فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}
وساعة ترى التنوين في قول الحق: {وَكُلًا} فاعلمْ أن المقصود هو قصة كل رسول جاء بها الحق سبحانه في القرآن الكريم.
وحين يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن فعل قد أحدثه؛ فلنا أنْ ننظر: هل هذا الفعل مأخوذ من صفة له سبحانه أم مأخوذ من اسم موجود؟ فيحقّ لنا أن نأخذ الاسم ونأخذ الفعل مثل قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ} [النحل: 70].
نعلم منه أنه سبحانه خالق، ولكن إنْ جاء فعل ليس له أصل في أسماء الله الحسنى، فإياك أنْ تشتقَّ من الفعل اسمًا لله.
ومثال ذلك قوله سبحانه: {وَكُلًا نَّقُصُّ} [هود: 120].
والذي يقصُّ هنا هو الله سبحانه لكن لا أحد في إمكانه أن يقول: إن الله قصَّاص، مثلما لا يحق لأحد أن يقول: إن الله ماكر، رغم أن الله سبحانه قد قال: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين} [الأنفال: 30].
وكذلك لا يصح لأحد أن يقول: الله المخادع، رغم أن الحق سبحانه قد قال: {إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142].
وهكذا نتعلم أدب الحديث عن الله المتصف بكل صفات الكمال والجلال؛ وأن نكتفي بقول: إن مثل هذا الفعل جاء للمشاكلة ما دام ليس له وجود ضمن أسماء الله الحسنى.
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَكُلًا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل} [هود: 120].
و{أنباء} جمع {نبأ}، وهو الخبر العظيم الذي له أهمية، والذي يختلف به الحال عند العلم به، وأخبار الرسل عليهم السلام تتناثر لقَطاتٍ مختلفة عَبْرَ سور القرآن الكريم، موضحة ما جاء به كل رسول معالجًا الداء الذي عانى منه قومه، وكذلك ما عاناه كل رسول من عَنَت القوم المبعوث لهم، وجاء ذكر تلك الأنباء في القرآن لتثبيت فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول سيصادف في الدعوة المتاعب والصعاب.
وقد ذكر القرآن بعضًا من تلك المواقف، يقول الحق سبحانه: {وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله} [البقرة: 214].
ويقول الحق سبحانه مصوِّرًا حال المؤمنين: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} [الأحزاب: 10].
ومثل هذه المواقف تقتضي تثبيت الفؤاد؛ بمعنى تسكينه على منطق اليقين الإيماني بربِّ أرسله رسولًا ليبلِّغ منهجًا، وما كان الله سبحانه ليرسل رسولًا ليبلِّغ منهجًا ثم يُسلمه لأعدائه.
فإذا ما ذكر له أخبار الرسل والصعاب التي تعرضوا لها تهون عليه المصاعب التي يتعرض لها، ويثبت فؤاده.
والفؤاد هو ما نقول عنه: القلب، وهو وعاء العقائد، بمعنى أن المخ يستقبل من الحواس وسائل الإدراكات من عين ترى، ومن أذن تسمع، ومن أنف يشُم، ومن فَمٍ يستطعم، ومن كفٍّ تلمس فتتولد المعلومات التي يصنفها المخ، ويرتبها كقضايا عقلية.
ويناقش المخ تلك القضايا العقلية إلى أن تصح القضية العقلية صحة لا يأتي بعدها ما ينقضها، فيسقطها المخ في الفؤاد لتصير عقيدة؛ لا تطفو بعدها إلى العقل لتُناقش من جديد؛ ولذلك يسمونها عقيدة من العقدة فلا تتذبذب بعد ذلك.
إذن: فالفؤاد هو الوعاء القابل للقضايا التي انتهى المخ من تمحيصها تمحيصًا وصل فيه إلى الحق، وأسقطها على القلب ليدير حركة الحياة على مُقْتضاها.
