فصل: فوائد بلاغية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد بلاغية:

قال في صفوة التفاسير:
البلاغة:
أولا: في إضافة الرزق إلى الله تعالى: {كلوا واشربوا من رزق الله} تعظيم للمنة والإنعام، وإيماء إلى أنه رزق حاصل من غير تعب ولا مشقة.
ثانيا: في التصريح بذرك الأرض {ولا تعثوا في الأرض} مبالغة في تقبيح الفساد وقوله: {مفسدين} حال مؤكدة، ووجه فصاحة هذا الأسلوب، أن المتكلم قد تشتد عنايته، ومن مظاهر هذه العناية التوكيد، فقوله: {مفسدين} يكسو النهي عن الفساد قوة، ويجعله بعيدا من أن يغفل عنه أو ينسى.
ثالثا: قوله تعالى: {مما تنبت الأرض} المنبت الحقيقي هو الله سبحانه ففيه مجاز يسمى المجاز العقلي وعلاقته السببية، لأن الأرض لما كانت سببا للنبات أسند إليها، كما يقال: بنى الملك البلدة، لأنه أمر ببنائها.
رابعا: قوله: {وضربت عليهم الذلة والمسكنة} كناية عن إحاطتهما بهم كما تحيط القبة بمن ضربت عليه كما قال الشاعر:
إن السماحة والمروءة والندى ** في قبة ضربت على ابن الحشرج

خامسًا: تقييد قتل الأنبياء بقوله: {بغير الحق} مع أن قتلهم لا يكون بحق البتة، إنما هو لزيادة التشنيع بقبح عدوانهم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال ابن عادل:

{لن نَصْبِرَ} ناصب منصوب، والجملة في محلّ نصب بالقول، وتقدم الكلام على {لن}.
قوله: {طَعَامٍ وَاحِدٍ}، وإنما كان طعامين هما: المَنّ والسَّلْوَى؛ لأن المراد بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدّل، فأريد بالوحدة نفي التبديل لا الاختلاف، أو لأنهما ضرب واحد؛ لأ، هما من طعام أهل التلذُّذ والترف، ونحن أهل زِرَاعات لا نريد إلا ما ألفناه من الأشياء المتفاوتة، أو لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر، أو لأنهما كانا يؤكلان في وقت واحد.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كانوا يعجنون المَنَّ والسّلوى، فيصير طعامًا واحدًا.
وقيل: لأن العرب تعبّر عن الاثنين بلفظ الواحد، وبلفظ الواحد عن الواحد، كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]، وإنما يخرجان من المِلْحِ دون العَذْب.
قال ابن الخطيب: ليس المراد أنه واحد في النوع، بل إنه واحد في المَهْجِ، كما يقال: إن طعام فلان على مائدة طعام واحدًا إذا كان لا يتغيّر عن نهجه.
وقيل: كنوا بذلك عن الغنى، فكأنهم قالوا: لن نرضى أن نكون كلنا مشتركين في شيء واحد فلا يخدم بعضنا بعضًا، وكذلك كانوا أول من اتخذ الخدم والعبيد.
والطعام: اسم لكل ما يطعم من مأكول ومشروب، ومنه: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} [البقرة: 249]، وقد يختص ببعض المأكولات كاختصاصه بالبُرّ والتَّمْرِ في حديث الصًّدَقة، أو صاعًا من طعام أو صاعًا من شعير.
والطَّعم بفتح الطاء المصدر أو ما يشتهى من الطعام أو ما يؤديه الذوق، تقول: طَعْمُهُ حُلْو وطَعْمُهُ مُرّ، وبضمها الشيء المطعوم كالأُكْلِ والأَكْل؛ قال أبو خِرَاشٍ: الطويل:
أَرُدُّ شُجَاعَ البَطْنِ لَوْ تَعْلَمِينَهُ ** وأُوثِرُ غَيْرِي مِنْ عِيَالِكِ بالطُّعْمِ

وأَغْتَبِقُ المَاءَ القَرَاحَ فَأَنْتَهِي ** إذَا الزَّادُ أَمْسَى للْمُزَلَّجِ ذَا طَعْمِ

