فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فاستقم كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ} ترتب عن التسلية التي تضمّنها قوله: {ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه} [هود: 110] وعن التثبيت المفاد بقوله: {فلا تك في مرية ممّا يَعبد هؤلاء} [هود: 109] الحضّ على الدّوام على التمسك بالإسلام على وجه قويم.
وعبّر عن ذلك بالاستقامة لإفادة الدّوام على العمل بتعاليم الإسلام، دوامًا جماعهُ الاستقامة عليه والحذر من تغييره. ولمّا كان الاختلاف في كتاب موسى عليه السّلام إنّما جاء من أهل الكتاب عطف على أمر النّبيء صلى الله عليه وسلم بالاستقامة على كتابه أمرُ المؤمنين بتلك الاستقامة أيضًا، لأنّ الاعوجاج من دواعي الاختلاف في الكتاب بنهوض فرق من الأمة إلى تبديله لمجاراة أهوائهم، ولأنّ مخالفة الأمّة عمدًا إلى أحكام كتابها إن هو إلاّ ضرب من ضروب الاختلاف فيه، لأنّه اختلافها على أحكامه.
وفي الحديث: «فإنّما أهلكَ الذين من قبلكم كثرةُ مسائلهم واختلافُهم على أنبيائهم»، فلا جرم أن كانت الاستقامة حائلًا دون ذلك، إذ الاستقامة هي العمل بكمال الشريعة بحيث لا ينحرف عنها قِيد شبر.
ومتعلقها العمل بالشريعة بعد الإيمان لأنّ الإيمان أصل فلا تتعلّق به الاستقامة. وقد أشار إلى صحّة هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبِي عَمْرَةَ الثقفي لمّا قال له: «يا رسول الله قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرك. قال: قل آمنت بالله ثم استَقِمْ». فجعل الاستقامة شيئًا بعد الإيمان. ووُجّه الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم تنويهًا بشأنه ليبني عليه قوله: {كما أمرتَ} فيشير إلى أنّه المتلقّي للأوامر الشرعيّة ابتداء.
وهذا تنويه له بمقام رسالته، ثم أُعلم بخطاب أمّته بذلك بقوله: {ومن تاب معك}.
وكاف التّشبيه في قوله: {كما أمرت} في موضع الحال من الاستقامة المأخوذة من (استقم).
ومعنى تشبيه الاستقامة المأمور بها بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم لكون الاستقامة مماثلة لسائر ما أمر به، وهو تشبيه المجمل بالمفصّل في تفصيله بأن يكون طبقه.
ويؤول هذا المعنى إلى أن تكون الكاف في معنى (على) كما يقال: كن كما أنت.
أي لا تتغيّر، ولتشبه أحوالك المستقبلة حالتك هذه.
{ومن تاب} عطف على الضمير المتّصل في: {أمرت}.
ومصحّح العطف موجود وهو الفصل بالجار والمجرور.
{ومن تاب} هم المؤمنون، لأنّ الإيمان توبة من الشّرك، و: {معك} حال من: {تاب} وليس متعلّقًا بـ: {تاب} لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن من المشركين.
وقد جمع قوله: {فاستقم كما أمرت} أصول الصّلاح الديني وفروعه لقوله: {كما أمرتَ}.
قال ابن عبّاس: ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشدّ ولا أشق من هذه الآية عليه.
ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرع إليك الشيب «شيبتني هود وأخواتها».
وسئل عمّا في هود فقال: قوله: {فاستقم كما أمرت}.
الخطاب في قوله: {ولا تطغوا} موجه إلى المؤمنين الذين صدق عليهم: {ومن تاب معك}.
والطغيان أصله التّعاظم والجراءة وقلة الاكتراث، وتقدّم في قوله تعالى: {ويمدُّهم في طغيانهم يعمهون} في سورة [البقرة: 15].
والمراد هنا الجراءة على مخالفة ما أمروا به، قال تعالى: {كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحلّ عليكم غضبي} [طه: 81].
فنهى الله المسلمين عن مخالفة أحكام كتابه كما نهى بني إسرائيل.
وقد شمل الطغيان أصول المفاسد، فكانت الآية جامعة لإقامة المصالح ودَرْء المفاسد، فكان النهي عنه جامعًا لأحوال مصادر الفساد من نفس المفسد وبقي ما يخشى عليه من عدوى فساد خليطه فهو المنهى عنه بقوله بعد هذا: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار} [هود: 113].
وعن الحسن البصري: جعل الله الدّين بين لاءَيْن: {ولا تطغوا}، {ولا تركنوا} [هود: 113].
وجملة: {إنّه بما تعملون بصير} استئناف لتحذير من أخفى الطغيان بأن الله مطلع على كل عمل يعمله المسلمون، ولذلك اختير وصف: {بصير} من بين بقية الأسماء الحسنى لدلالة مادته على العلم البين ودلالة صيغته على قوته.
{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}
الرّكُون: الميل والموافقة، وفعله كعَلِم.
