فصل: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي مَسَاوِئِ النَّفْسِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْخُلُقِيَّةِ وَسَيِّئَاتِ الْأَعْمَالِ وَالْعَادَاتِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي مَسَاوِئِ النَّفْسِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْخُلُقِيَّةِ وَسَيِّئَاتِ الْأَعْمَالِ وَالْعَادَاتِ:

وَفِيهِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: خَسَارَةُ النَّفْسِ:
أَبْدَأُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ كَانَتْ نَتِيجَةً تَابِعَةً لِمَفَاسِدَ ذُكِرَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَبْلَهَا لِغَفْلَةِ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي عَصْرِنَا عَنْهَا، عَلَى تَكْرَارِ ذِكْرِهَا فِي الْقُرْآنِ، وَانْفِرَادِهِ دُونَ جَمِيعِ كُتُبِ الْعِلْمِ الْبَشَرِيَّةِ وَالسَّمَاوِيَّةِ بِالتَّذْكِيرِ بِهَا، فَقَالَ هُنَا فِي الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِالِافْتِرَاءِ عَلَى اللهِ الصَّادِّينَ عَنْ سَبِيلِهِ يَبْغُونَهَا عِوَجًا، الَّذِينَ فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلِانْتِفَاعِ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} 21 و22 ثُمَّ ذَكَرَ أَضْدَادَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ، وَضَرَبَ لِلْفَرِيقَيْنِ مَثَلَ الْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ، فَكَانَ هَذَا آخِرَ مَا افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ مِنَ الْكَلَامِ فِي رِسَالَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ صلى الله عليه وسلم مَعْنَى هَذِهِ الْخَسَارَةِ هُنَا يُفْهَمُ مِمَّا قَبْلَ الْآيَتَيْنِ وَمَا بَعْدَهُمَا، وَخُلَاصَتُهُ: أَنَّ فِطْرَتَهُمُ الْإِنْسَانِيَّةَ فَسَدَتْ كُلُّهَا فَفَقَدَتِ اسْتِعْدَادَهَا الْخَاصَّ بِهَا إِلَخْ، أَرَأَيْتَ مَنْ خَسِرَ نَفْسَهُ فَأَيُّ شَيْءٍ بَقِيَ لَهُ؟ أَيُغْنِي عَنْهُ رِبْحُ تِجَارَتِهِ وَكَثْرَةُ مَالِهِ وَجَاهُهُ بِالْبَاطِلِ؟ كَلَّا، إِنَّكَ تَفْهَمُ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ الْكَبِيرَةِ الْمُرْعِبَةِ بِاسْتِعْمَالِ عَوَامِّ الْمِصْرِيِّينَ لَهَا مَا لَا تَفْهَمُهُ مِنْ مِثْلِ تَفْسِيرِ الْجَلَالَيْنِ، يَقُولُونَ فِيمَنْ فَسَدَ خُلُقُهُ وَضَاعَ شَرَفُهُ وَصَارَ مَهِينًا مُحْتَقَرًا: فُلَانٌ خَسِرَ- أَيْ ذَهَبَتْ مَزَايَاهُ وَفَضَائِلُهُ حَتَّى لَمْ تَبْقَ لَهُ قِيمَةٌ فِي الْوُجُودِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَقْدُ هِدَايَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَهُمَا أَوَّلُ طُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ:
وَهَذَا مَعْنًى يَغْفُلُ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ أَيْضًا، وَلِذَلِكَ قَرَّرَهُ الْقُرْآنُ كَثِيرًا بِأَسَالِيبَ بَلِيغَةٍ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ قَبْلَ مَسْأَلَةِ خُسْرَانِ النَّفْسِ فِي أَهْلِهَا: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} 20 وَنُكْتَةُ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ فِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَسْمَعُ الْأَصْوَاتَ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ سَمَاعَهَا وَلَمْ يَصْغُ لَهَا، فَالْمُرَادُ هُنَا أَنَّهُمْ لِشِدَّةِ كَرَاهَتِهِمْ أَنْ يَسْمَعُوا آيَاتِ اللهِ وَحُجَجَهُ فِي كِتَابِهِ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ إِلْقَاءَ السَّمْعِ لَهُ إِذَا تُلِيَ، لِئَلَّا يَسْمَعُوهُ فَيُحَوِّلَهُمْ عَمَّا كَانُوا فِيهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} 25: 42 وَلَوْ أَلْقَوُا السَّمْعَ لَمَا سَمِعُوا سَمَاعَ فَهْمٍ وَتَأَمُّلٍ، وَلَوْ سَمِعُوا لَمَا عَقَلُوا وَفَقِهُوا كَمَا وَصَفَهُمْ فِي الْأَنْفَالِ (8: 21- 33) وَقَالَ هُنَا حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ مَدْيَنَ: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} 91 وَكَذَلِكَ مَا كَانُوا يُبْصِرُونَ الْآيَاتِ الْمَرْئِيَّةَ إِذَا هُمْ نَظَرُوا دَلَائِلَهَا وَمِنْهَا رُؤْيَةُ الْمُصْطَفِي صلى الله عليه وسلم وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِمْ: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} 7: 198.
