فصل: الْبَابُ السَّادِسُ: فِي سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي التَّكْوِينِ وَالتَّقْدِيرِ وَالطَّبَائِعِ وَالْغَرَائِزِ وَالِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الْبَابُ السَّادِسُ: فِي سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي التَّكْوِينِ وَالتَّقْدِيرِ وَالطَّبَائِعِ وَالْغَرَائِزِ وَالِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ:

وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَصُولٍ:

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي سُنَنِ التَّكْوِينِ وَالتَّقْدِيرِ:

أَيْ: نِظَامُ الْخَلْقِ، وَفِيهِ أَنْوَاعٌ:
سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي رِزْقِ الْأَحْيَاءِ:
(النَّوْعُ الْأَوَّلُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} [6] يُشِيرُ إِلَى سُنَنٍ كَثِيرَةٍ، فَإِنَّ الرِّزْقَ الْمُضَافَ إِلَى ضَمِيرِ هَذِهِ الدَّوَابِّ الْكَثِيرَةِ عَامٌّ يَشْمَلُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً مِنْهَا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ وَالْآيَاتِ الْمُشَاهَدَةِ أَنَّ رِزْقَ اللهِ تَعَالَى لِجَمِيعِ الْأَحْيَاءِ هُوَ مَا خَلَقَهُ مِنَ الْأَقْوَاتِ لِكُلِّ جِنْسٍ وَنَوْعٍ مِنْهَا، وَهَدَاهُ إِلَى التَّغَذِّي بِهِ لِحِفْظِ حَيَاتِهِ وَنَمَائِهِ وَبَقَائِهِ إِلَى الْأَجَلِ الْمُقَدَّرِ لَهُ، وَيَجْرِي ذَلِكَ بِسُنَنٍ كَثِيرَةٍ وَضَعَ الْبَشَرُ لِتَفْصِيلِهَا عُلُومًا كَثِيرَةً فِي النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَوَظَائِفِ أَعْضَاءِ التَّغَذِّي وَالْهَضْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
سُنَنُهُ فِي مُسْتَقَرِّ الْأَحْيَاءِ وَمُسْتَوْدَعِهَا:
(الثَّانِي) قَوْلُهُ: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} يَشْمَلُ سُنَنًا أُخْرَى كَثِيرَةً، فَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْمُسْتَقَرِّ وَالْمُسْتَوْدَعِ أَنَّ فِيهِمَا أَقْوَالًا يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ، وَنَقُولُ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمُخْتَارِ فِي جَوَازِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ مُرَادًا مِنْهُ: أَنَّ تَعَدُّدَ أَنْوَاعِ الِاسْتِقْرَارِ وَالِاسْتِيدَاعِ وَأَمَاكِنِهَا وَأَزْمَانِهَا لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الدَّوَابِّ فِي الْحَمْلِ بِهِ وَحَضَانَتِهِ وَوِلَادَتِهِ وَحَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ وَوَطَنِهِ وَتَنَقُّلِهِ، يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ سُنَنٌ فِي مُنْتَهَى الْحِكْمَةِ وَالنِّظَامِ، وَلَكَ أَنْ تُجْمِلَهَا فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ، وَأَنْ تُفَصِّلَهَا فَتَجْعَلَهَا عِدَّةَ أَنْوَاعٍ.
