فصل: قال نظام الدين النيسابورى في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أي كثير شاهدوه، ولو جعل اليوم مشهودًا في نفسه لبطل الغرض من تعظيم اليوم وتمييزه فإن سائر الأيام كذلك.
{وَمَا نُؤَخّرُهُ} أي اليوم: {إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ} إلا لانتهاء مدة معدودة متناهية على حذف المضاف وإرادة مدة التأجيل كلها بالأجل لا منتهاها فإنه غير معدود.
{يَوْمَ يَأْتِى} أي الجزاء أو اليوم كقوله: {أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة} على أن: {يَوْمٍ} بمعنى حين أو الله عز وجل كقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ} ونحوه. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: {يَأْتِ} بحذف الياء اجتزاء عنها بالكسر: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ} لا تتكلم بما ينفع وينجي من جواب أو شفاعة، وهو الناصب للظرف ويحتمل نصبه بإضمار اذكر أو بالانتهاء المحذوف: {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} إلا بإذن الله كقوله: {لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} وهذا في موقف وقوله: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} في موقف آخر أو المأذون فيه هي الجوابات الحقة والممنوع عنه هي الأعذار الباطلة: {فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ} وجبت له النار بمقتضى الوعيد: {وَسَعِيدٌ} وجبت له الجنة بموجب الوعد الضمير لأهل الموقف وإن لم يذكر لأنه معلوم مدلول عليه بقوله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ} أو للناس.
{فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِى النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} الزفير إخراج النفس والشهيق رده، واستعمالها في أول النهيق وآخره والمراد بهما الدلالة على شدة كربهم وغمهم وتشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه وانحصر فيه روحه، أو تشبيه صراخهم بأصوات الحمير وقرئ: {شَقُواْ} بالضم.
{خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض} ليس لارتباط دوامهم في النار بدوامهما فإن النصوص دالة على تأبيد دوامهم وانقطاع دوامهما. بل التعبير عن التأبيد والمبالغة بما كانت العرب يعبرون به عنه على سبيل التمثيل، ولو كان للارتباط لم يلزم أيضًا من زوال السموات والأرض زوال عذابهم ولا من دوامه دوامهما إلا من قبيل المفهوم، لأن دوامهما كالملزوم لدوامه، وقد عرفت أن المفهوم لا يقاوم المنطوق. وقيل المراد سموات الآخرة وأرضها ويدل عليه قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} وإن أهل الآخرة لابد لهم من مظل ومقل، وفيه نظر لأنه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده ودوامه، ومن عرفه فإنما يعرفه بما يدل على دوام الثواب والعقاب فلا يجدي له التشبيه: {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} استثناء من الخلود في النار لأن بعضهم وهم فساق الموحدين يخرجون منها، وذلك كاف في صحة الاستثناء لأن زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض، وهم المراد بالاستثناء الثاني فإنهم مفارقون عن الجنة أيام عذابهم، فإن التأبيد من مبدأ معين ينتقض باعتبار الابتداء كما ينتقض باعتبار الانتهاء، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم، ولا يقال فعلى هذا لم يكن قوله: {فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ} تقسيمًا صحيحًا لأن من شرطه أن تكون صفة كل قسم منتفية عن قسيمه، لأن ذلك الشرط حيث التقسيم لانفصال حقيقي أو مانع من الجمع وها هنا المراد أن أهل الموقف لا يخرجون عن القسمين، وأن حالهم لا يخلو عن السعادة والشقاوة وذلك لا يمنع اجتماع الأمرين في شخص باعتبارين، أو لأن أهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير وغيره من العذاب أحيانًا، وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى من الجنة كالاتصال بجناب القدس والفوز برضوان الله ولقائه، أو من أصل الحكم والمستثنى زمان توقفهم في الموقف للحساب لأن ظاهره يقتضي أن يكونوا في النار حين يأتي اليوم، أو مدة لبثهم في الدنيا والبرزخ إن كان الحكم مطلقًا غير مقيد باليوم، وعلى هذا التأويل يحتمل أن يكون الاستثناء من الخلود على ما عرفت.
