فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال أبو جعفر: القراءةُ بتشديدهما عند أكثر النحويين لحن، حُكِيَ عن محمد بن يزيد أنه قال: إنَّ هذا لا يجوز، ولا يقال: إنَّ زيدًا إلا لأضربنَّه، ولا لَمَّا لأضربنَّه. قال: وقال الكسائي: اللَّهُ عَزَّ وجلَّ أعلم، لا أعرف لهذه القراءة وجهًا وقد تقدَّم ذلك، وتقدَّم أيضًا أن الفارسي قال: كما لا يحسن: إنَّ زيدًا إلا لمنطلق؛ لأنَّ إلا إيجاب بعد نفي، ولم يتقدم هنا إلا إيجابٌ مؤكَّد، فكذا لا يحسن إنَّ زيدًا لما منطلق، لأنه بمعناه، وإنما ساغ نَشَدْتُك باللَّه لمَّا فعلت إلى آخر ما ذكرته عنه. وهذه كلُّها أقوالٌ مرغوبٌ عنها لأنها معارِضة للمتواترِ القطعي.
وأمَّا القراءات الشاذة فأوَّلُها قراءةُ أُبَيّ ومَنْ تبعه: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا} بتخفيف إنْ ورفع كل على أنها إنْ النافية وكلٌّ مبتدأ، ولمَّا مشددة بمعنى إلاَّ، ولَيُوَفِّيَنَّهم جوابُ قسمٍ محذوفٍ، وذلك القسمُ وجوابُه خبرُ المبتدأ. وهي قراءةٌ جليَّة واضحةٌ كما قرؤوا كلُّهم: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ} [يس: 32] ومثلُه: {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ} [الزخرف: 35]، ولا التفاتَ إلى قولِ مَنْ نفى أنَّ لمَّا بمنزلةِ إلاَّ فقد تقدَّمَتْ أدلتُه.
وأمَّا قراءةُ اليزيدي وابن أرقم لَمًّا بالتشديد منونةً فلمًّا فيها مصدرٌ مِنْ قولهم: لَمَمْتُه أي جمعته لمًّا، ومنه قولُه تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلًا لَّمًّا} [الفجر: 19] ثم في تخريجه وجهان، أحدُهما ما قاله أبو الفتح، وهو أن يكونَ منصوبًا بقوله: ليوفينَّهم على حَدِّ قولِهم: قيامًا لأقومَنَّ، وقعودًا لأقعدَنَّ والتقدير: توفيةً جامعةً لأعمالهم ليوفِّيَنَّهم، يعني أنه منصوبٌ على المصدر الملاقي لعاملِه في المعنى دون الاشتقاق.
والثاني: ما قاله أبو عليّ الفارسي وهو: أن يكونَ وصفًا لكل وصفًا بالمصدر مبالغةً، وعلى هذا فيجب أن يقدَّرَ المضافُ إليه كل نكرةً ليصحَّ وَصْفُ كل بالنكرة، إذ لو قُدِّر المضافُ معرفةً لتعرَّفَتْ كل، ولو تَعَرَّفَتْ لامتنع وَصْفُها بالنكرة فلذلك قُدِّر المضافُ إليه نكرةً، ونظيرُ ذلك قولُه تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلًا لَّمًّا} [الفجر: 19]، فوقع لمَّا نعتًا لأكلًا وهو نكرة.
قال أبو عليّ: ولا يجوزُ أن يكونَ حالًا لأنه لا شيءَ في الكلامِ عاملٌ في الحال.
وظاهر عبارة الزمخشري أنه تأكيدٌ تابعٌ لكلًا كما يتبعها أجمعون، أو أنه منصوبٌ على النعت لكلًا فإنه قال: {وَإِنَّ كُلًا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} كقوله: {أكلًا لمًّا} ملمومين بمعنى مجموعين، كأنه قيل: وإنْ كلًا جميعًا، كقوله تعالى: {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] انتهى. لا يريد بذلك أنه تأكيدٌ صناعيٌّ، بل فَسَّر معنى ذلك، وأراد أنه صفةٌ لكلًا، ولذلك قَدَّره بمجموعين. وقد تقدَّم لك في بعضِ توجيهات لَمَّا بالتشديد من غير تنوين أن المنون أصلُها، وإنما أُجري الوصلُ مجرى الوقف، وقد عُرِف ما فيه. وخبر: «إن» على هذه القراءة هي جملة القسم المقدَّر وجوابه سواءً في ذلك تخريجُ أبي الفتح وتخريجُ شيخه.
وأمَّا قراءةُ الأعمش فواضحةٌ جدًا وهي مفسرةٌ لقراءة الحسنِ المقتدمة، لولا ما فيها مِنْ مخالفة سواد الخط.
