فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله سبحانه وتعالى: {فلولا كان من القرون} يعني فهلا كان من القرون التي أهلكناهم: {من قبلكم} يعني يا أمة محمد: {أولو بقية} يعني أولوا تمييز وطاعة وخير يقال فلان ذو بقية إذا كان فيه خير وقيل معناه أولوا بقية من خير يقال فلان على بقية من الخير إذا كان على خصلة محمودة: {ينهون عن الفساد في الأرض} يعني يقومون بالنهي عن الفساد في الأرض والآية للتقريع والتوبيخ يعني لم يكن فيهم من فيه خير ينهى عن الفساد عن الأرض فلذلك أهلكناهم: {إلا قليلًا} هذا استثناء منقطع معناه لكن قليلًا: {ممن أنجينا منهم} يعني من آمن الأمم الماضية وهم أتباع الأنبياء كانوا ينهون عن الفساد في الأرض: {واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه} يعني واتبع الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي ما تنعموا فيه والترف التنعم والمعنى أنهم اتبعوا ما تعودوا به من النعم وإيثار اللذات على الآخرة ونعيمها: {وكانوا مجرمين} يعني كافرين: {وما كان ربك} يعني وما كان ربك يا محمد: {ليهلك القرى بظلم} يعني لا يهلكهم بظلم منه: {وأهلها مصلحون} يعني: في أعمالهم ولكن يهلكهم بكفرهم وركوبهم السيئات، وقيل: في معنى الآية وما كان ربك ليهلك القرى بمجرد شركهم إذا كانوا مصلحين يعني يعامل بعضهم بعضًا بالصلاح والسداد والمراد من الهلاك عذاب الاستئصال في الدنيا أما عذاب الآخرة فهو لازم لهم ولهذا قال بعض الفقهاء إن حقوق الله مبناها على المسامحة والمساهلة وحقوق العباد مبناها على التضييق والتشديد. اهـ.

.قال أبو حيان:

{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ}
الترف: النعمة، صبي مترف منعم البدن، ومترف أبطرته النعمة وسعة العيش.
وقال الفراء: أترف عود الترفة وهي النعمة.
{فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلًا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين}: لولا هنا للتحضيض، صحبها معنى التفجع والتأسف الذي ينبغي أن يقع من البشر على هذه الأمم التي لم تهتد، وهذا نحو قوله: {يا حسرة على العباد} والقرون: قوم نوح، وعاد، وثمود، ومن تقدم ذكره.
والبقية هنا يراد بها الخير والنظر والجزم في الدين، وسمي الفضل والجود بقية، لأنّ الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله، فصار مثلًا في الجودة والفضل.
ويقال فلان من بقية القوم أي من خيارهم، وبه فسر بيت الحماسة: إن تذنبوا ثم يأتيني بقيتكم.
ومنه قولهم: في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا.
وإنما قيل: بقية لأنّ الشرائع والدول ونحوها قوتها في أولها، ثم لا تزال تضعف، فمن ثبت في وقت الضعف فهو بقية الصدر الأول.
وبقية فعيلة اسم فاعل للمبالغة.
وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوي، كالتقية بمعنى التقوى أي: فلا كان منهم ذوو بقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه.
وقرأت فرقة: بقية بتخفيف الياء اسم فاعل من بقي، نحو: شجيت فهي شجية.
وقرأ أبو جعفر، وشيبة: بُقْية بضم الباء وسكون القاف، وزن فعله.
وقرئ: بقية على وزن فعلة للمرة من بقاه يبقيه إذا رقبه وانتظره، والمعنى: فلولا كان منهم أولو مراقبة وخشية من انتقام الله، كأنهم ينتظرون إيقاعه بهم لإشفاقهم.
والفساد هنا الكفر وما اقترن به من المعاصي، وفي ذلك تنبيه لهذه الأمة وحض لها على تغيير المنكر.
إلا قليلًا استثناء منقطع أي: لكن قليلًا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد وهم قليل بالإضافة إلى جماعاتهم، ولا يصح أن يكون استثناء متصلًا مع بقاء التحضيض على ظاهره لفساد المعنى، وصيرورته إلى أنّ الناجين لم يحرضوا على النهي عن الفساد.