وقيل هو من قوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} وقيل إلا هاهنا بمعنى سوى كقولك على ألف إلا الألفان القديمان والمعنى سوى ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها على مدة بقاء السموات والأرض: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ} من غير اعتراض.
{وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِى الجنة خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} غير مقطوع، وهو تصريح بأن الثواب لا ينقطع وتنبيه على أن المراد من الاستثناء في الثواب ليس الانقطاع، ولأجله فرق بين الثواب والعقاب بالتأبيد. وقرأ حمزة والكسائي وحفص: {سُعِدُواْ} على البناء للمفعول من سعده الله بمعنى أسعده، و: {عَطَاء} نصب على المصدر المؤكد أي أعطوا عطاء أو الحال من الجنة.
{فَلاَ تَكُ في مِرْيَةٍ} شك بعد ما أنزل عليك من مآل أمر الناس: {مّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء} من عبادة هؤلاء المشركين في أنها ضلال مؤد إلى مثل ما حل بمن قبلهم ممن قصصت عليك سوء عاقبة عبادتهم، أو من حال ما يعبدونه في أنه يضر ولا ينفع: {مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ ءابَاؤهُم مّن قَبْلُ} استئناف معناه تعليل النهي عن المرية أي هم وآباؤهم سواء في الشرك، أي ما يعبدون عبادة إلا كعبادة آبائهم أو ما يعبدون شيئًا إلا مثل ما عبدوه من الأوثان، وقد بلغك ما لحق آباءهم من ذلك فسيلحقهم مثله، لأن التماثل في الأسباب يقتضي التماثل في المسببات، ومعنى: {كَمَا يَعْبُدُ} كما كان يعبد فحذف للدلالة من قبل عليه: {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ} حظهم من العذاب كآبائهم، أو من الرزق فيكون عذرًا لتأخير العذاب عنهم مع قيام ما يوجبه: {غَيْرَ مَنقُوصٍ} حال من النصيب لتقييد التوفية فإنك تقول: وفيته حقه وتريد به وفاء بعضه ولو مجازًا.
{وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ} فآمن به قوم وكفر به قوم كما اختلف هؤلاء في القرآن: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ} يعني كلمة الإِنظار إلى يوم القيامة: {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} بإنزال ما يستحقه المبطل ليتميز به عن المحق.
{وَإِنَّهُمْ} وإن كفار قومك: {لَفِى شَكّ مّنْهُ} من القرآن: {مُرِيبٍ} موقع في الريبة.
{وَإِنَّ كُلًا} وإن كل المختلفين المؤمنين منهم والكافرين، والتنوين بدل من المضاف إليه. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر بالتخفيف مع الإِعمال اعتبارًا للأصل: {لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} اللام الأولى موطئة لقسم والثانية للتأكيد أو بالعكس وما مزيدة بينهما للفصل. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: {لَّمًّا} بالتشديد على أن أصله لمن ما فقلبت النون ميمًا للادغام، فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت أولاهن، والمعنى لمن الذين يوفينهم ربك جزاء أعمالهم. وقرئ لما بالتنوين أي جميعًا كقوله: {أَكْلًا لَّمًّا}، {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا} على إن: {إن} نافية و: {لَّمًّا} بمعنى إلا وقد قرئ به: {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فلا يفوته شيء منه وإن خفي.
{فاستقم كَمَا أُمِرْتَ} لما بين أمر المختلفين في التوحيد والنبوة، وأطنب في شرح الوعد والوعيد أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستقامة مثل ما أمر بها وهي شاملة للاستقامة في العقائد كالتوسط بين التشبيه والتعطيل بحيث يبقى العقل مصونًا من الطرفين، والأعمال من تبليغ الوحي وبيان الشرائع كما أنزل، والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط وإفراط مفوت للحقوق ونحوها وهي في غاية العسر ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «شيبتني هود».
{وَمَن تَابَ مَعَكَ} أي تاب من الشرك والكفر وآمن معك، وهو عطف على المستكن في استقم وإن لم يؤكد بمنفصل لقيام الفاصل مقامه: {وَلاَ تَطْغَوْاْ} ولا تخرجوا عما حد لكم: {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فهو مجازيكم عليه، وهو في معنى التعليل للأمر والنهي. وفي الآية دليل على وجوب اتباع النصوص من غير تصرف وانحراف بنحو قياس واستحسان.
{وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ} ولا تميلوا إليهم أدنى ميل فإن الركون هو الميل اليسير كالتزيي بزيهم وتعظيم ذكرهم واستدامته: {فَتَمَسَّكُمُ النار} بركونكم إليهم وإذا كان الركون إلى من وجد منه ما يسمى ظلمًا كذلك فما ظنك بالركون إلى الظالمين أي الموسومين بالظلم، ثم بالميل إليهم كل الميل، ثم بالظلم نفسه والانهماك فيه، ولعل الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم والتهديد عليه، وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بها للتثبيت على الاستقامة التي هي العدل، فإن الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفي إفراط وتفريط فإنه ظلم على نفسه أو غيره بل ظلم في نفسه. وقرئ: {تِرْكَنُواْ} {فَتِمَسَّكُمُ} بكسر التاء على لغة تميم و: {تَرْكَنُواْ} على البناء للمفعول من أركنه: {وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء} من أنصار يمنعون العذاب عنكم والواو للحال: {ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} أي ثم لا ينصركم الله إذ سبق في حكمه أن يعذبكم ولا يبقي عليكم، وثم لاستبعاد نصره إياهم وقد أوعدهم بالعذاب عليه وأوجبه لهم، ويجوز أن يكون منزلًا منزلة الفاء لمعنى الاستبعاد، فإنه لما بين أن الله معذبهم وأن غيره لا يقدر على نصرهم أنتج ذلك أنهم لا ينصرون أصلًا.
{وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار} غدوة وعشية وانتصابه على الظرف لأنه مضاف إليه: {وَزُلَفًا مِّنَ اليل} وساعات منه قريبة من النهار، فإنه من أزلفه إذا قربه وهو جمع زلفة، وصلاة الغداة صلاة الصبح لأنها أقرب الصلاة من أول النهار، وصلاة العشية صلاة العصر، وقيل الظهر والعصر لأن ما بعد الزوال عشي وصلاة الزلف المغرب والعشاء. وقرئ {زُلُفا} بضمتين وضمة وسكون كبسر وبسر في بسرة و: {زلفى} بمعنى زلفة كقربي وقربة: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} يكفرنها. وفي الحديث: «إن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر». وفي سبب النزول «أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني قد أصبت من امرأة غير أني لم آتها فنزلت»: {ذلك} إشارة إلى قوله: {فاستقم} وما بعده وقيل إلى القرآن: {ذكرى لِلذكِرِينَ} عظة للمتعظين.
{واصبر} على الطاعات وعن المعاصي: {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} عدول عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود ودليلًا على أن الصلاة والصبر إحسان وإيماء بأنه لا يعتد بهما دون الإِخلاص.
{فَلَوْلاَ كَانَ} فهلا كان: {مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ} من الرأي والعقل، أو أولو فضل وإنما سمي: {بَقِيَّتُ} لأن الرجل يستبقي أفضل ما يخرجه، ومنه يقال فلان من بقية القوم أي من خيارهم، ويجوز أن يكون مصدرًا كالتقية أي ذوو إبقاء على أنفسهم وصيانة لها من العذاب، ويؤيده أنه قرئ: {بَقِيَّتُ} وهي المرة من مصدر بقاه يبقيه إذا راقبه: {يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد في الأرض إِلاَّ قَلِيلًا مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} لكن قليلًا منهم أنجيناهم لأنهم كانوا كذلك، ولا يصح اتصاله إلا إذا جعل استثناء من النفي اللازم للتحضيض: {واتبع الذين ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ} ما أنعموا فيه من الشهوات واهتموا بتحصيل أسبابها وأعرضوا عما وراء ذلك: {وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} كافرين كأنه أراد أن يبين ما كان السبب لاستئصال الأمم السالفة، وهو فشو الظلم فيهم واتباعهم للهوى وترك النهي عن المنكرات مع الكفر، وقوله واتبع على معطوف مضمر دل عليه الكلام إذ المعنى: فلم ينهوا عن الفساد واتبع الذين ظلموا وكانوا مجرمين عطف على: {أَتَّبِعُ} أو اعترض. وقرئ {واتبع} أي وأتبعوا جزاء ما أترفوا فتكون الواو للحال، ويجوز أن تفسر به المشهورة ويعضده تقدم الإِنجاء.
