فصل: قال الثعلبي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الضحاك: يعني: سماء القيامة وأرضها، وهما باقيتان.
ويقال: العرب كانت من عادتهم، أنهم إذا ذكروا الأبد يقولون: ما دامت السموات والأرض، فذكر على عادتهم، ومعناه: إنهم خالدون فيها أبدًا.
ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ} إن شاء أدخل النار خالدًا، وإن شاء أخرجه إن كان موحدًا، وأدخله الجنة.
قوله تعالى: {وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ} قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم، في رواية حفص: {سُعِدُواْ} بضم السين.
وقرأ الباقون بنصب السين.
فمن قرأ بالنصب، فمعناه: الذين استوجبوا السعادة في الجنة، ومن قرأ بالضم، فمعناه: وأما الذين سُعِدُوا، أي قدر لهم السعادة، وخلقوا للسعادة: {فَفِى الجنة خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} أن يحبس في المحشر، وعلى الصراط.
ويقال: الذين شقوا يعني: الكفار، والذين سعدوا المؤمنين، ومعناه: الكفار في النار إلا ما شاء الله أن يسلموا، والمؤمنون في الجنة إلا ما شاء الله أن يرجعوا عن الإسلام.
ويقال: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} يعني: قد شاء ربك.
ثم قال: {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} يعني: رزقًا غير منقطع عنهم، ولا ينقص من ثمارهم، ولا من نعمتهم.
ثم قال تعالى: {فَلاَ تَكُ في مِرْيَةٍ} يعني: في شك: {مّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء} إن الله تعالى يعاقبهم بذلك، {مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءابَاؤهُم مّن قَبْلُ} يعني: لا يرغبون في التوحيد، كما لم يرغب آباؤهم من قبل، الذين هلكوا، {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ} يعني: نوف لهم ولآبائهم حظهم، من العذاب غير منقوص عنهم، وهو قول مقاتل.
وقال سعيد بن جبير: نصيبهم من الكتاب، الذي كتب في اللوح المحفوظ، من السعادة والشقاوة.
وقال مجاهد: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ} يعني: ما قدر لهم من خير، أو شر.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب} يعني: أعطينا موسى التوراة: {فاختلف فِيهِ} يعني: آمن به بعضهم وكفر به بعضهم، وهذا تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى يصبر كما صبر موسى على تكذيبهم، ثم قال: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ} يعني: وجب قول ربك بتأخير العذاب عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} يعني: لجاءهم العذاب، ولفرغ من هلاكهم، {وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكّ مّنْهُ} يعني: من القرآن، {مُرِيبٍ} يعني: ظاهر الشك.
قوله تعالى: {وَإِنَّ كُلًا} قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، في رواية أبي بكر: {وَإِن كُلُّ} بجزم النون، وقرأ الباقون بالنصب والتشديد.
فمن قرأ بالجزم، معناه: وما كل إلا ليوفينهم، كقوله: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32] يعني: ما كلٌ. ومن قرأ بالتشديد، يكون إنَّ لتأكيد الكلام. وقرأ حمزة، وابن عامر وعاصم، في رواية حفص: {لَّمًّا} بتشديد الميم، وقرأ الباقون بالتخفيف، فمن قرأ بالتخفيف، يكون لصلة الكلام، ومعناه: وإنَّ كلًا ليوفينهم، فتكون ما صلة كقولهم: عما قليل، يعني: عن قليل.
ومن قرأ بالتشديد: يكون بمعنى إلاَّ، يعني: وإنَّ كُلًا إلا ليوفينهم، كقوله: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] فمن قرأ بالتشديد كتلك الآية، يكون معناه: إلا عليها حافظ.
ومعنى الآية: إن كلا الفريقين: {لَيُوَفّيَنَّهُمْ رَبُّكَ} ثواب: {أعمالهم} بالخير خيرًا، وبالشر شرًا.
{إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} من الخير والشر.
قوله تعالى: {فاستقم كَمَا أُمِرْتَ} يعني: استقم على التوحيد، والطاعة كما أمرت: {وَمَن تَابَ مَعَكَ} أيضًا يستقيموا على التوحيد: {وَلاَ تَطْغَوْاْ} أي: لا تعصوا الله، في التوحيد وطاعته.
{إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قال: حدّثنا محمد بن الفضل، قال: حدّثنا محمد بن جعفر، قال: حدّثنا إبراهيم بن يوسف، قال: حدّثنا أبو حفص، عن سعيد، عن قتادة، في قوله تعالى: {فاستقم كَمَا أُمِرْتَ} قال: إن الله تعالى أمر بالاستقامة على التوحيد، وأن لا يطغى في نعمته.
وقال القتبي: {فاستقم كَمَا أُمِرْتَ} يعني: امضِ على ما أمرت به.
قوله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النار} قال قتادة: ولا ترجعوا إلى الشرك، فتمسكم النار، يعني: تصيبكم النار، وقال أبو العالية: ولا ترضوا بأعمال أهل البدع.
والركون: هو الرضا.
ويقال: ولا تميلوا إلى دين الذين كفروا.
ويقال: ولا ترضوا قول الذين ظلموا.
وروى أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، لِيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلِ». وعن عبد الله بن مسعود، أنه قال: اعتبروا الناس بأخدانهم.
ثم قال: {وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء} يعني: حين تمسكم النار، لم يكن لكم من عذاب الله من أولياء يعني: من أقرباء ينفعنكم، {ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} يعني: لا تمنعون من العذاب.
قوله تعالى: {اتل مَا} يعني: واستقم كما أمرت، وأقم الصلاة، أي: أتممها، {طَرَفَىِ النهار} صلاة الفجر، والظهر، والعصر، {وَزُلَفًا مِّنَ الليل} يعني: دخولًا من الليل، ساعة بعد ساعة، واحدها زلفة، وهي صلاة المغرب، والعشاء، {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} يعني: الصلوات الخمس، يكفرن السيئات فيما دون الكبائر، {ذلك ذكرى لِلذكِرِينَ} يعني: الصلوات الخمس توبة للتائبين.
قال الكلبي: نزلت الآية في عمرو بن غزية الأنصاري، ويقال: نزلت في شأن أبي اليسر، كان يبيع التمر، فجاءته امرأة تشتري تمرًا، فأدخلها في الحانوت، وفعل بها كل شيء إلا الجماع، ثم ندم، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية.
ويقال: نزلت في شأن أبي مقبل التمار.
وروي عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني لقيت امرأة في البستان فضممتها إليَّ، وقبلتها وفعلت بها كل شيء، غير أني لم أجامعها، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل، وقرأها عليه، فقال عمر رضي الله عنه: أله خاصة أم للناس كافة؟ قال: «بل للناس كافة». وروى حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان، قال: كنت مع سلمان، فأخذ غصنًا من شجرة يابسة، فحته، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ تَوَضّأَ فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ ثُمَّ صَلَّى تَحَاتَّتْ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتّ هذا الوَرَقُ» ثم قرأ هذه الآية: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار} إلى آخرها.
ثم قال تعالى: {واصبر} يا محمد، على التوحيد، ولا تركن إلى الظلمة، واصبر على ما أصابك ويقال: واصبر، أي أقم على هذه الصلوات الخمس، حتى لا تترك منها شيئًا، {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} يعني: ثواب الموحِّدين المخلصين.
ويقال المقيمين على الصّلوات. قوله تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ} يعني: فهلا كان: {مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّتُ} يعني: ذوو بقية من آمن وقال مقاتل: يعني: فلم يكن من القرون من قبلكم أولو بقية، يعني: ذو بقية من دين، {يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد في الأرض إِلاَّ قَلِيلًا مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} وهم الذين ينهون عن الفساد في الأرض.
وقال القتبي: فهلا أولو بقية من دين، يقال: قوم لهم بقية، إذا كان فيهم خير.
قال القتبي: إذا رأيت {فلولا} بغير جواب، يريد به هلا، كقوله: {فلولا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43]: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزى في الحياة الدنيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} [يونس: 98] وقال بعض المفسرين: جعل لولا هاهنا.
وفي سورة يونس، بمعنى لم. وقال الزجاج: معناه: أولو تمييز، ويجوز أولو طاعة وفضل. ومعنى بقية: إذا قلت في فلان بقية، معناه: فيه فضل، فيما يمدح به.
{إِلاَّ قَلِيلًا مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} استثناء منقطع، والمعنى: لكن قليلًا ممن أنجينا ممن ينهي عن الفساد. وروى سيف بن سليمان المكي، بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ العَامَّةَ بِعَمَلِ الخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا المُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهمْ، وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أنْ يُنْكِرُوهُ، فَلاَ يُنْكِرُونَهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذلكَ عَذَّبَ الخَاصَّةَ وَالعَامَّةَ».
