فصل: قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال: ولو جعلته متصلًا على ما عليه ظاهر الكلام كان المعنى فاسدًا لأنه يكون تحضيضًا لأولي البقية على النهي عن الفساد إلا للقليل من الناجين منهم كما تقول: هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم. تريد استثناء الصلحاء من المحضضين على قراءة القرآن: أقول: لم لا يجوز أن يكون المراد من استثناء الصلحاء منهم أنه لا حاجة لهم إلى التحضيض كأنك قلت: أحضض قومك على القراءة إلا الصلحاء فإنهم لا يحتاجون إلى ذلك لأنهم مواظبون عليها، على أن في جعل الاستثناء منقطعًا شبه تناقض، لأن أول الكلام يدل على أنه لم يكن فيهم ناهٍ وآخره يدل على أن القليل منهم قد نهوا فتأمل في هذا المقام فإنه من مزلة الأقدام. السبب الثاني. في نزول العذاب قوله: {واتبع الذين ظلموا ما أترفوا} ما غرقوا: {فيه} من التنعيم والتترف من حيث الرياسة والثروة وأسباب العيش الهنيّ ورفضوا ما وراء ذلك مما يتعلق بأمر الدين، فهذه الجملة معطوفة على مدلول الجملة التحضيضية أي ما كان من القرون ناس كذا واتبع الظالمون كذا. ويجوز أن يكون في الكلام إضمار والواو للحال كأنه قيل: أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاء إترافهم. والمترف الذي أبطرته النعمة، وصبي مترف منعم البدن. وقوله: {وكانوا مجرمين} إما معترضة وإما معطوف على: {اتبع} أي وكانوا مجرمين بذلك، أو على: {أترفوا} أي اتبعوا الإتراف. وكونهم مجرمين لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام، أو أريد بالإجرام إغفالهم للشكر. ثم بين أنه ما ينبغي له سبحانه أن يهلك القرى بظلم. قال أهل السنة: أي بسبب مجرد الشرك والحال أنهم مصلحون في المعاملة والعشرة فيما بينهم، وذلك أن حقوق الله تعالى مبنية على المساهلة بخلاف حقوق العباد، وهذا كما قيل: الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم. ويؤكد هذا التفسير أن عذاب الاستئصال إنما نزل بقوم لوط وشعيب لما حكى الله عنهم من إيذاء الناس والإفساد في الأرض. وقالت المعتزلة قوله: {بظلم} حال من الفاعل والمعنى استحال في الحكمة أن يهلك الله القرى ظالمًا لها وأهلها قوم مصلحون في العمل تنزيهًا لذاته عن الظلم وإيذانًا بأن إهلاك المصلحين ظلم. ثم ذكر أن الكل بمشيئته وإرادته فقال: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة} مهدية. والمعتزلة يحملون هذه المشيئة على مشيئة الإلجاء والقسر وقد مر مرارًا: {ولا يزالون مختلفين} في الأديان والأخلاق والأفعال، فمنهم من أنكر العلوم كلها حتى الحسيات والضروريات وهم السوفسطائية، ومنهم من سلم استنتاج العلوم كلها والمعارف ولم يثبت لهذا العالم الجسماني مبدأ أصلًا وهم الدهرية، ومنهم من أثبت له مبدأ موجبًا بالذات وهم الفلاسفة على ما أشتهر منهم ولهذا المقام تحقيق ليس هاهنا موضع بيانه، ومنهم من أنكر النبوات وهم البراهمة، ومنهم من أثبتها وهم المسلمون والمجوس واليهود والنصارى.
