالى: {إِلَى الذين ظَلَمُواْ} قيل: أهل الشرك.
وقيل: عامة فيهم وفي العصاة، على نحو قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا} [الأنعام: 68] الآية.
وقد تقدّم. وهذا هو الصحيح في معنى الآية؛ وأنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم؛ فإن صحبتهم كفر أو معصية؛ إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودّة؛ وقد قال حكيم:
عن المرء لا تَسأَل وسَلْ عن قَرينه ** فكلُّ قرينٍ بالمُقَارن يَقْتَدِي

فإن كانت الصحبة عن ضرورة وتَقيّة فقد مضى القول فيها في آل عمران والمائدة. وصحبة الظالم على التقية مستثناة من النهي بحال الاضطرار. والله أعلم.
الرابعة:
قوله تعالى: {فَتَمَسَّكُمُ النار} أي تحرقكم.
بمخالطتهم ومصاحبتهم وممالأتهم على إعراضهم وموافقتهم في أمورهم. اهـ.