ثم قال: {واتبع الذين ظَلَمُواْ} يقول: اشتغل الذين كفروا: {مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ} يعني: ما أنعموا وأعطوا من المال. ويقال: ارتكبوا على ما خولوا في الدنيا، واشتغلوا عما سواها من أمر الآخرة ويقال: {واتبع الذين ظَلَمُواْ} يعني: السفلة، ما أترفوا، يعني: من أترفوا، وهم القادة والرؤساء. وقال الفراء: اتبعوا في دنياهم، ما عودوا من النعيم، وإيثار الدنيا على الآخرة.
{وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} يعني: مشركين. قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ}، يعني: لم يكن ربك يعذب أهل قرية، {بِظُلْمٍ} بغير جرم، {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} يعني: موحِّدين مطيعين.
وروي عن ابن عباس، أنه قال: ما أهلك الله قومًا إلا بعملهم، ولم يهلكهم بالشرك، يعني: لم يهلكهم بشركهم وهم مصلحون، لا يظلم بعضهم بعضًا، لأن مكافأة الشرك النار، لا دونها، وإنما أهلكهم الله بمعاصيهم، زيادة على شركهم، مثل قوم صالح بعقر الناقة، وقوم لوط بالأفعال الخبيثة، وقوم شعيب بنقصان الكيل والوزن، وقوم فرعون بإيذائهم موسى عليه السلام وبني إسرائيل.
ويقال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} أي: فيهم من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر.
وقال الفراء: لم يكن ليهلكهم، وهم يتعاطون الحق فيما بينهم، وإن كانوا مجرمين. قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً}. يقول: لجمع الناس على أمة الإسلام، وأكرمهم بدين الإسلام كلهم، ولكن علم أنهم ليسوا بأهل لذلك، {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} يعني: عصم ربك من الاختلاف.
وقال عطاء: ولا يزالون مختلفين، يعني: اليهود والنصارى، والمجوس، إلا من رحم ربك الحنيفية: {ولذلك خَلَقَهُمْ} يعني: الحنيفية خلقهم للرحمة. وقال الحسن: لذلك خلقهم، يقول: للاختلاف، هؤلاء لجنته، وهؤلاء لناره. وقال ابن عباس: ولذلك خلقهم، يعني: فريقين، فريقًا يرحم ولا يختلف، وفريقًا لا يرحم ويختلف.
ويقال: ولذلك خلقهم، يعني: للأمر والنهي، بدليل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] يعني: للأمر والنهي، وقال الضحاك: وللرحمة خلقهم. وقال مقاتل: وللرحمة خلقهم، وهو الإسلام.
وروى حماد بن سلمة، عن الكلبي قال: خلقهم أهل الرحمة، أن لا يختلفوا. وقال قتادة: ولذلك خلقهم للرحمة، والعبادة، ولا يزالون مختلفين. يقول: لا يزال أهل الأديان مختلفين في دين الإسلام. ثم استثنى بعضًا.
وقال: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} وهم المؤمنون أهل الحق، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ} يقول: سبق ووجب قول ربك للمختلفين، {لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} فهذا لام القسم فكأنه أقسم أن يملأ جهنم، من كفار الجنة والناس أجمعين.
قوله تعالى: {وَكُلًا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرسل} يعني: ننزل عليك من أخبار الرسل: {مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} يقول: ما نشدد به قلبك، ونحفظه، ونعلم أن الذي فعل بك، قد فعل بالأنبياء قبلك، {وَجَاءكَ في هذه الحق} قال قتادة: أي: في الدنيا.
وقال ابن عباس يعني: في هذه السورة. وروى سعيد بن عامر، عن عوف، عن أبي رجاء، قال: خطبنا ابن عباس على منبر البصرة، فقرأ سورة هود وفسرها، فلما أتى على هذه الآية: {وَجَاءكَ في هذه الحق} قال: في هذه السورة. وقال سعيد بن جبير، وأبو العالية، ومجاهد مثله. وهكذا قال مقاتل: عن الفراء.