وفي كل واحد من هذه الطوائف اختلافات لا تكاد تدخل تحت الحصر، وإنما لا يحمل الاختلاف في الآية على الاختلاف في الألوان والألسنة والأرزاق والأعمار بل حملناه على الاختلاف في الأديان وما يتعلق بها لأنه ينبو عن ذلك ما قبل الكلام وهو قوله: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة} وما بعده وهو قوله: {إلا من رحم ربك} قالت المعتزلة: إلا ناسًا هداهم الله ولطف بهم فاتفقوا على الدين الحق. وقال أهل السنة: جميع الألطاف التي فعلها في حق المؤمن فهي مفعولة أيضًا في حق الكافر وهذه الرحمة أمر مختص بالمؤمن مرجح لجانب الإيمان وصدوره منه فإذن الإيمان بخلق الله وتكوينه وكذا ضده. ثم قال: {ولذلك خلقهم} فاختلف العلماء في المشار إليه بذلك، فالمعتزلة قالوا: ولذلك من التمكين والاختيار الذي كان منه الاختلاف خلقهم يثيب مختار الحق بحسن اختياره، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره، أو ولما ذكر من الرحمة خلقهم. والأشاعرة قالوا: ولأجل ما ذكر من الاختلاف خلقهم لما صح في الحديث أنه خلق الجنة وخلق لها أهلًا، وخلق النار وخلق لها أهلًا. وللدلائل الدالة على أن الكل بإيجاده وتخليقه وأن خلاف معلومه محال وإلى هذا أشار بقوله: {وتمت كلمة ربك} أي علمه وإرادته أو قوله للملائكة: {لأملأن جهنم} الآية. وفرق المعتزلة بين معلومه ومراده. ثم ذكر طرفًا من فوائد القصص المذكور في السورة فقال: {وكلًا} أي وكل نبأ: {نقص عليك} وقوله: {من أنباء الرسل} بيان لكل و: {ما نثبت} بدل من: {كلًا} أو المراد وكل نوع من الاقتصاص على أنه مصدر أي على الأساليب المختلفة نقص، و: {ما نثبت} مفعول. ومعنى تثبيت فؤاده زيادة اليقين والطمأنينة لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب وأرسخ للعلم، أو المعنى تثبيت قلبه على أداء الرسالة وتحمل الأذى من قومه أسوة بسائر الأنبياء: {وجاءك في هذه} السورة أو في هذه الأنباء: {الحق} وهو البراهين القاطعة الدالة على صحة المبدأ والوسط والمعاد: {وموعظة} وهي الدلائل المقنعة الموقعة للتصديق بقدر الإمكان والأول للخواص أنفع والثاني للعوام أنجع: {وذكرى للمؤمنين} وهي الإرشاد إلى الأعمال الصالحة النافعة في الآخرة المحصلة لما هنالك من السعادة، فإن حسن هذا الدين معلوم لمن رجعل إلى نفسه وعمل بمقتضى تذكره وفكره. واعلم أن المعارف الإلهية لابد لها من قابل وفاعل، وقابلها القلب وإنه ما لم يكن مستعدًا لم يحصل له الانتفاع بسماع الدلائل وورودها عليه فلهذا السبب قدم ذكر إصلاح القلب وعلاجه وهو تثبيت الفؤاد، ثم عقبه بذكر المؤثر الفاعل وهو مجيء هذه السورة بل آية منها وهي قوله: {فاستقم كما أمرت} مشتملة على الحق والموعظة والذكرى، وهذا ترتيب في غاية الحسن.
ثم أمر بالتهديد لمن لم يؤثر فيهم هذه البيانات من أهل مكة وغيرهم فقال: {وقل للذين لا يؤمنون اعملوا} وقد مر تفسير مثله في هذه السورة وفي الأنعام: {وانتظروا} ما يعدكم الشيطان: {إنا منتظرون} ما وعدنا الرحمن من الغفران والإحسان. وعن ابن عباس: انتظروا بنا الدوائر فإنا منتظرون بكم العذاب كما حل بنظرائكم. ثم ختم السورة بآية مشتملة على جميع المطالب من أمر المبدإ والوسط والمعاد وقد سبق تقريره في آخر البقرة في تفسير آية: {آمن الرسول} [البقرة: 285] فلا حاجة إلى الإعادة. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

القصة السابعة: التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة وهي آخر قصصها قصة موسى عليه الصلاة والسلام المذكورة في قوله تعالى: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا} أي: التوراة مع ما فيها من الشرائع والأحكام: {وسلطان مبين} أي: برهان بيّن ظاهر على صدق نبوّته ورسالته وقيل: المراد بالآيات المعجزات وبالسلطان المبين العصا؛ لأنها أظهر الآيات، وذلك لأنّ الله تعالى أعطى موسى تسع آيات بينات وهي العصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونقص من الثمرات والسنين، ومنهم من أبدل نقص الثمرات والسنين بإظلال الجبل وفلق البحر. قال بعض المحققين: سميت الحجة سلطانًا لأنّ صاحب الحجة يقهر من لا حجة له، كالسلطان يقهر غيره، والعلماء سلاطين بسبب كمالهم في القوّة العلمية، والملوك سلاطين بحسب ما معهم من القدرة والمكنة إلا ان سلطنة العلماء أكمل وأقوى من سلطنة الملوك؛ لأنّ سلطنة العلماء لا تقبل النسخ والعزل وسلطنة الملوك تقبلهما ولأنّ سلطنة الملوك تابعة لسلطنة؛ العلماء لأنّ سلطنة العلماء من جنس سلطنة الأنبياء وسلطنة الملوك من جنس سلطنة الفراعنة.
