فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أي: أنه مُنزَّه عن أن يهلكهم بمجاوزة حَدٍّ، لكن له أن يهلكهم بعدل؛ لأن العدل ميزان، فإن كان الوزن ناقصًا كان الخسران، ومن العدل العقاب، وإن كان الوزن مستوفيًا كان الثواب.
وفي مجالنا البشرى؛ لحظة أن نأخذ الظالم بالعقوبة؛ فنحن نتبعه فعلًا؛ لكننا نريح كل المظلومين؛ وهذه هي العدالة فعلًا.
ومن خطأ التقنينات الوضعية البشرية هو ذلك التراخي في إنفاذ الحقوق في التقاضي؛ فقد تحدث الجريمة اليوم؛ ولا يصدر الحكم بعقاب المجرم إلا بعد عشر سنوات، واتساع المسافة بين ارتكاب الجريمة وبين توقيع العقوبة؛ إنما هو واحد من أخطاء التقنينات الوضعية؛ ففي هذا تراخٍ في إنفاذ حقوق التقاضي؛ لأن اتساع المسافة بين ارتكاب الجريمة وبين توقيع العقوبة؛ إنما يضعف الإحساس ببشاعة الجريمة.
ولذلك حرص المشرع الإسلامي على ألا تطول المسافة الزمنية بين وقوع الجريمة وبين إنزال العقوبة، فعقاب المجرم في حُمُوَّة وجود الأثر النفسي عند المجتمع؛ يجعل المجتمع راضيًا بعقاب المجرم، ويذكِّر الجميع ببشاعة ما ارتكب؛ ويوازن بين الجريمة وبين عقوبتها.
ويقول الحق سبحانه هنا: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117].
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه: {لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131].
إذن: لابد من إزاحة الغفلة أولًا، وقد أزاح الله سبحانه الغفلة عنا بإرسال الرسل وبالبيان وبالنذر؛ حتى لا تكون هناك عقوبة إلا على جريمة سبق التشريع لها.
وهكذا أعطانا الله سبحانه وتعالى البيان اللازم لإدارة الحياة، ثم جاء من بعد ذلك الأمر بضرورة الإصلاح: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117].
والإصلاح في الكون هو استقبال ما خلق الله سبحانه لنا في الكون من ضروريات لننتفع بها، وقد كفانا الله ضروريات الحياة؛ وأمرنا أن نأخذ بالأسباب لنطور بالابتكارات وسائل الترف في الحياة.
وضروريات الحياة من طعام وماء وهواء موجودة في الكون، والتزاوج متاح بوجود الذكر والأنثى في الكائنات المخلوقة، أما ما نصنعه نحن من تجويد لأساليب الحياة ورفاهيتها فهذا هو الإصلاح المطلوب منا.
وسبق أن قلنا: إن المصلح هو الذي يترك الصالح على صلاحه، أو يزيده صلاحًا يؤدي إلى ترفه وإلى راحته، وإلى الوصول إلى الغاية بأقل مجهود في أقل وقت.
والقرى التي يصلح أهلها؛ لا يهلكها الله؛ لأن الإصلاح إما أن يكون قد جاء نتيجة اتباع منهج نزل من الله تعالى؛ فتوازنت به حركة الإنسان مع حركة الكون، ولم تتعاند الحركات؛ بل تتساند وتتعاضد، ويتواجد المجتمع المنشود.
وإما أن هؤلاء الناس لم يؤمنوا بمنهج سماوي، ولكنهم اهتدوا إلى أسلوب عمل يريحهم، مثل الأمم الملحدة التي اهتدت إلى شيء ينظم حياتهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يمنع العقل البشري أن يصل إلى وضع قانون يريح الناس.
لكن هذا العقل لا يصل إلى هذا القانون إلا بعد أن يرهق البشر من المتاعب والمصاعب، أما المنهج السماوي فقد شاء به الله سبحانه أن يقي الناس أنفسهم من التعب، فلا تعضهم الأحداث.
