فصل: تفسير الآيات (118- 119):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (118- 119):

قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان مثل هذه الآيات ربما أوهم أن إيمان مثل هؤلاء مما لا يدخل تحت المشيئة، نفى ذلك الوهم مبينًا انفكاك المشيئة عن الأمر بقوله: {ولو شاء ربك} أي المحسن إليك بكل إحسان يزيدك رفعة: {لجعل الناس} أي كلهم: {أمة واحدة} على الإصلاح، فهو قادر على أن يجعلهم كلهم مصلحين متفقين على الإيمان فلا يهلكهم، ولكنه لم يشأ ذلك، بل شاء اختلافهم والأمر تابع لمشيئته فاختلفوا: {ولا يزالون مختلفين} أي ثابتًا اختلافهم لكونهم على أديان شتى: {إلا من رحم ربك} أي المحسن إليك بالتأليف بينهم في جعلهم من أهل طاعتك فإنهم لا يختلفون في أصول الحق.
ولما كان ما تقدم ربما أوجب أن يقال: لمَ لم يُقبل بقلوبهم إلى الهدى ويصرفهم عن موجبات الردى إذا كان قادرًا؟ قال تعالى مجيبًا عن ذلك: {ولذلك} أي الاختلاف: {خلقهم} أي اخترعهم وأوجدهم من العدم وقدرهم، وذلك أنه لما طبعهم سبحانه على خلائق من الخير والشر تقتضي الاختلاف لتفاوتهم فيها، جعلوا كأنهم خُلقوا له فجروا مع القضاء والقدر، ولم يمكنهم الجري على ما تدعو إليه العقول في أن الاتفاق رحمة والاختلاف نقمة، فاستحق فريق منهم النار وفريق جنة، وليس ذلك مخالفًا لقوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] بل هو من شكله، أي أنه تعالى لما ركبهم على العجز ومنحهم العقول مع نصب الأدلة، كان ذلك مهيئًا للعبادة فكانوا كأنهم ما خلقوا إلا لها أي ما خلقتهم إلا ليعرفون بنفوذ أقضيتي وتصاريفي فيهم فيعبدون، أي يخضعوا لي فمن كان منهم طائعًا فهو عابد حقيقة، ومن كان عاصيًا كان عابدًا مجازًا، أي خاضعًا للأمر لنفوذه فيه وعجزه عن الامتناع كما قال تعالى: {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا} [الرعد: 15]، فقد بان أن خلقهم للعبادة فقط ينافي خلقهم للاختلاف، لأن جريهم في قضائه بالاختلاف عبادة وسجود لغة، وذلك أن مادتي عبد وسجد تدوران على الخضوع والذل والانقياد، وبذلك كان الكل عبيد الله، أو الإشارة إلى مجمع الاتفاق والاختلاف ليظهر فضله على من ثبتهم ويظهر عدله فيمن خذلهم.
ولما كان هذا الاختلاف سبب الكفر الذي أرسل رسله بالقتال عليه، كان ربما ظن أنه بغير مشيئته، فبين أنه إنما هو بمراده ولا اعتراض عليه فقال: {وتمت} أي فبادروا إلى ما خلقهم لهم معرضين عن أوامره ولم تغن عنهم عقولهم، وتمت حينئذ: {كلمة ربك} أي المحسن إليك بقهر أعدائك التي سبقت في الأزل وهي وعزتي: {لأملأن جهنم} أي التي تلقى المعذب فيها بالتجهم والعبوسة: {من الجنة} أي قبيل الجن، قدمهم لأنهم أصل في الشر، ثم عم فقال: {والناس أجمعين} فمشوا على ما أراد ولم يمكنهم مع عقولهم الجيدة الاستعدد وقواهم الشداد غير إلقاء القياد، فمن قال: إنه يخلق فعله أو له قدرة على شيء فليفعل غير ذلك بأن يخبر باتفاقهم ثم يفعله ليتم قوله.
وإلا فليعلم أنه مربوب مقهور فيسمع رسالات ربه إليه بقالبه وقلبه. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم قال تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً}
والمعتزلة يحملون هذه الآية على مشيئة الإلجاء والإجبار وقد سبق الكلام عليه.
ثم قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} والمراد افتراق الناس في الأديان والأخلاق والأفعال.
واعلم أنه لا سبيل إلى استقصاء مذاهب العالم في هذا الموضع ومن أراد ذلك فليطالع كتابنا الذي سميناه بالرياض المونقة إلا أنا نذكر هاهنا تقسيمًا جامعًا للمذاهب.
