فصل: قال ابن العربي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّك لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي مَعْنَى الْأُمَّةِ:
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إلَيْهَا، وَجَمَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِيهَا نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ مَعْنًى، وَهِيَ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ يَعْنِي جَمَاعَةً وَاحِدَةً عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ.
كَمَا يُقَالُ: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً أَيْ: جَمَاعَةٌ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
قَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ لَوْ شَاءَ رَبُّك لَجَعَلَ النَّاسَ كُلَّهُمْ مُسْلِمِينَ.
وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَجَعَلَهُمْ كُفَّارًا أَجْمَعِينَ.
وَهَذِهِ آيَةٌ لَا يُؤْمِنُ بِهَا إلَّا أَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَأَنَّ مَشِيئَتَهُ وَإِرَادَتَهُ تَتَعَلَّقُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ.
وَالْأُولَى عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْمَعْنِيُّ هَاهُنَا بِالْآيَةِ الْمُسْلِمِينَ، تَقْدِيرُهَا: لَوْ شَاءَ رَبُّك لَجَعَلَ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مُسْلِمِينَ، وَلَكِنَّهُ قَسَّمَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ بِحِكْمَتِهِ وَسَابِقِ عِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}:
قِيلَ: يَهُودِيٌّ وَنَصْرَانِيٌّ وَمَجُوسِيٌّ، وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى الْأَدْيَانِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي الِاخْتِلَافَ فِي الرِّزْقِ: غَنِيٌّ وَفَقِيرٌ.
وَهَذَا بَعِيدٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ الْآيَةُ لِبَيَانِ الْأَدْيَانِ وَالِاخْتِلَافِ فِيهَا، وَإِخْبَارِ اللَّهِ عَنْ حُكْمِهِ عَلَيْهَا، وَرَحْمَةِ مَنْ يَرْحَمُ مِنْهَا، فَرَجَعَ وَصْفُ الِاخْتِلَافِ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ إلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدْخُلُ فِي هَذَا الْحُكْمِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ خَرِبٍ لَدَخَلْتُمُوهُ».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ، إلَّا وَاحِدَةً.
قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي»
.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: {إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّك}:
فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: بِالْهِدَايَةِ إلَى الْحَنِيفِيَّةِ.
الثَّانِي: بِالْهِدَايَةِ إلَى الْحَقِّ.
الثَّالِثُ: بِالطَّاعَةِ.
الرَّابِعُ: إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّك؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَكُلُّهَا اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ لَا انْقِطَاعَ فِيهِ لِانْتِظَامِ الْمَعْنَى مَعَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}:
فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لِلِاخْتِلَافِ خَلَقَهُمْ.
الثَّانِي: لِلرَّحْمَةِ خَلَقَهُمْ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ لِيَخْتَلِفُوا، فَيَرْحَمُ مَنْ يَرْحَمُ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يُعَذِّبُ، كَمَا قَالَ: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}.
وَقَالَ: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}.
وَاعْجَبُوا مِمَّنْ يَسْمَعُ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا}، وَيَتَوَقَّفُ فِي مَعْرِفَةِ مَا يَكُونُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لِلْفَسَادِ، وَهَلْ يَكُونُ الْفَسَادُ وَسَفْكُ الدِّمَاءِ إلَّا بِالِاخْتِلَافِ.
وَقَدْ قَالَ أَشْهَبُ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} لِلِاخْتِلَافِ، فَقَالَ لِي: لِيَكُونَ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ.
وَهَذَا قَوْلُ مَنْ فَهِمَ الْآيَةَ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ قَرَأَ: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} قَالَ: خَلَقَ أَهْلَ رَحْمَتِهِ، لِئَلَّا يَخْتَلِفُوا.
وَنَحْوُهُ عَنْ طَاوُسٍ، وَمَا اخْتَرْنَاهُ، وَأَخْبَرَنَا بِهِ هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَلَا تَرَوْنَ إلَى خَاتِمَةِ الْآيَةِ حِينَ قَالَ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّك}، وَهِيَ: [الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ].