وعلى سبيل المثال: نجد الشاب الذي يفكر في مستقبله، فيدرس مزايا وعيوب المهن المختلفة ليختار منها التخصص الذي يتناسب مع مواهبه؛ وأحلامه، ثم يدرس المحسَّات التي استقبلها بحواسه ليُمحِّصها بعقله؛ وما ينتهي إليه عقله يسقطه في قلبه؛ ليصير عقيدة يدير بها حركة حياته.
مثال هذا: أنه قد استقر في وجدان الناس وعقولهم أن النار مُحْرقة، ولكن من أين جاء هذا اليقين في أن النار محرقة؟ نقول: جاء من أمر حسي بأن شاهد الناس أن مَنْ مسَّته النار أحرقته.
لابد إذن أن يكون القلب ثابتًا؛ غير مذبذب.
ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَكُلًا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120].
لأن الفؤاد هو الوعاء الذي من مهمته أن يكون مستعدًا لاستقبال كلمة الحق؛ وليقبل تنبيه الذكرى، وجلال الموعظة، وكمال الوارد من الحق سبحانه وما يأتي من الحق سبحانه هو الحق أيضًا، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يطرأ عليه تغيير.
وحق الحق ينبوع العقيدة الذي ستصدر عنه طاعة التكليف، ولابد أن يكون الإنسان على ثقة من حكمه المكلِّف قبل أن يُقبِلَ على التكليف؛ لذلك لزم أن يأتي الدليل على وجود الحق سبحانه وهو قمة الوجود الأعلى قبل أن تأتي الموعظة، ويكون الإيمان بالوجود الأعلى الذي لا يتغير ولا تطرأ عليه الأغيار هو السابق لمجيء تلك الموعظة.
لأن الموعظة قد تتطلب من الإنسان شيئًا يكره أن يلتزم به، وهي هنا صادرة من الحق سبحانه، الذي خلق، ولا يمكن أن يغش أو يخدع مخلوقاته، ويحملها لك رسول منه سبحانه.
وقد تكره الموعظة إن صدرت عن إنسان مثلك؛ لأنه لن يَعِظك إلا بكمال يتميز به ليعدد نقصًا فيك، وإن لم يكن الواعظ يتمتع بالكمال الذي يعظ به؛ بالموعوظ سيردُّ على الواعظ قائلًا: فَلْتعِظْ نفسك أولًا.
ولذلك نجد قول الحق سبحانه: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 3].
لأن الواعظ الذي يَعِظُ بما لا يطبقه على نفسه يعطي الحجة للموعوظ ليرفض الموعظة؛ وليقول لنفسه: لو كان في هذا الأمر خير لطبَّقه على نفسه. وهكذا بيَّنت الآية الكريمة موقف الرسول صلى الله عليه وسلم كمُثَبَّتٍ، وأيضًا موقف المؤمنين برسالته كمذكَّرين من الرسول بأنهم سيتعرضون للمتاعب؛ متاعب مشقة التكليف التي سيعاني منها مَنْ لا يأخذ التكليف بعمق الفهم.
فقد يرى بعض المكلَّفين مثلًا أن الأمر بغَضِّ الطَّرْف حرمانٌ من شهوة طارئة ولا يَسْبر غورَ الفهم بأن غَضَّ الطَّرْف أمرًا لكافة المؤمنين أن يغضوا الطرف عن محارمه، وقد يرى في الزكاة أنها أخْذٌ من ماله، ولا يَسْبر غور الفهم بأن في الزكاة تأمينًا له إنْ مرَّت عليه الأغيار وصار فقيرًا؛ عندئذ سيقدم له المجتمع الإيماني التأمين الاجتماعي الذي يحميه وعياله من مَغبَّة السؤال.
وعمق الفهم أمر مطلوب؛ لأن الحق سبحانه هو القائل: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن} [النساء: 82].
لأنك حين تتدبر المعاني ستعلم أن التكليف هو تشريف لك؛ وستقول لنفسك: ما كلفني الله إلا لخير نفسي؛ وإن ظهر أنه لخير الناس. ومن المتاعب أيضًا ما يلقاه المؤمنون من عنت المستفيدين من الفساد؛ هؤلاء الذين يعيشون على الانتفاع من المفاسد، ويواجهون كل من يريد أن يقضي على الفساد؛ لأن الفساد في الأرض لا يعيش إلا إذا وُجِد منتفعٌ بهذا الفساد؛ والمنتفع بالفساد يكره ويعلن الخصومة لكلِّ مقاومٍ له.