فنقول: الناس فريقان منهم من أقر بالعلوم الحسية كعلمنا بأن النار حارة والشمس مضيئة والعلوم البديهية كعلمنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان، ومنهم من أنكرهما، والمنكرون هم السفسطائية، والمقرون هم الجمهور الأعظم من أهل العالم، وهم فريقان: منهم من سلم أنه يمكن تركيب تلك العلوم البديهية بحيث يستنتج منها نتائج علمية نظرية، ومنهم من أنكره، وهم الذين ينكرون أيضًا النظر إلى العلوم، وهم قليلون، والأولون هم الجمهور الأعظم من أهل العالم، وهم فريقان: منهم من لا يثبت لهذا العالم الجسماني مبدأ أصلًا وهم الأقلون، ومنهم من يثبت له مبدأ وهؤلاء فريقان: منهم من يقول: ذلك المبدأ موجب بالذات، وهم جمهور الفلاسفة في هذا الزمان، ومنهم من يقول: إنه فاعل مختار وهم أكثر أهل العالم، ثم هؤلاء فريقان: منهم من يقول: إنه ما أرسل رسولًا إلى العباد، ومنهم من يقول: إنه أرسل الرسول، فالأولون هم البراهمة.
والقسم الثاني أرباب الشرائع والأديان، وهم المسلمون والنصارى واليهود والمجوس، وفي كل واحد من هذه الطوائف اختلافات لا حدَّ لها ولا حصر، والعقول مضطربة، والمطالب غامضة، ومنازعات الوهم والخيال غير منقطعة، ولما حسن من بقراط أن يقول في صناعة الطب العمر قصير، والصناعة طويلة، والقضاء عسر، والتجربة خطر، فلأن يحسن ذكره في هذه المطالب العالية والمباحث الغامضة، كان ذلك أولى.
فإن قيل: إنكم حملتم قوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} على الاختلاف في الأديان، فما الدليل عليه، ولم لا يجوز أن يحمل على الاختلاف في الألوان والألسنة والأرزاق والأعمال.
قلنا: الدليل عليه أن ما قبل هذه الآية هو قوله: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} فيجب حمل هذا الاختلاف على ما يخرجهم من أن يكونوا أمة واحدة، وما بعد هذه الآية هو قوله: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} فيجب حمل هذا الاختلاف على معنى يصح أن يستثنى منه قوله: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} وذلك ليس إلا ما قلنا.
ثم قال تعالى: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الهداية والإيمان لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى، وذلك لأن هذه الآية تدل على أن زوال الاختلاف في الدين لا يحصل إلا لمن خصه الله برحمته، وتلك الرحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وإزاحة العذر، فإن كل ذلك حاصل في حق الكفار، فلم يبق إلا أن يقال: تلك الرحمة هو أنه سبحانه خلق فيه تلك الهداية والمعرفة.
قال القاضي معناه: إلا من رحم ربك بأن يصير من أهل الجنة والثواب، فيرحمه الله بالثواب، ويحتمل إلا من رحمة الله بألطافه، فصار مؤمنًا بألطافه وتسهيله، وهذان الجوابان في غاية الضعف.
أما الأول: فلأن قوله: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} يفيد أن ذلك الاختلاف إنما زال بسبب هذه الرحمة، فوجب أن تكون هذه الرحمة جارية مجرى السبب المتقدم على زوال هذا الاختلاف، والثواب شيء متأخر عن زوال هذا الاختلاف، فالاختلاف جار مجرى المسبب له، ومجرى المعلول، فحمل هذه الرحمة على الثواب بعيد.
وأما الثاني: وهو حمل هذه الرحمة على الألطاف فنقول: جميع الألطاف التي فعلها في حق المؤمن فهي مفعولة أيضًا في حق الكافر، وهذه الرحمة أمر مختص به المؤمن، فوجب أن يكون شيئًا زائدًا على تلك الألطاف، وأيضًا فحصول تلك الألطاف هل يوجب رجحان وجود الإيمان على عدمه أو لا يوجبه، فإن لم يوجبه كان وجود تلك الألطاف وعدمها بالنسبة إلى حصول هذا المقصود سيان، فلم يك لطفًا فيه، وإن أوجب الرجحان فقد بينا في الكتب العقلية أنه متى حصل الرجحان فقد وجب، وحينئذ يكون حصول الإيمان من الله، ومما يدل على أن حصول الإيمان لا يكون إلا بخلق الله، أنه ما لم يتميز الإيمان عن الكفر، والعلم عن الجهل، امتنع القصد إلى تكوين الإيمان والعلم، وإنما يحصل هذا الامتياز إذا علم كون أحد هذين الاعتقادين مطابقًا للمعتقد وكون الآخر ليس كذلك، وإنما يصح حصول هذا العلم، أن لو عرف أن ذلك المعتقد في نفسه كيف يكون، وهذا يوجب أنه لا يصح من العبد القصد إلى تكوين العلم بالشيء إلا بعد أن كان عالمًا، وذلك يقتضي تكوين الكائن وتحصيل الحاصل وهو محال فثبت أن زوال الاختلاف في الدين وحصول العلم والهداية لا يحصل إلا بخلق الله تعالى وهو المطلوب.