وَوَضَحَ هَذَا بِضَرْبِهِ الْمَثَلَ لَهُمْ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ فِيهِمَا: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ}.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الشَّكُّ وَالِارْتِيَابُ فِي دَعْوَةِ الرُّسُلِ:
وَصَفَ الْقُرْآنُ الْكَفَّارَ بِهَذَا الْجَهْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ: {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} 62 وَمِثْلُهُ فِي قَوْمِ مُوسَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي كِتَابِهِ قَالَ: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} 110 أَكَّدَ شَكَّ قَوْمِ مُوسَى فِي كِتَابِهِمْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَلَكِنَّهُ قَالَ فِي قَوْمِ مُحَمَّدٍ قَبْلَ إِيمَانِهِمْ {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2: 23 إِنَّكُمْ فِي رَيْبٍ مِنْهُ، فَكَذَّبَهُمْ فِي دَعْوَى الرَّيْبِ. وَفِي سَائِرِ السُّوَرِ كَثِيرٌ مِنْ هَذَا فِي الْكَفَّارِ كَوَصْفِهِمْ بِاتِّبَاعِ الظَّنِّ وَبِالْخَرْصِ وَنَفْيِهِ الْعِلْمَ عَنْهُمْ، فَهَذِهِ شَوَاهِدُ فِي وَصْفِ حَالِهِمُ الْعَقْلِيَّةِ وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ قِصَصِهِمْ دَالَّةً عَلَى مُطَالَبَةِ الْإِسْلَامِ النَّاسَ بِالْعِلْمِ وَفِقْهِ الشَّرَائِعِ وَبَرَاهِينِ الْعَقَائِدِ، وَأَنَّى لَهُمْ بِهِ وَالتَّقْلِيدُ يَصُدُّهُمْ عَنِ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ؟!
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: التَّقْلِيدُ:
الْمُرَادُ مِنْهُ اتِّبَاعُ بَعْضِ النَّاسِ لِمَنْ يُعَظِّمُهُ أَوْ يَثِقُ بِهِ أَوْ يُحْسِنُ بِهِ الظَّنَّ فِيمَا لَا يَعْرِفُ أَحَقٌّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ، وَخَيْرٌ هُوَ أَمْ شَرٌّ، وَمَصْلَحَةٌ أَمْ مَفْسَدَةٌ، وَأَصْلُ التَّقْلِيدِ فِي اللُّغَةِ تَحْلِيَةُ الْمَرْأَةِ بِالْقِلَادَةِ، أَوِ الرَّجُلِ بِالسَّيْفِ، أَوِ الْهَدْيِ بِمَا يُعْرَفُ بِهِ (وَهُوَ بِالْفَتْحِ مَا يَهْدِيهِ مُرِيدُ النُّسُكِ إِلَى الْحَرَمِ مِنَ الْأَنْعَامِ) وَتَقْلِيدُهُ: أَنْ يُعَلِّقَ عَلَيْهِ جِلْدَةً أَوْ غَيْرَهَا لِيُعْرَفَ أَنَّهُ هَدْيٌ فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ، وَمِنْهُ تَقْلِيدُ الْوِلَايَاتِ وَالْمَنَاصِبِ، يُقَالُ: قَلَّدَهُ السَّيْفَ أَوِ الْعَمَلَ فَتَقَلَّدَهُ، وَقَوْلُهُمْ: قَلَّدَ فُلَانٌ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ مَثَلًا. مَعْنَاهُ: جَعَلَ رَأْيَهُ وَظَنَّهُ الِاجْتِهَادِيَّ فِي الدِّينِ قِلَادَةً لَهُ، وَالْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ: تَقَلَّدَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ.
