فصل: قال البيضاوي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِى النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} هو أول نهيق الحمار: {وَشَهِيقٌ} هو آخره، أو هما إخراج النفس ورده، والجملة في موضع الحال والعامل فيها الاستقرار الذي في النار: {خالدين فِيهَا} حال مقدرة: {مَا دَامَتِ السماوات والأرض} في موضع النصب أي مدة دوام السماوات والأرض، والمراد سماوات الآخرة وأرضها وهي دائمة مخلوقة للأبد.
والدليل على أن لها سماوات وأرضًا قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات} [إبراهيم: 48] وقيل: ما دام فوق وتحت ولأنه لابد لأهله الآخرة مما يقلهم ويظلهم إما سماء أو عرش وكل ما أظلك فهو سماء، أو هو عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع كقول العرب: ما لاح كوكب، وغير ذلك من كلمات التأبيد: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} هو استثناء من الخلود في عذاب النار، وذلك لأن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار وحده بل يعذبون بالزمهرير وأنواع من العذاب سوى عذاب النار، أو ب: {ما شاء} بمعنى من شاء وهم قوم يخرجون من النار ويدخلون الجنة فيقال لهم الجهنميون وهم المستثنون من أهل الجنة أيضًا لمفارقتهم إياها بكونهم في النار أيامًا، فهؤلاء لم يشقوا شقاوة من يدخل النار على التأبيد، ولا سعدوا سعادة من لا تمسه النار، وهو مروي عن ابن عباس والضحاك وقتادة رضي الله عنهم: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ} بالشقي والسعيد: {وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ} {سُعدوا} حمزة وعلي وحفص.
سَعد لازم وسعَده يسعَده متعد: {فَفِى الجنة خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} هو استثناء من الخلود في نعيم الجنة وذلك أن لهم سوى الجنة ما هو أكبر منها وهو رؤية الله تعالى ورضوانه، أو معناه إلا من شاء أن يعذبه بقدر ذنبه قبل أن يدخله الجنة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الاستثناء في الآيتين لأهل الجنة». ومعناه ما ذكرنا أنه لا يكون للمسلم العاصي الذي دخل النار خلود في النار حيث يخرج منها، ولا يكون له أيضًا خلود في الجنة لأنه لم يدخل الجنة ابتداء، والمعتزلة لما لم يروا خروج العصاة من النار ردوا الأحاديث المروية في هذا الباب: {وكفى به إثمًا مبينًا} [النساء: 50]: {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} غير مقطوع ولكنه ممتد إلى غير نهاية كقوله: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الإنشقاق: 25] وهو نصب على المصدر أي أعطوا عطاء.
قيل: كفرت الجهمية بأربع آيات: {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ}.
{أُكُلُهَا دَائِمٌ} [الرعد: 35]: {وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} [النحل: 96]: {لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 33] لما قص الله قصص عبدة الأوثان وذكر ما أحل بهم من نقمه وما أعد لهم من عذابه قال: {فَلاَ تَكُ في مِرْيَةٍ مّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء} أي فلا تشك بعدما أنزل عليك من هذه القصص في سوء عاقبة عبادتهم لما أصاب أمثالهم قبلهم تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعدة بالانتقام منهم ووعيدًا.
لهم ثم قال: {ما يعبدون إلاّ كَما يَعبدُ ءَاباؤهم من قَبلُ} يريد أن حالهم في الشرك مثل حال آبائهم، وقد بلغك ما نزل بآبائهم فسينزلن بهم مثله، وهو استئناف معناه تعليل النهي عن المرية وما في: {مما} و: {كما} مصدرية أو موصولة أي من عبادتهم وكعبادتهم، أو مما يعبدون من الأوثان ومثل ما يعبدون منها: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ} حظهم من العذاب كما وفينا آباءهم أنصباءهم: {غَيْرَ مَنقُوصٍ} حال من: {نصيبهم} أي كاملًا.
{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب} التوراة: {فاختلف فِيهِ} آمن به قوم وكفر به قوم كما اختلف في القرآن وهو تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ} إنه لا يعاجلهم بالعذاب: {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} بين قوم موسى أو قومك بالعذاب المستأصل: {وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكّ مّنْهُ} من القرآن أو من العذاب: {مُرِيبٍ} من أراب الرجل إذا كان ذا ريبة على الإسناد المجازي: {وَإِنَّ كُلًا} التنوين عوض عن المضاف إليه يعني وإن كلهم أي وإن جميع المختلفين فيه وإن مشددة: {لَّمًّا} مخفف: بصري وعلي، ما مزيدة جيء بها ليفصل بها بين لام إن ولام: {لَيُوَفّيَنَّهُمْ} وهو جواب قسم محذوف، واللام في: {لما} موطئة للقسم والمعنى وإن جميعهم والله ليوفينهم: {رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} أي جزاء أعمالهم من إيمان وجحود وحسن وقبيح.