إذن: فموقف خصوم النبي صلى الله عليه وسلم موقف طبيعي لصالحهم، ولكنهم لحمقهم حددوا الصالح بمصالحهم الآنية في الحياة الدنيا؛ ولم ينظروا إلى عاقبة ما يؤول إليه أمرهم في الآخرة نعيمًا أو عذابًا.
ولو أنهم امتلكوا البصيرة؛ لعرفوا أن من مصلحتهم أن يوجد مَنْ يُقوِّمهم حتى لا يقدموا لأنفسهم شرًا يوجد لهم في الآخرة.
ولو أنهم فَطِنوا؛ لعلموا أن الرسول كما جاء لصلاح المستضعفين المستغلين بالفساد؛ جاء أيضًا لصالحهم، ولو أنهم كانوا على شيء من التعقل؛ لكانوا من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكان من الواجب عليهم كلما حدثتهم أنفسهم بالسعي إلى الفساد؛ وسمعوا من الرسول صلى الله عليه وسلم ما ينتظرهم نتيجة لهذا الفساد؛ أن يتبعوه وأن يشكروه؛ لأنه خلَّصهم من طاقة الشر الموجودة فيهم.
وهنا يوضح الحق سبحانه لرسوله: أنت لست بدعًا من الرسل، وكل رسول تعرَّض للمتاعب مثلما تتعرض أنت لمثلها، وأنت الرسول الخاتم، ولأن الدين الذي جئتَ به لن يأتي بعده دين آخر؛ لذلك لابد أن تتركز المتاعب كلها معك؛ فكُنْ على ثقة تمامًا أنك مُصادِفٌ للمتاعب.
ولذلك نثبِّت فؤادك بما نقصُّه عليك من أنباء الرسل؛ لأن هذا الفؤاد هو الذي سيستقبل الحقائق الإيمانية من قمة لا إله إلا الله إلى أن يكون ذكرى تذكّرك والمؤمنين معك. وهكذا بيَّنتْ الآية موقف الرسول صلى الله عليه وسلم كمثَّبت؛ وموقف المؤمنين كمذكَّرين من الرسول؛ لأنهم سيتعرضون للمتاعب أيضًا.
ونحن نعرف جميعًا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار حين بايعوه في العقبة على نصرته، وقالوا: إنْ نحن وفينا بما عاهدناك عليه؛ فماذا يكون لنا؟ ولم يَقُلْ لهم صلى الله عليه وسلم: «ستملكون الدنيا، وستصبحون سادة الفُرْس والروم»، بل قال لهم: «لكم الجنة». لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن منهم مَنْ سيموت قبل أن تتحقق تلك الانتصارات؛ لذلك وعدهم بالقَدْر المشترك الذي يتساوى فيه مَنْ يموت بعد إعلانه للإيمان، وبين مَنْ سيعيش ليشهد تلك الانتصارات.
وهكذا تبينا كيف تضمَّنت الآية الكريمة تثبيت فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وكيفية إعداد هذا الفؤاد لاستقبال الحق والموعظة وذكرى المؤمنين معه.
هذا هو الطرف الأول، فماذا عن الطرف الثاني؛ الطرف المكذِّب للرسول؟
كان ولابد أن يتكلم الحق سبحانه هنا عن المكذِّبين للرسول؛ لأن استدعاء المعاني يجعل النفس قابلة للسماع عن الطرف الآخر.
وما دام الحق سبحانه قد تكلم عن تثبيت وعاء الاستقبال، والموعظة، وتذكير المؤمنين؛ لحظة أن تخور منهم العزائم، فلابد إذن أن يتكلم سبحانه عن القسم الآخر؛ وهو القسم المكذِّب، فيوضح سبحانه لرسوله أن له أن يتحداهم ولا يتهيَّب.