أراد بالأول المطعوم، وبالثاني ما يُشْتَهَى منه، وقد يعبَّر به عن الإعطاء؛ قال عليه السلام: «إِذا استَطْعَمَكُمُ الإمام فَأَطْعِمُوهُ» أي: إذا استفتح، فافتحوا عليه، وفلان ما يَطْعَمُ النومَ إلاَّ قائمًا؛ قال: المتقارب:
نَعَامًا بِوَجْرَةَ صُفْرَ الْخُدُودِ ** مَا تَطعَمُ النَّوْمَ إِلاَّ صِيَامَا

قوله: {فادع} اللّغة الفصيحة ادْعُ بضم العين من دَعَا يدعو.
ولغة بني عامر {فَادْعِ} بكسر العين قال أبو البقاء: لالتقاء السَّاكنَيْنِ؛ يُجْرُونَ المعتلَّ مُجْرَى الصَّحيح، ولا يراعون المحذُوفَ، يعني أن العَيْنَ ساكنةٌ، لأجل الأمر، والدَّالُ قبلها ساكنةٌ، فكسرت العين، وفيه نظرٌ، لأن القاعدة في هذا ونحوه أن يُكْسَر الأوَّو من الساكنين، لا الثاني، فيجوزُ أنْ يكُون من لُغتِهِمْ دَعَا يَدْعِي مثل رَمَى يَرْمي، والدُّعَاء هنا السُّؤال، ويكون هنا بمعنَى التَّسْمية؛ كقوله: الطويل:
دَعَتْنِي أَخَاهَا أُمُّ عَمْرٍو

وقد تقدم، ولنا متعلّق به، واللام للعلة.
قوله: {يُخْرِجْ} مجزوم في جواب الأمر.
وقال بعضهم: مجزوم بلا الأمر مقدرة، أي ليخرج، وضعفه الزجاج وسيأتي الكلام على حذف لام الأمر إن شاء الله تعالى.
والقراءة المشهورة {يُخْرِجْ} بضم الياء وكسر الراء و{تُنْبِت} بضم التاء وكسر الباء وقرأ زيد بن علي {يَخْرُج} بفتح الياء وضم الراء و{تَنْبُت} بفتح التاء وضم الباء.
قوله: {مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ} مفعول {يخرج} محذوف عن سيبويه تقديره: مأكولًا مما، أو شيئًا ممّا تنبت الأرض.
والجار يجوز أن يتعلّق بالفعل قبله، ويكون {مِنْ} الابتداء الغاية، وأن تكون صفةً لذلك المفعول المحذوف، فيتعلّق بمضمر، أي: مأكولًا كائنًا مما تنبته الأرض.
و{من} للتبعيض، ومذهب الأخفش: أن {من} زائدة في المفعول، والتقدير: يخرج ما تُنْبِتُهُ الأرض؛ لأنه لا يشترط في زيادتها شيئًا.
قال النَّحاس: وإنما دعى الحسن إلى زيادتها؛ لأنه لم يجد مفعولًا ل {يخرج} فأراد أن يجعل ما مفعولًا وما يجوز أن تكون موصولة اسمية أو نكرة موصوفة، والعائد محذوف، أي من الذي تُنْبته، أو من شيء تُنْبته، ولا يجوز جعلها مصدريّة؛ لأن المفعول المحذوف لا يُوصَف بالإنبات؛ لأن الإنبات مصدر، والمُخْرج جوهر، وكذلك على مذهب الأخفش؛ لأن المخرج جوهر لا إنبات.
قوله: {مِنْ بَقْلِهَا} يجوز فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون بدلًا من ما بإعادة العامل، ومن معناها: بيان الجِنْس.
والثاني: أن يكون في محلّ نصب على الحال من الضمير المحذوف العائد على ما أي: مما تُنْبته الأرض في حال كونه من بقلها، ومن أيضًا للبيان.
والبَقْل: كل ما تنبته الأرض من النَّجم، أي: ما لا سَاقَ له، وجمعهه بُقُول.
والقِثَّاء معروف.
الواحدة: قِثَّاءة، فهو من باب قَمْح وقَمْحة، وفيها لغتان: المشهورة كسر القاف وهي قراءة العامة، وقرأ يحيى بن وَثّاب، وطلحة بن مصرّفن والأشهب العُقَيْلِيُّ بضم القاف وهي لغة تميم.
والقِثَّاء مُفْرَدُهُ وَجَمْعُهُ ممدود، تقول: قِثَاء وقِثَّاءة ودِبَّاءَ ودِبَّاءة، ودَاء ودَوَاء والهمزة أصلٌ بنفسها في قولهم: أَقْثَأَتِ الأرض، أي: كثر قِثَّاؤها.
ووزنها فِعَّال، ويقال في جمعها: قَثَائِي، مثل: عِلْبَاء وعَلاَبِي.
قال بعضهم: إلا أن قِثَاء من ذوات الواو، تقول أَقْثَأْتُ القَوْمَ، أي: أطمعتهم ذلك، وَقَثأْتُ القِدْرَ سَكَّنْتُ غليانَهَا بالماء.
قال الجعدي: الطويل:
تَفُورُ عَلَيْنَا قِدْرُهُمْ فَنُدِيمُهَا ** وَنَقْثَؤُهَا عَنَّا إِذَا حَمْيُهَا غَلاَ

