فصل: قال السمرقندي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكذلك كل أساسيات الحياة جعلها الحق سبحانه في سلطته وحده، ولم يَأْمَنْ أحدًا من خلقه عليها، مثل الأرض بعناصرها، وكذلك الماء والهواء حتى لا يعبث أحد بأنفاس الهواء لأحد آخر.
شاء الحق سبحانه أن يجعل الأساسيات في يده دون أن يُملِّكها لأحد؛ رحمةً منه بنا، ذلك أنه سبحانه عَلِمَ أن الإنسان بما تعتريه من أغيار قد يسيء استخدام تلك الأساسيات.
وسَخَّر الله هذه الأساسيات لخدمة كل المخلوقات، وسخَّر بعض المخلوقات ليسُوسها الإنسان، وبعض المخلوقات الآخر لم يستطع الإنسان تسخيره، وحتى قوة الإنسان نفسه؛ شاء الحق سبحانه أن يجعلها أغيارًا؛ فالقوي يسير إلى الضَّعْف، والفقير قد يصبح غنيًا.
وهكذا يَثْبت لنا أن كل ما نملك موهوب لنا من الله تعالى وليس هناك ما هو ذاتيٌّ فِينا، وما نملكه اليوم لا يخرج عن الملكية الموقوتة، فإذا جاء يوم القيامة؛ رجع كل ما نملك لله سبحانه وتعالى.
ولذلك يقول الحق سبحانه: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16].
ولذلك أيضًا تشهد الجوارح على الإنسان؛ لأنها تخرج عن التسخير الذي كانت عليه في الدنيا.
وإذا كان الحق سبحانه يقول هنا: {وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض} [هود: 123].
فهو سبحانه يقول في آية أخرى: {لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثرى} [طه: 6].
وكأن الحق سبحانه ينبه البشر منذ نزول القرآن إلى أهمية ما تحت الثرى من كنوز يمتنُّ الله تعالى بها على عباده أنه يملكها.
ونحن نعيش الآن باستخراج المكنوز الذي تحت الثرى.
وحين يقول الحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ} [هود: 123].
ففي ذلك تنبيه لكل إنسان، ليعمل مُسْتهدفًا النجاة حين لا يكون لنفسه على نفسه سبيل يوم القيامة.
وليعلم كل إنسان أن كل ما يستمتع به هو من فيوضات الحق الأعلى الذي أعطى الإنسان قدرة من باطن قوته سبحانه وأعطاه غِنًى من باطن غِنَاه سبحانه وأعطاه حكمة من باطن حكمته سبحانه وأعطاه قبضًا وبسطًا من باطن قدرته سبحانه وكذلك أعطى لعبيده من كل صفة بعضًا من فَيْضها، ثم تظل الفيوضات للحق سبحانه وتعالى.
وحين يشاء فهو يسلب كل الفيوضات ويعود الأمر إليه، لأن الأمر كله له سبحانه.
فإنْ حُدِّثتَ في القرآن بأمر تغيب عنك مقدماتُه، فاعلمْ أن الذي أنزل هذا الكتاب لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.
ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم على ثقة أن الحق سبحانه حين أمره أن يتوعد أعداء الدين فهو يُطمئنه أن المرجع في كل الأمور إليه سبحانه.
واطمأن الرسول صلى الله عليه وسلم والذين معه أن أعداء الدين إنْ لم يُجازَوْا في الدنيا، فغدًا ترجع الأمور كلها إلى الله، وإن كان الحق قد مَلَّكهم أشياء؛ فسيسلُبهم هذه الملكية في الآخرة، وإنْ كان قد أعطاهم الخِيَار في الدنيا؛ خِيَار أنْ يؤمنوا ويطيعوا، أو أنْ يكفروا ويعصوا؛ فهذا الاختيار سيزول عنهم في الآخرة، وكل مالك لمُلْك يصير مُلْكه بعده إلى الله.
وما دام الأمرُ كذلك فلنعبد الله وحده سبحانه لأنه صاحبُ الأمر فيما مضى؛ وله الأمر الآن؛ وله الأمر فيما يأتي.
وهو سبحانه الذي شاء، فجعل للإنسان ثلاثةَ أزمان: زمان سَبقَ وجود آدم؛ وزمان من بعد آدم إلى وجود أيٍّ منا؛ ثم زمان مستقبل إلى ما لا نهاية؛ وبذلك يكون لكل منا زمان ماضٍ؛ وزمان حاضر وزمان مستقبل، وكل منا يدور في فلك الأحداث.