يقول الحق سبحانه: {وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا}.
أي: اصنعوا ما شئتم، ومعنى ذلك أنه صلى الله عليه وسلم مستندٌ إلى رصيد قويّ من الإيمان بإلهٍ لا يهوله أن يستعد له الخصم؛ فهو صلى الله عليه وسلم والذين معه لا يواجهون الخصم بذواتهم؛ ولا بعدَدهم وعُددهم؛ وإنما يواجهونه بالركن الركين الذي يستندون إليه، وهو الحق سبحانه وتعالى.
ونحن نرى في حياتنا اليومية أن أي قائد في معركة إنما يشعر بالثقة حين يصل إلى علمه أن مددًا سوف يصله من الوطن الذي يحارب من أجله؛ لأنه سيعزز من قوته، فما بالنا بالمدد الذي يأتي ممن لا ينفد ما عنده؛ وممن لا يُجير عليه أحدٌ؛ فهو يُجير ولا يُجَار عليه.
ولذلك نلاحظ أن الأنبياء استظلوا بتلك المظلة، فموسى عليه السلام حين كاد الفرعون أن يلحق به؛ ورأى قومه أنْ لا نجاة لهم؛ فالبحر أمامهم والعدو وراءهم؛ صرخوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61].
لكن موسى عليه السلام يطمئنهم: {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].
فموسى عليه السلام يعلم أنه مُستند بقوة الله لا بقوة قومه، وأمدَّه الله سبحانه بمعجزة جديدة: {اضرب بِّعَصَاكَ البحر} [الشعراء: 63].
فينفلق البحر؛ ليفسح بين مياهه طريقًا يابسة؛ وسار موسى عليه السلام وقومه، وفكر موسى في قطع السبيل على عدوه حتى لا يسير في نفس الطريق المشقوق بأمر الله عبر معجزة ضرب البحر بالعصا، وأراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر ضربة ثانية ليعود البحر إلى حالة السيولة مرة أخرى، فيقول له الله سبحانه: {واترك البحر رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} [الدخان: 24].
أي: أتركه على ما هو عليه؛ لينخدع فرعون ويسير في الطريق اليابسة، ثم يعيد الحق سبحانه البحر كما كان، وبذلك أنْجَى الحق سبحانه وأهْلَكَ بالشيء الواحد؛ وهذه لا يقدر عليها غير الله سبحانه وتعالى وحده.
وهكذا يَهَبُ الحق سبحانه المؤمنين به القدرة على تحدي الكافرين. والإيمان كله معركة من التحدي؛ تحدٍّ في صدق الرسول كمبلِّغ عن الله، ومعه معجزة تدل على رسالته، وتحدٍّ في نصرة الرسول ومَنْ معه من قلة مؤمنة؛ فيغلبون الكثرة الكافرة.
والحق سبحانه يقول: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين} [البقرة: 249].
وهكذا يشيع التحدي في معارك الإيمان.
وقد تميِّز كل رسول بمعجزة يتحدى بها أولًا؛ ثم ينتهي دورها؛ لينزل له بعدها منهج من السماء؛ ليبشِّر به قومه، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تميَّز بمعجزة لا تنتهي، وهي عَيْنُ منهجه؛ لأنه رسول إلى كل الأزمان وإلى كل الأمكنة؛ فكان لابد من معجزة تصاحب المنهج إلى يوم القيامة.
ولذلك نجد كل مؤمن بالرسالة المحمدية يقول: محمد رسول الله والقرآن معجزته إلى أن تقوم الساعة.
والحق سبحانه يقول هنا: {وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} [هود: 121].
ونحن نعلم أن كل كائن منَّا له مكان، أي: له حَيِّز وجِرْم. ويقال: فلان له مكانة في القوم، أي: له مركز مرموق؛ إذا خلا منه لا يستطيع غيره أنْ يشغله، وهو مكان يدلُّ على الشرف والعظمة والسيادة والوجاهة ونباهة الشأن.