وهذا وهم فاحش؛ لأنه لما جعلها من ذوات الواو كيف يستدلّ عليه بقولهم: أقْثأت القوم بالهمز، بل كان ينبغي أن يقال: أَقْثَيْثُ والأصل أٌقْثوْتُ لكن لما وقعت الواو في بناء الأربعة قلبت ياء، كأَغْزَيْتُ من الغَزْوِ، ولكان ينبغي أن يقال: قَثَوْتُ القِدْرَ بالواون ولقال الشاغر: نَقْثُهَا بالواو.
وَالْمَقْثَأة والْمَقْثُؤَة بفتح الثاء وضمها: موضع القِثَّاء.
والفُوم: الثُوم وروي عن علقمة وابن مسعود أنه قرأ: {وثُومها}، وهي قراءة ابن عباس رضي الله عنهما وفي مصحف عبدالله.
والفاء تبدل من الثاء كما قالوا: جدث وجدف وعَاثُور وعَافُور ومَغَافير ومَغَاثير، ولكنه غير قياس.
وعن ابن عباس الفُوم: الخُبْز، تقول العرب: فَوِّمُوا لنا: أي: أختَبزُوا.
وقال ابن عباس أيضًا وعطاء أبو مالك: هو الحِنْطَة وهي لغة قديمة، وأنشد ابن عباس لمن سأله عن الفُومِ: الكامل:
قدْ كُنْتَ أَحْسِبُنِي كَأَغْنَى وَاحِدٍ ** نَزَلَ الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعةِ فُومِ

وقال ابن دُرَيْدٍ الفُومَةُ السُّنْبُلَةُ، وأنْشَد: الوافر:
وَقَالَ رَبيئُهُمْ لَمَّ أَتَانَا ** بِكَفِّهِ فُومَةٌ أَوُ فُومَتَانِ

وقال القتيبي: هو الحبوبُ كلها.
قال الكلبي والنضر بن شُمَيْل والكسَائي والمؤرجك الصّحيح أنه الثُّوم، لقراءة ابن عباس، ولكونه في مُصْحِف عبدالله بن مسعود وثُومها؛ ولأنه لو كان المراد الحِنْطة لما جاز أن يقال لهم: أَتَسْتَبْدِلُون الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ لأن الحِنْطة أشرف الأطعمة، ولأنَّ الثوم أوفق للعَدَس والبَصَل من الحِنْطة وأنشد المؤرج لحسان: المتقارب:
وَأَنْتُمْ أُنَاسٌ لِئَامُ الأُصُولِ ** طَعَامُكُمُ الْفُومُ وَالْحَوْقَلُ

يعني: الثوم والبصل؛ وأنشد النضر لأمية بن أبي الصَّلْت: البسيط:
كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ إِذْ ذَاكَ ظاهِرَةً ** فِيْها الْفَرَادِيسُ وَالْفُومَانُ وَالْبَصَلُ