ومن المنطقي بعد أن تستمتع بوجودك في الحياة؛ وتنضج عقليًا أن تتساءل عن ماضيك، وتاريخ الجنس البشري.
وأنت في هذه الحالة تكون رَهْنًا بثقة المحدِّث: هل يقول الصدق أم يقول الكذب؟ خُصوصًا إذا كان الحديث عن تاريخ ما قبل آدم، ولابد أنْ تقول لنفسك: لا يمكن أن يُحدِّثني عن ذلك إلا مَنْ خلقني.
وساعة يُبلِّغُكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بداية الخلق قائلًا: «كان الله، ولم يكُنْ شيء غيره».
ومعنى ذلك أن الصادق الوحيد الذي يمكن أن نقبل منه كلامًا عمَّا فاتَ قبل آدم هو الله سبحانه وتعالى.
وإنْ سألتَ: لماذا وُجِدتُ في زمني هذا، ولم أوجد في زمن آخر؟ هنا ستقول لنفسك إنْ كنت مؤمنًا: إن مشيئة وإرادة مَنْ أوجدني هي التي رجَّحتْ وجودي في هذا الزمن عن أي زمن آخر.
ولابد أن تسأل نفسك: وما المطلوب مني؟ وستجد أن المطلوب منك هو حركة الحياة؛ لأن تلك الحركة هي الفاصل بين الحياة والموت، والحق يقول: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا} [هود: 61].
فقد أعطاك الحق سبحانه العقل لتفكر، وأعطاك الطاقة لتفعل، وسخَّر لك الكون بالمطمور فيه من الرزق؛ لتستخرجه وتتعيش منه.
وهكذا يتضح لك أن كل شيء يحتاج منك أن تتحرك، وأنت في حركتك تحتاج لطاقة تأخذها من الأعلى منك وتعطي للأدنى منك؛ لذلك أنت تأخذ طاقة من الأعلى منك، وتُعطي للأدنى منك.
وأنت تعلم أن قمة المطلوب منك أن تُصلي بين يدي الله خمس مرات كل يوم؛ لتشحن طاقتك وتخرج للحياة بعد أن تُجدِّد ولاءك لمن خلقك وخلق الأكوان كلها، وإنْ أحسنتَ الوقوف بين يدي الله سيأتي مستقبلك مبنيًا على هذا الإحسان.
والحق سبحانه يعطينا مثلًا لهاتين الحركتين، فيقول: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع} [الجمعة: 9].
هذه حركة يأخذ فيها الإنسان طاقة من الأعلى، فالسعي إلى ذكر الله وترك البيع من أجل ذلك يعطي الإنسان طاقة إيمانية، يظهر أثرها في الحركة الثانية من حركات الإنسان.
ولذلك يقول الحق سبحانه بعد هذا: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].
ولذلك يقول الحق سبحانه في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123].
أي: أطِع الله في أمره؛ لأنه سبحانه الأعلى منك، بأن تؤدي المطلوب العبادي من: صلاة، وزكاة، وصيام، وحج إنِ استطعتَ لذلك سبيلًا، لتأخذ من المدد الأعلى ما يعينك في حركتك الثانية التي تتحركها في الكون.
ومن العجيب أن حركتك في الكون الأدنى تُعينك على حركتك لاستمداد الطاقة من مُكوِّن الكون سبحانه.
فأنت حين تصلي تحتاج لِسَتْر عورتك بثوب، وحتى تأتي بالثوب لابد لك من أن تعتمد على حركة الفلاح في الزراعة، وحركة العامل في النَسْج، وحركة التاجر في البيع، وحركتك في عملك الذي يتيح لك أجرًا تشتري منه الثوب.
وبذلك تكون قد أخذتَ كل علوم الحياة؛ لكي تذهب للصلاة لتأخذ المدد من المدد الأعلى.
وهكذا تجد أنك في حركة دائرة؛ تأخذ المدد من الأعلى لتعطي الكون الأدنى، وتأخذ من الأدنى ما يتيح لك الوقوف بين يدي صاحب المدد الأعلى.
وبهذا يثبت لك أن الحركة في الحياة الحاضرة لكل إنسان بالنسبة لعمره في الحياة، هي استقبال من المدد الأعلى، وانفعال مع المدد الأدنى، وكل منهما يعين على الآخر؛ لذلك فعليك أن تعبد الله بأن تنظِّم حركة حياتك على ضوء منهجه سبحانه.
واعلم أنه ستصادفك المصاعب فإن صادفتك فتوكل على الله، وتلك فائدة من فوائد استمرار ولائك لله الذي تأخذ منه المدد.
ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة. ومعنى حزبة أي خرج عن أسبابه، لذلك فهو يذهب إلى المسبب الأعلى، فإنْ عبدتَ الله وتوكلتَ عليه؛ فهو يعينك؛ لأنه سبحانه لا يغفل عما نعمل.
وهذه الآية تدلُّك على السعادة في الحاضر والمستقبل؛ لأنك إن كنت ترعى الله فسبحانه يكتب لك الحسنة بعشرة أمثالها، وقد يضاعف عن ذلك، وتُكتب السيئة بمثلها.
وبذلك تكون هذه الآية قد استوعبت وانتظمت حال الإنسان: قبل حياته، وحاضر حياته، ومستقبل حياته إلى أن تقوم الساعة.
يقول الحق سبحانه: {يا أيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].
فدعوة الله بالطاعة، ودعوة الرسول بالسلوك السَّويّ يعطي للمؤمن حياة الحياة، وهي حياة تعيش في معية الله. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بآياتنا} التسع، {وسلطان مُّبِينٍ} يعني: حجة بينة، {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} يعني: قومه، {فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} يعني: أطاعوا قول فرعون حين قال: {يا قوم لَكُمُ الملك اليوم ظاهرين في الأرض فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أرى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد} [غافر: 29] فأطاعوه في ذلك، وحين قال لهم: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يا أيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى ياهامان عَلَى الطين فاجعل لِّى صَرْحًا لعلى أَطَّلِعُ إلى إله موسى وَإِنِّى لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين} [القصص: 38]، فأطاعوه وتركوا موسى.
قال الله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} يقول: ما قول فرعون بصواب.
قوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة} يقول: يتقدم أمام قومه يوم القيامة، وهم خلفه، كما كانوا يتبعونه في الدنيا، ويقودهم إلي النار، {فَأَوْرَدَهُمُ النار} يقول: أدخلهم النار، {وَبِئْسَ الورد المورود} يقول: بئس المدخل المدخول، يعني: بئس المصير الذي صاروا إليه.
قوله تعالى: {وَأُتْبِعُواْ في هذه لَعْنَةً} يعني: جعل عليهم اللعنة في الدنيا، وهو الغرق، {وَيَوْمَ القيامة} لعنة أُخرى، وهي النار، {بِئْسَ الرفد المرفود} يعني: اللعنة على أثر اللعنة، ومعناه: بئس الغرق وزفرة النار، ترادفت عليهم اللعنتان، لعنة الدنيا الغرق، ولعنة الآخرة النار.
وقال القتبي: {بِئْسَ الرفد المرفود} يعني: بئس العطاء المعطى، يقال: رفدته أي: أعطيته، وقال الزجاج: كل شيء جعلته عونًا لشيء، وأسندت به شيئًا فقد رفدته وقال قتادة: في قوله: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ} يعني يمضي بين أيديهم، حتى يهجم بهم على النار.
وفي قوله: {بِئْسَ الرفد المرفود} قال: لعنة في الدنيا، وزيدوا بها اللعنة في الآخرة.
قوله تعالى: {ذلك مِنْ أَنْبَاء القرى} يعني: هذا الذي وصفت لك وقصصت عليك من أخبار الأمم، والقرون الماضية، {نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} يعني: ينزل جبريل، ليقرأ عليك ليكون فيها دلالة نبوتك، {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} يعني: من تلك القرى قائم، ومنها ما هو حصيد والقائم، يعني: الظاهر ينظر إليه الناظر، والحصيد: الذي قد أبيد وحصد، يعني: خرب وهلك أصحابه.
ويقال: القائم على بنيانه، والحصيد ما خرب.
وقال قتادة: منها قائم، يعني: خاوية على عروشها وحصيد، يعني: مستأصلة.
وقال الضحاك: منها قائم، يعني: مدينة عاد هلكوا، وبقيت مساكنهم، وحصيد، يعني: مدائن قوم لوط، حصدت أي قلعت من الأرض السفلى.
ثم قال تعالى: {وَمَا ظلمناهم} يعني: لم نعذبهم بغير ذنب، {ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} يعني: أضروا بأنفسهم حيث أكلوا رزق الله، وعبدوا غيره، وكذبوا رسله، {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءالِهَتَهُمُ} يعني: ما نفعتهم عبادة آلهتهم، {التى يَدْعُونَ مِن دُونِ الله مِن شَئ} إنما سماهم آلهة على وجه المجاز، يعني: آلهتهم بزعمهم، ولم يكونوا آلهة في الحقيقة.
