فصل: قال ابن عجيبة في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولذلك لو نظرنا إلى الأعمال لوجدنا كل عمل له مجاله في عمره إلا مجال الصلاة، فمجالها كل عمر الإنسان.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {واصبر فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين}
وجاءت كلمة اصبر لتخدم كل عمليات الاستقامة.
وكذلك يقول الحق سبحانه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا} [طه: 132].
والصبر نوعان: صبر على، وصبر عن وفي الطاعات يكون الصبر على مشقة الطاعة، مثل صبرك على أن تقوم من النوم لتصلي الفجر، وفي اتقاء المعاصي يكون الصبر عن الشهوات.
وهكذا نعلم أن الصبر على إطلاقه مطلوب في الأمرين: في الإيجاب للطاعة، وفي السلب عن المعصية.
ونحن نعلم أن الجنة حٌقَّتْ بالمكاره؛ فاصبر على المكاره، وحُفَّتِ النار بالشهوات؛ فاصبر عنها.
وافرض أن واحدًا يرغب في أكل اللحم، ولكنه لا يملك ثمنها، فهو يصبر عنها؛ ولا يستدين.
ولذلك يقول الزهاد: ليس هناك شيء اسمه غلاء، ولكن هناك شيء اسمه رخص النفس.
ولذلك نجد من يقول: إذا غلا شيء عليّ تركته، وسيكون أرخص ما يكون إذا غلا.
والحق سبحانه يقول: {واصبر على مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17].
وهنا يقول الحق سبحانه: {واصبر فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} [هود: 115].
وهم الذين أدخلوا أنفسهم في مقام الإحسان، وهو أن يلزم الواحد منهم نفسه بجنس ما فرض الله فوق ما فرق الله، من صلاة أو صيام، أو زكاة، أو حج لبيت الله؛ لأن العبادة ليست اقتراحًا من عابدٍ لمعبود، بل المعبود هو الذي يحدد ما يقربك إليه.
وحاول ألاّ تدخل في مقام الإحسان نَذْرًا؛ لأنه قد يشق عليك أن تقوم بما نذرته، واجعل زمان الاختيار والتطوع في يدك؛ حتى لا تدخل مع الله في ودٍّ إحساني ثم تفتر عنه، وكأنك والعياذ بالله قد جرَّبت مودة الله تعالى، فلم تجده أهلًا لها، وفي هذا طغيان منك.
وإذا رأيت إشراقات فيوضات على مَنْ دخل مقام الإحسان فلا تنكرها عليه، وإلا لسويت بين من وقف عند ما فُرِضَ عليه، وبين من تجاوز ما فُرِضَ عليه من جنس ما فَرَضَ الله.
وجرب ذلك في نفسك، والتزم أمر الله باحترام مواقيت الصلاة، وقم لتصلي الفجر في المسجد، ثم احرص على أن تتقن عملك، وحين يجيء الظهر قم إلى الصلاة في المسجد، وحاول أن تزيد من ركعات السنة، وستجد أن كثافة الظلمانية قد رَقَّتْ في أعماقك، وامتلأتَ بإشراقات نوارينة تفوق إدراكات الحواس، ولذلك لا تستكثر على مَنْ يرتاض هذه الرياضة الروحية، حين تجد الحق سبحانه قد أنار بصيرته بتجليات من وسائل إدراك وشفافية.
ولذلك لا نجد واحدًا من أهل النور والإشراق يدَّعي ما ليس له، والواحد منهم قد يعلم أشياء عن إنسان آخر غير ملتزم، ولا يعلنها له؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد خَصَّه بأشياء وصفات لا يجب أن يضعها موضع التباهي والمراءاة.
وحين عرض الحق سبحانه هذه القضية أراد أن يضع حدودًا للمرتاض ولغير المرتاض، في قصة موسى عليه السلام حينما وجد موسى وفتاة عبدًا صالحًا، ووصف الحق سبحانه العبد الصالح بقوله تعالى: {عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65].
وقال العبد الصالح لموسى عليه السلام: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف: 67].
وبيَّن العبد الصالح لموسى بمنتهى الأدب عذره في عدم الصبر، وقال له: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف: 68].
وردَّ موسى عليه السلام: {ستجدني إِن شَاءَ الله صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْرًا} [الكهف: 69].
فقال العبد الصالح: {فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 70].
ولكن الأحداث توالت؛ فلم يصبر موسى؛ فقال له العبد الصالح: {هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78].
وهذا حكم أزلي بأن المرتاض للرياضة الروحية، ودخل مقام الإحسان لا يمكن أن يلتقي مع غير المرتاض على ذلك، وليلزم غير المرتاض الأدب مثلما يلتزم المرتاض الأدب، ويقدم العذر في أن ينكر عليه غير المرتاض معرفة ما لا يعرفه.