وأمَّا قراءةُ ما في مصحفِ أُبَي كما نقلها أبو حاتم فإنْ فيها نافية، ومِنْ زائدةٌ في النفي، وكل مبتدأ، وليوفِّينَّهم مع قَسَمه المقدَّر خبرُها، فَتَؤُول إلى قراءة الأعمش التي قبلها، إذ يصير التقديرُ بدون مِنْ: {وإنْ كلٌ إلا ليوفِّينَّهم}.
والتنوين في كلًا عوضٌ من المضافِ إليه. قال الزمخشري: يعني: وإنَّ كلَّهم، وإنَّ جميعَ المختلفين فيه. وقد تقدَّم أنه على قراءةِ لَمًّا بالتنوين في تخريج أبي علي له لا يُقَدَّر المضافُ إليه كل إلا نكرةً لأجل نعتِها بالنكرة.
وانظر إلى ما تضمَّنَتْه هذه الآيةُ الكريمة من التأكيد، فمنها: التوكيد بإنَّ وب كل وبلام الابتداء الداخلة على خبر إن وزيادةِ ما على رأيٍ، وبالقسمِ المقدر وباللامِ الواقعةِ جوابًا له، وبنون التوكيد، وبكونها مشددةً، وإردافِها بالجملة التي بعدها من قوله: {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فإنه يتضمَّن وعيدًا شديدًا للعاصي ووعدًا صالحًا للطائع.
وقرأ العامَّةُ {يعملون} بياء الغيبة، جريًا على ما تقدَّم مِن المختلفين. وقرأ ابن هرمز {بما تعملون} بالخطاب فيجوز أن يكونَ التفاتًا من غَيْبة إلى خطاب، ويكون المخاطبون هم الغيب المتقدِّمون، ويجوز أن يكونَ التفاتًا إلى خطاب غيرهم.
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)}
قوله تعالى: {كَمَا أُمِرْتَ}: الكافُ في محل النصب: إمَّا على النعتِ لمصدرٍ محذوفٍ، كما هو المشهورُ عند المعربين. قال الزمخشري: أي: استقمْ استقامةً مثلَ الاستقامة التي أُمِرْتَ بها على جادَّة الحقِّ غيرَ عادلٍ عنها، وإمَّا على الحال من ضمير ذلك المصدر. واستَفْعَل هنا للطلب كأنه قيل: اطلبْ الإِقامةَ على الدين، قال: كما تقول: استغفر، أي: اطلب الغفران.
قوله: {وَمَن تَابَ مَعَكَ} في مَنْ وجهان أحدهُما: أنَّه منصوبٌ على المفعول معه، كذا ذكره أبو البقاء، ويصير المعنى: استقم مصاحبًا لمَنْ تاب مصاحبًا لك، وفي هذا المعنى نُبُوٌّ عن ظاهرِ اللفظ. الثاني: أنه مرفوعٌ، فإنه نسق على المستتر في استقم، وأغنى الفصلُ بالجارِّ عن تأكيده بضميرٍ منفصل في صحةِ العطف، وقد تقدَّم لك هذا البحثُ في قوله: {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ} [البقرة: 35] وأنَّ الصحيحَ أنه من عطفِ الجمل لا من عطف المفردات، ولذلك قدَّره الزمخشري: فاستقم أنت وليستقم مَنْ تاب فقدَّر الرافعَ له فعلًا لائقًا برفعِه الظاهرَ.
وقرأ العامَّةُ: {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} بالتاء جريًا على الخطاب المتقدم.
وقرأ الحسن والأعمش وعيسى الثقفي بالياء للغيبة، وهو التفاتٌ من خطابٍ لغيبةٍ عكسَ ما تقدم في: {بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [هود: 111].
{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)}
قوله تعالى: {وَلاَ تركنوا}: قرأ العامَّةُ بفتح التاء والكاف، والماضي من هذا ركِن بكسر العين كعَلِمَ، وهذه هي الفصحى، كذا قال الأزهري. قال غيره: وهي لغةُ قريش. وقرأ أبو عمرو في روايةٍ {تِرْكَنوا}، وقد تقدَّم إتقانُ ذلك أوَل هذا الموضوع.