ومعناه: لم تقدر أصنامهم أن تمنعهم من عذاب الله من شيء، {لَّمَّا جَاء أَمْرُ رَبّكَ} يعني: حين جاء عذاب ربك، وقال القتبي: إذا رأيت لِلَمَّا جوابًا فهو بمعنى حين، كقوله تعالى: {فَلَمَّا ءَاسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ فأغرقناهم أَجْمَعِينَ} [الزخرف: 55] يعني: حين أغضبونا، وكقوله: {لَّمَّا جَاء أَمْرُ رَبّكَ} يعني: حين جاء أمر ربك، يعني: عذاب ربك، {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} يعني: غير تخسير، كقوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] أي خسرت.
قوله تعالى: {وكذلك أَخْذُ رَبّكَ} يعني: هكذا عقوبة ربك، {إِذَا أَخَذَ القرى} يعني: إِذا عاقب القرى، {وَهِىَ ظالمة} يعني: أهلها كفار، جاحدون بوحدانية الله تعالى.
قرأ عاصم الجحدري: {إِذْ أَخَذَ}، بألف واحدة، لأن إذ تستعمل للماضي، وإذا تستعمل للمستقبل، وهذه حكاية من الماضي، يعني: حين أخذ ربك القرى.
وهي قراءة شاذة، وقراءة العامة: {إِذَا أَخَذَ} بألفين، ومعناه: أخذ ربك متى أخذ القرى.
ثم قال: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} يعني: عقوبته مؤلمة شديدة. وروى أبو موسى الأشعري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ». ثم قرأ: {وكذلك أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِىَ ظالمة} الآية.
ثم قال تعالى: {إِنَّ في ذَلِكَ لآيَةً} يعني: في الذي أخبرتك عن الأمم الخالية لعبرة، {لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة} ويقال: في عذابهم موعظة، وعبرة بالغة لمن آمن بالله، واليوم الآخر.
ويقال: فيه عبرة لمن أيقن بالنار، وأقرّ بالبعث: {ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس} يعني: مجموع فيه الأولون والآخرون: {وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} يشهده أهل السموات، وأهل الأرض. قوله تعالى: {وَمَا نُؤَخّرُهُ إِلاَّ لاِجَلٍ مَّعْدُودٍ} يعني: إلى حين معلوم.
ويقال: لانقضاء أيام الدنيا. ومعناه: أنا قادر على إقامتها الآن، ولكن أؤخرها إلى وقت معدود، {يَوْمَ يَأْتِ} يعني: إذا جاء يوم القيامة، ويقال: يوم يأْت ذلك اليوم، {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} يعني: لا تتكلم نفس بالشفاعة، إلا بأمره، ويقال: معناه: لا يجترئ أحد أن يتكلم من هيبته، وسلطانه بالاحتجاج، وإقامة العذر إلا بإذنه.
قرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، {يَوْمَ يَأْتِ} بغير ياء في الوصل والقطع، وقرأ الباقون: بالياء عند الوصل.
قال أبو عبيدة: القراءة عندنا على حذف الياء، في الوصل والوقف.
قال: ورأيت في مصحف الإمام عثمان: {يَوْمَ يَأْتِ} بغير ياء، وهي لغة هذيل.
قال: وروي عن عثمان، أنه عرض عليه المصحف، فوجد حروفًا من اللحن، فقال: لو كان الكاتب من ثقيف، والمملي من هذيل، لم توجد فيه هذه الحروف، فكانت قدم هذيلًا في الفصاحة.
ثم قال: {فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ} يعني: يوم القيامة من الناس شَقِيٌّ معذب في النار، وسعيد، يعني: مكرم في الجنة.
قوله تعالى: {فَأَمَّا الذين شَقُواْ} يعني: كتب عليهم الشقاوة، {فَفِى النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} قال الربيع بن أنس الزَّفير في الحلق، والشهيق في الصدر، وروي عن ابن عباس، أنه قال: زفير كزفير الحمار، وهو أول ما ينهق الحمار والشهيق، وهو أول ما يفرغ من نهيقه في آخره.
ويقال: زفير وشهيق، معناه: أنينًا وصراخًا، {خالدين فِيهَا} يعني: مقيمين دائمين في النار: {مَا دَامَتِ السموات والأرض} يعني: سماء الجنة وأرضها: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} يعني: إلا من أخرجهم منها وهم الموحدون.
وقال الكلبي، ومقاتل: {خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض} يعني: كما تدوم السموات والأرض، لأهل الدنيا، فكذلك يدوم الأشقياء في النار: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} أي: الموحدون، يخرجون من النار.