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}:
ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيُّ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِآدَمَ: ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ.
قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ لِلنَّارِ وَوَاحِدٌ إلَى الْجَنَّةِ»
؛ فَلِهَذَا خَلَقَهُمْ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {ولو شاء ربُّك لجعل الناس أمّةً واحدةً} فيه وجهان:
أحدهما: على ملة الإسلام وحدها، قاله سعيد بن جبير.
الثاني: أهل دين واحد، أهل ضلالة وأهل هدى، قاله الضحاك.
{ولا يزالون مختلفين إلا من رَحِمَ ربّك} فيه ستة أقاويل:
أحدها: مختلفين في الأديان إلا من رحم ربك من أهل الحق، قاله مجاهد وعطاء.
الثاني: مختلفين في الحق والباطل إلا من رحم ربك من أهل الطاعة، قاله ابن عباس.
الثالث: مختلفين في الرزق فهذا غني وهذا فقير إلا من رحم ربك من أهل القناعة. قاله الحسن.
الرابع: مختلفين بالشقاء والسعادة إلا من رحم ربك بالتوفيق.
الخامس: مختلفين في المغفرة والعذاب إلا من رحم ربك بالجنة.
السادس: أنه معنى مختلفين أي يخلف بعضهم بعضًا، فيكون من يأتي خلفًا للماضي لأن سوءًا في كل منهم خلف بعضهم بعضًا، فاقتتلوا ومنه قولهم: ما اختلف الجديدان، أي جاء هذا بعد ذاك، قاله ابن بحر.
{ولذلك خلقهم} فيه أربعة أقاويل:
أحدها: للاختلاف خلقهم، قاله الحسن وعطاء.
الثاني: للرحمة خلقهم، قاله مجاهد.
الثالث: للشقاء والسعادة خلقهم، قاله ابن عباس.
الرابع: للجنة والنار خلقهم، قاله منصور بن عبد الرحمن. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً}
المعنى: لجعلهم أمة واحدة مؤمنة- قاله قتادة- حتى لا يقع منهم كفر ولا تنزل بهم مثلة، ولكنه عز وجل لم يشأ ذلك، فهم لا يزالون مختلفين في الأديان والآراء والملل- هذا تأويل الجمهور- قال الحسن وعطاء ومجاهد وغيرهم: المرحومون المستثنون هم المؤمنون ليس عندهم اختلاف. وقالت فرقة: {لا يزالون مختلفين} في السعادة والشقاوة، وهذا قريب المعنى من الأول إذ هي ثمرة الأديان والاختلاف فيها، ويكون الاختلاف- على هذا التأويل- يدخل فيه المؤمنون إذ هم مخالفون للكفرة؛ وقال الحسن أيضًا: لا يزالون مختلفين في الغنى والفقر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول بعيد معناه من معنى الآية، ثم استثنى الله تعالى من الضمير في: {يزالون} من رحمه من الناس بأن هداه إلى الإيمان ووفقه له.
وقوله: {ولذلك خلقهم} اختلف فيه المتأولون، فقالت فرقة: ولشهود اليوم المشهود- المتقدم ذكره- خلقهم، وقالت فرقة: ذلك إشارة إلى قوله- قبل-: {فمنهم شقي وسعيد} [هود: 105] أي لهذا خلقهم.
قال القاضي أبو محمد: وهذان المعنيان وإن صحا فهذا العود المتباعد ليس بجيد؛ وروى أشهب عن مالك أنه قال: ذلك إشارة إلى أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير.
قال القاضي أبو محمد: فجاءت الإشارة بذلك إلى الأمرين: الاختلاف والرحمة وقد قاله ابن عباس واختاره الطبري ويجيء- عليه- الضمير في: {خلقهم} للصنفين وقال مجاهد وقتادة ذلك عائد على الرحمة التي تضمنها قوله: {إلا من رحم}، أي وللرحمة خلق المرحومين، قال الحسن، وذلك إشارة إلى الاختلاف الذي في قوله: {ولا يزالون مختلفين}.