وقرأ قتادة وطلحة والأشهب بن رميلة ورُوِيَتْ عن أبي عمرو {تَرْكُنوا} بضم العين، وهو مضارع رَكَن بفتحها كقَتَل يَقْتُل. وقال بعضهم: هو من التداخل يعني أنَّ مَنْ نطق برَكِنَ بكسر العين قال: يَرْكُن بضمها، وكان مِنْ حقه أَنْ يفتح، فلما ضَمَّا عَلِمْنا أنه اسْتَغْنى بلغةِ غيره في المضارع عن لغتِه، وأمَّا في هذه القراءةِ فلا ضرورة بنا إلى ادِّعاء التداخُل بل نَدَّعي أنَّ مَنْ فَتَحَ الكافَ أخذه مِنْ رَكِن بالكسر، ومَنْ ضَمَّها أَخَذَه مِنْ ركَن بالفتح، ولذلك قال الراغب: والصحيحُ أنْ يُقالَ رَكِنَ يَرْكَن، وركَنَ يَرْكُن، بالكسر في الماضي مع الفتح في المضارع، وبالفتح في الماضي مع الضم في المضارع. وشَذَّ أيضًا قولُهم رَكَن يَرْكَن بالفتح فيهما وهو من التداخُل، فتحصَّل مِنْ هذا أن يُقَالَ: رَكِن بكسر العين وهي اللغةُ العاليةُ كما تقدَّم، ورَكَن بفتحها وهي لغةُ قيسٍ وتميم، زاد الكسائي: {ونَجْد}، وفي المضارع ثلاثٌ: الفتحُ والكسرُ والضمُّ.
وقرأ ابنُ أبي عبلة {تُرْكَنوا} مبنيًا للمفعول مِنْ أَرْكَنه إذا أماله، فهو من باب لا أُرَيَنَّك هاهنا و: {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ} [الأعراف: 2] وقد تقدَّم.
والرُّكُون: المَيْل، ومنه الرُّكْنُ للاستناد إليه.
قوله: {فَتَمَسَّكُمُ} هو منصوبٌ بإضمار أنْ في جوابِ النهي. وقرأ ابن وثاب وعلقمة والأعمش في آخرين {فتِمَسَّكم} بكسرِ التاء وقد تقدَّم.
قوله: {وَمَا لَكُمْ} هذه الجملةُ يجوز أن تكونَ حاليةً، أي: تَمَسَّكم حالَ انتفاءِ ناصركم. ويجوز أن تكون مستأنفة. و{مِنْ أولياء}: {مِنْ} فيه زائدةٌ: إمَّا في الفاعل، وإما في المبتدأ؛ لأن الجارَّ إذا اعتمد على أشياءَ أحدُها النفي رفع الفاعل.
قوله: {ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} العامَّةُ على ثبوتِ نون الرفعِ لأنه فعلٌ مرفوع، إذ هو من بابِ عطفِ الجمل، عَطَفَ جملةً فعليةً على جملةٍ اسميةٍ. وقرأ زيد بن علي رضي اللَّه عنهما بحذفِ نون الرفع، عطفه على تمسَّكم، والجملةُ على ما تقدَّم من الحاليةِ أو الاستئناف فتكون معترضةً. وأتى بثمَّ تنبيهًا على تباعد الرتبة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)}
اختلفوا في الكتاب الذي أوتي، وهو التوراة.
واختلفوا في كونه رسولًا، فمِنْ مُصَدِّقٍ ومِنْ مْكذِّب.
ثم أخبر أنه- سبحانه- حَكَمَ بتأخير العقوبة، ولولا حكمته لعجَّل لهم العقوبة.
وفائدةُ الآية من هذا التعريفِ التخفيفِ على المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما كان يلقاه من قومه من التكذيب، ففي سماع قصة الأشكال- وبعضُهم من بعض- سلوة، ولقد قيل:
أجارتَنا إنَّا غريبان هاهنا ** وكلُّ غريبٍ للغريب نسيب

{وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)}
أعاد ذكر الجزاء على الأعمال بالثواب والعقاب، وكرَّر ذلك في القرآن في كثير من المواضع إبلاغًا في التحذير، وتنبيهًا على طريق الاعتبار بحسن التفكير.
ثم إن الجزاءً على الأعمال معجَّلٌ ومؤجَّل، وكلُّ مَنْ أعرض عن الغفلة وجَنَحَ إلى وصف التيقظ وَجَدَ في معاملاته- عاجلًا- الربحَ لا الخُسران، وآجلًا الزيادةَ لا النقصان، وما يجده المرءُ في نفسه أتمُّ مما يدركه بعلمه بشواهد برهانه.
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)}
يحتمل أن تكون السين في الاستقامة سين الطلب؛ أي سَلْ من الله الإقامة لَكَ على الحقّ.
ويحتمل أن تكون الإقامة في الأمر بمعنى أقام عليه.
وحقيقة الاستقامة على الطاعة المداومة على القيام بحقِّها من غير إخلالٍ بها، فلا يكون في سلوك نهج الوِفاقِ انحرافٌ عنه.
ويقال المستقيمُ مَنْ لا ينصرف عن طريقه، يواصل سيره بمسراه، وورعه بتقواه ويتابع في ترك هواه.
ويقال استقامة النفوس في نفي الزَّلَّة، واستقامة القلوب في نفي الغفلة، واستقامة الأرواح بنفي العلاقة، واستقامة الأسرار بنفي الملاحظة.