ولو أن المرتاض قد عذر غير المرتاض، ولو أن غير المرتاض تأدب مع المرتاض لاستقرَّ ميزان الكون.
والحق سبحانه يبيِّن لنا مقام الإحسان وأجر المحسنين، في قوله تعالى: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 15- 16].
ويبيِّن الحق سبحانه لنا مدارج الإحسان، وأنها من جنس ما فرض الله تعالى، في قوله سبحانه: {كَانُواْ قَلِيلًا مِّن اليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17].
والحق سبحانه لم يكلف في الإسلام ألا يهجع المسلم إلا قليلًا من الليل، وللمسلم أن يصلي العشاء، وينام إلى الفجر.
وتستمر مدارج الإحسان، فيقول الحق سبحانه: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18].
والحق سبحانه لم يكلِّف المسلم بذلك، ولكن الذي يرغب في الارتقاء إلى مقام الإحسان يفعل ذلك.
ويقول الحق سبحانه أيضًا: {وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ والمحروم} [الذاريات: 19].
ولم يحدد الحق سبحانه هنا هذا الحق بأنه حق معلوم، بل جعله حقًا غير معلوم أو محددٍ، والله سبحانه لم يفرض على المسلم إلا الزكاة، ولكن من يرغب في مقام الإحسان فهو يبذل من ماله للسائل والمحروم.
وهكذا يدخل المؤمن إلى مقام الإحسان، ليودَّ الحق سبحانه.
ولله المثل الأعلى: نحن نجد الإنسان حين يوده غيره؛ فهو يعطيه من خصوصياته، ويفيض عليه من مواهبه الفائضة، علمًا، أو مالًا، فما بالنا بمن يدخل في ودٍّ مع الله سبحانه وتعالى. اهـ.

.قال ابن عجيبة في الآيات السابقة:

{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)}
قلت: {ومن تاب}: عطف على فاعل {استقم}؛ للفصل، {فَتَمَسَّكُمُ}: جواب النهي. ويقال: ركن يركن: كعَلِم يعلم، وركن يركن: كدخل يدخل، و{ثم لا تنصرون}: مستأنف لا معطوف، و{طرفي}: منصوب على الظرفية. و{زلفًا}، كقربة، أزلفه: قربة.
يقول الحق جل جلاله: {فاستقمْ} يا محمد: {كما أُمرت}، {و} ليستقم: {من تابَ معك} من الكفر وآمن بك. وهي شاملة للاستقامة في العقائد، كالتوسط بين التشبيه والتعطيل، بحيث يبقى العقل مصونًا من الطرفين، وفي الأعمال؛ من تبليغ الوحي، وبيان الشرائع كما أنزل، والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط ولا إفراط. وهي في غاية العسر. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «شَيَّبَتنِي هُود» قاله البيضاوي.
قال المحشي الفاسي: واللائق أن إشفاقه عليه الصلاة والسلام من أجل أمته لا من أجل نفسه؛ لأجل نفسه؛ لأجل عصمته، وإنما أشفق عليهم لتوعد اللعن لهم بقوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16]. اهـ قلت: ولا يعبد أن يكون أشفق عليه الصلاة والسلام من صعوبة استقامته التي تليق به، فبقدر ما يعلو المقام يطلب بزيادة الأدب، وبقدر ما يشتد القرب يتوجه العتاب. ولذلك كان الحق تعالى يعاتبه على ما لا يعاتب عليه غيره. وقد قالوا: حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقد تقدم كلام الإحياء في قوله: {أَلا بُعدًا لِعَادٍ} [هود: 60].
ثم قال تعالى: {ولا تَطْغَوا}؛ ولا تخرجوا عما حد لكم، {إنه بما تعملون بصير}، فيجازيكم على النقير والقطمير، وهو تهديد لمن لم يستقم، وتعليل للأمر والنهي: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا}: لا تميلوا إليهم أدنى ميل؛ فإن الركون: هو الميل اليسير، كالتزيي بزيهم، وتعظيم ذكرهم، وصحبتهم من غير تذكيرهم ووعظهم: {فتمسَّكم النارُ}؛ لركونهم إليهم. قال الأوزاعي: ما من شيء أبغض إلى الله تعالى من عَالِم يَزورُ عَاملًا. اهـ وقال سفيان: في جهنم وادٍ لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك. اهـ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دَعَا لِظَالٍمٍ بالبَقَاءِ أي بأن قال: بارك الله في عمرك فَقَدْ أَحَبَّ أَنْ يُعْصَى الله في أرضهِ» وسئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية، هل يسقى شربة ماء؟ فقال: لا. فقيل له: يموت؟! فقال: دعه يموت. اهـ وهذا إغراق ولعله في الكافر المحارب، والله أعلم.