قال القاضي أبو محمد: ويعترض هذا بأن يقال: كيف خلقهم للاختلاف؟ وهل معنى الاختلاف هو المقصود بخلقهم؟ فالوجه في الانفصال أن نقول: إن قاعدة الشرع أن الله عز وجل خلق خلقًا للسعادة وخلقًا للشقاوة، ثم يسر كلًا لما خلق له، وهذا نص في الحديث الصحيح وجعل بعد ذلك الاختلاف في الدين على الحق هو أمارة الشقاوة وبه علق العقاب، فيصح أن يحمل قوله هنا وللاختلاف خلقهم: أي لثمرة الاختلاف وما يكون عنه من الشقاوة. ويصح أن يجعل اللام في قوله: {ولذلك} لام الصيرورة أي وخلقهم ليصير أمرهم إلى ذلك، وإن لم يقصد بهم الاختلاف.
قال القاضي أبو محمد: ومعنى قوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56] أي لآمرهم بالعبادة، وأوجبها عليهم، فعبر عن ذلك بثمرة الأمر ومقتضاه.
وقوله، {وتمت كلمة ربك} أي نفذ قضاؤه وحق أمره، واللام في: {لأملأن} لام قسم إذ الكلمة تتضمن القسم. والجن جمع لا واحد له من لفظه وهو من أجن إذا ستر والهاء في: {بالجنة} للمبالغة. وإن كان الجن يقع على الواحد فالجنة جمعه. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً}
قال سعيد بن جُبير: على ملّة الإسلام وحدها.
وقال الضّحاك: أهل دين واحد، أهل ضلالة أو أهل هدى.
{وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} أي على أديان شتى؛ قاله مجاهد وقتادة.
{إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} استثناء منقطع؛ أي لكن من رحم ربك بالإيمان والهدى فإنه لم يختلف.
وقيل: مختلفين في الرزق، فهذا غنيّ وهذا فقير.
{إلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} بالقناعة؛ قاله الحسن.
{ولذلك خَلَقَهُمْ} قال الحسن ومقاتل وعطاء (ويمان): الإشارة للاختلاف؛ أي وللاختلاف خلقهم.
وقال ابن عباس ومجاهد وقَتَادة والضّحاك: ولرحمته خلقهم؛ وإنما قال: {وَلِذَلِكَ} ولم يقل ولتلك، والرحمة مؤنثة لأنه مصدر؛ وأيضًا فإن تأنيث الرحمة غير حقيقي، فحملت على معنى الفضل.
وقيل: الإشارة بذلك للاختلاف والرحمة، وقد يشار بذلك إلى شيئين متضادين؛ كقوله تعالى: {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] ولم يقل بين ذينك ولا تينك، وقال: {والذين إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] وقال: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلًا} [الإسراء: 110] وكذلك قوله: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} [يونس: 58] وهذا أحسن الأقوال إن شاء الله تعالى؛ لأنه يعم، أي ولِما ذُكِر خَلَقهم؛ وإلى هذا أشار مالك رحمه الله فيما روى عنه أشهب؛ قال أشهب: سألت مالكًا عن هذه الآية قال: خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير؛ أي خلَق أهل الاختلاف للاختلاف، وأهل الرحمة للرحمة.
وروي عن ابن عباس أيضًا قال: خَلَقهم فريقين، فريقًا يرحمه وفريقًا لا يرحمه.
قال المهدويّ: وفي الكلام على هذا التقدير تقديم وتأخير؛ المعنى: ولا يزالون مختلفين إلا من رحِم ربك، وتمت كلمة ربك لأملأنّ جهنم من الجنة والناس أجمعين؛ ولذلك خلقهم.
وقيل: هو متعلق بقوله: {ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} [هود: 103] والمعنى: ولشهود ذلك اليوم خلقهم.
وقيل: هو متعلق بقوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} أي للسّعادة والشّقاوة خلقهم.
قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} معنى تمت ثبت ذلك كما أخبر وقدّر في أزلِه؛ وتمام الكلمة امتناعها عن قبول التغيير والتبديل.
{لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} مِن لبيان الجنس؛ أي من جنس الجِنة وجنس الناس.
{أجمعين} تأكيد؛ وكما أخبر أنه يملأ ناره كذلك أخبر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يملأ جنته بقوله: «ولكل واحدة منكما مِلؤها».
خرجه البخاريّ من حديث أبي هريرة وقد تقدّم. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة} يعني كلهم على دين واحد وشريعة واحدة: {ولا يزالون مختلفين} يعني على أديان شتى ما بين يهودي ونصراني ومجوسي ومشرك ومسلم فكل أهل دين من هذه الأديان قد اختلفوا في دينهم أيضًا اختلافًا كثيرًا لا ينضبط عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تفرق اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين والنصارى مثل ذلك وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» أخرجه أبو داود والترمذي بنحوه عن معاوية قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة» أخرجه أبو داود قال الخطابي: قوله صلى الله عليه وسلم: «وستفترق أمتي» فيه دلالة على أن هذه الفرق غير خارجة من الملة والدين إذ جعلهم من أمته وقال غيره المراد بهذه الفرق أهل البدع والأهواء الذين تفرقوا واختلفوا وظهروا بعده كالخوارج والقدرية والمعتزلة والرافضة وغيرهم من أهل البدع والأهواء والمراد بالواحدة هي فرقة السنة والجماعة الذين اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله.
وقوله سبحانه وتعالى: {إلا من رحم ربك} يعني لكن من رحم ربك فمنّ عليه بالهداية والتوفيق إلى الحق، وهداه إلى الدين القويم والصراط المستقيم فهم لا يختلفون: {ولذلك خلقهم} قال الحسن وعطاء وللاختلاف خلقهم.
قال أشهب: سألت مالك بن أنس عن هذه الآية فقال خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير، وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: وللرحمة خلقهم يعني الذين يرحمهم.
وقال الفراء: خلق أهل الرحمة للرحمة وخلق أهل الاختلاف للاختلاف، وقيل: خلق الله أهل الرحمة للرحمة لئلا يختلفوا وخلق أهل العذاب لأن يختلفوا وخلق الجنة وخلق لها أهلًا وخلق النار وخلق لها أهلًا فحاصل الآية أن الله خلق أهل الباطل وجعلهم مختلفين، وخلق أهل الحق وجعلهم متفقين فحكم على بعضهم بالاختلاف ومصيرهم إلى النار وحكم على بعضهم بالرحمة وهم أهل الاتفاق ومصيرهم إلى الجنة ويدل على صحة هذا القول سياق الآية وهو قوله تبارك وتعالى: {وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجميعن} وهذا صريح بأن الله سبحانه وتعالى خلق أقوامًا للجنة وللرحمة فهداهم ووفقهم لأعمال أهل الجنة وخلق أقوامًا للضلالة والنار فخذلهم ومنعهم من الهداية. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً}
قال الزمخشري: يعني لاضطرارهم إلى أن يكونوا أهل ملة واحدة وهي ملة الإسلام كقوله: {وإن هذه أمتكم أمة واحدة} وهذا كلام يتضمن نفي الاضطرار، وأنه لم يقهرهم على الاتفاق على دين الحق، ولكنه مكنهم من الاختيار الذي هو أساس التكليف، فاختار بعضهم الحق، وبعضهم الباطل، فاختلفوا ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك الا ناسًا هداهم الله ولطف بهم فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه انتهى.
وهو على طريقة الاعتزال.
وقال ابن عباس وقتادة: أمة واحدة مؤمنة حتى لا يقع منهم كفر، لكنه تعالى لم يشأ ذلك.
وقال الضحاك: لو شاء لجعلهم على هدى أو ضلالة، والظاهر أن قوله: ولا يزالون مختلفين، هو من الاختلاف الذي هو ضد الاتفاق، وأنّ المعنى في الحق والباطل قاله: ابن عباس، وقال مجاهد: في الأديان، وقال الحسن: في الأرزاق والأحوال من تسخير بعضهم لبعض، وقال عكرمة: في الأهواء، وقال ابن بحر: المراد أنْ بعضهم يخلف بعضًا، فيكون الآتي خلفًا للماضي.
