فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا وجه مناسبة عطف جملة: {وتمّت كلمة ربك لأملأنّ جهنم من الجِنة والناس أجمعين} على جملتي: {ولا يزالون مختلفين}، {ولذلك خلقهم}.
ومفعول فعل المشيئة محذوف لأنّ المراد منه ما يُساوي مضمون جواب الشرط فحُذف إيجازًا.
والتقدير: ولو شاء ربك أن يجعل الناس أمّة واحدة لجعلهم كذلك.
والأمّة: الطائفة من الناس الذين اتّحدوا في أمر من عظائم أمور الحياة كالموطن واللّغة والنّسب والدّين.
وقد تقدمت عند قوله تعالي: {كان الناس أمّةً واحدةً} في سورة [البقرة: 213]. فتفسر الأمّة في كل مقام بما تدل عليه إضافتها إلى شيء من أسباب تكوينها كما يقال: الأمّة العربيّة والأمّة الإسلاميّة.
ومعنى كونها واحدة أن يكون البشر كلّهم متّفقين على اتّباع دين الحق كما يدل عليه السياق، فآل المعنى إلى: لو شاء ربك لجعل الناس أهل ملّة واحدة فكانوا أمّة واحدة من حيث الدّين الخالص.
وفهم من شرط (لو) أنّ جعلهم أمّة واحدة في الدّين منتفية، أي منتف دوامها على الوحدة في الدّين وإنْ كانوا قد وُجدوا في أوّل النشأة متّفقين فلم يلبثوا حتّى طرأ الاختلاف بينَ ابنيْ آدم عليه السّلام لقوله تعالى: {كان النّاس أمّة واحدة} [البقرة: 213] وقوله: {وما كان النّاس إلاّ أمّةً واحدةً فاختلفوا} في سورة [يونس: 19]؛ فعلم أنّ الناس قد اختلفوا فيما مضى فلم يكونوا أمّة واحدة، ثم لا يدري هل يؤول أمرهم إلى الاتّفاق في الدّين فأعقب ذلك بأنّ الاختلاف دائم بينهم لأنّه من مقتضى ما جُبِلت عليه العقول.
ولمّا أشعر الاختلاف بأنه اختلاف في الدّين، وأنّ معناه العدول عن الحق إلى الباطل، لأنّ الحق لا يقبل التعدّد والاختلاف، عُقّب عموم: {ولا يزالون مختلفين} باستثناء من ثبتوا على الدين الحق ولم يخالفوه بقوله: {إلاّ من رحم ربك}، أي فعصمهم من الاختلاف.
وفهم من هذا أنّ الاختلاف المذموم المحذّر منه هو الاختلاف في أصول الدّين الذي يترتّب عليه اعتبار المخالف خارجًا عن الدين وإن كان يزعم أنّه من مُتّبعيه، فإذا طرأ هذا الاختلاف وجب على الأمّة قصمه وبذل الوسع في إزالته من بينهم بكلّ وسيلة من وسائل الحقّ والعدل بالإرشاد والمجادلة الحسنة والمناظرة، فإنْ لم ينجع ذلك فبالقتال كما فعل أبو بكر في قتال العرب الذين جحدوا وجوب الزكاة، وكما فعل عليّ كرّم الله وجهه في قتال الحروريّة الذين كفّروا المسلمين.
وهذه الآية تحذير شديد من ذلك الاختلاف.
وأما تعقيبه بقوله: {ولذلك خلقهم} فهو تأكيد بمضمون: {ولا يزالون مختلفين}.
والإشارة إلى الاختلاف المأخوذ من قوله: {مختلفين}، واللاّم للتعليل لأنّه لمّا خلقهم على جِبِلّة قاضية باختلاف الآراء والنزعات وكان مريدًا لمقتضى تلك الجبلّة وعالمًا به كما بيّناه آنفًا كان الاختلاف علّة غائية لخلقهم، والعلّة الغائية لا يلزمها القصر عليها بل يكفي أنها غاية الفعل، وقد تكون معها غايات كثيرة أخرى فلا ينافي ما هنا قولُه: {وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون} [الذاريات: 56] لأنّ القصر هنالك إضافيّ، أي إلاّ بحالة أن يعبدوني لا يشركوا، والقصر الإضافي لا ينافي وجود أحوال أخرى غير ما قُصدَ الردّ عليه بالقصر كما هو بيّن لمن مارس أساليب البلاغة العربية.
وتقديم المعمول على عامله في قوله: {ولذلك خلقهم} ليس للقصر بل للاهتمام بهذه العلّة، وبهذا يَندفع ما يوجب الحيرة في التفسير في الجمع بين الآيتين.
