فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} أَيْ: فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَجِيءُ فِيهِ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْمُعَيَّنُ لَا تَتَكَلَّمُ نَفْسٌ مِنَ الْأَنْفُسِ النَّاطِقَةِ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ يَوْمُهُ الْخَاصُّ الَّذِي لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ فِيهِ قَوْلًا وَلَا فِعْلًا إِلَّا بِإِذْنِهِ كَمَا قَالَ: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} 78: 38 وَقَالَ: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} 20: 108 و109 وَقَالَ فِي الْكُفَّارِ: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} 77: 35 36 وَقَالَ: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} 36: 65 إِلَخْ.
وَفُسِّرَتْ كَلِمَةُ {يَوْمَ} فِي الْآيَةِ بِالْوَقْتِ الْمُطْلِقِ، أَيْ: غَيْرِ الْمَحْدُودِ؛ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ لِلْيَوْمِ الْمَحْدُودِ الْمَوْصُوفِ بِمَا ذُكِرَ الَّذِي هُوَ فَاعِلٌ يَأْتِي. وَأَرَادَ بَعْضُهُمْ الْهَرَبَ مِنْ جَعْلِ يَوْمَ ظَرْفًا لِلْيَوْمِ، فَقَالُوا: الْمَعْنَى يَوْمَ يَأْتِي جَزَاؤُهُ أَوْ هَوْلُهُ، أَوِ اللهُ- تَعَالَى-، وَاسْتَشْهَدُوا لِلْأَخِيرِ بِقَوْلِهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ} 2: 210 وَالشَّوَاهِدُ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا نَصٌّ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى غَيْرِ جَعْلِ يَوْمَ بِمَعْنَى وَقْتٍ أَوْ حِينٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ {يَأْتِ} بِحَذْفِ الْيَاءِ اجْتِزَاءً عَنْهَا بِالْكَسْرَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِرَسْمِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ وَهُوَ لُغَةُ هُذَيْلٍ، تَقُولُ: مَا أَدْرِ مَا تَقُولُ. وَنَفْيُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَّا بِإِذْنِهِ تَعَالَى يُفَسِّرُ لَنَا الْجَمْعَ بَيْنَ الْآيَاتِ النَّافِيَةِ لَهُ مُطْلَقًا وَالْمُثْبِتَةِ لَهُ مُطْلَقًا.
{فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} أَيْ: فَمِنَ الْأَنْفُسِ الْمُكَلَّفَةِ الَّتِي تُجْمَعُ فِيهِ، شَقِيٌّ مُسْتَحِقٌّ لِوَعِيدِ الْكَافِرِينَ بِالْعَذَابِ الدَّائِمِ، وَمِنْهُمْ سَعِيدٌ مُسْتَحِقٌّ لِمَا وُعِدَ بِهِ الْمُتَّقُونَ مِنَ الثَّوَابِ الدَّائِمِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ غَيْرُ الْمُكَلَّفِينَ كَالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ، وَأَمَّا مَنْ تَسْتَوِي حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ تَغْلِبُ سَيِّئَاتُهُمْ مِنْهُمْ وَيُعَاقَبُونَ عَلَيْهَا فِي النَّارِ عِقَابًا مَوْقُوتًا ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَهُمْ مِنْ فَرِيقِ السُّعَدَاءِ بِاعْتِبَارِ الْخَاتِمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَالسُّعَدَاءُ دَرَجَاتٌ، وَالْأَشْقِيَاءُ دَرَكَاتٌ.
رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ أَبُو يَعْلَى وَأَشْهَرُ رُوَاةِ التَّفْسِيرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ فَعَلَامَ نَعْمَلُ؟ عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ أَوْ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يُفْرَغْ مِنْهُ؟ قَالَ: «بَلْ عَلَى شَيْءٍ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ وَجَرَتْ بِهِ الْأَقْلَامُ يَا عُمَرُ، وَلَكِنْ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» وَحَدِيثُ: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ فِيمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» وَعَنْ عَلِيٍّ- كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ- عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ فِي جِنَازَةٍ فَأَخَذَ عُودًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ، فَقَالَ: «مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ أَوْ مِنَ النَّارِ» فَقَالُوا: أَلَا نَتَّكِلَ؟ قَالَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» وَقَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} 92: 5 إِلَخْ، وَمَعْنَاهُ الَّذِي غَفَلَ عَنْهُ أَوْ جَهِلَهُ الْكَثِيرُونَ عَلَى ظُهُورِهِ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَعِلْمُهُ بِأَنَّ زَيْدًا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَوِ النَّارَ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَدْخُلَهَا بِغَيْرِ عَمَلٍ يَسْتَحِقُّهَا بِهِ بِحَسَبِ وَعْدِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَلَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِيمَا يَعْمَلُهُ فِي الْجَزَاءِ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُ اللهُ الْمُسْتَقْبَلَ كُلَّهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَأَطْرَافِهِ، وَمِنْهُ عَمَلُ الْعَامِلِينَ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ مِنَ الْجَزَاءِ بِحَسَبِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فِي كِتَابِهِ الْمُنَزَّلِ وَكِتَابَتِهِ لِلْمَقَادِيرِ، وَلَا تَنَاقُضَ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَنَا مَا نَعْلَمُ بِهِ مَا سَيَكُونُ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْجَزَاءَ بِالْعَمَلِ، وَأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ مُيَسَّرٌ لَهُ وَمُسَهَّلٌ عَلَيْهِ مَا خَلَقَهُ اللهُ لِأَجْلِهِ مِنْ سَعَادَةِ الْجَنَّةِ وَشَقَاوَةِ النَّارِ، وَأَنَّ مَا وَهَبَهُ لِلْإِنْسَانِ مِنَ الْعَزْمِ وَالْإِرَادَةِ يَكُونُ لَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي تَرْبِيَةِ النَّفْسِ مَا يُوَجِّهُهَا بِهِ إِلَى مَا يَعْتَقِدُ أَنَّ فِيهِ سَعَادَتَهُ، ثُمَّ بَيَّنَ جَزَاءَ الْفَرِيقَيْنِ بِالتَّفْصِيلِ فَقَالَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا} أَيِ الَّذِينَ شَقُوا فِي الدُّنْيَا بِالْفِعْلِ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ أَعْمَالِ الْأَشْقِيَاءِ لِفَسَادِ عَقَائِدِهِمُ الْمَوْرُوثَةِ بِالتَّقْلِيدِ، حَتَّى أَحَاطَتْ بِهِمْ خَطِيئَاتُهُمْ وَأَطْفَأَتْ نُورَ الْفِطْرَةِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فَفِي النَّارِ مُسْتَقَرُّهُمْ وَمَثْوَاهُمْ، {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} مِنْ ضِيقِ أَنْفَاسِهِمْ، وَحَرَجِ صُدُورِهِمْ، وَشِدَّةِ كُرُوبِهِمْ، فَالزَّفِيرُ وَالشَّهِيقُ: صَوْتَانِ يَخْرُجَانِ مِنَ الصَّدْرِ عِنْدَ شِدَّةِ الْكَرْبِ وَالْحُزْنِ فِي بُكَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: الزَّفِيرُ إِخْرَاجُ النَّفَسِ وَالشَّهِيقُ رَدُّهُ. قَالَ الشَّمَّاخُ:
بِعِيدٌ مَدَى التَّطْرِيبِ أَوَّلُ صَوْتِهِ ** زَفِيرٌ وَيَتْلُوهُ شَهِيقٌ مُحَشْرِجُ

وَقَالَ الرَّاغِبُ فِي الْآيَةِ: فَالزَّفِيرُ تَرَدُّدُ النَّفَسِ حَتَّى تَنْتَفِخَ الضُّلُوعُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: الشَّهِيقُ طُولُ الزَّفِيرِ وَهُوَ رَدُّ النَّفْسِ، وَالزَّفِيرُ مَدُّهُ. وَقَالَ فِي اللِّسَانِ: الشَّهِيقُ أَقْبَحُ الْأَصْوَاتِ، شَهِقَ كَعَلِمَ وَضَرَبَ، شَهِيقًا وَشُهَاقًا: رَدَّدَ الْبُكَاءَ فِي صَدْرِهِ .اهـ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ تَنَفُّسَ الصُّعَدَاءِ مِنَ الْهَمِّ وَالْكَرْبِ إِذَا امْتَدَّ وَاشْتَدَّ فَسُمِعَ صَوْتُهُ كَانَ زَفِيرًا، وَأَنَّ النَّشِيجَ فِي الْبُكَاءِ إِذَا اشْتَدَّ تَرَدُّدُهُ فِي الصَّدْرِ وَارْتَفَعَ بِهِ الصَّوْتُ سُمِّيَ شَهِيقًا، وَأَصْلُ اشْتِقَاقِهِ مِنَ الشُّهُوقِ، وَقَوْلُهُمْ: جَبَلٌ شَاهِقٌ.