الفَرَادِيس: واحدها فِرْدِيسُ.
وَكَوْمٌ مُفَرْدَسٌ، أي: مُعَرَّش.
وقال بعضهم: الفُوم: الحِمَّص لغة شامِيّة.
قوله: {وَعَدَسِهَا} العَدَس معروف، والعَدَسَة: بَثْرَةٌ تخرج بالإنسانن وربما قَتَلَتْ وعَدَسْ زجر للبِغَال؛ قال: الطويل:
عَدَسْ مَا لِعَبَّادِ عَليْكِ إِمَارَةٌ ** نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ

والعدس: شدة الوَطْء، والكَدح أيضًا، يقال: عدسه.
وعدس في الأرض ذهب فيها، وعدست إليه المَنِيّة أي: سارت؛ قال الكميت: الطويل:
أُكَلِّفُهَا هَوْلَ الظَّلاَمِ وَلَمْ أَزْلْ ** أَخَا اللَّيْلِ مَعْدُوسًا إِلَيَّ وَعَادِسَا

أي: يسار إليّ بالليل.
وعدس لغة في حدس، قاله الجوهري.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالعَدَس فإنه مُبَارك مُقَدّس، وإنه يرقق القَلْب ويكثر الدَّمْعَة فإنه بارك فيه سبعون نبيًا آخرهم عِيْسَى ابن مريم».
اختلف العلماء في أكل البصل والثّوم والكراث وما له رائحة كريهة من البُقُول.
فذهب الجمهور إلى الإبَاحَةِ، للأحاديث الثابتة في ذلك.
وذهبت طائفة من أهل الظاهر القائلين بوجوب صلاة الفرض في الجَمَاعة إلى المَنْعِ؛ لان النبي عليه الصَّلاة والسَّلام سمّاها خبيثةً.
وقال تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبائث} [الأعراف: 175] والصحيح الأول؛ لقوله عليه الصَّلاة والسَّلام لبعض أصحابه: «كُلْ فِإنِّي أُنَاجي من لا تُنَاجي».

.فصل: في لفظ أدنى:

قوله: {أَتَسْتَبْدِلُون}؛ وفي مصحف أُبي {أَتُبَدِّلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى}، وفيه ثلاثة أقوال:
أحدها: وهو الظاهر قول الزجاج أن أصله: أَدْنَوْ من الدنو، وهو القرب، فقلبت الواو ألفًا لتحركها، وانفتاح ما قبلها، ومعنى الدُّنُوِّ في ذلك فيه وجهان:
أحدهما: أنه أقرب لقلّة قيمته وخَسَاسته.
والثاني: أنه أقرب لكم؛ لأنه في الدنيا بخلاف الذي هو خير، فإنه بالصبر عليه يحصل نفعه في الآخرة.
والثاني: قول علي بن سليمان الأَخْفَش أن أصله: أَدْنَأُ مَهْمُوزًا من دَنَأَ بَدْنَأُ دَنَاءَة، وهي الشيء الخَسِيْس، إلا أنه خفّف همزته؛ كقوله: الكامل:
فَارْعَيْ فَزَارَةُ لاَ هَنَاكِ الْمَرْتَعُ

ويدل عليه قراءة زهير القرقبي الكسائي: أدنأ بالهمز.
الثالث: أن أصله: أّدْوَن من الشيء الدّون، أي: الرَّدِيء، فقلب بأن أخرت العين إلى موضع اللام، فصار: أَدْنُوُ، فأعلّ كما تقدم.
ووزنه أفلع، وقد تقدم معنى الاستبدال.
وأدنى خبر عن هو، والجملة صلة وعائد، وكذلك: هو خير صلة وعائد أيضًا.
قوله: {اهبطوا مِصْرًا} القراءة المعروفة {اهْبِطُوا} بكسر الياء، وقرئ بضمها.
و{مصرًا} قرأ الجمهور منونًا، وهو خطّ المصحف.
فقيل: إنهم أمروا بهبوط مِصْرٍ من الأمطار فلذلك صرف.
وقيل: أمروا بِمْصرٍ بعينه، وإنما صرف لخفّته، لسكون وسطه كهِنْد ودَعْد؛ وأنشد: المنسرح:
لَمْ تَتَلفَّعْ بِفَضْلِ مِئْزَرِهَا ** دَعْدٌ وَلَمْ تُسْقَ دَعدُ في العُلَبِ