ثم أعقب ذلك بقوله: {وتمّت كلمة ربّك لأملأنّ جهنم من الجِنّة والنّاس أجمعين} لأنّ قوله: {إلاّ من رحم ربّك} يؤذن بأنّ المستثنى منه قوم مختلفون اختلافًا لا رحمة لهم فيه، فهو اختلاف مضاد للرحمة، وضدّ النعمة النقمة فهو اختلاف أوجب الانتقام.
وتمام كلمة الرب مجاز في الصّدق والتحقّق، كما تقدّم عند قوله تعالى: {وتمّت كلمات ربّك صدقًا وعدلًا} في سورة [الأنعام: 115]، فالمختلفون هم نصيب جهنم.
والكلمة هنا بمعنى الكلام.
فكلمة الله: تقديره وإرادته.
أطلق عليها كلمة مجازًا لأنّها سبب في صدور كلمة (كن) وهي أمر التكوين.
وتقدّم تفصيله في قوله تعالى: {وتمّت كلمات ربّك صدقًا وعدلًا} في سورة [الأنعام: 115].
وجملة: {لأملأنّ جهنّم} تفسير للكلمة بمعنى الكلام.
وذلك تعبير عن الإرادة المعبّر عنها بالكلام النفسي.
ويجوز أن تكون الكلمة كلامًا خَاطَبَ به الملائكةَ قبل خلق الناس فيكون: {لأمْلأنّ جهنّم} تفسيرًا ل: {كلمة}.
و: {من الجِنّة والنّاس} تبعيض، أي لأمْلأن جهنم من الفريقين.
و: {أجمعين} تأكيد لشمول تثنية كِلا النوعين لاَ لِشُمُول جميع الأفراد لمنافاته لمعنى التبعيض الذي أفادته: {من}. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً}
ونحن نعلم أن الإنسان قد طرأ على هذا الكون بعد أن خلق الله سبحانه في هذا الكون كل مقومات الحياة؛ المسخرة بأمر الله لهذا الإنسان؛ ليمارس مهمة الخلافة في الأرض؛ ولم تتأبَّ تلك الكائنات على خدمة الإنسان، سواء أكان مؤمنًا أم كافرًا؛ لأن الحق سبحانه هو الذي استدعى الإنسان إلى الوجود، وما دام قد استدعاه؛ فهو سبحانه لن يضن عليه بمقومات هذا الوجود؛ من بقاء حياة، وبقاء نوع.
وهذا هو عطاء الربوبية الذي كفله الله سبحانه لكل البشر: مؤمنهم وكافرهم، وهو عطاء يختلف عن عطاء الألوهية المتمثل في المنهج الإيماني: افعل ولا تفعل.
ومن يأخذ عطاء الألوهية مع عطاء الربوبية فهو من سعداء الدنيا والآخرة.
إذن: فقدرة الله سبحانه قد أرغمت الكون دون الإنسان أن يؤدي مهمته، وكان من الممكن أن يجعل البشر أمة واحدة مهتدية لا تخرج عن نظام أرادة الله سبحانه وتعالى كما لم تخرج الشمس أو القمر أو الهواء أو أي من الكائنات الأخرى المسخَّرة عن إرادته.
لأن الحق تبارك وتعالى أثبت لنفسه طلاقة القدرة في تسخير أجناس لمراده؛ بحيث لا تخرج عنه، وذلك يثبت لله سبحانه القدرة ولا يثبت له المحبوبية.
أما الذي يثبت له المحبوبية فهو أن يخلق خَلْقًا؛ ويعطيهم في تكوينهم اختيارًا.
ويجعل هذا الاختيار كلَّ واحدٍ فيهم صالحًا أن يطيع، وصالحًا أن يعصي، فلا يذهب إلى الإيمان والطاعة إلا لمحبوبية الله تعالى.
وهكذا نعلم أن الكون المسخَّر المقهور قد كشف لنا سَيَّال القدرة، والجنس الذي وهبه الله الاختيار إن أطاع فهو يكشف لنا سيال المحبوبية.
والحق سبحانه هو القائل: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].
ولكن أيُترك الإنسان حتى يأتي له الغرور في أنه يملك الاختيار دائمًا؟
لا.. فمع كونك مختارًا إياك أن تغتر بهذا الاختيار؛ لأن في طيِّك قهرًا، وما دام في طيك قهر فعليك أن تتأدب؛ ولا تتوهَّم أنك مختار في أن تؤمن بالله أو لا تؤمن؛ ولا تتوهم أنك مُنفلت من قبضة الله تعالى فهو يملك زمامك في القهريات التي تحفظ لك حياتك مثل: الحيوان والنبات والجماد، ولكنه سبحانه ميَّزك بالعقل.