وهكذا نجد القوانين الوضعية وهي تعالج بعض الداءات التي يعاني منها البشر، لا تعطي عائد الكمال الاجتماعي، أما قوانين السماء فهي تقي البشر من البداية فلا يقعون فيما يؤلمهم.
وهكذا نفهم قول الحق سبحانه: {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117].
لأنهم إما أن يكونوا متبعين لمنهج سماوي، وإما أن يكونوا غير متبعين لمنهج سماوي، لكنهم يصلحون أنفسهم.
إذن: فالحق سبحانه وتعالى لا يهلك القرى لأنها كافرة؛ بل يبقيها كافرة ما دامت تضع القوانين التي تنظم حقوق وواجبات أفرادها؛ وإن دفعت ثمن ذلك من تعاسة وآلام.
ولكن على المؤمن أن يعلن لهم منهج الله؛ فإن أقبلوا عليه ففي ذلك سعادتهم، وإن لم يقبلوا؛ فعلى المؤمنين أن يكتفوا من هؤلاء الكافرين بعدم معارضة المنهج الإيماني.
ولذلك نجد في البلاد التي فتحها الإسلام أناسًا بَقَوْا على دينهم؛ لأن الإسلام لم يدخل أي بلد لحمل الناس على أن يكونوا مسلمين، بل جاء الإسلام بالدليل المقنع مع القوة التي تحمي حق الإنسان في اختيار عقيدته.
يقول الله جَلَّ علاه: {لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتقسطوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [الممتحنة: 8].
فإذا كانت بعض المجتمعات غير مؤمنة بالله، ومُصْلِحة؛ فالحق سبحانه لا يهلكها بل يعطيهم ما يستحقونه في الحياة الدنيا؛ لأنه سبحانه القائل: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20]. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ}
أخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب قال أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض}.
وأخرج ابن أبي مالك في قوله: {فلولا} قال: فهلا.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: أي لم يكن من قبلكم من ينهى عن الفساد في الأرض إلا قليلًا.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج: {إلا قليلًا ممن أنجينا منهم} يستقلهم الله من كل قوم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد: {واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه} قال: في ملكهم وَتَجَبُّرَهُمْ وتركهم الحق.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طريق ابن جريج قال: قال ابن عباس: {أترفوا فيه} نظروا فيه.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة: {واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه} من دنياهم، وأن هذه الدنيا قد تعقدت أكثر الناس، وألهتهم عن آخرتهم.
أخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن جرير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن تفسيرها هذه الآية: {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأهلها ينصف بعضهم بعضًا».
وأخرجه ابن أبي حاتم والخرائطي في مساوي الأخلاق عن جرير موقوفًا. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} قوله تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ}: لولا تحضيضيةٌ دخلها معنى التفجُّع عليهم، وهو قريبٌ مِنْ مجازِ قوله تعالى: {ياحسرة عَلَى العباد} [يس: 30]. وما يروى عن الخليل أنه قال: كلُّ لولا في القرآن فمعناها هَلاَّ إلا التي في الصافَّات: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين} [الآية: 143]، لا يصح عنه لورودها كذلك في غير الصافات: {لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ} [القلم: 49]: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ} [الفتح: 25]، {وَلَوْلاَ رِجَالٌ} [الإسراء: 74].
و{مِن القُرون}: يجوزُ أن يتعلق ب كان لأنها هنا تامة، إذ المعنى: فهلاَّ وُجِد من القرون، أو حَدَث، ونحو ذلك، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من {أُولو بَقِيَّة} لأنه لو تأخَّر عنه لجاز أن يكون نعتًا له. و{مِنْ قبلكم} حال من {القرون} و{يَنْهَوْن} حالٌ من {أولو بقية} لتخصُّصه بالإِضافة، ويجوز أن يكون نعتًا ل {أُولو بقية} وهو أولى.