فقول الحق: {اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} [هود: 121].
أي: اعلموا على قَدْر طاقتكم من عُدة ومن عَدد، فإن لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم ربًا سيهديه وينصره، وفي هذا تهديد لهم؛ وليس أمرًا لهم؛ لأنهم ككفار لن يمتثلوا لأمر مِنْ عَدوِّهم.
ولو أنهم امتثلوا لأمر محمد وربِّ محمد لَمَا كانوا كافرين؛ بل لأصبحوا من الطائعين.
وحين يقول لهم سبحانه في آخر الآية: {إِنَّا عَامِلُونَ} [هود: 121].
فمعنى ذلك أن كل ما في قدراتكم هو محدود لأنكم من الأغيار الأحداث؛ أما فعل الله تعالى فهو غير محدود؛ لأنه سبحانه قديمٌ أزليٌّ لا تحده حدود، ولن يناقض عمل المُحدَث الحادث عمل القديم الأزلي، فقوة الحادث المُحدَث موهوبة له من غيره، أما قوة الحق سبحانه فهي ذاتية فيه.
ونحن نعلم أن أيَّ عمل إنما يُقَاس بقوة فاعله، وخطأ المستقبلين لمنهج الله أنهم إذا جاء عمل؛ نَسَوا مَنِ الذي عَمِلَ العمل، ولو كان العمل من فعل البشر لَحقَّ للإنسان أن يتكلم، لكن إذا ما كان العمل من الله تعالى فليلزمِ الإنسان حدوده.
ومثال ذلك: هؤلاء الذين جادلوا في مسألة الإسراء التي قال فيها الحق تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1].
وقالوا: إننا نضرب إليها أكباد الإبل شهرًا، فكيف يقول إنه أتاها في ليلة؟
وكان الرد عليهم: إن محمدًا لم يَقُلْ إنه سَرَى من البيت الحرام إلى المسجد الأقصى بقوته هو، بل أُسْرِيَ به، والذي عمل ذلك هو الله سبحانه وليس محمدًا، فقيسوا هذا العمل بقوة الله تعالى وليس بقوة محمد.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وانتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ}.
في هذه الآية نلمس الوعيد والتهديد؛ فالكافرون ينتظرون وعد الشيطان لهم، والمؤمنون ينتظرون وعد الرحمن لهم.
ولذلك سيقول المؤمنون للكافرين يوم القيامة: {أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} [الأعراف: 44].
وفي انتظار الكفار تهديد لهم، وفي انتظار المؤمنين تثبيت لقلوبهم، ولو لم تَأْتِ الأحداث المستقبلة كما قالها القرآن لتشكك المؤمنون، ولكن المؤمنين لم يتشككوا، وهكذا نتأكد أن القول بالانتظار لم يكن ليصدر إلا مِنْ واثقٍ بأن ما في هذا القول سوف يتحقق.
وقد جاء الواقع بما يؤيد بعض الأحداث التي جاءت في القرآن.
ألم ينزل قول الحق سبحانه: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45].
وكان وقت نزول هذا القول الحكيم إبان ضعف البداية، حتى قال عمر رضي الله عنه أيُّ جَمْعٍ يهزم؟ لأن عمر حينئذ كان يلمس ضعف حال المؤمنين، وعدم قدرة بعض المؤمنين على حماية نفسه، ثم تأتي غزوة بدر؛ ليرى المؤمنون صدق ما تنبأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن العجيب أنه صلى الله عليه وسلم خطط على الأرض مواقع مصرع بعض كبار الكافرين، بل وأماكن إصاباتهم، وجاء ذلك قرآنًا يُتلى على مر العصور، مثل قول الحق: {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} [القلم: 16].
وهكذا شاء الحق سبحانه أن يأتي الواقع بما يؤيد صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، كما شاء سبحانه أن يُنزل على الرسول لقطاتٍ من قصص الرسل الذين سبقوه لشد أَزْره، وليثبِّت فؤاده، ويذكِّر المؤمنين فيزدادوا إيمانًا. اهـ.