سُنَنُهُ فِي كِتَابَةِ نِظَامِ الْعَالَمِ وَمَقَادِيرِهِ:
(الثَّالِثُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ 6} بَيَانٌ لِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ النِّظَامِ، وَهُوَ نَوْعُ الْكِتَابَةِ الشَّامِلِ لِمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ نَوْعِ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ، وَمَا قَبْلَهُ مِنْ نَوْعِ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِمَا وُجِدَ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ بِالْفِعْلِ، وَمِثَالُهُ الْمُقَرَّبُ لِتَصْوِيرِ حِكْمَتِهِ: تَدْوِينُ كِتَابِ دِيوَانِ الْحُكُومَةِ النِّظَامِيَّةِ لِكُلِّ مَا فِيهَا مِنْ أَعْيَانٍ وَأَمْوَالٍ وَأَعْمَالٍ وَمَقَادِيرَ وَتَدْبِيرٍ، فَالْوَحْيُ يُعَلِّمُنَا أَنَّ الْكَوْنَ الْأَعْظَمَ قَائِمٌ بِنِظَامٍ أَحَاطَ بِهِ عِلْمُ اللهِ تَعَالَى وَأَنَّ مَقَادِيرَهُ الَّتِي نَفَّذَتْ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [17: 58] فَهُوَ مَسْطُورٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ لَا نَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ وَلَا صِفَةَ كِتَابَتِهِ فِيهِ، وَلَهُ تَعَالَى فِي كُلِّ نَوْعٍ وَفِي جُمْلَتِهِ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ سُنَنٌ حَكِيمَةٌ يَقُومُ بِهَا قُدْرَتُهُ وَإِرَادَتُهُ {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [13: 8] وَهُوَ النِّظَامُ. فَلَهُ تَعَالَى كِتَابَانِ، فِي أَحَدِهِمَا نِظَامُ التَّكْوِينِ وَفِي الْآخَرِ بَيَانُ التَّكْلِيفِ، فَكِتَابُ التَّكْلِيفِ بَيَّنَ لَنَا مَا نَحْنُ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِمَّا يَفْتَحُ لَنَا أَبْوَابَ الْعِلْمِ بِمَا فِي كِتَابِ التَّكْوِينِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا كِتَابٌ مُبِينٌ، وَقَدِ اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَحَدُ الْكِتَابَيْنِ بِالْآخَرِ.
سُنَنُهُ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ:
(الرَّابِعُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ٍ7} فِيهِ مِنْ بَيَانِ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي التَّكْوِينِ أَنَّهُ كَانَ أَطْوَارًا فِي أَزْمِنَةٍ مُقَدَّرَةٍ بِنِظَامٍ مُحْكَمٍ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهُ أُنُفًا (بِضَمَّتَيْنِ) أَيْ فُجَائِيًّا بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ وَلَا تَرْتِيبٍ، فَإِنَّ كَلِمَةَ الْخَلْقِ مَعْنَاهَا التَّقْدِيرُ الْمُحْكَمُ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ عَلَى مَقَادِيرَ مُتَنَاسِبَةٍ، ثُمَّ أُطْلِقَتْ بِمَعْنَى الْإِيجَادِ التَّقْدِيرِيِّ، وَمِنْهُ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ الْمَرْئِيَّةَ لِلنَّاظِرِينَ، وَكُلَّ جِرْمٍ مِنَ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ يُرَى فَوْقَ أَهْلِ الْأَرْضِ أَوْ أَرْضٍ مِنَ الْأَرَضِينَ، فَكُلُّهَا قَائِمَةٌ بِسُنَنٍ دَقِيقَةِ النِّظَامِ، وَأَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ مَا فِيهَا مِنَ الْبَسَائِطِ وَالْمُرَكَّبَاتِ الْغَازِيَّةِ وَالسَّائِلَةِ وَالْجَامِدَةِ قَائِمٌ بِسُنَنٍ أَيْضًا، وَأَنَّ الْكَوْنَ فِي جُمْلَتِهِ قَائِمٌ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ فِي رَبْطِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَحِفْظِ نِظَامِهِ أَنْ يَبْغِيَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، كَالَّذِي يُسَمِّيهِ الْعُلَمَاءُ نِظَامَ الْجَاذِبِيَّةِ الْعَامَّةِ وَالْجَاذِبِيَّاتِ الْخَاصَّةِ.