{إلى فرعون} طاغية القبط: {وملئه}، أي: أشراف قومه الذين تتبعهم الأذناب؛ لأنّ القصد الأكبر رفع أيديهم عن بني إسرائيل: {فاتبعوا أمر فرعون}، أي: اتبعوا طريقة فرعون المنهمك في الضلال والطغيان الداعي إلى ما لا يخفى فساده على من له أدنى مسكة من العقل ولم يتبعوا موسى الهادي إلى الحق المؤيد بالمعجزات الظاهرة الباهرة لفرط جهالتهم وعدم استبصارهم: {وما أمر فرعون برشيد}، أي: بسديد ولا حميد العاقبة ولا يدعو إلى خير وقيل: رشيد ذو رشد، وانسلاخ فرعون من الرشد كان ظاهرًا؛ لأنه كان دهريًا نافيًا للصانع والمعاد وكان يقول: لا إله للعالم وإنما يجب على أهل كل بلد أن يشتغلوا بطاعة سلطانهم وعبوديته رعاية لمصلحة العالم، وكل الرشد في عبادة الله تعالى ومعرفته، فلما كان هو نافيًا لهذين الأمرين كان خاليًا من الرشد بالكلية.
{يقدم قومه يوم القيامة} إلى النار كما كان يقدمهم في الدنيا إلى الضلال أو كما تقدم قومه في الدنيا فأدخلهم البحر وأغرقهم فكذا يتقدمهم في القيامة فيدخلهم النار كما قال تعالى: {فأوردهم النار}. فإن قيل: لم لم يقل يقدم قومه فيوردهم النار بل أتى بلفظ الماضي؟
أجيب: بأنه إنما أتى بلفظ الماضي مبالغة في تحققه، ونزل النار له منزلة الماء فسمّى إتيانها موردًا، ولهذا قال تعالى: {وبئس الورد المورود} وردهم لأنّ الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد والنار ضدّه. فإن قيل: لفظ النار مؤنث فكان مقتضى ذلك أن يقال: وبئست الورد المورود؟
أجيب: بأن لفظ الورد مذكر فكان التذكير والتأنيث جائزين كما تقول: نعم المنزل دارك ونعمت المنزل دارك، فمن ذكر غلب المنزل ومن أنث بنى على تأنيث الدار.
{وأتبعوا في هذه}، أي: الدنيا: {لعنة}، أي: طردًا وبعدًا عن الرحمة: {ويوم القيامة}، أي: وأتبعوا يوم القيامة لعنة أخرى فهم ملعونون في الدنيا والآخرة، ونظيره قوله تعالى في سورة القصص: {وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين} (القصص): {بئس الرفد}، أي: العون: {المرفود} رفدهم، سأل رافع بن الأزرق ابن عباس عن ذلك فقال: هو اللعنة بعد اللعنة. وقال قتادة: ترادفت عليهم لعنتان من الله تعالى لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة، وكل شيء جعلته عونًا لشيء فقد رفدته به، وسميت اللعنة عونًا؛ لأنها إذا أتبعتهم في الدنيا أبعدتهم عن الرحمة وأعانتهم على ما هم فيه من الضلال. وسميت رفدًا أي عونًا لهذا المعنى على التهكم كقول القائل: تحية بينهم ضرب وجيع. وسميت معانًا لأنها أردفت في الآخرة بلغة أخرى ليكونا هاديتين إلى طريق الجحيم. ولما ذكر تعالى قصص الأوّلين قال تعالى: {ذلك}، أي: المذكور وهو مبتدأ خبره: {من أنباء القرى}، أي: أخبار أهل القرى وهم الأمم السالفة في القرون الماضية، وقوله تعالى: {نقصه عليك}، أي: نخبرك به يا محمد خبرًا بعد خبر، وفائدة ذكر هذه القصص على النبيّ صلى الله عليه وسلم ليعلم السامع أنّ المؤمن يخرج من الدنيا مع الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة، وأنّ الكافر يخرج مع اللعنة في الدنيا والعقاب في الآخرة، وإذا تكرّرت هذه الأقاصيص على السمع فلابد وأن يلين القلب وتخضع النفس وتزول العداوة ويحصل في القلب خوف يحمله على النظر والاستدلال. وفي أخباره صلى الله عليه وسلم بهذه القصص من غير مطالعة كتب ولا تتملذ دلالة على نبوّته فإنّ ذلك لا يكون إلا بوحي من الله تعالى: {منها}، أي: القرى: {قائم}، أي: باقٍ كالزرع القائم هلك أهله دونه: {و} منها: {حصيد}، أي: عافى الأثر كالزرع المحصود هلك مع أهله.