ثم قال: {وَمَوْعِظَةً} يعني: تأدبة لهذه الأمة، {وذكرى} يعني: عظة وعبرة، {لِلْمُؤْمِنِينَ} يعني: المصدقين بتوحيد الله تعالى. قال الله تعالى: {وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} يعني: لا يصدقون بتوحيد الله تعالى، {واعملوا على مَكَانَتِكُمْ} يعني: في منازلكم على إهلاكي، {إِنَّا عَامِلُونَ} في أمركم، {وانتظروا} بهلاكي، {إِنَّا مُنتَظِرُونَ} بكم العذاب والهلاك، فهذا تهديد لهم.
ثم قال تعالى: {وَللَّهِ غَيْبُ السموات والأرض} يعني: غيب نزول العذاب، متى ينزل بكم، ويقال: سر أهل السموات وسر أهل الأرض: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ} يعني عواقب الأمور كلها ترجع إليه يوم القيامة: {فاعبده} يقول: أطعه واستقم على التوحيد، {وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} يقول: فوض إليه جميع أمورك، {وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} يعني: الذي يفعل الكفار.
قرأ نافع، وعاصم، في رواية حفص: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ} بضم الياء ونصب الجيم، على معنى فعل ما لم يسم فاعله، وقرأ الباقون بنصب الياء وكسر الجيم، فيكون الفعل للأمر.
وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، في رواية حفص: {عَمَّا تَعْمَلُونَ} بالتاء على وجه المخاطبة، وقرأ الباقون بالياء على وجه المغايبة، وروي عن كعب الأحبار، أنه قال: خاتمة التوراة هذه الآية: {وَللَّهِ غَيْبُ السموات والأرض} إلى آخر السورة والله سبحانه أعلم. اهـ.

.قال الثعلبي في الآيات السابقة:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ}
حجة بيّنة: {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} وخالفوا أمر موسى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ} أي يتقدمهم ويقودهم إلى النار يوم القيامة: {فَأَوْرَدَهُمُ النار وَبِئْسَ الورد المورود} وبئس المدخل المدخول فيه.
{وَأُتْبِعُواْ فِي هذه لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة بِئْسَ الرفد المرفود} العون المعان، وذلك أنه ترادفت عليهم اللعنات، لعنة في الدنيا، ولعنة في الآخرة.
{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ القرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} خراب، ابن عباس: قائم ينظرون إليه، وحصيد قد خرب وهلك أهله، مقاتل: قائم يعني له أثر، وحصيد لا أثر له، مجاهد: قائم: خاوية على عروشها وحصيد: مستأصل يعني محصودًا كالزرع إذا حصد، قال قتادة: القائم منها لم يذهب أصلا، ومنها حصيد قد ذهب أصلا، القرضي: منها قائم بجدرانهاوحيطانها، وحصيد: ساقط، محمد بن إسحاق: منها قائم يعني [...] وأمثالها من القرى التي لم تهلك، وحصيد يعني التي قد أهلكت.
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بالعذاب والأهلاك: {ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ} بالكفر والمعصية يظلمون: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ التي يَدْعُونَ مِن دُونِ الله مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَاءَ أَمْرُ} عذاب: {رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} غير تخسير.
{وكذلك} وهكذا أخذ ربك: {أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} نظير قوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج: 12].
{إِنَّ فِي ذلك} لعبرة وعظة: {لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة ذلك} يعني يوم القيامة: {يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس} قال عبد الله بن مسعود لأصحابه: إنكم مجموعون يوم القيامة في صعيد واحد تسمعون الداعي [......]: {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} يشهده أهل السماء وأهل الأرض.
{وَمَا نُؤَخِّرُهُ} يعني وما نؤخّر ذلك اليوم ولا نقيم عليكم القيامة: {إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} أي مؤقّت لا يتقدم ولا يتأخر: {يَوْمَ يَأْتِ} وقرئ بإثبات الياء وحذفه، وهما لغتان وحذف الياء له طريقان كالكسرة عن الياء والضمة من الواو، كقول الشاعر:
كفاك كفّ ما تليق ودرهما ** جودًا وأخرى تُعط بالسيف الدما

{لاَ تَكَلَّمُ} أي: لا تتكلم: {نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} نظير: {تَنَزَّلُ الملائكة} [القدر: 4] أي: تتنزل.
قال لبيد:
والعين ساكبة على أطلائها ** عوذا تأجّل بالفضاء بهامها