بعكس الأولى: أبو بكر، مخففان: مكي ونافع على إعمال المخففة عمل الثقيلة اعتبارًا لأصلها الذي هو التثقيل، ولأن إن تشبه الفعل والفعل يعمل قبل الحذف وبعده نحو لم يكن ولم يك فكذا المشبه به مشددتان غيرهم وهو مشكل.
وأحسن ما قيل فيه أنه من لممت الشيء جمعته لمَّا، ثم وقف فصار لما ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، وجاز أن يكون مثل الدعوى والثروى وما نفيه ألف التأنيث من المصادر.
وقرأ الزهري: {وإن كلا لما} بالتنوين كقوله: {أَكْلًا لَّمًّا} [الفجر: 19] وهو يؤيد ما ذكرنا والمعنى، وإن كلًا ملمومين أي مجموعين كأنه قيل: وإن كلًا جميعًا كقوله: {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] وقال صاحب الإيجاز: لما فيه معنى الظرف وقد دخل في الكلام اختصار كأنه قيل: وإن كلًا لما بعثوا ليوفينهم ربك أعمالهم.
وقال الكسائي: ليس لي بتشديد لما علم.
{إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
{فاستقم كَمَا أُمِرْتَ} فاستقم استقامة مثل الاستقامة التي أمرت بها غير عادل عنها: {وَمَن تَابَ مَعَكَ} معطوف على المستتر في: {استقم} وجاز للفاصل يعني فاستقم أنت وليستقم من تاب عن الكفر ورجع إلى الله مخلصًا: {وَلاَ تَطْغَوْاْ} ولا تخرجوا عن حدود الله: {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فهو مجازيكم فاتقوه.
قيل: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية كانت أشق عليه من هذه الآية ولهذا قال: «شيبتني هود»: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ} ولا تميلوا.
قال الشيخ رحمه الله: هذا خطاب لأتباع الكفرة أي لا تركنوا إلى القادة والكبراء في ظلمهم وفيما يدعونكم إليه: {فَتَمَسَّكُمُ النار} وقيل: الركون إليهم الرضا بكفرهم.
وقال قتادة: ولا تلحقوا بالمشركين.
وعن الموفق أنه صلى خلف الإمام فلما قرأ هذه الآية غشي عليه فلما أفاق قيل له فقال: هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم! وعن الحسن جعل الله الدين بين لاءين: {ولا تطغوا}، {ولا تركنوا} وقال سفيان: في جهنم وادٍ لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك.
وعن الأوزاعي: ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملًا.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه». ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برّية هل يسقى شربة ماء فقال: لا، فقيل له: يموت قال: دعه يموت: {وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء} حال من قوله: {فتمسكم النار} أي فتمسكم النار وأنتم على هذه الحالة، ومعناه وما لكم من دون الله من أولياء يقدرون على منعكم من عذابه ولا يقدر على منعكم منه غيره: {ثم لا تنصرون} ثم لا ينصركم هو لأنه حكم بتعذيبكم. ومعنى ثم الاستبعاد أي النصرة من الله مستبعدة.
{وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار} غدوة وعشية: {وَزُلَفًا مِّنَ الليل} وساعات من الليل جمع زلفة وهي ساعاته القريبة من آخر النهار من أزلفه إذا قربه.
وصلاة الغدوة الفجر، وصلاة العشية الظهر والعصر لأن ما بعد الزوال عشي، وصلاة الزلف المغرب والعشاء، وانتصاب: {طرفي النهار} على الظرف لأنهما مضافان إلى الوقت كقولك أقمت عنده جميع النهار وأتيته نصف النهار وأوله وآخره.
تنصب هذا كله على إعطاء المضاف حكم المضاف إليه: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبنَ السيئات} إن الصلوات الخمس يذهبن الذنوب وفي الحديث: «إن الصلوات الخمس تكفر ما بينها من الذنوب». أو الطاعات.
قال عليه السلام: «أتبع السيئة الحسنة تمحها» أو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر: {ذلك} إشارة إلى: {فاستقم} فما بعده أو القرآن: {ذكرى لِلذكِرِينَ} عظة للمتعظين.
نزلت في عمرو بن غزية الأنصاري بائع التمر قال لامرأة: في البيت تمر أجود فدخلت فقبلها فندم فجاءه حاكيًا باكيًا فنزلت فقال عليه السلام: «هل شهدت معنا العصر» قال: نعم.