فجمع بين الأمرين.
أو صرفه ذهابًا به إلى المكان.
وقرأ الحسن: {مِصْرَ} بغير تنوين، وقال: الألف زائدة من الكاتب، وكذلك في بعض مصاحف عُثْمان، ومصحف أُبيّ، وابن مَسْعُودن كأنهم عَنَوْا مكانًا بعينه، وهو بلد فرعون وهو مروي عن أبي العالية.
وقال الزمخشري: إنه معرّب من لسان العَجَمِ، فإن أصله مِصْرائيم، فعرب، وعلى هذا إذا قيل بأنه علم لمكان بعينه، فلا ينبغي أن يصرف ألبتة لانضمام العُجْمة إليه، فهو نظير ماه وَجور وحِمْص، ولذلك أجمع الجمهور على منعه في قوله: {ادخلوا مِصْرَ} [يوسف: 99].
والمِصْر في أصل اللغة: الحَدّ الفاصل بين الشيئين، وحكي عن أهل هَجَر أنهم إذا كتبوا بيع دار قالوا: اشترى فلانٌ الدَّارَ بِمُصُورِهَا أي: حُدُودها؛ وأنشد: البسيط:
وَجَاعِلُ الشَّمْسِ مِصْرًا لا خَفَاءَ بِهِ ** بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ اللَّيْلِ قَدْ فَصَلاَ

قوله: {مَّا سَأَلْتُمْ} ما في محلّ نصب اسمًا لإن، والخبر في {لكم}، وما بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي: الَّذي سألتموه.
قال أبو البَقَاء: ويضعف أن تكون نكرة موصوفة.
يعني: أنَّ الذي سألوه شيءٌ معيَّنٌ، فلا يحسُنُ أن يُجَابُوا بشيء مُبهَمٍ.
وقرئ: {سِلْتُمْ} مثل: بِعْتُمْ، وهي مأخوذةٌ من سَالَ بالألف قال حَسَّان رضي الله عنه: البسيط:
سَالَت هُذَيْلٌ رَسُولَ الله فَاحِشَةً ** ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بِمَا سَالَتْ وَلَمْ تُصِبِ

وهل هذه الألف منقلبة عن ياء أو واو لقولهم: يَتَساوَلاَنِ، أو عن همزة؟ ثلاثة أقوال يأتي بيانها في سورة المعارج إن شاء الله تعالى.
قوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة} أي: جُعِلَتِ الذِّلَّة محيطً بهم، مشتملةً عليهم؛ كمن يكون في القُبَّة المَضْرُوبَةِ؛ قال الفرزدقُ لجرير: الكامل:
ضَرَبَتْ عَلَيْكَ العَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا ** وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الكِتَابُ المُنْزَلُ