وَعَرَّفَ الْفُقَهَاءُ التَّقْلِيدَ بِأَنَّهُ الْعَمَلُ بِقَوْلِ مَنْ لَا يَعْرِفُ دَلِيلَهُ، وَقَدْ نَهَى الْأَئِمَّةُ الْمَعْرُوفُونَ النَّاسَ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ فِي دِينِهِمْ، وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَّبِعَ أَحَدًا إِلَّا فِيمَا عَرَفَ دَلِيلَهُ وَظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ حَقٌّ، فَالْعَالِمُ مُبَيِّنٌ لِلْحُكْمِ لَا شَارِعَ لَهُ، وَالتَّقْلِيدُ بِهَذَا الْمَعْنَى شَأْنُ الطِّفْلِ مَعَ وَالِدَيْهِ وَالتِّلْمِيذِ مَعَ أُسْتَاذِهِ، وَهُوَ لَا يَلِيقُ بِالرَّاشِدِ الْمُسْتَقِلِّ، وَلَكِنَّ الْمَرْءُوسِينَ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، وَالْعَامَّةَ مَعَ الزُّعَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ، كَالْأَطْفَالِ مَعَ الْأُمَرَاءِ الْمُسْتَبِدِّينَ، وَأَمَّا تَلَقِّي النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ وَالسُّنَنِ الْعَمَلِيَّةِ عَنْ نَاقِلِيهَا فَهُوَ لَيْسَ بِتَقْلِيدِهِمْ، وَكَذَا أَخْذُ الْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ عَنْ مُتْقِنِيهَا. وَأَمَّا تَشَبُّهُ الشَّرْقِيِّينَ بِالْإِفْرِنْجِ فِيمَا لَا بَاعِثَ عَلَيْهِ إِلَّا تَعْظِيمُهُمْ لِأَنَّهُمْ أَقْوَى مِنْهُمْ وَلاسيما أَزْيَاءُ النِّسَاءِ وَالْعَادَاتُ فَكُلُّهُ مِنَ التَّقْلِيدِ الضَّارِّ، الدَّالِّ عَلَى الصَّغَارِ.
وَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ دِينَ الرُّشْدِ وَالِاسْتِقْلَالِ، أَنْكَرَ عَلَى الْعُقَلَاءِ الْبَالِغِينَ الْمُكَلَّفِينَ جُمُودَ التَّقْلِيدِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، لَا لِأَجْلِ أَنْ يُقَلِّدُوا آخَرِينَ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِمْ وَيَسُنُّوا لِمَنْ بَعْدَهُمْ تَقْلِيدَهُمْ، بَلْ لِيَكُونُوا مُسْتَقِلِّينَ فِي طَلَبِ الْحَقَائِقِ مِنْ أَدِلَّتِهَا، وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [5: 104] عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ مُتَفَرِّقَةٍ، ثُمَّ فِي كِتَابِ (الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ) مُجْتَمِعَةٍ.
وَفِي قَصَصِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ حِكَايَةِ هَذَا التَّقْلِيدِ عَنْ ثَمُودَ: {قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 62 وَعَنْ مَدْيَنَ: {قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} 87؟.