سُنَنُهُ فِي خَلْقِ الْأَحْيَاءِ مِنَ الْمَاءِ وَخَلْقِ الْمُرَكَّبَاتِ أَزْوَاجًا:
(الْخَامِسُ) قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْخَلْقِ: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} 7 فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّكْوِينِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْأَحْيَاءِ، وَقَدْ كَتَبْنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَصْلًا فِي هَذَا التَّكْوِينِ، ذَكَرْنَا مِنْ سُنَنِهِ سُنَّةَ الزَّوْجِيَّةِ فِي خَلْقِ جَمِيعِ الْمُرَكَّبَاتِ، فَقَدْ قَالَ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} 21: 30 وَقَالَ: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} 51: 49 وَقَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} 36: 36 وَقَدْ وَصَلَ عِلْمُ الْبَشَرِ فِي عَصْرِنَا إِلَى كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ السُّنَنِ وَمَا قَامَتْ بِهِ، وَبِمَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَوَالِيدِ وَغَيْرِهَا، وَلَا يَزَالُونَ يَتَوَقَّعُونَ أَنْ يَظْهَرَ لَهُمْ غَيْرُهَا، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا عِلْمُ خَالِقِهَا- عَزَّ وَجَلَّ- كَمَا بَسَطْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.

.الْفَصْلُ الثَّانِي فِي سُنَنِ الطَّبَائِعِ وَالْغَرَائِزِ الْبَشَرِيَّةِ:

(وَفِيهِ بِضْعَةُ شَوَاهِدَ):
(سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي اخْتِبَارِ الْبَشَرِ لِأَجْلِ إِحْسَانِ كُلِّ عَمَلٍ):
(الشَّاهِدُ الْأَوَّلُ) بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَنَا بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ حِكْمَتَهُ الْعُظْمَى فِيهِ لِلْبَشَرِ بِقَوْلِهِ: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [7] فَإِنَّ إِحْسَانَهُمْ لِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي أَعَدَّهُمْ لَهَا هِيَ الَّتِي تُظْهِرُ مَا فِي هَذَا الْخَلْقِ عُلْوِيِّهِ وَسُفْلِيِّهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْأَسْرَارِ الَّتِي لَا حَدَّ لَهَا وَلَا نِهَايَةَ، بَيَّنَ هَذَا بِأُسْلُوبِ الِالْتِفَاتِ عَنِ الْخَبَرِ إِلَى الْخِطَابِ الْعَامِّ، وَيَا لَهُ مِنْ أُسْلُوبٍ لَا يُعْرَفُ لَهُ ضَرِيبٌ فِي كَلَامِ بُلَغَاءِ الْبَشَرِ، ثُمَّ الْتَفَتَ عَنْهُ إِلَى خِطَابِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} 7 وَفِي هَذَا الْخَبَرِ الْمُؤَكَّدِ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ بَيَانٌ لِسُنَّتَيْنِ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْبَشَرِ، إِحْدَاهَا فِي حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ اجْتِمَاعِهِمْ، وَمَوْضِعُهَا الْفَصْلُ الثَّالِثُ، وَالْأُخْرَى فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ غَرَائِزِهِمْ وَطِبَاعِهِمْ، وَهِيَ أَنَّهُمْ إِذَا أُخْبِرُوا بِشَيْءٍ لَمْ تَصِلْ إِلَى إِدْرَاكِهِ عُقُولُهُمْ أَنْكَرُوهُ، عَلَى أَنَّهُمْ مُسْتَعِدُّونَ بِالْفِطْرَةِ لِلْعِلْمِ بِكُلِّ شَيْءٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [2: 31] فَإِذَا قَالَ لَهُمُ الرَّسُولُ الْمُخْبِرُ إِنَّ هَذَا الْخَبَرَ عَنِ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَجَاءَهُمْ بِالْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ مِنْ عِلْمِيَّةٍ أَوْ عَقْلِيَّةٍ يَعْجِزُونَ عَنْ مِثْلِهَا قَالَ أَكْثَرُهُمْ: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} أَيْ: بَيِّنٌ ظَاهِرٌ، يَعْنُونَ أَنَّهُمْ مَا عَجَزُوا عَنْ مِثْلِهَا إِلَّا لِأَنَّ لَهَا سَبَبًا خَفِيًّا عَلَيْهِمْ قَدْ يَعْرِفُهُ غَيْرُهُمْ وَقَدْ يَعْرِفُونَهُ بَعْدُ، فَهَذِهِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِهِ تَعَالَى فِيهِمْ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمُ النَّاقِصَةِ الْمُتَعَارِضَةِ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي مَحَلِّهِ مِنْ قَبْلُ، وَالْمُرَادُ هُنَا التَّذْكِيرُ لَا تَفْصِيلُهُ وَتَحْقِيقُهُ.