ولعلّه مشتق من الرُكْن بضم فسكون وهو الجنب، لأنّ المائل يدني جنبه إلى الشيء الممال إليه.
وهو هنا مستعار للموافق، فبعد أن نهاهم عن الطغيان نهاهم عن التقارب مِن المشركين لئلاّ يضلوهم ويزلوهم عن الإسلام.
و: {الذين ظلموا} هم المشركون.
وهذه الآية أصل في سدّ ذرائع الفساد المحقّقة أو المظنونة.
والمسّ: مستعمل في الإصابة كما تقدّم في قوله تعالى: {إنّ الذين اتّقوا إذا مسّهم طائفٌ من الشّيطان} في آخر الأعراف (201)، والمراد: نار العذاب في جهنّم.
وجملة {وما لكم من دون الله من أولياء} حال، أي لا تجدون من يسعى لما ينفعكم.
و: {ثمّ} للتّراخي الرتبي، أي ولا تجدون من ينصركم، أي من يخفّف عنكم مسّ عذاب النّار أو يخرجكم منها.
و: {من دون الله} متعلّق بأولياء لتضمينه معنى الحُماة والحائلين.
وقد جمع قوله: {ولا تطغوا} [هود: 112] وقوله: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا} أصلي الدّين، وهما: الإيمان والعمل الصالح، وتقدّم آنفًا قول الحسن: جعل الله الدين بين لاَئين: {ولا تطغوا}، ولا تركنوا. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ}
وسورة هود هي السورة الوحيدة في القرآن التي جاء فيها ذكر رسول واحد مرتين، فقد ذكر الحق سبحانه أنه أمر موسى عليه السلام بأن يذهب إلى فرعون، وأن يريه الآيات، ولم يزد، ثم انتقل من ذلك الإبلاغ فقال سبحانه: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة} [هود: 98].
أي: أنه أعقب أولية البلاغ بالختام الذي انتهى إليه فرعون يوم القيامة، فيُورِد قومه النار.
ثم يأتي الحق سبحانه هنا إلى موسى عليه السلام بعد ابتداء رسالته؛ ولذلك يقول تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب} [هود: 110].
ونحن نعلم أن ذِكْر موسى عليه السلام في البداية كان بمناسبة ذِكْر ما له علاقة بشعيب عليه السلام حين ورد موسى ماء مدين، ولكن العجيب أنه عند ذِكْر شعيب لم يذكر قصة موسى معه، وإنما ذكر قصة موسى مع فرعون.
وقد علمنا أن موسى عليه السلام لم يكن آتيًا إلى فرعون إلا لمهمة واحدة، هي أن يرسل معه بني إسرائيل ولا يعذبهم.
وأما ما يتأتى بعد ذلك من الإيمان بالله فقد جاء كأمر تبعيٍّ، لأن رسالة موسى عليه السلام لم تكن إلا لبني إسرائيل؛ ولذلك جاء هنا بالكتاب ليبلغه إلى بني إسرائيل منهجًا، أما في الموضع الأول فقد ذكر سبحانه الآيات التي أرسل بها موسى إلى فرعون.
ونحن نعلم أن سورة هود عرضت لمواكب الرسل: نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وإبراهيم عليهم جميعًا السلام وجاء الحديث فيها عن موسى عليه السلام مرتين: مرة في علاقته بفرعون، ومرة في علاقته ببني إسرائيل.
وفي كل لقطة من اللقطات مهمة أساسية من مهمات المنهج الإلهي للناس عمومًا، من أول آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة؛ إلا أنه عند ذكر كل رسول يأتي باللقطة التي تعالج داءً موقوتًا عند القوم.
فالقَدْر المشترك في دعوات كل الرسل هو قوله سبحانه: {اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].
ثم يختلف الأمر بعد ذلك من رسول لآخر، فمنهم من يأمر قومه ألا يعبدوا الأصنام؛ ومنهم من يأمر قومه ألا ينقصوا الكيل والميزان.
وهكذا نجد في كل لقطة مع كل رسول علاج داء من داءات تلك الأمة، أما الإسلام فقد جاء ليعالج داءات البشرية كلها؛ لذلك جمعت كل القيم الفاضلة في القرآن كمنهج للبشرية.
لذلك فالحق سبحانه لا يقص علينا القصص القرآني للتسلية، أو لقتل الوقت، أو لتعلم التاريخ؛ ولكن لنلتقط العبرة من رسالة كل رسول إلى أمته التي بعث إليها ليعالج داءها.
وبما أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ستكون آخر عهدٍ لالتقاء البشر بالبشر، وستكون فيها كل أجواء وداءات الدنيا، لذلك فعليهم التقاط تلك العبر؛ لأن رسالتهم تستوعب الزمان كله، والمكان كله.
والحق سبحانه هنا يقول: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ} [هود: 110].
ونحن نعلم أنه إذا تقدم أمران على ضمير الغيبة؛ فيصح أن يعود الضمير إلى كل أمر منهما.