ويَضْعُفُ أن تكونَ كان هذه ناقصةً لبُعد المعنى مِنْ ذلك، وعلى تقديرِه يتعيَّن تَعَلُّق {من القرون} بالمحذوف على أنه حالٌ، لأنَّ كان الناقصة لا تعمل عند جمهور النحاة، ويكون {يَنْهَوْن} في محل نصب خبرًا لكان.
وقرأ العامَّة: {بَقِيَّة} بفتح الباء وتشديد الياء، وفيها وجهان، أحدهما: أنها صفةٌ على فَعيلة للمبالغة بمعنى فاعل، ولذلك دخلت التاءُ فيها، والمرادُ بها حينئذٍ جُنْدُ الشيء وخياره، وإنما قيل لجنده وخياره بقيَّة في قولهم: فلان بقيةُ الناس، وبقيةُ الكرام، لأن الرجلَ يَسْتَبْقي ممَّا يُخْرِجه أجودَه وأفضلَه، وعليه حُمل بيت الحماسة:
إنْ تُذْنِبُوا ثم تَأْتِيني بقيَّتُكم ** .........................

وفي المثل في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا.
والثاني: أنها مصدرٌ بمعنى البقوى. قال الزمخشري: ويجوز أن تكونَ البقيَّة بمعنى البقوى، كالتقيَّة بمعنى التقوى، أي: فهلا كان منهم ذوو إبقاءٍ على أنفسهم وصيانةٍ لها من سخط اللَّه وعقابه.
وقرأ فرقةٌ {بَقِيَة} بتخفيف الياء وهي اسمُ فاعلٍ مِنْ بقي كشَجِيَة مِنْ شَجِي، والتقدير: أولو طائفةٍ بَقِيةٍ أي: باقية. وقرأ أبو جعفر وشيبة {بُقْية} بضم الفاء وسكون العين. وقرئ: {بَقْيَة} على المَرَّة من المصدر. و{في الأرض} متعلقٌ بالفَساد، والمصدرُ المقترن بأل يعمل في المفاعيل الصريحة فكيف في الظروف؟ ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من {الفساد}.
قوله: {إِلاَّ قَلِيلًا} فيه وجهان، أحدهما؛ أن يكون استثناءً منقطعًا، وذلك أن يُحمل التحضيضُ على حقيقته، وإذا حُمل على حقيقته تعيَّن أن يكونَ الاستثناء منقطعًا لئلا يفسُدَ المعنى.
قال الزمشخري: معناه: ولكن قليلًا ممَّن أَنْجَيْنا مِن القرون نُهوا عن الفساد، وسائرُهم تاركوا النهي. ثم قال: فإن قُلْتَ: هل لوقوع هذا الاستثناء متصلًا وجهٌ يُحْمَلُ عليه؟ قلت: إن جَعَلْتَه متصلًا على ما عليه ظاهرُ الكلام كان المعنى فاسدًا؛ لأنه يكون تحضيضًا لأولي البقية على النهي عن الفساد إلا للقليل من الناجين منهم، كما تقول: هلا قرأ قومُك القرآن إلا الصلحاءَ منهم، تريد استثناء الصلحاء من المُحَضَّضين على قراءة القرآن. قلت: لأن الكلام يَؤُول إلى أنَّ الناجين لم يُحَضُّوا على النهي عن الفساد، وهو معنىً فاسدٌ.