غَرِيزَةُ النَّاسِ فِي الْعَجَلِ وَالِاسْتِعْجَالِ:
الشَّاهِدُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَ ذَلِكَ: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} 8 الْآيَةَ، يُرْشِدُنَا إِلَى سُنَّتَيْنِ مِنْ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي غَرَائِزِ الْبَشَرِ وَفِي اجْتِمَاعِهِمْ كَاللَّتَيْنِ فِيمَا قَبْلَهُ، نُرْجِئُ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْفَصْلِ الثَّالِثِ، وَنُبَيِّنُ الْأَوْلَى بِأَنَّ مِنْ طِبَاعِهِمُ الْعَجَلَةَ وَالِاسْتِعْجَالَ لِمَا يَطْلُبُونَ مِنْ خَيْرٍ لِلتَّمَتُّعِ بِهِ، وَمَا يُنْذَرُونَ مِنْ شَرٍّ يُنْكِرُونَهُ لِلِاحْتِجَاجِ عَلَى بُطْلَانِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} 10: 11.
غَرِيزَةُ الْفَرَحِ بِالنِّعْمَةِ وَالْيَأْسِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ:
الشَّاهِدَانِ: الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ فِي الْآيَتَيْنِ 9 و10 بَيَانٌ لِغَرِيزَتَيْنِ مُتَقَابِلَتَيْنِ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ، بَيَّنَّاهُمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَابِ الْخَامِسِ مِنَ الْوَجْهِ الْبَشَرِيِّ وَهُمَا: فَرَحُ الْبَطَرِ بِالنِّعْمَةِ، وَيَأْسُ الْكُفْرِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَنُذَكِّرُ بِهِمَا هُنَا مِنْ وَجْهِ النِّظَامِ الْإِلَهِيِّ وَالسُّنَنِ الْعَامَّةِ.
وَمِنْ دَقَائِقِ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْآيِ وُرُودُ هَذِهِ السُّنَنِ مُتَعَاقِبَةً مُتَّصِلَةً.
(غَرِيزَةُ الْإِفْرَاطِ فِي تَوْجِيهِ الْقَوِيِّ إِلَى شَيْءٍ يَلْزَمُهُ ضَعُفٌ ضِدُّهُ):
الشَّاهِدُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا 15} الْآيَةَ. فِيهِ شَاهِدٌ عَلَى سُنَّةِ الْعَجَلِ فِي غَرَائِزِ الْبَشَرِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الشَّاهِدِ الثَّانِي آنِفًا، وَشَاهِدٌ عَلَى سُنَّةٍ أُخْرَى هِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا وَجَّهَ إِرَادَتَهُ بِكُلِّ قُوَّتِهَا إِلَى مَا فِيهِ مَتَاعٌ لَهُ مِنَ اللَّذَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ الْعَاجِلَةِ.
عَسُرَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْقِلَ مَا يُنْذَرُ بِهِ مِنَ الضَّرَرِ الْآجِلِ الَّذِي يَعْقُبُهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَا يُنْذَرُ بِهِ مِمَّا لَا يُؤْمِنُ بِهِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ يَكُونُ فِقْهُهُ لَهُ أَعْسَرُ، وَاقْتِنَاعُهُ بِهِ أَبْعَدُ، إِلَّا أَنْ يَهْدِيَهُ اللهُ لِلْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، إِيمَانًا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْعَقْلُ وَالْوِجْدَانُ.
(فَقْدُ هِدَايَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ):
الشَّاهِدُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [20] فِي مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي تَوْجِيهِ الْإِنْسَانِ كُلَّ إِرَادَتِهِ إِلَى شَيْءٍ يُضْعِفُ فِيهِ غَرِيزَةَ الْإِرَادَةِ لِمَا يُخَالِفُهُ، وَنُزِيدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَضْعِفُ هِدَايَةَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ حَتَّى يَفْقِدَ الْقُدْرَةَ عَلَى الِاهْتِدَاءِ بِهِمَا وَالِانْتِفَاعِ بِدَلَائِلِهِمَا، فَهِيَ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ سُنَّةٌ أُخْرَى.