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ} بشرك: {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} فيما بينهم لا يضمون إلى شركهم فسادًا وتباغيًا، وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه ومن ذلك قدم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقوق العباد.
وقيل الملك يبقى مع الشرك ولا يبقى مع الظلم.
{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} مسلمين كلهم، وهو دليل ظاهر على أن الأمر غير الإِرادة وأنه تعالى لم يرد الإِيمان من كل أحد وأن ما أراده يجب وقوعه: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل لا تكاد تجد اثنين يتفقان مطلقًا.
{إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} إلا ناسًا هداهم الله من فضله فاتفقوا على ما هو أصول دين الحق والعمدة فيه: {ولذلك خَلَقَهُمْ} إن كان الضمير ل: {الناس} فالإِشارة إلى الاختلاف، واللام للعاقبة أو إليه وإلى الرحمة، وإن كان لمن فإلى الرحمة: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ} وعيد أو قوله للملائكة: {لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس} أي من عصاتهما: {أَجْمَعِينَ} أو منهما أجمعين لا من أحدهما.
{وَكُلًا} وكل نبأ: {نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرسل} نخبرك به: {مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} بيان لكلا أو بدل منه، وفائدته التنبيه على المقصود من الاقتصاص وهو زيادة يقينه وطمأنينة قلبه وثبات نفسه على أداء الرسالة واحتمال أذى الكفار، أو مفعول: {وَكُلًا} منصوب على المصدر بمعنى كل نوع من أنواع الاقتصاص نقص عليك ما نثبت به فؤادك من أنباء الرسل: {وَجَاءكَ في هذه} السورة أو الأنباء المقتصة عليك: {الحق} ما هو حق: {وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} إشارة إلى سائر فوائده العامة.
{وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} على حالكم: {إِنَّا عَامِلُونَ} على حالنا.
{وانتظروا} بنا الدوائر: {إِنَّا مُنتَظِرُونَ} أن ينزل بكم نحو ما نزل على أمثالكم.
{وَللَّهِ غَيْبُ السموات والأرض} خاصة لا يخفى عليه خافية مما فيهما: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ} فيرجع لا محالة أمرهم وأمرك إليه. وقرأ نافع وحفص و{يُرْجَعُ} على البناء للمفعول: {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} فإنه كافيك. وفي تقديم الأمر بالعبادة على التوكل تنبيه على أنه إنما ينفع العابد: {وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} أنت وهم فيجازي كلًا ما يستحقه. وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالياء هنا وفي آخر النمل. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابورى في الآيات السابقة:

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)} إلى قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)}
التفسير:
{إن في ذلك} الذي قصصنا عليك من أحوال الأمم: {لآية} لعبرة: {لمن خاف} أي لمن هو أهل لأن يخاف: {عذاب الآخرة} كقوله: {هدى للمتقين} [البقرة: 2] لأن انتفاعه يعود إليهم. قال القفال- في تقرير هذا الاعتبار: إنه إذاعلم أن هؤلاء عذبوا على ذنوبهم في الدنيا وهي دار العمل فلأن يعذبوا عليها في الآخرة التي هي دار الجزاء أولى. واعترض عليه في التفسير الكبير بأن ظاهر الآية يقتضي أن العلم بأن القيامة حق كالشرط في حصول الاعتبار بظهور عذاب الاستئصال في الدنيا. والقفال جعل الأمر على العكس قال: والأصوب عندي أن هذا تعريض لمن زعم أن إله العالم موجب بالذات لا فاعل مختار، وأن هذه الأحوال التي ظهرت في أيام الأنبياء عليهم السلام مثل الغرق والخسف والصيحة إنما حدثت بسبب قرانات الكواكب، وإذا كان كذلك فلا يكون حصولها دليلًا على صدق الأنبياء عليهم السلام.