وَمِنْ عَجَائِبِ الْجَهْلِ بِالْقُرْآنِ أَنْ يَعُودَ الْخَلْقُ الْكَثِيرُ مِنْ مُدَّعِي اتِّبَاعِ الْقُرْآنِ إِلَى التَّقْلِيدِ- لَا تَقْلِيدَ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ نَهَوْهُمْ عَنِ التَّقْلِيدِ اتِّبَاعًا لِلْقُرْآنِ- بَلْ تَقْلِيدُ آبَائِهِمْ وَشُيُوخِهِمُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُقَلِّدِينَ، حَتَّى فِيمَا ابْتَدَعُوا أَوْ قَلَّدُوا أَهْلَ الْمِلَلِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ بِدُعَاءِ غَيْرِ اللهِ وَالنَّذْرِ لِغَيْرِ اللهِ، وَشَرْعِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لِيَقُولُنَّ لَيْسَ هَذَا بِعِبَادَةٍ لِغَيْرِ اللهِ، بَلْ تَوَسُّلٌ إِلَى اللهِ وَتَقَرُّبٌ إِلَيْهِ؟! فَإِنْ قُلْتَ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا مَا كَانَ يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ لِأَجْلِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم آلَ أَمْرُهُمْ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ تَقْلِيدُهُمْ لِمَنْ يَفْعَلُ فِعْلَهُمْ أَوْ يُقِرُّهُ مِنْ مَشَايِخِ الْأَزْهَرِ وَمَشَايِخِ الطُّرُقِ، فَإِنْ قُلْتَ لَهُمْ: إِنَّ هَؤُلَاءِ مُخَالِفُونَ لِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِلْأَئِمَّةِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَهُمْ؟ قَالُوا: إِنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنَّا بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْمُخْتَصُّونَ بِفَهْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَمَا أَضْيَعَ الْبُرْهَانَ عِنْدَ الْمُقَلِّدِ. وَلَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ حُجَّةً مَقْبُولَةً عِنْدَ اللهِ لَقَبِلَهَا مِنْ مُقَلِّدِي جَمِيعِ الْأُمَمِ وَالْمِلَلِ فَإِنَّهُ هُوَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ، لَا يَظْلِمُ وَلَا يُحَابِي بَعْضُ عِبَادِهِ عَلَى بَعْضٍ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الِاخْتِلَافُ فِي الدِّينِ:
الِاخْتِلَافُ طَبِيعِيٌّ فِي الْبَشَرِ، وَفِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمَنَافِعِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ مَا لَا تَظْهَرُ مَزَايَا نَوْعِهِمْ بِدُونِهِ، وَفِيهِ غَوَائِلُ وَمَضَارُّ شَرُّهَا وَأَضَرُّهَا التَّفَرُّقُ وَالتَّعَادِي بِهِ، وَقَدْ شَرَعَ اللهُ لَهُمُ الدِّينَ لِتَكْمِيلِ فِطْرَتِهِمْ، وَالْحُكْمِ بَيْنَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ بِكِتَابِ اللهِ الَّذِي لَا مَجَالَ فِيهِ لِلِاخْتِلَافِ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ الْمُزِيلِ لِلِاخْتِلَافِ أَيْضًا، فَاسْتَحَقَّ الَّذِينَ يُحَكِّمُونَهُ فِيمَا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ رَحْمَةَ اللهِ وَثَوَابَهُ، وَالَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ سُخْطَهُ تَعَالَى وَعِقَابَهُ، وَذَلِكَ مَا بَيَّنَهُ فِي الْآيَةِ 119 فِي خَاتِمَةِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَسَنُعِيدُ ذِكْرَهَا فِي سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ.
هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَالْفَهْمِ مِنْ هَذِهِ الرَّذَائِلِ، وَهَاكَ الشَّوَاهِدُ الْخَاصَّةُ بِصِفَاتِ النَّفْسِ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْأَعْمَالِ، تَابِعَةٌ لِمَا قَبْلَهَا فِي الْعَدَدِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اتِّبَاعُ الْإِتْرَافِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْفَسَادِ وَالْإِجْرَامِ:
بَيَّنَ اللهُ لَنَا فِي خَوَاتِيمِ هَذِهِ السُّورَةِ الْأَسْبَابَ النَّفْسِيَّةَ لِهَلَاكِ الْأُمَمِ الَّذِينَ قَصَّ عَلَيْنَا أَنْبَاءَ إِهْلَاكِهِمْ، فَكَانَتِ الْآيَةُ (116) مِنْ أَجْمَعِهَا لِلْمَعَانِي، وَالْمُرَادُ مِنْهَا هُنَا أَنَّ مَثَارَ الظُّلْمِ وَالْإِجْرَامِ الْمُوجِبَ لِهَلَاكِ أَهْلِهَا هُوَ اتِّبَاعُ أَكْثَرِهِمْ لِمَا أُتْرِفُوا فِيهِ مِنْ أَسْبَابِ النَّعِيمِ وَالشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ، وَالْمُتْرَفُونَ هُمْ مُفْسِدُوا الْأُمَمِ وَمُهْلِكُوهَا. وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ آيَاتٌ أُخْرَى فِي سُوَرِ الْإِسْرَاءِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَسَبَأٍ وَالزُّخْرُفِ وَالْوَاقِعَةِ، وَيُؤَيِّدُ مَضْمُونَهَا عِلْمُ الِاجْتِمَاعِ الْحَدِيثِ وَوَقَائِعُ التَّارِيخِ، وَإِنَّ كُلَّ مَا نُشَاهِدُهُ مِنَ الْفَسَادِ فِي عَصْرِنَا فَمَثَارُهُ الِافْتِتَانُ بِالتَّرَفِ وَاتِّبَاعُ مَا يَقْتَضِيهِ الْإِتْرَافُ، مِنْ فُسُوقٍ وَطُغْيَانٍ وَإِفْرَاطٍ وَإِسْرَافٍ.
عَلِمَ هَذَا الْمُهْتَدُونَ الْأَوَّلُونَ بِالْقُرْآنِ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَعُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِينَ، فَكَانُوا مَثَلًا صَالِحًا فِي الِاعْتِدَالِ فِي الْمَعِيشَةِ، أَوْ تَغْلِيبِ جَانِبِ الْخُشُونَةِ وَالْبَأْسِ وَالشِّدَّةِ، عَلَى الْخُنُوثَةِ وَالْمُرُونَةِ وَالنِّعْمَةِ، فَسَهُلَ لَهُمْ فَتْحُ الْأَمْصَارِ، ثُمَّ أَضَاعَهَا مَنْ خَلَفَ بَعْدَهُمْ مِنْ مُتَّبِعِي الْإِتْرَافِ، فَانْظُرْ كَيْفَ اهْتَدَى السَّلَفُ الصَّالِحُ بِالْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَبَيَانِ السُّنَّةِ لَهُ إِذْ خَرَجُوا بِهِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ، إِلَى نُورِ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ وَالْحِكْمَةِ. ثُمَّ كَيْفَ ضَلَّ الْخَلَفُ الصَّالِحُ عَنْهُ بَعْدَ أَنِ اسْتَفَادُوا الْعُلُومَ وَالْفُنُونَ وَالْمُلْكَ وَالسُّلْطَانَ بِهِ؟
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالتَّاسِعَةُ وَالْعَاشِرَةُ: ضَعْفُ الْعَزِيمَةِ، وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، أَوْ فَرَحُ الْبَطَرِ وَالْغُرُورِ، وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللهِ:
تَأَمَّلْ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةِ الْآيَاتِ الثَّامِنَةَ وَالتَّاسِعَةَ وَالْعَاشِرَةَ، وَاقْرَأْ تَفْسِيرَهَا فَإِنَّهَا تُصَوِّرُهَا لَكَ مَاثِلَةً أَمَامَ عَيْنَيْكَ فِي الْحَالَتَيْنِ الْمُتَضَادَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَعْرِضَانِ لِلْمُتْرَفِ الْخَوَّارِ، وَالْكَفُورِ الْخَتَّارِ، إِذَا أَذَاقَهُ اللهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ، إِذْ يُنْسِيهِ فَرَحُ الْبَطَرِ الِاعْتِبَارَ وَشُكْرَ الْمُنْعِمِ فَيَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ، وَإِذَا نُزِعَتْ مِنْهُ بِذَنْبِهِ نِعْمَةٌ كَانَ ذَاقَهَا مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ، إِذْ يَخُونُهُ الصَّبْرُ فَيَيْأَسُ مِنْ رَحْمَتِهِ، ثُمَّ كَيْفَ اسْتَثْنَى الصَّابِرِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ، تَجِدُ فِي نَفْسِكَ مِنَ الْعِظَةِ وَالِاعْتِبَارِ، مَا لَا تَجِدُهُ فِي قِرَاءَةِ الْمُطَوَّلَاتِ مِنْ تِلْكَ الْأَسْفَارِ.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: حَصْرُ الْإِرَادَةِ فِي شَهَوَاتِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا دُونَ الْآخِرَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهَا:
خَلَقَ اللهُ تَعَالَى هَذَا الْإِنْسَانَ مُسْتَعِدًّا لِعُلُومٍ وَمَعَارِفَ لَا حَدَّ لَهَا، فَجَعَلَهُ خَلِيفَةً لَهُ فِي الْأَرْضِ {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} 2: 31 وَلِذَلِكَ تَرَى النَّاسَ يَبْحَثُونَ عَنْ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ مِمَّا فِي الْأَرْضِ وَفِي السَّمَاوَاتِ، مِنْ كَشْفٍ عَنْ قُطْبَيِ الْأَرْضِ وَشَنَاخِيبِ أَعْلَى الْجِبَالِ، وَغَوْصٍ فِي أَعْمَاقِ الْبِحَارِ، وَتَحْلِيقٍ فِي أَقْصَى مُحِيطِ الْهَوَاءِ، بَلْ تَجَاوَزُوا كُلَّ هَذَا إِلَى رُؤْيَةِ مَا فَوْقَهُ مِنْ شُمُوسٍ وَأَقْمَارٍ، وَمَا تَتَأَلَّفُ مِنْهُ مِنْ ضِيَاءٍ وَأَنْوَارٍ، وَمَا فِيهَا مِنْ عَجَائِبَ وَأَسْرَارٍ، وَيَبْذُلُونَ فِي سَبِيلِ ذَلِكَ الْأَمْوَالَ وَالشَّهَوَاتِ وَالْحَيَاةَ أَيْضًا، وَهُمْ مُسْتَعِدُّونَ بِفِطْرَتِهِمُ الرُّوحِيَّةِ لِلْوُصُولِ إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَالْوُصُولِ إِلَى الْعِلْمِ الْأَعْلَى بِاللهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، وَمَعْرِفَتِهِ مَعْرِفَةَ كَشْفٍ وَرُؤْيَةٍ بِالْبَصَائِرِ يُغْشِي نُورُهَا الْأَبْصَارَ، بِالتَّجَلِّي الَّذِي تُرْفَعُ بِهِ أَكْثَرُ الْحُجُبِ وَالْأَسْتَارِ، بِغَيْرِ كَيْفٍ وَلَا حَدٍّ وَلَا انْحِصَارٍ، فِي حَيَاةٍ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، الْمُقَيَّدَةِ فِيهَا أَرْوَاحُهُمْ بِهَذِهِ الْأَشْبَاحِ الْكَثِيفَةِ الْجَسَدِيَّةِ، وَإِنَّ لَهُ تَعَالَى هُنَالِكَ لَتَجَلِّيَاتٍ لِعِبَادِهِ الْمُقَرَّبِينَ، كَمَا تَجَلَّى كَلَامُهُ فِي الدُّنْيَا لِأَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ بِمَا يَعْلُو كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ. أَفَلَيْسَ مِنَ الْحَمَاقَةِ وَالْجِنَايَةِ عَلَى هَذَا الِاسْتِعْدَادِ الْعُلْوِيِّ الْعَظِيمِ، أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْإِنْسَانَ إِرَادَتَهُ مَحْصُورَةً فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الْمَادِّيَّةِ، وَزِينَتِهَا الْجَسَدِيَّةِ، فَيَكُونُ مُنْكِرًا أَوْ كَالْمُنْكِرِ لِتِلْكَ الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ؟ بَلَى وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [11: 15 و16] وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا مِنَ الْآيَاتِ.
(فَإِنْ قِيلَ): وَمَا تَفْعَلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [7: 32] الْآيَةَ؟
(قُلْتُ): إِنَّمَا كَانَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا بِالِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنْ شَارَكَهُمْ غَيْرُهُمْ بِالْكَسْبِ وَسُنَنِ الْأَسْبَابِ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَشْكُرُونَهَا لِلَّهِ وَلَا تَشْغَلُهُمْ عَنْهُ فَتَكُونُ إِرَادَتُهُمْ مَحْصُورَةً فِي التَّمَتُّعِ بِهَا، كَيْفَ وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} 6: 52، {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} 18: 28 فَالْمُؤْمِنُ الشَّاكِرُ الصَّابِرُ تَزِيدُهُ النِّعَمُ شَوْقًا إِلَى اللهِ وَحُبًّا، وَالشَّدَائِدُ مَعْرِفَةً بِاللهِ وَقُرْبًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: ازْدِرَاءُ الْكُفَّارِ الْمُسْتَكْبِرِينَ، لِلْفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ:
كَانَ الْمَلَأُ الْمُسْتَكْبِرُونَ مِنَ الْأَقْوَامِ، الْمَغْرُورُونَ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ، هُمْ أَوَّلُ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ آيَاتِ رَبِّهِمْ وَيُكَذِّبُونَ رُسُلَهُ، لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ فِي اتِّبَاعِهِمْ لَهُمْ غَضًّا مِنْ عَظَمَتِهِمْ، وَخَفْضًا مِنْ عُلُوِّ رِيَاسَتِهِمْ، وَوُقُوفًا مَعَ الدَّهْمَاءِ، حَتَّى الْفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ، فِي صَفِّ التَّابِعِينَ لِأُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ، وَجَعْلِهِمْ مِثْلَهُمْ مَرْءُوسِينَ لَهُمْ، كَمَا حَكَاهُ التَّنْزِيلُ عَنْ جَوَابِ مَلَأِ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى وَأَخِيهِ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- بِقَوْلِهِ: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} 10: 78؟