والكلام عند سيبويه بالتحضيض واجب، وغيره يراه منفيًا من حيث معناه: أنه لم يكن فيهم أولو بقية، ولهذا قال الزمخشري بعد أن منع أن يكون متصلًا: (فإن قلت): في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم، فكأنه قيل: ما كان من القرون أولوا بقية إلا قليلًا، كان استثناء متصلًا، ومعنى صحيحًا، وكان انتصابه على أصل الاستثناء وإن كان الأفصح أن يرجع على البدل انتهى.
وقرأ زيد بن علي: إلا قليل بالرفع، لحظ أنّ التحضيض تضمن النفي، فأبدل كما يبدل في صريح النفي.
وقال الفراء: المعنى فلم يكن، لأنّ في الاستفهام ضربًا من الجحد، وأبي الأخفش كون الاستثناء منقطعًا، والظاهر أنّ الذين ظلموا هم تاركو النهي عن الفساد.
وما أترفوا فيه أي: ما نعموا فيه من حب الرياسة والثروة وطلب أسباب العيش الهني، ورفضوا ما فيه صلاح دينهم.
واتبع استئناف إخبار عن حال هؤلاء الذين ظلموا، وأخبار عنهم أنهم مع كونهم تاركي النهي عن الفساد كانوا مجرمين أي: ذوي جرائم غير ذلك.
وقال الزمخشري: إن كان معناه واتبعوا الشهوات كان معطوفًا على مضمر، لأنّ المعنى إلا قليلًا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد في الأرض، واتبع الذين ظلموا شهواتهم، فهو عطف على نهوا، وإن كان معناه: واتبعوا جزاء الإتراف.
فالواو للحال، كأنه قيل: أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم.
وقال: وكانوا مجرمين، عطف على أترفوا، أي اتبعوا الإتراف وكونهم مجرمين، لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام انتهى.
فجعل ما في قوله: ما أترفوا، فيه مصدرية، ولهذا قدره: اتبعوا الإتراف، والظاهر أنها بمعنى الذي لعود الضمير في فيه عليها.
وأجاز أيضًا أنْ يكون معطوفًا على اتبعوا أي: اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك.
قال: ويجوز أن يكون اعتراضًا وحكمًا عليهم بأنهم قوم مجرمون انتهى.
ولا يسمى هذا اعتراضًا في اصطلاح النحو، لأنه آخر آية، فليس بين شيئين يحتاج أحدهما إلى الآخر.
وقرأ جعفر بن محمد، والعلاء بن سيابة كذا في كتاب اللوامح، وأبو عمر في رواية الجعفي: واتبعوا ساكنة التاء مبنية للمفعول على حذف مضاف، لأنه مما يتعدى إلى مفعولين، أي جزاء ما أترفوا فيه.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى في القراءة المشهورة أنهم اتبعوا جزاء إترافهم، وهذا معنى قوي لتقدم الإنجاء كأنه قيل: إلا قليلًا ممن أنجينا منهم وهلك السائر.
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)}
تقدم تفسير شبيه هذه الآية في الأنعام، إلا أن هنا ليهلك وهي آكد في النفي، لأنه على مذهب الكوفيين زيدت اللام في خبر كان على سبيل التوكيد، وعلى مذهب البصريين توجه النفي إلى الخبر المحذوف المتعلق به اللام، وهنا وأهلها مصلحون.
قال الطبري: بشرك منهم وهم مصلحون أي: مصلحون في أعمالهم وسيرهم، وعدل بعضهم في بعض أي: أنه لابد من معصيتة تقترن بكفرهم، قاله الطبري ناقلًا.
قال ابن عطية: وهذا ضعيف، وإنما ذهب قائله إلى نحو ما قال: إن الله يمهل الدول على الكفر ولا يمهلها على الظلم والجور، ولو عكس لكان ذلك متجهًا أي: ما كان الله ليعذب أمة بظلمهم في معاصيهم وهم مصلحون في الإيمان.
والذي رجح ابن عطية أن يكون التأويل بظلم منه تعالى عن ذلك.
وقال الزمخشري: وأهلها مصلحون تنزيهًا لذاته عن الظلم، وإيذانًا بأن إهلاك المصلحين من الظلم انتهى. وهو مصادم للحديث: «أنهلك وفينا الصالحون قال: نعم، إذا كثر الخبث» وللآية: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذي ظلموا منكم خاصة}. اهـ.