ثم قال تعالى: {ولذلك خَلَقَهُمْ} وفيه ثلاثة أقوال:
القول الأول: قال ابن عباس: وللرحمة خلقهم، وهذا اختيار جمهور المعتزلة.
قالوا: ولا يجوز أن يقال: وللاختلاف خلقهم، ويدل عليه وجوه: الأول: أن عود الضمير إلى أقرب المذكورين أولى من عوده إلى أبعدهما، وأقرب المذكورين هاهنا هو الرحمة، والاختلاف أبعدهما.
والثاني: أنه تعالى لو خلقهم للاختلاف وأراد منهم ذلك الإيمان، لكان لا يجوز أن يعذبهم عليه، إذ كانوا مطيعين له بذلك الاختلاف.
الثالث: إذا فسرنا الآية بهذا المعنى، كان مطابقًا لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
فإن قيل: لو كان المراد وللرحمة خلقهم لقال: ولتلك خلقهم ولم يقل: ولذلك خلقهم.
قلنا: إن تأنيث الرحمة ليس تأنيثًا حقيقيًا، فكان محمولًا على الفضل والغفران كقوله: {هذا رَحْمَةٌ مّن رَّبّى} [الكهف: 98] وقوله: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} [الأعراف: 56].
والقول الثاني: أن المراد وللاختلاف خلقهم.
والقول الثالث: وهو المختار أنه خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف.
روى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: خلق الله أهل الرحمة لئلا يختلفوا، وأهل العذاب لأن يختلفوا، وخلق الجنة وخلق لها أهلًا، وخلق النار وخلق لها أهلًا، والذي يدل على صحة هذا التأويل وجوه: الأول: الدلائل القاطعة الدالة على أن العلم والجهل لا يمكن حصولهما في العبد إلا بتخليق الله تعالى.
الثاني: أن يقال: إنه تعالى لما حكم على البعض بكونهم مختلفين وعلى الآخرين بأنهم من أهل الرحمة وعلم ذلك امتنع انقلاب ذلك، وإلا لزم انقلاب العلم جهلًا وهو محال.
الثالث: أنه تعالى قال بعده: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} وهذا تصريح بأنه تعالى خلق أقوامًا للهداية والجنة، وأقوامًا آخرين للضلالة والنار، وذلك يقوي هذا التأويل. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّك لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً}
قَالَ قَتَادَةُ: يَجْعَلُهُمْ مُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ بِالْإِلْجَاءِ إلَى الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِلْجَاءُ بِالْمَنْعِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ رَامُوا خِلَافَهُ مُنِعُوا مِنْهُ مَعَ الِاضْطِرَارِ إلَى حُسْنِهِ وَعِظَمِ الْمَنْفَعَةِ بِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ، وَالْأَعْمَشُ أَيْ مُخْتَلِفِينَ فِي الْأَدْيَانِ يَهُودِيٌّ وَنَصْرَانِيٌّ وَمَجُوسِيٌّ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ: فِي الْأَرْزَاقِ، وَالْأَحْوَالِ مِنْ تَسْخِيرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ.
قَوْله تَعَالَى: {إلَّا مَنْ رَحِمِ رَبُّك} إنَّمَا هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْمُخْتَلِفِينَ بِالْبَاطِلِ بِالْإِطْلَاقِ فِي الْإِيمَانِ الْمُؤَدِّي إلَى الثَّوَابِ، فَإِنَّهُ نَاجٍ مِنْ الِاخْتِلَافِ بِالْبَاطِلِ.
قَوْله تَعَالَى: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ: خَلَقَهُمْ لِلرَّحْمَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ: خَلَقَهُمْ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِاخْتِلَافِهِمْ وَهِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ، قَالُوا: وَقَدْ تَكُونُ اللَّامُ بِمَعْنَى عَلَى كَقَوْلِك: أَكْرَمْتُك عَلَى بِرِّك وَلِبِرِّك بِي. اهـ.