وخطأ الإنسان دائمًا أنه قد يعطي الأسماء معاني ضد مسمياتها، فكلمة العقل مأخوذة من عقل وتعني: ربط؛ فلا تجمح بعقلك في غير المطلوب منه؛ لأن مهمة العقل أن يكبح جماحك. وتذكر دائمًا: في قبضة من أنت؛ وفي زمام من أنت؛ وفي أي الأمور أنت مقهور؟
وما دُمْتَ مقهورًا في أشياء فاختر أن تكون مقهورًا لمنهج الله سبحانه واحفظ أدبك مع الله، واعلم أنه قد وهبك كل وجودك سواء ما أنت مختار فيه أو مقهور عليه.
وانظر إلى من سلبهم الحق سبحانه بعض ما كانوا يظنون أنها أمور ذاتية فيهم، فتجد من كان يحرك قدمه غير قادر على تحريكها، أو يحاول أن يرفع يده فلا يستطيع.
ولو كانت مثل هذه الأمور ذاتية في الإنسان لما عَصَتْه، وهذا دليل على أنها أمور موهوبة من الله، وإنْ شاء أخذها، فهو سبحانه يأخذها ليؤدِّب صاحبها.
وما دام الإنسان بهذا الشكل، فليقُل لنفسه: إياك أن تَغترَّ بأن الله جعل فيك زاوية اختيار، وتذكّر أنك على أساس من هذه الزاوية تتلقَّى التكليف من الله بافعل، ولا تفعل؛ لأن معنى افعل كذا: أنك صالحٌ ألاّ تفعل؛ ومعنى لا تفعل كذا: أنك صالحٌ أنْ تفعل؛ لأن لديك منطقة اختيار؛ ولكن لديك في زواياك الأخرى منطقة قَهْرٍ وتسخير، فتأدَّبْ في منطقة الاختيار، كما تأدبت في منطقة الاضطرار والقهر.
وقد وصف الحق سبحانه الإنسان بأنه كنود، قال تعالى: {إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6].
لإن الإنسان لا يتذكر أحيانًا أن مهمة عقله الأولى هي أن يعقل حدوده، وأن يقول لنفسه: ما دامت الحيوانية فيَّ مقهورة، وما دامت الجمادية فيَّ مقهورة؛ فَلأكُنْ مؤدبًا مع ربي، وأجعل منطقة الاختيار على مراد منهج الله.
وأنت إنْ أردتَ أن تضع إحصائية لافعل ولا تفعل لوجدت ما لم يَرِدْ فيه تكليف بافعل ولا تفعل لا يقل عن خمسة وتسعين في المائة من حركة الحياة، وهو المباح.
وأنزل الله سبحانه التكليف لتنضبط به حركة حياتك كلها إنْ جعلت التكليف هو مرادك وهو لن يأخذ أكثر من خمسة في المائة من حركة الحياة، ويعود خير ذلك عليك. فساعة يقول لك التكليف: عليك أن تزكِّي عن مالك، فلابد لك من أن تقدِّر المقابل، لأنك إن افتقرتَ واحتجْتَ؛ سيأتيك من زكاة الآخرين ما يلبِّي احتياجاتك، فمن افعل التي تلتزم بها ويلتزم بها غيرك تأتي الثمرة التي تسدُّ عجز أي ضعف في المجتمع الإيماني بالتراحم المتبادل النابع عن اليقين بالمنهج.
وحين يقول لك التكليف: لا تعتدِ على حُرمات الغير، فهو يقيِّد حريتك في ظاهر الأمر، لكنه يحمي حُرماتك من أن يعتدي عليها الغير، وحين تتعقل أوامر التكليف كلها ستجدها لصالحك؛ سواء أكان الأمر ب افعل أو لا تفعل. وهنا يقول الحق سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118].
ولو تفيد الامتناع. أي: أن الله تعالى لم يجعل الناس أمة واحدة، بل جعلهم مختلفين. وقد حاول بعض من الذين يريدون أن يدخلوا على الإسلام بنقد ما، فقالوا: ألاَ تتعارض هذه الآية مع قول الله: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين} [البقرة: 213].
وظن أصحاب هذا القول أن البشر لم يلتفتوا إلى خالقهم من البداية؛ ثم بعث الله الأنبياء ليلفتهم إلى المنهج.
ونقول لهؤلاء: لا، فقد ضمن الحق سبحانه للناس قُوتَهم وقوام حياتهم، وكذلك ضمن لهم المنهج الإيماني منذ أن أمر آدم وزوجه بالهبوط إلى الأرض لممارسة مهمة الخلافة فيها، وقال الله سبحانه: {فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} [طه: 123].
ولو استقصى هؤلاء الآيات التي تعالج هذا الأمر، وهي ثلاث آيات؛ فهنا يقول الحق سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118].
وفي الآية التي ظنوا أنها تتعارض مع الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البينات بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ والله يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213].