.قال أبو السعود:

{فَلَوْلاَ كَانَ} فهلا كان: {مّنَ القرون} الكائنةِ: {مِن قَبْلِكُمْ} على رأي من جوّز حذفَ الموصولِ مع بعض صلتِه أو كائنةً من قبلكم: {أُوْلُو بَقِيَّةٍ} من الرأي والعقلِ أو أولو فضلٍ وخير، وسُمّيا بها لأن الرجلَ إنما يستبقي مما يخرجه عادة أجودَه وأفضلَه، فصار مثلًا في الجودة والفضلِ ويقال: فلان من بقيةِ القومِ أي من خيارِهم، ومنه ما قيل: في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا، ويجوز أن تكون البقيةُ بمعنى البقوى كالتقية من التقوى، أي فهلا كان منهم ذوو إبقاءٍ على أنفسهم وصيانةٍ لها من سخط الله تعالى وعقابه، ويؤيده أنه قرئ أولو بقْيةٍ وهي المرّةُ من مصدر بقاه يَبقيه إذا راقبه وانتظره أي أولو مراقبةِ وخشيةٍ من عذاب الله تعالى كأنهم ينتظرون نزولَه لإشفاقهم: {يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد في الأرض} الواقعِ منهم حسبَ ما حُكي عنهم: {إِلاَّ قَلِيلًا مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} استثناءٌ منقطعٌ أي لكن قليلًا منهم أنجيناهم لكونهم على تلك الصفةِ على أن مِنْ للبيان لا للتبعيض لأن جميعَ الناجين ناهون، ولا صحة للاتصال على ظاهر الكلامِ لأنه يكون تحضيضًا لأولي البقية على النهي المذكورِ إلا للقليل من الناجين منهم كما إذا قلت هلاّ قرأ قومُك القرآن إلا الصلحاءَ منهم مريدًا لاستثناء الصلحاءِ من المُحضَّضين على القراءة نعم يصح ذلك إن جعل استثناءً من النفي اللازمِ للتحضيض، فكأنه قيل: ما كان من القرون أولو بقيةٍ إلا قليلًا منهم، لكنَّ الرفعَ هو الأفصحُ حينئذ على البدلية: {واتبع الذين ظَلَمُواْ} بمباشرة الفسادِ وتركِ النهي عنه: {مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ} أي أُنعموا من الشهوات واهتموا بتحصيلها، وأما المباشرون فظاهرٌ وأما المساهلون فلِما لهم في ذلك من نيل حظوظِهم الفاسدة.
وقيل: المرادُ بهم تاركو النهي، وأنت خبيرٌ بأنه يلزم منه عدمُ دخولِ مباشري الفسادِ في الظلم والإجرام عبارةً: {وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} أي كافرين فهو بيانٌ لسبب استئصالِ الأمم المُهلَكة وهو فشوُّ الظلمِ واتباعُ الهوى فيهم وشيوعُ ترك النهي عن المنكرات مع الكفر، وقوله: واتّبع عطفٌ على مضمر دل عليه الكلامُ، أي لم ينهَوا واتبع إلخ فيكون العدولُ إلى المظهر لإدراج المباشرين معهم في الحكم والتسجيلِ عليهم بالظلم، وللإشعار بعلية ذلك لما حاق بهم من العذاب، أو على استئنافٍ يترتب على قوله: إلا قليلًا أي إلا قليلًا ممن أنجينا منهم نهَوا عن الفساد وتاركي النهي عنه، فيكون الإظهارُ مقتضى الظاهِرِ، وقوله: وكانوا مجرمين عطفٌ على أترفوا أي اتبعوا الإتراف، وكونُهم مجرمين لأن تابعَ الشهواتِ مغمورٌ بالآثام، أو أريد بالإجرام إغفالُهم للشكر، أو على اتبع أي اتبعوا شهواتِهم وكانوا بذلك الاتباعِ مجرمين، ويجوز أن يكون اعتراضًا وتسجيلًا عليهم بأنهم قومٌ مجرمون، وقرئ وأُتْبع أي أُتبعوا جزاءَ ما أُترفوا فتكون الواو للحال ويجوز أن يُفسَّر به المشهورةُ، ويعضُده تقدم الإنجاء.