قال: ومنه قولهم: ما اختلف الجديدان، أي خلف أحدهما صاحبه.
وإلاّ من رحم استثناء متصل من قوله: ولا يزالون مختلفين، ولا ضرورة تدعو إلى أنه بمعنى لكن، فيكون استثناء منقطعًا كما ذهب إليه الحوفي، والإشارة بقوله: ولذلك خلقهم، إلى المصدر المفهوم من قوله: مختلفين، كما قال: إذا نهى السفيه جرى إليه.
فعاد الضمير إلى المصدر المفهوم من اسم الفاعل، كأنه قيل: وللاختلاف خلقهم، ويكون على حذف مضاف أي: لثمرة الاختلاف من الشقاوة والسعادة خلقهم.
ودل على هذا المحذوف أنه قد تقرر من قاعدة الشريعة أن الله تعالى خلق خلقًا للسعادة، وخلقا للشقاوة، ثم يسر كلا لما خلق له، وهذا نص في الحديث الصحيح.
وهذه اللام في التحقيق هي لام الصيرورة في ذلك المحذوف، أو تكون لام الصيرورة بغير ذلك المحذوف، أي: خلقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف.
ولا يتعارض هذا مع قوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} لأنّ معنى هذا الأمر بالعبادة.
وقال مجاهد وقتادة: ذلك إشارة إلى الرحمة التي تضمنها قوله: إلا من رحم ربك، والضمير في خلقهم عائد على المرحومين.
وقال ابن عباس، واختاره الطبري: الإشارة بذلك إلى الاختلاف والرحمة معًا، فيكون على هذا أشير بالمفرد إلى اثنين كقوله: {عوان بين ذلك} أي بين الفارض والبكر، والضمير في خلقهم عائد على الصنفين: المستثني، والمستثنى منه، وليس في هذه الجملة ما يمكن أن يعود عليه الضمير إلا الاختلاف كما قال الحسن وعطاء، أو الرحمة كما قال مجاهد، وقتادة، أو كلاهما كما قال ابن عباس.
وقد أبعد المتأولون في تقدير غير هذه الثلاث، فروي أنه إشارة إلى ما بعده.
وفيه تقديم وتأخير أي: وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجِنة والناس أجمعين، ولذلك خلقهم أي لملء جهنم منهم، وهذا بعيد جدًا من تراكيب كلام العرب.
وقيل: إشارة إلى شهود ذلك اليوم المشهود، وقيل: إلى قوله: {فمنهم شقي وسعيد} وقيل: إشارة إلى أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير، وقيل: إشارة إلى قوله: {ينهون عن الفساد في الأرض} وقيل: إشارة إلى العبادة، وقيل: إلى الجنة والنار، وقيل: للسعادة والشقاوة.
وقال الزمخشري: ولذلك إشارة إلى ما دل عليه الكلام، أولًا من التمكين والاختيار الذي عنه الاختلاف، خلقهم ليثيب مختار الحق بحسن اختياره، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره انتهى.
وهو على طريقة الاعتزال.
ولولا أن هذه الأقوال سطرت في كتب التفسير لضربت عن ذكرها صفحًا.
وتمت كلمة ربك أي: نفذ قضاؤه وحق أمره.
واللام في لأملأن، هي التي يتلقى بها القسم، أو الجملة قبلها ضمنت معنى القسم كقوله: {وإذ أخذ الله ميثاق النبين} ثم قال: {لتؤمنن به} والجنة والجن بمعنى واحد.
قال ابن عطية: والهاء فيه للمبالغة، وإن كان الجن يقع على الواحد، فالجنة جمعه انتهى.
فيكون مما يكون فيه الواحد بغير هاء، وجمعه بالهاء لقول بعض العرب: كمء للواحد، وكمأة للجمع. اهـ.