{وما ظلمناهم}، أي: بإهلاكهم بغير ذنب: {ولكن ظلموا أنفسهم} بالكفر والمعاصي. وقال ابن عباس: يريد وما نقصناهم في الدنيا من النعيم والرزق ولكن نقصوا حظ أنفسهم حيث استخفّوا بحقوق الله تعالى: {فما أغنت}، أي: دفعت: {عنهم آلهتهم}، أي: أصنامهم: {التي يدعون}، أي: يعبدون: {من دون الله}، أي: غيره: {من شيء} أي شيئًا فمن مزيدة: {لما جاء أمر ربك}، أي: عقابه: {وما زادوهم} بعبادتهم: {غير تتبيب}، أي: غير تخسير، وقيل: تدمير، ولما أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه بما فعله بأمم من تقدّم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لما خالفوا الرسل وما ورد عليهم من عذاب الاستئصال وبين أنهم ظلموا أنفسهم فحل بهم العذاب في الدنيا.
قال تعالى بعده: {وكذلك}، أي: ومثل ذلك الأخذ العظيم: {أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي}، أي: القرى: {ظالمة} والمراد أهلها ونظيره قوله تعالى: {وكما أهلكنا من قرية بطرت معيشتها} (القصص). وقوله تعالى: {وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة} (الأنبياء). فبين تعالى أنّ عذابه ليس مقصورًا على من تقدّم، بل الحال في أخذ كل الظالمين يكون كذلك. ولما بيّن تعالى كيفية أخذ الأمم المتقدّمة، ثم بين تعالى أنه إنما يأخذ جميع الظالمين على ذلك الوجه أتبعه بما يزيده تأكيدًا وتقوية بقوله تعالى: {إنّ أخذه أليم}، أي: مؤلم: {شديد}، أي: صعب مفتت القوى. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته». ثم قرأ: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إنّ أخذه أليم شديد}. وفي هذه الآية الكريمة والحديث الشريف دلالة على أن من أقدم على ظلم فإنه يتداركه بالتوبة والإنابة وردّ الحقوق إلى أهلها، إن كان الظلم للغير لئلا يقع في هذا الوعيد العظيم والعذاب الشديد، ولا يظنّ أنّ هذه الآية مختصة بظالمي الأمم الماضية بل هي عامّة في كل ظالم ويعضده الحديث.
{إنّ في ذلك}، أي: ما ذكر من عذاب الأمم الماضية وإهلاكهم: {لآية}، أي: لعبرة وموعظة: {لمن خاف عذاب} يوم الحياة: {الآخرة} لأنه ينظر ما أحلّ الله تعالى بالمجرمين في الدنيا وما هو إلا أنموذج لما أعد لهم في الآخرة، فإذا رأى عظمه وشدّته اعتبر به عظم العذاب الموعود فيكون له عبرة وعظة ولطفًا في زيادة التقوى والخشية من الله تعالى، وقوله: {ذلك} إشارة إلى يوم القيامة؛ لأنّ عذاب الآخرة دل عليه: {يوم مجموع له}، أي: فيه: {الناس}، أي: إنّ خلق الأوّلين والآخرين كلهم يحشرون في ذلك اليوم ويجمعون، ثم وصفه تعالى بوصف آخر بقوله تعالى: {وذلك يوم مشهود}، أي: يشهده أهل السموات وأهل الأرض.
{وما نؤخره}، أي: ذلك اليوم وهو يوم القيامة: {إلا لأجل}، أي: وقت: {معدود}، أي: معلوم محدود وذلك الوقت لا يعلمه إلا الله تعالى.
{يوم يأت} ذلك اليوم: {لا تكلم} فيه حذف إحدى التاءين، أي: لا تتكلم: {نفس إلا بإذنه} تعالى. وقرأ نافع وأبو عمرو والكسائي بإثبات الياء بعد التاء من يأتي وصلًا ووقفًا وحذفها الباقون، وأمّا التاء من تكلم فشدّدها البزي في الوصل وخففها الباقون. فإن قيل: كيف يوفق بين قوله تعالى: {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} (النحل). وقوله تعالى: {هذا يوم ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون}؟
أجيب: بأنّ ذلك اليوم يوم طويل له مواقف ومواطن، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم، وفي بعضها يكفون عن الكلام ولا يؤذن لهم، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون، وفي بعضها يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم: {فمنهم}، أي: الناس: {شقيّ و} منهم: {سعيد}، أي: فمنهم من سبقت له الشقاوة فوجبت له النار بمقتضى الوعيد، ومنهم من سبقت له السعادة فوجبت له الجنة بموجب الوعد، وعن عليَ رضي الله تعالى عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله وبيده مخصرة ثم نكت بها الأرض ساعة، ثم قال: «ما من نفس منفوسة إلا قد كتب مكانها من الجنة أو النار فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أمّا من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ: {فأمّا من أعطى واتقى وصدّق بالحسنى فسنيسره لليسرى} [الليل]... الآية». وبقيع الغرقد هو مقبرة أهل المدينة الشريفة ومدفنهم فيه، والمخصرة كالسوط والعصا مما يمسكه الإنسان بيده، والنكت بالنون والتاء المثناة من فوق ضرب الشيء بتلك المخصرة أو باليد أو نحو ذلك حتى يؤثر فيه.