وهكذا نعرف أن الحق سبحانه وتعالى أنزل المنهج مع آدم عليه السلام ثم طرأتْ الغفلة؛ فاختلف الناس، فبعث الله الأنبياء ليحكموا فيما اختلف فيه الناس.
إذن: فقول الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118].
يعني أنه سبحانه لو شاء لجعل الناس كلهم على هداية؛ لأنه بعد أن خلقهم؛ وأنزلهم إلى الأرض؛ وأنزل لهم المنهج؛ كانوا على هداية، ولكن بحكم خاصية الاختيار التي منحها الله لهم، اختلفوا.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118].
أي: أنهم سيظلون على الخلاف.
ويأتي الحق سبحانه وتعالى في الآية التالية بالاستثناء فيقول: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولذلك خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ}.
أي: أن الحق سبحانه قد خَلَقَ الخَلْق للرحمة والاختلاف.
وساعة نرى اسم إشارة أو ضميرًا عائدًا على كلام متقدِّم، فنحن ننظر ماذا تقدم. والمتقدم هنا: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118- 119].
والحق سبحانه وتعالى حين تكلم عن خلق الإنسان قال: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
ومعنى العبادة هو طاعة الله سبحانه في افعل ولا تفعل وهذا هو المراد الشرعي من العبادة؛ ولكن المرادات الاجتماعية تحكَّمتْ فيها خاصية الاختيار، فحدث الاختلاف، ونشأ هذا الاختلاف عن تعدُّد الأهواء.
فلو أن هَوَانَا كان واحدًا؛ لما اختلفنا، ولكنّا نختلف نتيجة لاختلاف الأهواء، فهذا هواه يميني؛ وذاك هواه يساري؛ وثالث هواه شيوعيٌّ؛ ورابع هواه رأسماليّ؛ وخامس هواه وجوديّ، وكل واحد لهم هوى.
ولذلك قال الحق سبحانه: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض} [المؤمنون: 71].
ولم يكن العالم ليستقيم؛ لو اتبع الله سبحانه أهواء البشر المختلفة، ولكن أحوال هذا العالم يمكن أن تستقيم؛ إذا صدرتْ حركته الاختيارية عن هوًى واحد؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئتُ به».
وفي حياتنا اليومية نلاحظ أن الأعمال التي تسير بها حركة الحياة وبدون أن ينزل تكليف فيها؛ نجد فيها اختلافًا لا محالة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى لو شاء لخلقنا كلنا عباقرة في كل مناحي الحياة؛ أو يخلقنا كلنا شعراء أو أطباء أو فلاسفة.
ولو شاء سبحانه ذلك فمن سيقوم بالأعمال الأخرى؟ فلو أننا كنا كلنا أطباء فمن يقوم بأعمال الزراعة وغيرها؟ ولو كنا جميعًا مهندسين؛ فمن يقوم بأعمال التجارة وغيرها؟
وقد شاء الحق سبحانه أن يجعل مواهبنا مختلفة ليرتبط العالم ببعضه ارتباط تكاملٍ وضرورة؛ لا ارتباط تفضُّل.
ولذلك يقول الحق سبحانه: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32].
وهكذا نعرف أن رفع الدرجات لا يعني تلك النظرة الحمقاء الرعناء، والتي تدعي أن في ذلك التقسيم رفعة للغنى وتقليلًا لشأن الفقير؛ لأن الواقع يؤكد أن كل إنسان هو مرفوع في جهة بسبب ما يُحسنه فيها؛ ومرفوع عليه في جهة أخرى بسبب ما لا يُحسنه ويُحسنه غيره، وغيره مكمل له.
وهكذا يتبادل البشر ما يحققه اختلاف مواهبهم، واختلاف المواهب هي مقومات التلاحم.
ولذلك قلنا: إن مجموع سمات ومواهب كل إنسان إنما يتساوى مع مجموع سمات ومواهب كل إنسان آخر، ولا تفاضل إلا بالتقوى؛ وقيمة كل امرئ ما يُحسنه.
وقد ترى صاحب السيارة الفارهة وهو يرجو عامل إصلاح السيارات الذي يرتدي ملابس رثة ومتسخة؛ ليصلح له سيارته؛ فيقول له العامل: لا وقت عندي لإصلاح سيارتك؛ فيلحّ صاحب السيارة الفارهة بالرجاء؛ فيرضى العامل ويرق قلبه لحال هذا الرجل صاحب السيارة الفارهة ويذهب لإصلاحها.
لذلك أقول: إذا نظرتَ لمن هو دونك في أي مظهر من مظاهر الحياة؛ فلا تغترَّ بما تفوقتَ وتميزتَ به عليه؛ ولكن قُلْ لنفسك: لابد أن هذا الإنسان متفوق في مجال ما.