استقامة العابدين ألا يدخروا نفوسَهم عن العبادة وألا يُخِلُّوا بأدائها، ويقضون عسيرَها ويسيرَها. واستقامة الزاهدين ألا يرجوا من دنياهم قليلها ولا كثيرها. واستقامة التائبين ألا يُلِمُّوا بعقوة زلة فَيَدَعْونَ صغيرَها وكبيرَها... وعلى هذا النحو استقامة كلِّ أحدٍ. قوله: {وَمَن تَابَ مَعَكَ}: أي فَلْيَستَقِمْ أيضًا مَنْ معك.
{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)}
لا تعملوا أعمالَهم، ولا ترضوا بأعمالِهم، ولا تمدحوهم على أعمالهم، ولا تتركوا الأمرَ بالمعروف لهم، ولا تأخذوا شيئًا من حرام أموالهم، ولا تساكنوهم بقلوبكم، ولا تخالطوهم، ولا تعاشروهم... كل هذا يحتمله الأمرُ، ويدخل تحت الخطاب. اهـ.

.فصل في منزلة الاستقامة:

قال ابن القيم:
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الاستقامة:
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 13- 14] وقال لرسوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112] فبين أن الاستقامة ضد الطغيان وهو مجاوزة الحدود في كل شئ وقال تعالى: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه} [فصلت: 6] وقال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن: 16] سئل صديق الأمة وأعظمها استقامة أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن الاستقامة فقال: أن لا تشرك بالله شيئا يريد الاستقامة على محض التوحيد.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعالب وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: استقاموا: أخلصوا العمل لله وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنهما: استقاموا أدوا الفرائض وقال الحسن: استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته وقال مجاهد: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: استقاموا على محبته وعبوديته فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبدالله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك قال: «قل آمنت بالله ثم استقم».
وفيه عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن».
والمطلوب من العبد الاستقامة وهي السداد فإن لم يقدر عليها فالمقاربة فإن نزل عنها: فالتفريط والإضاعة كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل فجمع في هذا الحديث مقامات الدين كلها فأمر بالاستقامة وهي السداد والإصابة في النيات والأقوال والأعمال وأخبر في حديث ثوبان: أنهم لا يطيقونها فنقلهم إلى المقاربة وهي أن يقربوا من الاستقامة بحسب طاقتهم كالذي يرمي إلى الغرض فإن لم يصبه يقاربه ومع هذا فأخبرهم: أن الاستقامة والمقاربة لا تنجي يوم القيامة فلا يركن أحد إلى عمله ولا يعجب به ولا يرى أن نجاته به بل إنما نجاته برحمة الله وعفوه وفضله فالاستقامة كلمة جامعة آخذة بمجامع الدين وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد والاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات فالاستقامة فيها: وقوعها لله وبالله وعلى أمر الله قال بعض العارفين: كن صاحب الاستقامة لا طالب الكرامة فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة وربك يطالبك بالاستقامة.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله تعالى روحه يقول: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة.
فصل قال صاحب المنازل:
في قوله: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6] إنه إشارة إلى عين التفريد يريد: أنه أرشدهم إلى شهود تفريده وهو أن لا يروا غير فردانيته.
وتفريده نوعان: تفريد في العلم والمعرفة والشهود وتفريد في الطلب والإرادة وهما نوعا التوحيد وفي قوله: عين التفريد إشارة إلى حال الجمع وأحديته التي هي عنده فوق علمه ومعرفته لأن التفرقة قد تجامع علم الجمع وأما حاله: فلا تجامعه التفرقة والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل:
قال: الاستقامة: روح تحيا به الأحوال كما تربو للعامة عليها الأعمال وهي برزخ بين وهاد التفرق وروابي الجمع شبه الاستقامة للحال بمنزلة الروح للبدن فكما أن البدن إذا خلا عن الروح فهو ميت فكذلك الحال إذا خلا عن الاستقامة فهو فاسد وكما أن حياة الأحوال بها فزيادة أعمال الزاهدين أيضا وربوها وزكاؤها بها فلا زكاء للعمل ولا صحة للحال بدونها.
وأما كونها برزخا بين وهاد التفرق وروابي الجمع ف البرزخ هو الحاجز بين شيئين متغايرين والوهاد الأمكنة المنخفضة من الأرض واستعارها للتفرق لأنها تحجب من يكون فيها عن مطالعة ما يراه من هو على الروابى كما أن صاحب التفرق محجوب عن مطالعة ما يراه صاحب الجمع ويشاهده وأيضا فإن حاله أنزل من حاله فهو كصاحب الوهاد وحال صاحب الجمع أعلى فهو كصاحب الروابي وشبه حال صاحب الجمع بحال من على الروابي لعلوه ولأن الروابي تكشف لمن عليها القريب والبعيد وصاحب الجمع تكشف له الحقائق المحجوبة عن صاحب التفرقة.