أو ألصفت بهم حتى لزمتهم كما يضرب الطِّين على الحائط فيلزمه.
ومن قال: إنها الجزية فبعيد؛ لأن الجزية لم تكن مضروبةً حينئذ.
وقال بعضهم: هذا من باب المُعْجِزَات؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أخبر عن ضرب الذِّلّة والمَسْكَنة عليهم، ووقع الأمر كذلك، فكان معجزة.
و{الذِّلّة}: الصَّغَار.
والذُّلّ بالضم: ما كان عن قَهْرٍ، وبالكسر: ما كان بعد شماس من غير قهر.
قاله الراغب.
و{المَسْكَنَةُ}: مَفْعَلَة من السُّكون، لأن المسكين قليل الحركة والنهوض، لما به من الفَقْرِ، والمسكين: مُفْعِيْل منه، إلاّ أن هذه الميم قد ثبتت في اشتقاق هذه الكلمة، قالوا: تمسكن يتمسكن فهو متمسكن، وذلك كما تثبت ميم تَمْنَدل وتَمَدْرَعَ من النَّدْلِ والدَّرعِ وذلك لا يدلّ على أصالتها؛ لأن الاشتقاق قضى عليها بالزِّيَادة.
وقال الراغب: قوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة}: فالميم في ذلك زائدة في أصحّ القولين.
وإيراد هذا الخلاف يؤذن بأن النون زائدة، وأنه من مسك و{ضربت} مبني للمفعول و{الذّلة} مقام الفاعل.
قول: {وَبَاءُوا} ألف بَاءَ بكذا منقلبة عن واو؛ لقوله: بَاءَ يَبُوءُ مثل: قَالَ يَقُولْ قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «أَبُوءُ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ»، المصدر البَوَاء، وبَاءَ معناه: رَجَع؛ وأنشد بعضهم هذا: الوافر:
فَآبُوا بِالنِّهَابِ وَبِالسَّابَايَا ** وأُبْنَا بِالمُلُوكِ مُصَفَّدينَا

وهذا وَهَمٌ؛ لأن هذا البيت من مادة: آبَ يَئوب فمادته من همزة، وواو، وبَاءٍ، وبَاءَ مادته من باء، وواو، وهمزة، وادعاء القلب به بعيدٌ؛ لأنه لم يُعْهَد تقدُّم العين واللام معًا على الفاء في مقلوب، وهذا من ذلك.
والبَوَاءك الردوع بالقَوَدِ، وهُمْ في هذا الأمر بَوَاء، أي: سَوَاء؛ قال: الطويل:
أَلاَ تَنْتَهي عَنَّا مُلُوكٌ وتَتَّقِي ** مَحَارِمَنَا لاَ يَبُؤِ الدَّمُ بِالدَّمِ

أي: لا يرجعُ الدم بالدم في القَوَدِ.
وبَاءَ بكذا: أقرَّ أيضًا، ومنه الحديث المتقدِّم أي: أُقِرُّ بها، وأُلْزِمُهَا نَفْسِي، وقال: الكامل:
أَنْكَرْتُ بَاطِلَها وَبُؤْتُ بِحَقِّهَا