أما الذي يؤمن بالقيامة ويخاف عذابها فيقطع بأن هذه الوقائع ليست بسبب الكواكب واتصالاتها فيستفيد مزيد الخشية والاعتبار. أقول: وهذا نظر عميق والأظهر ما ذكرت أوّلًا ومثله في القرآن كثير: {إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} [النازعات: 26]: {إن في ذلك لآية لقوم يذكرون} [النحل: 13] ثم لما كان لعذاب الآخرة دلالة على يوم القيامة أشار إليه بقوله: {ذلك يوم مجموع} أي يجمع لما فيه من الحساب والثواب والعقاب: {الناس} وأوثر اسم المفعول على فعله لأجل إفادة الثبات وأن حشر الأولين والآخرين فيه صفة له لازمة نظيره قول المتهدد: إنك لمنهوب مالك محروب قومك. فيه من تمكن الوصف وثباته ما ليس في الفعل: {وذلك يوم مشهود} أي مشهود فيه الخلائق فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به. والفرق بين هذا الوصف والوصف الأول أن هذا يدل على حضور الناس فيه مع اطلاع البعض منهم على أحوال الباقين من المحاسبة والمساءلة ليس بحيث لا يعرف كل واحد إلا واقعة نفسه. والجمع المطلق لا يفيد هذ المعنى وإنما فسرنا اليوم بأنه مشهود فيه لا أنه مشهود في نفسه لأن سائر الأيام تشركه في كونها مشهودات. وإنما يحصل التمييز بأنه مشهود فيه دون غيره كما تميز يوم الجمعة عن أيام الأسبوع بكونه مشهودًا فيه دونها: {وما نؤخره إلا} لانتهاء: {لأجل معدود} أي انقضاء مدة معلومة عيَّن الله وقوع الجزاء بعدها وفيه فائدتان: إحداهما أن وقت القيامة متعين لا يتقدم ولا يتأخر، والثانية أن ذلك الأجل متناهٍ وكل منتاهٍ فإنه يفنى لا محالة وكل آتٍ قريب. ثم ذكر بعض أهوال ذلك اليوم فقال: {يوم يأت} حذف الياء والاكتفاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل، وفاعل: {يأتي} قيل: الله كقوله: {أو يأتي ربك} [الأنعام: 158] أي أمره أو حكمه دليله قراءة من قرأ: {وما يؤخره} بالياء وقوله: {بإذنه}. وقيل: المراد الشيء المهيب الهائل المستعظم فحذف ذكره بتعيينه ليكون أقوى في التخويف. وقيل: فاعله ضمير اليوم والمراد إتيان هوله وشدائده كيلا يصير اليوم ظرفًا لإتيان اليوم. وانتصاب: {يوم} ب: {لا تكلم} أو باذكر مضمرًا أو بالانتهاء المقدر أي ينتهي الأجل يوم يأتي وتاء التأنيث محذوفة من لا تكلم، والآيات الدالة على التكلم في ذلك اليوم مع الآيات الدالة على نفي التكلم كقوله تعالى: {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} [النحل: 111] وكقوله: {هذا يوم لا ينطقون} [المرسلات: 35] محمولة على اختلاف المواطن والأزمنة، أو نفى العذر الصحيح المقبول وأثبت العذر الباطل الكاذب. ثم قسم أهل الموقف المجموعتين للحساب أو الأفراد العامة التي دلت عليها نفس فقال: {فمنهم شقي وسعيد} أي ومنه سعيد. ولا خلاف في أن الشقاء والسعادة مقترنان بالعمل الفاسد والعمل الصالح ويترتب عليهما الجنة والنار في الآخرة، وإنما النزاع في أن العمل سبب للشقاء مثلًا كما هو مذهب المعتزلة، أو الشقاء سبب العمل كما هو مذهب أهل السنة، فيختلف تفسير الشقاء بحسب المذهبين فهو عند المعتزلة الحكم بوجوب النار له لإساءته، وعند السني جريان القلم عليه في الأزل بأنه من أهل النار وأنه يعمل عمل أهل النار والتحقيق في المسألة قد مر مرارًا.