وَمَا أَبْلَغَ قَوْلَ شَيْخِنَا فِي مُقَدِّمَةِ الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى يَصِفُ كَرْبَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شِدَّةِ اعْتِدَاءِ الْمُسْتَعْمِرِينَ الظَّالِمِينَ: وَسَرَى الْأَلَمُ فِي أَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ سَرَيَانَ الِاعْتِقَادِ فِي مَدَارِكِهِمْ، وَهُمْ مِنْ تِذْكَارِ الْمَاضِي وَمُرَاقَبَةِ الْحَاضِرِ يَتَنَفَّسُونَ الصُّعَدَاءَ، وَلَا نَأْمَنُ أَنْ يَصِيرَ التَّنَفُّسُ زَفِيرًا بَلْ نَفِيرًا عَامًّا، بَلْ يَكُونُ صَاخَّةً تُمَزِّقُ مَنْ أَصَمَّهُ الطَّمَعُ.
{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا مُكْثَ بَقَاءٍ وَخُلُودٍ، لَا يَبْرَحُونَهَا مُدَّةَ دَوَامِ السَّمَوَاتِ الَّتِي تُظِلُّهُمْ وَالْأَرْضِ الَّتِي تُقِلُّهُمْ، وَهَذَا بِمَعْنَى قَوْلِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} فَإِنَّ الْعَرَبَ تَسْتَعْمِلُ هَذَا التَّعْبِيرَ بِمَعْنَى الدَّوَامِ، وَغَلَطَ مَنْ قَالُوا: الْمُرَادُ مُدَّةُ دَوَامِهَمَا فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ تُبَدَّلُ وَتَزُولُ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، وَسَمَاءُ كُلٍّ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ مَا هُوَ فَوْقَهُمْ، وَأَرْضُهُمْ مَا هُمْ مُسْتَقِرُّونَ عَلَيْهِ وَهُوَ تَحْتَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِكُلِّ جَنَّةٍ أَرْضٌ وَسَمَاءٌ. وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ السُّدِّيِّ وَالْحَسَنِ {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} أَيْ: أَنَّ هَذَا الْخُلُودَ الدَّائِمَ هُوَ الْمُعَدُّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، الْمُنَاسِبُ لِصِفَةِ أَنْفُسِهِمُ الْجَهُولِ الظَّالِمَةِ الَّتِي أَحَاطَتْ بِهِمْ ظُلْمَةُ خَطِيئَاتِهَا وَفَسَادُ أَخْلَاقِهَا- كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِرَارًا- إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ مِنْ تَغْيِيرٍ فِي هَذَا النِّظَامِ فِي طَوْرٍ آخَرَ، فَهُوَ إِنَّمَا وُضِعَ بِمَشِيئَتِهِ، وَسَيَبْقَى فِي قَبْضَةِ مَشِيئَتِهِ، وَقَدْ عُهِدَ مِثْلُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فِي سِيَاقِ الْأَحْكَامِ الْقَطْعِيَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَقْيِيدِ تَأْيِيدِهَا بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى فَقَطْ لَا لِإِفَادَةِ عَدَمِ عُمُومِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ} [7: 188] أَيْ لَا أَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِقُدْرَتِي وَإِرَادَتِي إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يُمَلِّكَنِيهِ مِنْهُ بِتَسْخِيرِ أَسْبَابِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَمِثْلُهُ فِي (10: 49) مَعَ تَقْدِيمِ الضَّرِّ. وَقَوْلُهُ: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ} [87: 6 و7] عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، أَيْ: إِنَّهُ تَعَالَى ضَمِنَ لِنَبِيِّهِ حِفْظَ الْقُرْآنِ الَّذِي يُقْرِئُهُ إِيَّاهُ بِقُدْرَتِهِ، وَعَصَمَهُ أَلَّا يَنْسَى مِنْهُ شَيْئًا بِمُقْتَضَى الضَّعْفِ الْبَشَرِيِّ، فَهُوَ لَا يَقَعُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِمَشِيئَةِ اللهِ، فَهُوَ وَحْدَهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَيْهِ {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} فَهُوَ إِنْ شَاءَ غَيْرَ ذَلِكَ فَعَلَهُ، مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ مَشِيئَتُهُ بِمَا سَبَقَ بِهِ عِلْمُهُ وَاقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إِخْلَافًا لِشَيْءٍ مِنْ وَعْدِهِ وَلَا مِنْ وَعِيدِهِ كَخُلُودِ أَهْلِ النَّارِ فِيهَا، فَإِنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُقَيَّدٌ بِمَشِيئَتِهِ، وَهِيَ تَجْرِي بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي مِثْلِ هَذَا اسْتِثْنَاءً مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} 6: 128
وَقَدْ فَصَّلْنَا فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ فِي الْخِلَافِ فِي أَبَدِيَّةِ النَّارِ وَعَذَابِهَا، وَوَعَدْنَا بِالْعَوْدَةِ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَسَنَجْعَلُهُ فِي الْخُلَاصَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ لِلسُّورَةِ لِتَبْقَى سِلْسِلَةُ التَّفْسِيرِ هُنَا مُتَّصِلَةً.