وقال الراغب: أصل البَواء مُسَاوَاةٌ الأَجْزَاءِ في المكان خلاف النَّبْوَة الذي هو مُنَافاة الأجزاء.
وقوله: {وَبَاءوا بِغَضَبٍ} أي: حلُّوا مَبْوأ ومعه غَضَب، واستعمال بَاءَ تنبيه على أن مكانه الموافق ييلزمه فيه غضب الله فكيف بغيره من الأمكنة، وذلك نحو: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21].
ثم قال: وقول من قال: بؤت بحقها، أي: أقررت فليس تفسيره بحسب مقتضى اللفظ.
وقولهم: حَيّاك الله وبَيّاك أصله: بَوّأك، وإنما غير للمُشَاكلة، قاله خلف الأحمر.
وقيل: باءوا: استحقوا، ومنه قوله تعالى: {إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة: 29] أي: يستحق لإثم جمعيًا، ومن قال: إنه الرجوع فلا يقال: باء إلا بِشَرّ.
قوله: {بغضب} في موضع الحال من فاعل {باءوا} أي: رجعوا مغضوبًا عليهم، وليس مفعولًا به كمررت بزيد.
وقال الزمخشري: هو من قولك: باء فلان بفلان إذا كان حقيقًا بأن يقتل به لمُسَاواته له ومكافأته، أي صاروا أحقاء بغضبه.
وعلى هذا التفسير ينبغي كون الباء للحال.
قوله: {مِّنَ الله} الظاهر أنه محلّ جر صفة بغضب، فيتعلّق بمحذوف، أي: بغضب كائن من الله.
و{من} لابتداء الغاية مجازًا.
وقيل: هو متعلّق بالفعل نفسه أي: رجعوا من الله بِغَضَبٍ.
وليس، بقوي.
قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ}.
{ذلك} مبتدأ أشير به إلى ما تقدّم من ضرب الذِّلّة والمسكنة والخلافة بالغضب.
و{بأنهم} الخبر، والباء للسببية، أي: ذلك مستحقّ بسبب كفرهم.
وقال المهدوي: الباء بمعنى اللام أي: لأنهم، ولا حاجة إلى هذا، فإن باء السببية تفيد التَّعطيل بنفسها.
و{يكفرون} في محلّ نصب خبرًا لكان، وكان وما في حَيّزها في حل رفع خبرًا للمبتدأ كما تقدم.
قوله: {بِآيَاتِ الله} متعلّق ب {يكفرون} والباء للتعدية.
قوله: {وَيَقْتُلُونَ} في محلّ نصب عطفًا على خبر كان، وقرئ: {تقتلون} بالخطاب التفاتًا إلى الخطاب الأول بعد الغيبة.
و{يُقَتَّلونُ} بالتشديد للتكثير.
قوله: {النبيين} مفعول به جمع نبي.
والقراءة على ترك الهمزة في النُّبوة، وما تصرف منها، ونافع المدني على الهمز في الجميع إلاّ موضعين: في سورة الأحزاب: {لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ} [الأحزاب: 50]، {بُيُوتَ النبي إِلاَّ} [الأحزاب: 53]، فإن قالون حكى عنه في الوَصْلِ كالجماعة وسيأتي.
وما من همز فإنه جعله مشتقًا من النبأ وهو الخبر، فالنَّبِيُّ فعيل بمعنى فاعل أي: مُنَبِّئ عن الله برسالته، ويجوز أن يكون بمعنى مفعول، أي: أنه مُنَبَّأٌ من الله بأوامره ونواهيه، واستدلُّوا على ذلك بجمعه على نُبَاء كطَرِيف وظُرَفَاء قال العَبَّاسُ بنُ مِرْدَاسٍ: الكامل:
يا خَاتَمَ النُّبَاءِ إِنَّكَ مُرْسَلٌ ** بِالحَقِّ كُلُّ هُدَى الإلَهِ هُدَاكَا

فظهور الهمزتين يدلُّ على كونه من النَّبَأ، واستضعف بعض النحويين هذه القراءة، قال أبو علي: قال سيبويه: بلغنا أن قومًا من أهل التحقيق يحققون نبيئًا وبريئة قال: وهو رَدِيء، وإنما استردأه؛ لأن الغالب في استعماله التخفيف.
وقال أبو عبيدة الجمهور الأعظم من القراء والعَوَامّ على إسقاط الهمز من النَّبِي والأَنْبِيَاء، وكذلك أكثر العرب مع حديث رويناه، فذكر أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نَبِيءَ الله فهمز، فقال: «لَسْتُ بِنَبِيءِ الله» فهمز ولَكِنِّي نَبِيُّ اللهِ، ولم يهمز، فأ، كر عليه الهمز.
قال: وقال لي أبو عبيدة: العرب تبدل الهمزة في ثلاثة أحرف: النبيّ والبَرية والخَابِية وأصلهن الهَمْز.
قال أبو عبيدة: ومنها حرف رابع: الذُّرِّيَّة من ذَرأَ يَذْرَأ، ويدلّ عل أن الأصل الهمز قال سيبويه: إنهم كلّهم يقولون: تنبأ مُسَيْلمة فيهمزون.
وبهذا لا ينبغي أن ترد به قراءة هذا الإمام الكبير، أما الحديث فقد ضعفوه.
قال ابن عطية: ومما يقوي ضعفه أنه لما أنشده العَبَّاس: الكامل:
يَا خَاتمَ النُّبَاءِ