كَمَا كَانَ الَّذِينَ يَسْبِقُونَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ وَالْفُقَرَاءِ وَكَذَا الْوَسَطُ، وَلِهَذَا كَانَ الْكُبَرَاءُ الْمُسْتَكْبِرُونَ يَزْدَادُونَ إِعْرَاضًا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَعَدَاوَةً لَهُمْ كَمَا بَيَّنَهُ التَّنْزِيلُ مِرَارًا وَتَكْرَارًا، وَمِنْهُ قِصَّةُ نُوحٍ: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} إِلَى قَوْلِهِ عليه السلام: {وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا} 27- 31 وَمِنْهُ تَهْدِيدُ مَدْيَنَ لِرَسُولِهِمْ شُعَيْبٍ عليه السلام بِالرَّجْمِ هُنَا لَوْلَا رَهْطُهُ، وَتَهْدِيدُهُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِالنَّفْيِ وَالْإِخْرَاجِ مِنْ أَرْضِهِمْ، وَمِنْهُ تَهْدِيدُ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى وَأَخِيهِ، وَمَا فَعَلَهُ مُشْرِكُو مَكَّةَ بِرَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ مِنَ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ أَوِ الْحَبْسِ أَوِ الْإِخْرَاجِ مِنْ وَطَنِهِ، وَقَدْ فَعَلُوا مَا اسْتَطَاعُوا، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ بِدُعَاةِ الْإِصْلَاحِ وَكُلِّ مَنْ يُرْشِدُ الشُّعُوبَ إِلَى مُقَاوَمَةِ الظُّلْمِ وَالِاسْتِبْدَادِ، وَالرِّيَاسَةِ الطَّاغِيَةِ الْمُتَكَبِّرَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.
فَهَذَا الْإِرْشَادُ الرَّبَّانِيُّ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى عَامٌّ دَائِمٌ لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَلَا غِنَى عَنْهُ. وَقَدْ غَفَلَ أَهْلُ الْقُرْآنِ عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَبِغْيُهَا عِوَجًا:
كَانَ الظَّالِمُونَ الْمُعَانِدُونَ لِلرُّسُلِ يَسْتَهْزِئُونَ بِدَعْوَتِهِمْ وَيَزْدَرُونَ أَتْبَاعَهُمْ مِنَ الضُّعَفَاءِ، حَتَّى إِذَا مَا كَثُرُوا وَخَافُوا مِنْهُمْ قُوَّةَ الْكَثْرَةِ طَفِقُوا يَصُدُّونَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، أَيِ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى مَا يُحِبُّهُ لَهُمْ مِنَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ، يَصُدُّونَهُمْ بِكُلِّ مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ أَسْبَابِ الصَّدِّ كَالْإِهَانَةِ وَالتَّخْوِيفِ وَالتَّعْذِيبِ لِلضُّعَفَاءِ، وَتَزْيِينِ الْعَصَبِيَّةِ وَحُبِّ الرِّيَاسَةِ وَالْغِنَى لِلْأَقْوِيَاءِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أَيْ يَطْلُبُونَ جَعْلَهَا مُعْوَجَّةً بِذَمِّهَا وَادِّعَاءِ بُطْلَانِهَا وَضَرَرِهَا، وَقَدْ وَرَدَ هَذَانِ الْوَصْفَانِ فِي الْآيَةِ 19 مِنْ سِيَاقِ رِسَالَةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم هُنَا وَفِي سُورَتَيْ إِبْرَاهِيمَ وَالْأَعْرَافِ، وَفِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَيْضًا إِذْ كَانَ قَوْمُهُ يَقْعُدُونَ فِي كُلِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِهِمْ يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْ دَعْوَتِهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا، وَتَكَرَّرَ ذِكْرُ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِدُونِ وَصْفِهَا بِالْعِوَجِ فِي سُوَرٍ أُخْرَى، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ وَدُعَاةِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ حَتَّى هَذَا الزَّمَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الْعَدَاوَةُ بِالْكَيْدِ وَالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ لِلرُّسُلِ:
جَاءَ فِي قِصَّةِ هُودٍ عليه السلام قَوْلُهُ: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} 55 فَقَدْ كَانَ يَتَوَقَّعُ الْكَيْدَ مِنْهُمْ. وَهَلْ كَانَ وَقَعَ لَهُ فَقَاسَ الْمُسْتَقْبَلَ عَلَى الْمَاضِي أَمْ عَلِمَهُ مِنْ حَالِهِمْ، أَمْ فَرَضَ وُقُوعَهُ فَرْضًا وَأَنْبَأَهُمْ بِعَدَمِ مُبَالَاتِهِ بِهِ؟ كُلُّ جَائِزٍ.
وَفِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ عليه السلام حِكَايَةً عَنْ قَوْمِهِ: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} 91 وَفِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ أَنَّ هَذَا دَأْبُ الْمُفْسِدِينَ فِي عَدَاوَةِ الْمُصْلِحِينَ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَشَدُّهُمْ كَيْدًا لَهُمْ أَهْلُ الْحَسَدِ وَالْبِدَعِ مِنْ لَابِسِي لِبَاسِ الْعُلَمَاءِ، وَأَعْوَانِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: افْتِرَاءُ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ تَعَالَى:
الدِّينُ فِي حَقِيقَتِهِ وَطَبِيعَتِهِ وَعُرْفِ جَمِيعِ الْمِلَلِ تَشْرِيعٌ إِلَهِيٌّ مَوْضُوعُهُ مَعْرِفَةُ اللهِ تَعَالَى وَعِبَادَتُهُ وَشُكْرُهُ، وَتَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَتَهْذِيبُهَا بِاجْتِنَابِ الشَّرِّ وَفِعْلِ الْخَيْرِ، وَالتَّعَاوُنِ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى إِلَخْ. وَمَصْدَرُهُ وَحْيُهُ تَعَالَى لِمَنِ اصْطَفَى مِنْ عِبَادِهِ لِرِسَالَتِهِ، وَتَبْلِيغُهُمْ لِمَا ارْتَضَاهُ وَشَرَعَهُ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ تَعَالَى أَنْ يُشَرِّعَ لَهُمْ عِبَادَةً وَلَا حُكْمًا دِينِيًّا مِنْ حَرَامٍ أَوْ حَلَالٍ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُفْتَرِيًا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ، سَوَاءٌ أَسْنَدَهُ إِلَيْهِ تَعَالَى بِالْقَوْلِ أَمْ لَا، لِأَنَّ كُلَّ مَا يُتَّخَذُ دِينًا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ فَهُوَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى نِسْبَتِهِ إِلَى اللهِ وَادِّعَاءِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي شَرَعَهُ، لِأَنَّ الدِّينَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْهُ وَلَهُ، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ صَرِيحَةٌ فِي هَذَا.
سَبَقَ بَعْضُهَا فِي السُّوَرِ الَّتِي فَسَّرْنَاهَا وَلاسيما الْأَنْعَامُ وَالْأَعْرَافُ وَالتَّوْبَةُ وَيُونُسُ، وَمِنْهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا} 18 الْآيَةَ، أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا مَا، وَمِنْهُ الْقَوْلُ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْ عَقِيدَةٍ وَعِبَادَةٍ وَتَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ، وَهُوَ شِرْكٌ بِاللهِ يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ إِلَى عِبَادِهِ، وَبِهَذَا كَانَ أَشَدَّ جُرْمًا وَكُفْرًا مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} 7: 33 وَمِنْ ثَمَّ كَانَ ابْتِدَاعُ الْعِبَادَاتِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ فِي الدِّينِ شِرْكًا وَكُفْرَانًا، إِذِ الْجَاهِلُونَ يَعُدُّونَهَا عِبَادَةً يَرْجُونَ بِهَا ثَوَابًا، وَيُسَمُّونَ مُبْتَدِعِيهَا أَوْلِيَاءَ اللهِ وَأَحْبَابًا، وَيَجْهَلُونَ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُمْ مِنْ دُونِهِ أَنْدَادًا وَأَرْبَابًا.