والثاني: أن يكونَ متصلًا، وذلك بأن يُؤَوَّل التحضيضُ بمعنى النفي فيصحَّ ذلك، إلا أنه يؤدِّي إلى النصب في غير الموجَب، وإن كان غيرُ النصب أولى. قال الزمخشري: فإن قلت: في تحضيضهم على النهي عن الفسادِ معنى نَفْيه عنهم فكأنه قيل: ما كان من القرونِ أولو بقيةٍ إلا قليلًا كان استثناءٌ متصلًا ومعنى صحيحًا، وكان انتصابُه على أصلِ الاستثناء، وإن كان الأفصحُ أن يُرْفعَ على البدل قلت: ويؤيد أن التحضيض هنا في معنى النفي قراءةُ زيد بن علي {إلا قليلٌ} بالرفع، لاحظ معنى النفي فأبدل على الأفصح، كقولِه: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 66]. وقال الفراء: المعنى: فلم يكن، لأن في الاستفهام ضربًا من الجَحْد سَمَّى التحضيض استفهامًا. ونُقِل عن الأخفش أنه كان يرى تعيُّنَ اتصال هذا الاستثناء، كأنه لَحَظَ النفيَ.
ومِن في {مِمَّنْ أَنْجَيْنا} للتبعيض. ومنع الزمخشري أن تكونَ للتبعيض، بل للبيان فقال: حقُّها أن تكون للبيان لا للتبعيض؛ لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم، بدليل قوله عز وجل: {أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165]. قلت: فعلى الأول يتعلَّق بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل {قليلًا}، وعلى الثاني: يتعلَّق بمحذوف على سبيل البيان، أي: أعني.
قوله: {واتبع} العامَّةُ على أتَّبع بهمزة وصل وتاءٍ مشددة، وباء، مفتوحتين، فعلًا ماضيًا مبنيًا للفاعل، وفيه وجهان، أحدهما: أنه معطوفٌ على مضمر، والثاني: أن الواوَ للحال لا للعطف، ويتضح ذلك بقول الزمخشري: فإن قلت: علامَ عَطَف قوله: {واتبع الذين ظَلَمُواْ} قلت: إنْ كان معناه: واتَّبعوا الشهواتِ كان معطوفًا على مضمرٍ؛ لأن المعنى: إلا قليلًا مِمَّن أنجينا منهم نُهُوا عن الفساد، واتَّبع الذين ظلموا شَهواتِهم، فهو عطفٌ على نُهوا وإن كان معناه: واتَّبعوا جزاء الإِتراف، فالواو للحال، كأنه قيل: أَنْجَيْنا القليل، وقد اتَّبَعَ الذين ظَلَموا جزاءهم.
قلت: فجوَّز في قولِه: {ما أُتْرفوا} وجهين أحدُهما: أنه مفعولٌ مِنْ غيرِ حذفِ مضاف، و«ما» واقعة على الشهوات وما بَطِروا بسببه من النِّعَم، والثاني: أنه على حَذْفِ مضاف، أي: جزاء ما أترفوا، ورتَّب على هذين الوجهين القولَ في {واتَّبع} كما عرفت.
والإِتراف: إفعالٌ من التَّرف وهو النعمة يُقال: صبيٌّ مُتْرَفٌ، أي: مُنْعَم البدن، وأُتْرفوا: نَعِموا. وقيل: التُّرْفة: التوسُّع في النِّعْمة.
وقرأ أبو عمرو في روايةِ الجعفي وجعفر {وأُتبع} بضم همزة القطعِ وسكونِ التاء وكسر الباء مبنيًا للمفعول، ولابد حينئذٍ مِنْ حَذْفِ مضاف، أي: أُتْبِعوا جزاء ما أُتْرفوا فيه. وما يجوز أن تكونَ بمعنى الذي، وهو الظاهرُ لعَوْد الضمير في {فيه} عليه، ويجوز أن تكونَ مصدريةً، أي: جزاءَ إترافهم.
قوله: {وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أن تكونَ عطفًا على {أُتْرِفُوا} إذا جعلنا ما مصدريةً، أي: اتَّبَعوا إترافهم وكونَهم مجرمين. والثاني: أنه عطفٌ على اتَّبع، أي: اتَّبعوا شهواتِهم وكانوا مجرمين بذلك؛ لأنَّ تابع الشهوات مغمورٌ بالآثام. الثالث: أن يكونَ اعتراضًا وحكمًا عليهم بأنهم قومٌ مجرمون، ذكر ذلك الزمخشريُّ. قال الشيخ: ولا يُسَمَّى هذا اعتراضًا في اصطلاح النحو؛ لأنه آخرُ آيةٍ فليس بين شيئين يحتاج أحدُهما إلى الآخرِ.