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى} أي ما صح وما استقام بل استحال في الحكمةِ أن يُهلك القرى التي أهلكها حسب ما بلغك أنباؤها ويُعلم من ذلك حالُ باقيها من القرى الظالمةِ واللام لتأكيد النفي وقوله: {بِظُلْمٍ} أي ملتبسًا به، قيل: هو حالٌ من الفاعل أي ظالمًا لها والتنكيرُ للتفخيم والإيذانِ بأن إهلاكَ المصلحين ظلمٌ عظيم والمرادُ تنزيهُ الله تعالى عن ذلك بالكلية بتصويره بصورة ما يستحيل صدورُه عنه تعالى وإلا فلا ظلمَ فيما فعله الله تعالى بعباده كائنًا ما كان لِما تقرّر من قاعدة أهلِ السنة وقد مر تفصيلُه في سورة آل عمرانَ عند قولِه تعالى: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ} وقوله تعالى: {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} حالٌ من المفعول والعاملُ عامله ولكن لا باعتبار تقيّدِه بما وقع حالًا من فاعله أعني بظلم لدلالته على تقيد نفي الإهلاكِ ظلمًا بحال كونِ أهلِها مصلحين، ولا ريب في فساده بل مطلقًا عن ذلك، وقيل: المرادُ بالظلم الشركُ والباء للسببية أي لا يُهلك القرى بسبب إشراك أهلِها وهم مُصلِحون يتعاطَوْن الحقَّ فيما بينهم ولا يضمُّون إلى شركهم فسادًا آخرَ، وذلك لفرط رحمتِه ومسامحتِه في حقوقه تعالى، ومن ذلك قدَّم الفقهاءُ عند تزاحم الحقوقِ حقوقَ العبادِ الفقراءِ على حقوق الله تعالى الغنيِّ الحميد، وقيل: المُلكُ يبقى مع الشرك ولا يبقى مع الظلم، وأنت تدري أن مقامَ النهي عن المنكرات التي أقبحُها الإشراكُ بالله لا يلائمه، فإن الشركَ داخلٌ في الفساد في الأرض دخولًا أوليًا، ولذلك كان ينهي كلٌّ من الرسل الذين قُصّت أنباؤهم أمتَه أولًا عن الإشراك ثم عن سائر المعاصي التي كانوا يتعاطَونها، فالوجهُ حملُ الظلمِ على مطلق الفسادِ الشاملِ للشرك وغيرِه من أصناف المعاصي، وحملُ الإصلاحِ على إصلاحه والإقلاعِ عنه بكون بعضهم متصدّين للنهي عنه وبعضِهم متوجّهين إلى الاتعاظ غيرَ مُصرِّين على ما هم عليه من الشرك وغيرِه من أنواع الفساد. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَلَوْلاَ كَانَ} تحضيض فيه معنى التفجع مجازًا أي فهلا كان: {مّنَ القرون} أي الأقوام المقترنة في زمان واحد: {مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ} أي ذوو خصلة باقية من الرأي والعقل، أو ذوو فضل على أن يكون البقية اسمًا للفضل والهاء للنقل، وأطلق عليه ذلك على سبيل الاستعارة من البقية التي يصطفيها المرء لنفسه ويدخرها مما ينفعه، ومن هنا يقال: فلان من بقية القوم أي من خيارهم، وبذلك فسر بيت الحماسة:
إن تذنبوا ثم يأتيني (بقيتكم) ** فما علي بذنب عندكم فوت

ومنه قولهم: في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا، وجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية بمعنى التقوى أي فهلا كان منهم ذوو إبقاء لانفسهم وصيانة لها عما يوجب سخط الله تعالى وعقابه، والظاهر أنها على هذا مصدر، وقيل: اسم مصدر، ويؤيد المصدرية أنه قرئ: {بَقِيَّتُ} بزنة المرة وهو مصدر بقاه يبقيه كرماه يرميه بمعنى انتظره وراقبه، وفي الحديث عن معاذ بن جبل قال: «بقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تأخر صلاة العشاء حتى ظن الظان أنه ليس بخارج» الخبر أراد معاذ انتظرناه، وأما الذي من البقاء ضد الفناء ففعله بقي يبقى كرضى يرضى، والمعنى على هذه القراءة فهلا كان منهم ذوو مراقبة لخشية الله تعالى وانتقامه، وقرئ: {بَقِيَّتُ} بتخفيف الياء اسم فاعل من بقي نحو شجيت فهي شجية.