لم ينكره، ولا فرق بين الجمع والواحد، ولكن هذا الحديث قد ذكره الحاكم في (المستدرك) وقال: هو صحيح على شرط الشَّيخين، ولم يخرجاه.
فإذا كان كذلك فليلتمس للحديث تخريجٌ يكون جوابًا عن قراءة نافع، على أنّ الَطْعِيٌ لا يُعَارَضُ بالظني، وإنما يذكر زيادة فائدة.
والجواب عن الحديث: أنّ أبا زيد حكى: نَبَأْتُ من أرض كذا إلى أرض كذا، أي: خرجت منها إليها فقوله: يا نبيء الله بالهمز يوهم يا طَرِيدَ الله الذي أخرجه من بلده إلى غيره، فَنَهَاه عن ذلك لإيهامه ما ذكرنا، لا لسبب يتعلّق بالقراءة.
ونظر ذلك نهيه المؤمنين عن قولهم: {رَاعِنَا} [البقرة: 104] لما وجدت اليهود بذلك طريقًا إلى السَّب به في لغتهم، أو يكون حضَّا منه عليه الصلاة والسلام على تَحَرِّي أفصح اللغات في القرآن وغيره، وأما من لم يهمز، فإنه يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه من المهموز، ولكن خفف، وهذا أولى ليُوافق القراءتين، ولظهور الهمز في قولهم: تنبأ مسليمة: يا خاتم النُّبَاء....
والثاني: أنه أصل آخر بنفسه مشتقّ من نَبَا يَنْبُو: إذا ظهر وارتفع، ولا شَكَ أن رتبة النبي عليه الصلاة والسلام مرتفعة، ومنزلته ظاهرة بخلاف غيره من الخَلْقِ، والأصل: نبيو وأنبواء، فاجتمع الياء ولواو: وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء كميت في ميوت، وانكسر ما قبل الواو في الجمع فقلبت ياء، فصار: أنبياء.
والواو في النبوة بدل من الهمزة على الأول، وأصل بنفسها على الثّاني، فهو فعيل بمعنى فاعل، أي: ظاهر مرتفع، أو بمعنى مفعول أي: رفعه الله على خَلْقِهِ، أو يكون مأخوذًا من النبي الذي هو الطريق، وذلك أن النبي طريق الله إلى خلقه، به يتوصّلون إلى معرفة خالقهم؛ قال الشاعر: البسيط:
لَمَّا وَرَدْنَ نُبَيِّا وَاسْتَتَبَّ بِنَا ** مُسْحَنْفِرٌ كَخُطُوطِ النَّسْجِ مُنْسَحِلُ

وقال الشاعر: المتقارب:
لأَصْبَحَ رَتًْا دُقَاقَ الحَصَى ** مَكَانَ النَّبِيِّ مِنَ الكَاثِبِ

الرَّتْم بالتاء المثناة والمثلثة جميعًا: الكسر.
والكَاثِب بالمثلثة: اسم جَبَل، وقالوا في تحقير نُبُوّة مسيلمة: نَبِيئة.
وقالوا: جمعه أنبياء قياس مُطّرد في فعيل المعتل نحو: وَلِيّ وأولياء، وصَفِيّ وأصفياء.
وأما قَالُون فإنما ترك الهمز في الموضعين المذكورين لمَدْرَكٍ آخر، هو أنه من أصله في اجتماع الهمزتين من كلمتين إذا كانتا مكسورتين أن تسهل الأولى، إلا أن يقع قبلها حرف مدّ، فتبدل وتدغم، فلزمه أن يفعل هنا ما فعل في: {بالسوء إِلاَّ} [يوسف: 53] من الإبدال والإدغام، إلاّ أنه روي عنه خلاف في: {بالسوء إِلاَّ} ولم يُرْو عنه هنا خلافٌ كأنه التزم البدل لكثرة الاستعمال في هذه اللَّفظة وبابها، ففي التحقيق لم يترك همزة النَّبيّ بل همزه ولما همزه أدّاه قياس تخفيفه إلى ذلك، ويدلّ على هذا الاعتبار أنه إنما يَفْعَل ذلك حيث يَصِل، أمّا إذا وقف فإنه يهمزه في الموضعين، لزوال السَّبب المذكور، فهو تارك للهمز لفظًا آتٍ به تقديرًا.
قوله: {بِغَيْرِ الحق} في محلّ نصب على الحال من فاعل {يقتلون} تقديره: يقتلونهم مبطلين، ويجوز أن يكون نعتًا لمصدر محذوف تقديره: قتلًا كائنًا بغير الحَقِّ، فيتعلّق بمحذوف.