وقوله سبحانه: {فاختلف فِيهِ} [هود: 110].
يصح أن يكون الاختلاف في أمر موسى، ويصح أن يكون الاختلاف في أمر الكتاب، والخلاف في واحد منهما يؤدي إلى الخلاف في الآخر؛ لأنه لا انفصال بين موسى عليه السلام، والكتاب الذي أنزله الله عليه.
وهكذا فالأمران يلتقيان: أمر الرسالة في الكتاب، وأمر الرسول في الاصطفاء؛ ولذلك لم يجعلهما الحق سبحانه أمرين، بل هما أمر واحد؛ لأن الرسول لا ينفصل عن منهجه.
وقول الحق: {آتَيْنَا موسى الكتاب} [هود: 110] أمر يتعلق بفعل الحق سبحانه، ولله ذات، ولله صفات، ولله أفعال.
وهو سبحانه مُنزَّه في ذاته عن أي تشبيه، ولله صفات، وهي ليست ككل الصفات، فالحق سبحانه موجود، وأنت موجود، لكن وجوده قديم أزليٌّ لا ينعدم، وأنت موجود طارئ ينعدم.
ونحن نأخذ كل ما يتعلق بالله سبحانه في إطار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. فإذا تكلم الحق سبحانه عن الفعل فخذ كل فعلٍ صدر عنه بقوته سبحانه غير النهائية. وقوله سبحانه هنا: {آتَيْنَا موسى الكتاب} [هود: 110]. نفهم منه أن هذا الفعل قد استلزم صفات متكاملة، علمًا وحكمًا، وقدرةً، وعفوًا، وجبروتًا، وقهرًا، فهناك أشياء كثرة تتكاتف لتحقيق هذا الإتيان.
وقد يسأل سائل: وما دام موسى عليه السلام قد أوتي الكتاب، واختُلف فيه، فلماذا لم يأخذ الحق سبحانه قوم موسى كما أخذ قوم نوح، أو قوم عاد، أو قوم ثمود، أو بقية الأقوام الذين أخذهم الله بالعذاب؟
ونقول: ما نجوا من عذاب الله بقدرتهم؛ بل لأن الحق سبحانه قد جعل عذابهم آجلًا، وهو يوم الحساب.
ولذلك قال سبحانه في الآية نفسها: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [هود: 110].
وبذلك حكم الحق حكمًا فاصلًا، كما حكم على الأمم السابقة التي كانت مهمة رسلهم هي البلاغ، ولم تكن مهمة رسلهم أن يحاربوا من أجل إرساء دعوة أو تثبيت حق؛ ولذلك كانت السماء هي التي تتدخل بالأمر النهائي.
لكن اختلف الأمر في رسالة موسى عليه السلام، فقد سبق فيه قول الله تعالى بالتأجيل للحساب إلى يوم القيامة.
ثم يقول الحق سبحانه هنا: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [هود: 110].
كأنهم في شك من يوم القيامة، وفي شك من الحساب، مثل قوله سبحانه في أول الآية عن الاختلاف في الكتاب وموسى عليه السلام.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَإِنَّ كُلًا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ}
إذن: فالحق سبحانه قد أخذ قوم الرسل السابقين على موسى بالعذاب، أما في بدء رسالة موسى عليه السلام فقد تم تأجيل العذاب ليوم القيامة.
ويبيِّن الحق سبحانه: لا تعتقدوا أن تأجيل العذاب ليوم القيامة يعني الإفلات من العذاب، بل كل واحد سيوفِّى جزاء عمله؛ بالثواب لمن أطاع، وبالعقاب لمن عصا، فأمر الله سبحانه آت لا محالة وتوفية الجزاء إنما تكون على قدر الأعمال، كفرًا أو إيمانًا، صلاحًا أو فسادًا، وميعاد ذلك هو يوم القيامة.
وهنا وقفة في أسلوب النص القرآني، حتى يستوعب الذين لا يفهمون اللغة العربية كمَلَكة، كما فهمها العرب الأقدمون.
ونحن نعلم أن العربي القديم لم يجلس إلى معلم، لكنه فهم اللغة ونطق بها صحيحة؛ لأنه من أمة مفطورة على الأداء البياني الدقيق، الرقيق، الرائع.
فاللغة كما نعلم ليست جنسًا، وليست دمًا، بل هي ظاهرة اجتماعية، فالمجتمع الذي ينشأ فيه الطفل هو الذي يحدد لغته، فالطفل الذي ينشأ في مجتمع يتحدث العربية، سوف ينطق بالعربية، والطفل الذي يوجد في مجتمع يتحدث اللغة الإنجليزية، سينطق بالإنجليزية؛ لأن اللغة هي ما ينطق به اللسان حسبما تسمع الأذن.
وكانت غالبية البيئة العربية في الزمن القديم بيئة منعزلة، وكان من ينشأ فيها إنما يتكلم اللغة السليمة.