وقرأ أبو جعفر وشيبة: {بَقِيَّتُ} بضم الباء وسكون القاف: {يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد في الأرض} الواقع فيما بينهم حسبما ذكر في قصصهم، وفسر الفساد في البحر بالكفر وما اقترن به من المعاصي: {إِلاَّ قَلِيلًا مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} استثناء منقطع أي ولكن قليلًا منهم أنجيناهم لكونهم كانوا ينهون، وقيل أي: ولكن قليلًا ممن أنجينا من القرون نهو نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي، و: {مِنْ} الأولى بيانية لا تبعيضية لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم بدليل قوله سبحانه: {أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ} [الأعراف: 165] وإلى ذلك ذهب الزمخشري، ومنع اتصال الاستثناء على ما عليه ظاهر الكلام لاستلزامه فساد المعنى لأنه يكون تحضيضًا لأولى البقية على النهي عن الفساد إلا للقليل من الناجين منهم، ثم قال: وإن قلت: في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم فكأنه قيل: ما كان من القرون أولو بقية إلا قليلا كان استثناءًا متصلًا ومعنى صحيحًا وكان انتصابه على أصل الاستثناء وإن كان الأفصح أن يرفع على البدل، والحاصل أن في الكلام اعتبارين: التحضيض والنفي، فإن اعتبر التحضيض لا يكون الاستثناء متصلًا ون المتصل يسلب ما للمستثنى منه عن المستثنى أو يثبت له ما ليس له، والتحضيض معناه لم ما نهوا، ولا يجوز أن يقال: إلا قليلا فانهم لا يقال لهم: لم ما نهوا لفساد المعنى لأن القليل ناهون وإن اعتبر النفي كان متصلا لأنه يفيد أن القليل الناجين ناهون، وأورد على ذلك القطب أن صحة السلب أو الإثبات بحسب اللفظ لازم في الخبر وأما في الطلب فيكون بحسب المعنى فانك إذا قلت: اضرب القوم إلا زيدًا فليس المعنى على أنه ليس أضرب بل على أن القوم مأمور بضربهم إلا زيدًا فإنه غير مأمور به فكذا هنا يجوز أن يقال: {أُوْلُو بَقِيَّتُ} محضوضون على النهي: {إِلاَّ قَلِيلًا} فانهم ليسوا محضوضين عليه لأنهم نهوا فالاستثناء متصل قطعًا كما ذهب إليه بعض السلف، وقد يدفع ما أورده بأن مقتضى الاستنثاء أنهم غير محضوضين، وذلك إما لكونهم نهوا، أو لكونهم لا يحضون عليه لعدم توقعه منهم، فإما أن يكون قد جعل احتمال الفساد إفسادًا أو ادّعى أنه هو المفهوم من السياق، ثم إن المدقق صاحب الكشف قال: إن ظاهر تقرير كلام الزمخشري يشعر بأن: {يَنْهَوْنَ} خبر: {كَانَ} جعل: {مّنَ القرون} خبرًا آخر أو حالًا قدمت لأن تحضيض أولي البقية على النهي على ذلك التقدير حتى لو جعل صفة، و: {مّنَ القرون} خبرًا كان المعنى تنديم أهل القرون على أن لم يكن فهم أولو بقية ناهون وإذا جعل خبرًا لا يكون معنى الاستثناء ما كان من القرون أولو بقية إلا قليلا بل كان ما كان منهم أولو بقية ناهين إلا قليلًا فانهم نهوا وهو فاسد، والانقطاع على ما أثره الزمخشري أيضًا يفسد لما يلزم منه أن يكون أولو بقية غير ناهين لأن في التحضيض والتنديم دلالة على نفيه عنهم، فالوجه أن يووّل بأن المقصد من ذكر الاسم الخبر وهو كالتمهيد له كؤنه قيل: فلولا كان من القرون من قبلكم ناهون إلا قليلًا، وفي كلامه إشارة إلى أنه لا يختلف نفي الناهي، وأولو البقية، وإنما عدل إلى المنزل مبالغة لأن أصحاب فضلهم وبقاياهم إذا حضضوا على النهي وندموا على الترك فهم أولي بالتحضيض والتنديم، وفيه مع ذلك الدلالة على خلوهم عن الاسم لخلوهم عن الخبر لأن ذا البقية لا يكون إلا ناهيًا فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم وهو من باب.