قال البيضاوي: وإذا كان الركون إلى من وجد منه ما يسمى ظلمًا موجبًا للنار، فما ظنك بالركون إلى الظالمين الموسومين بالظلم، ثم الميل إليهم، ثم بالظلم نفسه، والانهماك فيه. ولعل الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم والتهديد عليه. وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بها؛ للتثبيت على الاستقامة التي هي العدل؛ فإن الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفي إفراط أو تفريط، ظلم على نفسه أو غيره، بل ظلم في نفسه.
{وما لكم من دون الله من أولياء}؛ من أنصار يمنعون العذاب عنكم، {ثم لا تُنصرون}: ثم لا ينصركم الله إن سبق في حكمه أنه يعذبكم.
ولمَّا كان الركون إلى الظلم، أو إلى من تلبس به فتنة، وهي تكفرها الصلاة، كما في الحديث، أمر بها أثره، فقال: {وأقم الصَّلاةَ طرفي النهار} غدوة وعشية، {وزلُفًا من الليل}؛ ساعات منه قريبة من النهار. والمراد بالصلاة المأمور بها: الصلوات الخمس. فالطرف الأول: الصبح، والطرف الثاني: الظهر والعصر، والزلف من الليل: المغرب والعشاء، {إن الحسنات يُذهبن السيئات}؛ يكفر بها قال ابن عطية: لفظ الآية عام في الحسنات خاص في السيئات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتنَبت الكَبَائِرُ» ثم قال: وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الجُمُعَةُ إلى الجُمعَةِ كفَّارَة، والصَّلوَاتُ الخَمسُ، وَرَمَضانُ إِلى رَمَضانَ كفاره لِمَا بينَهُما ما اجتُنِبت الكبائر» انظر تمامه في الحاشية.
قال ابن جزي: رُوي أن رجلًا قَبّل امراة، قلتُ: هو نبهان التمار، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وصلَّى معه الصلاة، فنزلت الآية، فقال صلى الله عليه وسلم: «أين السائل؟» فقال: ها أنا ذا، فقال: «قدغَفَرَ اللَّهُ لَكَ بِصَلاتِكَ مَعَنا» فقال الرجل: أَلِيَ خاصَّةً، أو للمسلمين عامة؟ فقال: «للمسلمين عَامَّةً» والآية على هذا مدنية. وقيل: إن الآية كانت قبل ذلك، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم للرجل مستدلًا بها. والآية على هذا مكية كسائر السورة، وإنما تُذهب الحسناتُ عند الجمهور الصغائر إذا اجتنبت الكبائر. اهـ قلت: وقيل: تكفر مطلقًا؛ اجتُنِبَت الكبائر أم لا، وهو الظاهر، لأنه إذا حصل اجتناب الكبائر كفرت بلا سبب؛ لقوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ...} [النساء: 31] الآية. وقوله عليه الصلاة والسلام: «ما اجتنبت الكبائر» معناه: أن الصلوات والجمعة مكفرة لما عدا الكبائر.
والحاصل: أن من اجتنب الكبائر كفرت عنه الصغائر بلا سبب؛ لنص الآية. ومن ارتكب الكبائر والصغائر وصلى، كفرت الصغائر دون الكبائر، وبهذا تتفق الآية مع الحديث. والله تعالى أعلم.
قال ابن عطية في قوله تعالى: {إِنَّ الله اشترى...} [التوبة: 111] الآية: الشهادة ماحية لكل ذنب إلا لمظالم العباد. وقد روي: «أن الله يتحمل عن الشهيد مظالم العباد، ويجازيهم عنه». ختم الله لنا بالحسنى. انتهى.
{ذلك} أي: ما تقدم من وعظ ووعد ووعيد، وأمر الاستقامة، أو القرآن كله، {ذكرى للذاكرين}: عظة للمتقين. وخص الذاكرين، لمزيد انتفاعهم بالوعظ، لصقالة قلوبهم. وفي الخبر: «لكل شيء مصقلة، ومصقلة القلوب ذكر الله»: {واصبرْ} على مشاق الاستقامة، ودوامها: {فإن الله لا يُضيع أجرَ المحسنين} وهم: أهل الاستقامة ظاهرًا وباطنًا.