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)}
قوله تعالى: {لِيُهْلِكَ}: فيه الوجهان المشهوران، وهما زيادةُ اللامِ في خبر كان دلالةً على التأكيد كما هو رأي الكوفيين أو كونُه متعلقةً بخبر كان المحذوف، وهو مذهبُ البصريين. و{بظلمٍ} متعلق ب {يُهْلك} والباءُ سببيةٌ. وجوَّز الزمخشري أن تكونَ حالًا من فاعل {ليُهْلِكَ}. وقوله: {وأهلُها مُصْلحون} جملة حالية. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117)، وفي سورة القصص: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} (القصص: 59)، للسائل أن يسأل عن (قوله في) أولى الآيتين: {وما كان ربك} وفي الثانية {وما كنا}، وعن قوله في الأولى: {ليهلك} بالفعل الداخلة عليه لام الجحود، وفي الآخر: {مهلك} و(مهلكي) بسم الفاعل، وعن قوله في الأولى: {مصلحون} وفي الثانية: {حتى نبعث في أمها رسولا..} الآية وفي الثالثة: {إلا وأهلها ظالمون} فتلك ثلاثة اسأله.
والجواب: أن آية هود تقدمها قوله تعالى: {لَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} (هود: 116)، أي فهلا كان منهم خيار وينهون عن الفساد والظلم، فلو كان منهم ذلك لما هلكوا: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117)، أي ما كان ليفعل بهم وإن وقع منهم ظلم ذلك كان فيهم مغير للظلم وناه عن الفساد ولكنهم كانوا كما أخبر تعالى عن المعتدين من بني إسرائيل في قوله تعالى عنهم: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} (المائدة: 79)، وجيء بالفعل في قوله: {ليهلك} إشارة إلى التكرر بحسب ما يكون منهم، فلو كان في كل أمة وقرن بعد قرن من ينهي عن الفساد والظلم لما أخذ بذوي الظلم منهم ولكان تعالى يدفع بعضهم عن بعض، ولكن تكرر الفساد وعم كل قرن فتكرر عليهم الجزاء والأخذ، فأشار الفعل إلى التكرر ولم يكن الاسم ليعطي ذلك، وهذا كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} (الملك: 19) ولم يقل: وقابضات لما قصده من معنى التكرر، وأما قوله في سورة القصص: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا...} (القصص: 59) فإنه تقدم هذا في قوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (القصص: 51) أي أتبعنا وولينا التذكار، ويشهد قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر: 24)، وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (الإسراء: 15)، فلما أعلم سبحانه تتابع التذكار وتعاقب الإنظار قال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} (القصص: 59)، ونسب هذا ذكر اسم الفاعل لأنه قصد ذكر الاتصاف بهذا ولم يقصد التكرر ولم يكن حاصله، وقال هنا وفي آية هود: {وما كان ربك} بإضافة اسم الرب جل وتعالى إلى ضمير نبينا صلي الله عليه وسلم المخاطب بهذه ملاطفة لهذا النبي صلى الله عليه وسلم وتأنيسًا له ولأمته وإشعارا بعظيم حظوته ومنزلته لديه سبحانه، ثم اتبع تعالى هذا بقوله: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} (القصص: 59)، فأخبر تعالى أنه ما أهلكهم إلا بعد استحقاق جميعهم العذاب وتساويهم في الظلم وقيل في هذه الآية الأخيرة: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى} لئلا يتكرر اللفظ بعينه مع الاتصال والقرب وليس من مواضعه، وقد حصل جواب الاسئلة الثلاثة وبيان خصوص كل آية منها بمواضعها، والله أعلم. اهـ.