قال: «هي كفارة لك» فقيل: أله خاصة؟ قال: «بل للناس عامة»: {واصبر} على امتثال ما أمرت به والانتهاء عما نهيت عنه فلا يتم شيء منه إلا به: {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} جاء بما هو مشتمل على جميع الأوامر والنواهي من قوله: {فاستقم} إلى قوله: {واصبر} وغير ذلك من الحسنات.
{فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ} فهلا كان وهو موضوع للتحضيض ومخصوص بالفعل: {أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ} أولوا فضل وخير، وسمي الفضل والجود بقية لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فصار مثلًا في الجودة والفضل.
ويقال: فلان من بقية القوم أي من خيارهم، ومنه قولهم: في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا: {يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد في الأرض} عجب محمدًا عليه السلام وأمته أن لم يكن في الأمم التي ذكر الله إهلاكهم في هذه السورة جماعة من أولىِ العقل والدين ينهون غيرهم عن الكفر والمعاصي: {إِلاَّ قَلِيلًا مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} استثناء منقطع أي ولكن قليلًا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي.
ومن في: {ممن أنجينا} للبيان لا للتبعيض لأن النجاة للناهين وحدهم بدليل قوله: {أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ} [الأعراف: 165]: {واتبع الذين ظَلَمُواْ} أي التاركون للنهي عن المنكر، وهو عطف على مضمر أي قليلًا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد واتبع الذين ظلموا شهواتهم فهو عطف على نهوا: {مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ} أي أتبعوا ما عرفوا فيه التنعم والترفه من حب الرياسة والثروة وطلب أسباب العيش الهنيء، ورفضوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونبذوه وراء ظهورهم: {وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} اعتراض وحكم عليهم بأنهم قوم مجرمون: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى} اللام لتأكيد النفي: {بِظُلْمٍ} حال من الفاعل أي لا يصح أن يهلك الله القرى ظالمًا لها: {وَأَهْلُهَا} قوم: {مُصْلِحُونَ} تنزيهًا لذاته عن الظلم.
وقيل: الظلم الشرك أي لا يهلك القرى بسبب شرك أهلها وهم مصلحون في المعاملات فيما بينهم لا يضمون إلى شركهم فسادًا آخر: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} أي متفقين على الإيمان والطاعات عن اختيار ولكن لم يشأ ذلك.
وقالت المعتزلة: وهي مشيئة قسر، وذلك رافع للابتداء فلا يجوز: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} في الكفر والإيمان أي ولكن شاء أن يكونوا مختلفين لما علم منهم اختيار ذلك.
{إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} إلا ناسًا عصمهم الله عن الاختلاف فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه: {ولذلك خَلَقَهُمْ} أي ولما هم عليه من الاختلاف فعندنا خلقهم للذي علم أنهم سيصيرون إليه من اختلاف أو اتفاق ولم يخلقهم لغير الذي علم أنهم سيصيرون إليه، كذا في شرح التأويلات: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ} وهي قوله للملائكة: {لأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} لعلمه بكثرة من يختار الباطل.
{وَكُلًا} التنوين فيه عوض من المضاف إليه كأنه قيل: وكل نبأ وهو منصوب بقوله: {نَقُصُّ عَلَيْكَ} وقوله: {مِنْ أَنْبَاء الرسل} بيان لكل وقوله: {مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} بدل من: {كلا}، {وَجَاءكَ في هذه الحق} أي في هذه السورة أو في هذه الأنباء المقتصة ما هو حق: {وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} ومعنى تثبيت فؤاده زيادة يقينه لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب: {وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} من أهل مكة وغيرهم: {اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} على حالكم وجهتكم التي أنتم عليها: {إِنَّا عَامِلُونَ} على مكانتنا: {وانتظروا} بنا الدوائر: {إِنَّا مُنتَظِرُونَ} أن ينزل بكم نحو ما اقتص الله تعالى من النقم النازلة بأشباهكم: {وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض} لا تخفى عليه خافية مما يجري فيهما فلا تخفى عليه أعمالكم: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ} فلابد أن يرجع إليه أمرهم وأمرك فينتقم لك منهم.
{يُرجع} نافع وحفص: {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} فإنه كافيك وكافلك: {وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} وبالتاء: مدني وشامي وحفص، أي أنت وهم على تغليب المخاطب.
قيل: خاتمة التوراة هذه الآية وفي الحديث: «من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله تعالى». اهـ.

.قال البيضاوي في الآيات السابقة:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بآياتنا} بالتوراة أو المعجزات: {وسلطان مُّبِينٍ} وهو المعجزات القاهرة أو العصا، وإفرادها بالذكر لأنها أبهرها، ويجوز أن يراد بهما واحد أي: ولقد أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا وسلطانًا له على نبوته واضحًا في نفسه أو موضحًا إياها، فإن أبان جاء لازمًا ومتعديًا، والفرق بينهما أن الآية تعم الأمارة، والدليل القاطع والسلطان يخص بالقاطع والمبين يخص بما فيه جلاء.
{إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} فاتبعوا أمره بالكفر بموسى أو فما تبعوا موسى الهادي إلى الحق المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة، واتبعوا طريقة فرعون المنهمك في الضلال والطغيان الداعي إلى ما لا يخفى فساده على من له أدنى مسكة من العقل لفرط جهالتهم وعدم استبصارهم: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} مرشد أو ذي رشد، وإنما هو غي محض وضلال صريح.
{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة} إلى النار كما كان يقدمهم في الدنيا إلى الضلال يقال قدم بمعنى تقدم: {فَأَوْرَدَهُمُ النار} ذكره بلفظ الماضي مبالغة في تحقيقه ونزل النار لهم منزلة الماء فسمى إتيانها موردًا ثم قال: {وَبِئْسَ الورد المورود} أي بئس المورد الذي وردوه فإنه يراد لتبريد الأكباد وتسكين العطش والنار بالضد، والآية كالدليل على قوله: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} فإن من كان هذه عاقبته لم يكن في أمره رشد، أو تفسير له على أن المراد بالرشيد ما يكون مأمون العاقبة حميدها.
{وَأُتْبِعُواْ في هذه} الدنيا: {لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة} أي يلعنون في الدنيا والآخرة: {بِئْسَ الرفد المرفود} بئس العون المعان أو العطاء المعطى، وأصل الرفد ما يضاف إلى غيره ليعمده، والمخصوص بالذم محذوف أي رفدهم وهو اللعنة في الدارين.
{ذلك} أي ذلك النبأ: {مِنْ أَنْبَاء القرى} المهلكة: {نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} مقصوص عليك: {مِنْهَا قَائِمٌ} من تلك القرى باق كالزرع القائم: {وَحَصِيدٌ} ومنها عافي الأثر كالزرع المحصود، والجملة مستأنفة وقيل حال من الهاء في نقصه وليس بصحيح إذ لا واو ولا ضمير.
{وَمَا ظلمناهم} بإهلاكنا إياهم: {ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بأن عرضوها له بارتكاب ما يوجبه: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ} فما نفعتهم ولا قدرت أن تدفع عنهم بل ضرتهم: {آلِهَتُهُمُ التى يَدْعُونَ مِن دُونِ الله مِن شَئ لَّمَّا جَاء أَمْرُ رَبّكَ} حين جاءهم عذابه ونقمته: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} هلاك أو تخسير.
{وكذلك} ومثل ذلك الأخذ: {أَخْذُ رَبّكَ} وقرئ: {أَخْذُ رَبّكَ} بالفعل وعلى هذا يكون محل الكاف النصب على المصدر: {إِذَا أَخَذَ القرى} أي أهلها وقرئ {إِذ} لأن المعنى على المضي: {وَهِىَ ظالمة} حال من: {القرى} وهي في الحقيقة لأهلها لكنها لما أقيمت مقامه أجريت عليها، وفائدتها الإِشعار بأنهم أخذوا بظلمهم وإنذار كل ظالم ظلم نفسه، أو غيره من وخامة العاقبة: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} وجيع غير مرجو الخلاص منه، وهو مبالغة في التهديد والتحذير.
{إِنَّ في ذَلِكَ} أي فيما نزل بالأمم الهالكة أو فيما قصه الله تعالى من قصصهم: {لآيَةً} لعبرة: {لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة} يعتبر به عظمته لعلمه بأن ما حاق بهم أنموذج مما أعد الله للمجرمين في الآخرة، أو ينزجر به عن موجباته لعلمه بأنها من إله مختار يعذب من يشاء ويرحم من يشاء. فإن من أنكر الآخرة وأحال فناء هذا العالم لم يقل بالفاعل المختار، وجعل تلك الوقائع لأسباب فلكية اتفقت في تلك الأيام لا لذنوب المهلكين بها: {ذلك} إشارة إلى يوم القيامة وعذاب الآخرة دل عليه: {يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس} أي يجمع له الناس، والتغيير للدلالة على ثبات معنى الجمع لليوم وأنه من شأنه لا محالة وأن الناس لا ينفكون عنه فهو أبلغ من قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع} ومعنى الجمع له الجمع لما فيه من المحاسبة والمجازاة: {وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} أي مشهود فيه أهل السموات والأرضين فاتسع فيه بإجراء الظرف مجرى المفعول به كقوله:
في مَحفَلِ مِنْ نَوَاصِي النَّاس مَشْهُود