{فأمّا الذين شقوا} في علمه تعالى: {ففي النار لهم فيها زفير} وهو صوت شديد: {وشهيق} وهو صوت ضعيف. وقيل: الزفير إخراج النفس والشهيق ردّه. وقيل: الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمير بالنهيق، والشهيق بمنزلة آخر صوت الحمار إذا ردّده في صدره. وقيل: الزفير في الحلق والشهيق في الصدر، وعلى كل المراد منهما الدلالة على شدّة كربهم وغمهم: {خالدين فيها} وقوله تعالى: {ما دامت السموات والأرض} فيه وجهان: أحدهما: سموات الآخرة وأرضها وهي مخلوقة دائمة للأبد والدليل على أن لها سموات وأرضًا قوله تعالى: {يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات} (إبراهيم). وقوله تعالى: {وأورثنا الأرض نتبوّأ من الجنة حيث نشاء} (الزمر).، ولأنه لابد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم إمّا سماء يخلقها الله تعالى، أو يظلهم العرش وكل ما أظلك فهو سماء، وكل ما استقرّ قدمك عليه فهو أرض. والوجه الثاني: أنّ المراد مدّة دوامهما في الدنيا: {إلاّ}، أي: غير: {ما شاء ربك} من الزيادة على مدّتهما مما لا منتهى له وذلك هو الخلود فيها أبدًا: {إن ربك فعال لما يريد} من غير اعتراض.
{وأمّا الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} كما تقدّم، ودل عليه قوله تعالى: {عطاء غير مجذوذ}، أي: مقطوع، وقيل الاستثناء في أهل الشقاوة يرجع إلى قوم من الموحدين يدخلهم الله تعالى إلى النار بذنوب اقترفوها ثم يخرجهم منها فيكون ذلك استثناء، وذلك كافٍ في صحة الاستثناء؛ لأنّ زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض من غير الجنس لأنّ الذين أخرجوا من النار سعداء في الحقيقة استثناهم الله تعالى من الأشقياء،. لما روي عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج قوم من النار بالشفاعة»، وفي رواية: «أن الله تعالى يخرج ما شاء من النار فيدخلهم الجنة». وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ليصيبن قومًا سفع من النار بذنوب أصابوها عقوبة ثم يدخلهم الله بفضله ورحمته الجنة» وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة فيسمون الجهنميين». وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: «ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد»، أي: من أهل الكبائر من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم بأن تخلى طبقتهم التي كانوا فيها وإن نازع في ذلك الزمخشري على مذهبه الفاسد من أنّ أهل الكبائر يخلدون في النار، وأمّا الاستثناء في أهل السعادة فيرجع إلى مدّة لبثهم في النار قبل دخولهم الجنة أو أنّ الاستثناء راجع إلى الفريقين فإنهم مفارقوا الجنة أيام عذابهم، وأنّ التأبيد من مبدأ معين ينقص باعتبار الابتداء كما ينقص باعتبار الانتهاء، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم، ولا يقال فعلى هذا لم يكن قوله تعالى: {فمنهم شقيّ وسعيد} تقسيمًا صحيحًا؛ لأنّ شرطه أن تكون صفة كل قسم منتفية عن قسيمه؛ لأنّ ذلك الشرط حيث التقسيم لانفصال حقيقي، أو مانع من الجميع من الجنة والنار، مدّة تعميرهم في الدنيا واحتباسهم في البرزخ وهو ما بين الموت إلى البعث ومدّة وقوفهم للحساب، ثم يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فيكون المعنى خالدين في الجنة والنار إلا هذا المقدار. وقيل: معناه لو شاء ربك لأخرجهم منها ولكنه لا يشاء؛ لأنه تعالى حكم بالخلود. وقال الفراء: هذا الاستثناء استثناه الله تعالى ولا يفعله، كقولك: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وعزيمتك أن تضربه.