{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أَيْ دَائِمًا غَيْرَ مَقْطُوعٍ، مِنْ جَذَّهُ يَجُذُّهُ (مِنْ بَابِ نَصَرَ) إِذَا قَطَعَهُ أَوْ كَسَرَهُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا التَّذْيِيلِ وَمَا قَبْلَهُ عَظِيمٌ، فَكُلٌّ مِنَ الْجَزَاءَيْنِ مِنْهُ تَعَالَى وَمُقَيَّدٌ دَوَامُهُ بِمَشِيئَتِهِ، وَلَكِنَّهُ ذَيَّلَ هَذَا بِأَنَّهُ هِبَةٌ مِنْهُ وَإِحْسَانٌ دَائِمٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ، وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ مِثْلَهُ غَيْرَ مَقْطُوعٍ لَمَا كَانَ فَضْلًا وَإِحْسَانًا، وَقَدْ تَكَرَّرَ وَعْدُ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُحْسِنِينَ بِأَنَّهُ يَجْزِيهِمْ بِالْحُسْنَى وَبِأَحْسَنِ مِمَّا عَمِلُوا، وَبِأَنَّهُ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، وَبِأَنَّهُ يُضَاعِفُ لَهُمُ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَبِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. وَلَمْ يَعُدْ بِزِيَادَةِ جَزَاءِ الْكَافِرِينَ وَالْمُجْرِمِينَ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَ، بَلْ كَرَّرَ الْوَعْدَ بِأَنَّهُ يَجْزِيهِمْ بِمَا عَمِلُوا، وَبِأَنَّ السَّيِّئَةَ بِمِثْلِهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، وَبِأَنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا، دَعْ مَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ فِي سَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَفِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ سَبْقِهَا لِغَضَبِهِ. وَمَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي حَلِّ هَذَا الْإِشْكَالِ غَيْرُ ظَاهِرٍ، خُلَاصَتُهُ: أَنَّ عَذَابَ النَّارِ الشَّدِيدَ الْأَبَدِيَّ الَّذِي لَا نِهَايَةَ لَهُ إِنَّمَا كَانَ جَزَاءً لِأَهْلِهَا بِمِثْلِ مَا عَمِلُوا فِي سِنِينَ أَوْ أَشْهُرٍ مَعْدُودَةٍ، بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمْ كَانُوا عَازِمِينَ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَظُلْمِهِمْ وَفِسْقِهِمْ لَوْ كَانُوا خَالِدِينَ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ إِذَنْ جَزَاءٌ لَهُمْ عَلَى نِيَّتِهِمْ وَعَزْمِهِمْ. انْتَهَى.
وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْجَوَابُ غَيْرَ ظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ الْجَاحِدِينَ عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالزُّعَمَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَصِحُّ فِيهِمُ الْعَزْمُ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ وَهُمُ الْأَقَلُّونَ، لِمَا عُلِمَ بِالِاخْتِبَارِ وَالْوَاقِعِ مِنْ إِيمَانِ أَهْلِ مَكَّةَ ثُمَّ أَكْثَرِ الْعَرَبِ لَمَّا زَالَتِ الْمَوَانِعُ مِنَ الْإِيمَانِ، وَظَهَرَ لَهُمْ مِنْهُ مَا كَانَ خَفِيًّا عَلَيْهِمْ، عَلَى أَنَّ قَاعِدَةَ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ أَنَّ اللهَ لَا يُؤَاخِذُ مَنْ نَوَى أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً وَلَمْ يَعْمَلْهَا، وَالْمَعْقُولُ فِي تَعْلِيلِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ هُوَ مَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَنَّ عَذَابَ النَّارِ الدَّائِمَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِتَدْسِيَةِ النَّفْسِ بِالْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ... وَسَنَعُودُ إِلَيْهِ فِي الْخُلَاصَةِ الْإِجْمَالِيَّةِ لِلسُّورَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
{فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ} هَذِهِ فَذْلَكَةُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِرْشَادِ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُهْلَكَةِ، وَإِنْذَارُ أَعْدَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهِ، يَقُولُ: إِذَا كَانَ أَمْرُ الْأُمَمِ الْمُشْرِكَةِ الظَّالِمَةِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَصَصْنَاهُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، فَلَا تَكُنْ فِي أَدْنَى شَكٍّ وَامْتِرَاءٍ مِمَّا يَعْبُدُ قَوْمُكَ هَؤُلَاءِ فِي عَاقِبَتِهِ بِمُقْتَضَى تِلْكَ السُّنَّةِ الَّتِي لَا تَبْدِيلَ لَهَا، فَالنَّهْيُ تَسْلِيَةٌ لَهُ صلى الله عليه وسلم وَإِنْذَارٌ لِقَوْمِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ حَالَهُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ وَجَزَاءَهُمْ بَيَانًا مُسْتَأْنَفًا فَقَالَ: {مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} فَهُمْ مُقَلِّدُونَ لِآبَائِهِمْ كَمَا يَقُولُونَ، وَكَمَا قَالَ أَقْوَامُ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قِبَلِهِمْ: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} أَيْ: وَإِنَّا لَمُعْطُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنْ جَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَافِيًا تَامًّا لَا يُنْقَصُ مِنْهُ شَيْءٌ، كَمَا وَفَّيْنَا آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ مِنْ قَبْلُ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ كَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ وَعَمَلِ الْمَعْرُوفِ، إِلَّا وَيُوَفِّيهِمُ اللهُ تَعَالَى جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا بِسَعَةِ الرِّزْقِ وَكَشْفِ الضُّرِّ جَزَاءً تَامًّا وَافِيًا لَا يَنْقُصُهُ شَيْءٌ يُجْزَوْنَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، فَلَا يَغْتَرَّنَّ أَغْنِيَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ سَعَةٍ وَنِعْمَةٍ وَوَجَاهَةٍ فَهُوَ مَتَاعٌ عَاجِلٌ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَنْقَضِيَ، وَلَا يُحْتَجَّنَّ بِهِ عَلَى رضي الله عنهمْ وَإِعْطَائِهِمْ مِثْلَهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى فَرْضِ وَجُودِهَا كَمَا أَعْطَاهُمْ فِي الدُّنْيَا، كَمَا حُكِيَ عَنْ قَائِلِهِمْ: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} 18: 36 وَعَنْ آخَرَ: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} 41: 50 فَإِنَّ الْحُسْنَى عِنْدَ الرَّبِّ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِاتِّبَاعِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا بَلَّغَهُمْ عَنْهُ مِنْ مَوْجَاتِ الرَّحْمَةِ عِنْدَهُ بِفَضْلِهِ.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي بَقِيَّةِ الْعِبْرَةِ بِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأُمَمِ وَأَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- ذَكَّرَ اللهُ قَوْمَ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَأُمَّتَهُ أَوَّلًا بِأَقْوَامِ الَّذِينَ غَلَبَ عَلَيْهِمُ الْكُفْرُ وَالْجُحُودُ فَلَمْ يُؤْمِنْ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ، فَوَفَّاهُمُ اللهُ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَسَيُوَفِّيهِمْ إِيَّاهَا فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ سُنَّتَهُ فِي الدَّارَيْنِ وَاحِدَةٌ. وَذَكَّرَهُمْ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِقَوْمِ مُوسَى الَّذِينَ آتَاهُمُ الْكُتَّابَ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، وَكَلِمَتُهُ فِي تَأْخِيرِ جَزَائِهِمْ إِلَى الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوا عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ مَثَلَ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ مِنْ أُمَّتِهِ فِي الْكِتَابِ كَمَثَلِ هَؤُلَاءِ. قَالَ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} أَيْ: فَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْمُهُ مِنْ بَعْدِهِ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَتَنَازُعًا عَلَى الرِّيَاسَةِ، فَكَانُوا شِيَعًا، كُلُّ شِيعَةٍ تَنْتَحِلُ مَذْهَبًا وَتُعَادِي مَنْ يُخَالِفُهَا فِيهِ، وَإِنَّمَا أُوتُوا الْكُتَّابَ لِجَمْعِ الْكَلِمَةِ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ إِنْزَالِ اللهِ الْكُتُبَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فِي الْآيَةِ (2: 213) الْجَامِعَةِ {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أَيْ: فِي الدُّنْيَا بِإِهْلَاكِ الْبُغَاةِ الْمُثِيرِينَ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ بِأَهْوَائِهِمْ، وَإِبْقَاءِ الْمُعْتَصِمِينَ بِالْوَحْدَةِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى هِدَايَتِهِ، كَمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ رَدُّوا دَعْوَةَ الرُّسُلِ جُحُودًا وَعِنَادًا، وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ إِنْظَارُهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا التَّعْلِيقِ بِالْكَلِمَةِ فِي جَمِيعِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي (10: 19) ثُمَّ فُسِّرَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 10: 93 وَمِثْلُهُ فِي (45: 17) وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي الِاخْتِلَافِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ 118 هُنَا {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا فِي قَوْمِ مُوسَى وَكِتَابِهِمُ التَّوْرَاةِ، أَيْ: إِنَّهُمْ لَمُرْتَكِسُونَ فِي شَكٍّ مِنْ أَمْرِ كِتَابِهِمْ مُوقِعٍ فِي الرَّيْبِ وَالِاضْطِرَابِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ كِبَارِ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّهُ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ وَأَمْثَالِهِمُ الَّذِينَ شَكُّوا فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ خَطَأٌ ظَاهِرٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَالسِّيَاقِ، وَمَا فِي مَعْنَى الْآيَةِ مِنَ السُّوَرِ الْأُخْرَى، وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ- (فُصِّلَتْ)- بِنَصِّهَا، وَفِي مَعْنَاهَا مِنْ سُورَةِ الشُّورَى مَا يُفَسِّرُ الْإِجْمَالَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَيُفَصِّلُهُ، فَإِنَّهُ بَعْدَ ذِكْرِ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم بِالْقُرْآنِ وَاخْتِلَافِ الْبَشَرِ فِيهِ وَحُكْمِهِ تَعَالَى هُوَ فِي الِاخْتِلَافِ قَالَ: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} 42: 13 و14 فَهَذِهِ الْآيَةُ الْأَخِيرَةُ تَفْسِيرٌ لِآيَتَيْ هُودٍ وَحم السَّجْدَةِ (فُصِّلَتْ) فَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَنْ ذُكِرَ فِي الْآيَاتِ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ أَنْبِيَائِهِمْ وَقَبْلَ بَعْثَةِ نَبِيِّنَا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهَؤُلَاءِ قَدْ عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الشَّكِّ وَالرَّيْبِ فِي كُتُبِهِمْ مَا لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ سَلَفِهِمْ، فَإِنَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى عليه السلام قَدْ فُقِدَتْ فِي إِحْرَاقِ الْبَابِلِيِّينَ لِهَيْكَلِ سُلَيْمَانَ كَمَا بَيَّنَّاهُ مُفَصَّلًا مِنْ قَبْلُ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي عِيسَى عليه السلام: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} 3: 48 فَهُوَ لَمْ يَأْخُذِ التَّوْرَاةَ مِنْ أَيْدِي الْيَهُودِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ عَزْرَا كَتَبَهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ سَبْيِ بَابِلَ، وَإِنْ كَانَ يُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِمَا كَانُوا يُخَالِفُونَهُ مِمَّا حَفِظُوهُ مِنْهَا، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي كُتُبِهِمْ وَفِي شَرْعِهِمْ إِلَى مَذَاهِبَ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَانُوا أَشَدَّ اخْتِلَافًا فِي كُتُبِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
وَمِنَ الْغَفْلَةِ الشَّنِيعَةِ وَالتَّكَلُّفِ الْبَعِيدِ أَنْ يُفَسِّرُوا الْكِتَابَ فِي آيَةِ سُورَةِ الشُّورَى مَعَ هَذَا التَّفْصِيلِ فِيهَا بِالْقُرْآنِ الَّذِي وُصِفَ بِأَنَّهُ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَيَصِفُوا الَّذِينَ أُورِثُوهُ بِأَنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أُورِثُوهُ، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِمُوسَى وَبِعِيسَى لَا يُقَالُ: إِنَّهُمْ أُورِثُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ وَرِثَ الْكِتَابَ مَنْ آمَنَ بِهِ سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ أَحْسَنَ الْعَمَلَ وَمَنْ أَسَاءَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ} [35: 32] وَلَكِنَّ الَّذِينَ أَخْطَئُوا فِي فَهْمِ الْآيَتَيْنِ الْمُجْمَلَتَيْنِ فِي السُّورَتَيْنِ حَمَلُوا عَلَيْهِمَا الْآيَةَ الْمُفَصَّلَةَ وَجَعَلُوا تَفْسِيرَهُنَّ وَاحِدًا.
{وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} أَيْ: وَإِنَّ كُلَّ أُولَئِكَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ، أَوْ كُلَّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَاللهِ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ لَا يَظْلِمُ مِنْهُمْ أَحَدًا، {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بَعْضُ التَّوْفِيَةِ دُونَ بَعْضٍ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ {وَإِنْ} بِتَخْفِيفِ النُّونِ مَعَ إِعْمَالِهَا عَمَلَ الثَّقِيلَةِ اعْتِبَارًا لِلْأَصْلِ، و{لَمَا} بِالتَّخْفِيفِ عَلَى أَنَّ لَامَهَا مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ أَوْ فَارِقَةٌ وَهِيَ فَاصِلَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّامِ الدَّاخِلَةِ عَلَى فِعْلِ الْقَسَمِ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ تَشْدِيدِ {لَمَّا} وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَعَاصِمٍ وَحَمْزَةَ فَهِيَ بِمَعْنَى إِلَّا، وَإِنْ نَافِيَةٌ، قَالَهُ الْجَلَالُ.
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}.
هَذَا السِّيَاقُ تَفْصِيلٌ لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي هِيَ ثَمَرَةُ الِاعْتِبَارِ بِمَا كَانَ مِنْ سِيرَةِ الْأُمَمِ مَعَ الرُّسُلِ: مَنْ جَحَدُوا فَأُهْلِكُوا. وَمَنْ آمَنُوا ثُمَّ اخْتَلَفُوا وَتَفَرَّقُوا، فَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ هَذَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمُلَ إِيمَانُهُ، وَمَا بَعْدَهُمَا تَفْصِيلٌ لَهُمَا.
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} أَيْ: كَانَ أَمْرُ أُولَئِكَ الْأُمَمِ كَمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، فَاسْتَقِمْ مِثْلَ مَا أَمَرْنَاكَ فِي هَذَا الْكِتَابِ، أَيِ الْزَمِ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ بِالثَّبَاتِ عَلَيْهِ وَاتِّقَاءِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ، {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} أَيْ: وَلْيَسْتَقِمْ مَعَكَ مَنْ تَابَ مِنَ الشِّرْكِ وَآمَنَ بِكَ وَاتَّبَعَكَ {وَلَا تَطْغَوْا} فِيهِ بِتَجَاوُزِ حُدُودِهِ غُلُوًّا فِي الدِّينِ، فَإِنَّ الْإِفْرَاطَ فِيهِ كَالتَّفْرِيطِ، كُلٌّ مِنْهُمَا زَيْغٌ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ النُّصُوصِ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَهِيَ الْعَقَائِدُ وَالْعِبَادَاتُ، وَعَلَى اجْتِنَابِ الرَّأْيِ وَبُطْلَانِ التَّقْلِيدِ فِيهَا {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أَيْ: إِنَّهُ تَعَالَى بَصِيرٌ بِعَمَلِكُمْ يُبْصِرُ بِهِ وَيَرَاهُ وَيُحِيطُ بِهِ عِلْمًا فَيَجْزِيكُمْ بِهِ. يُقَالُ: بَصُرَ بِالشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ الْفُصْحَى وَمِنْهُ {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} 28: 11.