الإشارة: الاستقامة على ثلاثة أقسام: استقامة الجوارح، واستقامة القلوب، واستقامة الأرواح والأسرار. أما استقامة الجوارح فتحصل بكمال التقوى، وتحقيق المتابعة للسنة المحمدية. وأما استقامة القلوب فتحصل بتطهيرها من سائر العيوب، كالكبر والعجب، والرياء، والسمعة، والحقد والحسد، وحب الجاه والمال، وما يتفرع عن ذلك من العداوة والبغضاء، وترك الثقة بمجيء الرزق، وخوف سقوط المنزلة، من قلوب الخلق، والشح والبخل، وطول الأمل، والأشر والبطر، والغل والمباهاة، والتصنع والمداهنة، والقسوة والفظاظة والغلظة، والغفلة، والجفاء، والطيش، والعجلة، والحمية، وضيق الصدر، وقلة الرحمة. إلى غير ذلك من أنواع الرذائل.
فإذا تطهر القلب من هذه العيوب اتصف بأضدادها من الكمالات: كالتواضع لله، والخشوع بين يديه، والتعظيم لأمره، والحفظ لحدوده، والتذلل لربوبيته، والإخلاص في عبوديته، والرضى بقضائه، ورؤية المنة له في منعه وعطائه. ويتصف فيما بين خلقه بالرأفة والرحمة، واللين والرفق، وسعة الصدر والحِلم، والاحتمال والصيانة، والنزاهة والأمانة، والثقة والتأني، والوقار، والسخاء والجود، والحياء، والبشاشة والنصيحة. إلى غير ذلك من الكمالات.
وأما استقامة الأرواح والأسرار، فتحصل بعدم الوقوف مع شيء سوى الله تعالى، وعدم الالتفات إلى غيره حالًا كان أو مقامًا أو كرامة، أو غير ذلك: كما قال الششتري رضي الله عنه:
فلا تلْتَفِت في السَّير غيرًا وكلُّ ما ** سوى الله غيرٌ فاتخذ ذِكرَه حِصنا

وكلُّ مقامٍ لا تُقمْ فيهِ إنّه ** حجابٌ فجد السَّير واستَنجد العونا

ومهما ترى كلًّ المراتِبِ تجْتَلِي ** عليكَ فحلْ عنها فعَن مثلها حُلنا

وقُلْ ليس لي في غَير ذاتِكَ مَطلبٌ ** فلا صورةُ تُجلى ولا طُرفة تُجنا

وقوله تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا}: هو نهي عن صحبة الغافلين والميل إليهم. قال بعض الصوفية: قلب لبعض الأبدال: كيف الطريق إلى التحقيق، والوصول إلى الحق؟ قال: لا تنظر إلى الخلق؛ فإن النظر إليهم ظلمة، قلت: لابد لي، قال: لا تسمع كلامهم؛ فإن كلامهم قسوة: قلت: لابد لي، قال: لا تعاملهم؛ لأن معاملتهم خسران وحسرة ووحشة، قلت: أنا بين أظهرهم لابد لي من معاملتهم؟ قال: لا تسكن إليهم؛ فإن السكون إليهم هلكة. قلت: هذا لعله يكون؟ قال: يا هذا، أتنظر إلى اللاعبين، وتسمع كلام الجاهلين، وتعامل البطالين، وتسكن إلى الهلكى، وتريد أن تجد حلاوة الطاعة، وقلبك مع غير الله عز وجل!! هيهات! هذا ما لا يكون أبدًا. اهـ ونقل الورتجبي عن جعفر الصادق: ولا تركنوا إلى نفوسكم فإنها ظلمَة. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ}
لما فرغ الله سبحانه من أقاصيص الكفرة، وبيان حال السعداء والأشقياء، سلى رسوله صلى الله عليه وسلم بشرح أحوال الكفرة من قومه في ضمن النهي له عن الامتراء في أن ما يعبدونه غير نافع ولا ضار، ولا تأثير له في شيء.
وحذف النون في لا تك لكثرة الاستعمال، والمرية: الشك.
والإشارة بهؤلاء إلى كفار عصره صلى الله عليه وسلم.
وقيل: المعنى: لا تك في شك من بطلان ما يعبد هؤلاء.
وقيل: لا تك في شك من سوء عاقبتهم.
ولا مانع من الحمل على جميع هذه المعاني، وهذا النهي له صلى الله عليه وسلم هو تعريض لغيره ممن يداخله شيء من الشك.
فإنه صلى الله عليه وسلم لا يشك في ذلك أبدًا.
ثم بيّن له سبحانه أن معبودات هؤلاء كمعبودات آبائهم، أو أن عبادتهم كعبادة آبائهم من قبل، وفي هذا استثناء تعليل للنهي عن الشك.
والمعنى: أنهم سواء في الشرك بالله وعبادة غيره.
فلا يكن في صدرك حرج مما تراه من قومك، فهم كمن قبلهم من طوائف الشرك، وجاء بالمضارع في: {كما يعبد آباؤهم} لاستحضار الصورة.