(الْإِيمَانُ بِالْإِقْنَاعِ دُونَ الْإِكْرَاهِ وَاسْتِعْدَادُ الْبَشَرِ لِلْإِضْلَالِ):
الشَّاهِدُ السَّابِعُ: الْآيَةُ 28 حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ عليه السلام فِي شَأْنِ مَا آتَاهُ اللهُ مِنَ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَتِهِ لَهُمْ إِذَا عُمِّيَتْ عَلَيْهِمْ، أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُلْزِمَهُمْ إِيَّاهَا وَهُمْ كَارِهُونَ لَهَا، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُنَّتَهُ فِي الْبَشَرِ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَكُونُ بِالْإِلْزَامِ، وَأَنَّ الْكَارِهَ لِلشَّيْءِ لَا تَتَوَجَّهُ إِرَادَتُهُ إِلَى طَلَبِهِ وَفَهْمِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْحُجَجِ، وَأَنَّ دَعْوَةَ الرُّسُلِ تُوَجِّهُ إِلَى اسْتِعْمَالِ مَا أُعْطُوا مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي غَرِيزَةِ الْإِنْسَانِ: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} 90: 10 وَقَوْلِهِ فِي صِفَةِ نَفْسِهِ: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} 91: 8.
سُنَنُهُ فِي ضَلَالِ النَّاسِ وَغَوَايَتِهِمْ:
الشَّاهِدُ الثَّامِنُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حِكَايَةٍ عَنْهُ فِي مُجَادَلَةِ قَوْمِهِ: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} 34 وَفِيهِ بَيَانٌ لِسُنَّتِهِ تَعَالَى فِي غَوَايَةِ الْغَاوِينَ وَكُفْرِ الْكَافِرِينَ وَضَلَالِ الضَّالِّينَ إِلَخْ. وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَسْنَدَ فِيهَا إِلَيْهِ تَعَالَى فِعْلَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بِمَا خُلَاصَتُهُ أَنَّ الْإِغْوَاءَ وَالْإِضْلَالَ عِبَارَةٌ عَنْ وُقُوعِ الْغَوَايَةِ وَالضَّلَالِ بِسُنَّةِ اللهِ فِي تَأْثِيرِ ارْتِكَابِ أَسْبَابِهِمَا مِنَ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ تَتَمَكَّنَ مِنْ صَاحِبِهَا وَتُحِيطَ بِهِ خَطِيئَتُهُ حَتَّى يَفْقِدَ الِاسْتِعْدَادَ لِلرَّشَادِ وَالْهُدَى، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذِهِ السُّنَنِ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ، فَطَفِقُوا يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ فِي خَلْقِ اللهِ الْكُفْرَ وَالضَّلَالَ لِلْإِنْسَانِ حَتَّى يَكُونَ عَاجِزًا عَنِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ: هَلْ هُوَ جَائِزٌ مِنَ الْخَالِقِ عَقْلًا وَشَرْعًا وَوَاقِعٌ فِعْلًا، أَمْ هُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ وَيُنَزَّهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ يُنَافِي الْعَدْلَ وَالْحِكْمَةَ؟ وَأَيُّ الْآيَاتِ فِيهِ يَجِبُ تَأْوِيلُهَا؟ وَالْحَقُّ إِنْ شَاءَ اللهُ مَا قُلْنَا فَلَا تَأْوِيلَ.
الشَّاهِدُ التَّاسِعُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [118] نَصٌّ فِي أَنَّ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي الْبَشَرِ أَنْ يَتَفَرَّقُوا بِمُقْتَضَى الْغَرِيزَةِ إِلَى شُعُوبٍ وَقَبَائِلَ، وَيَكُونُوا مُخْتَلِفِينَ فِي الْعُقُولِ وَالْأَفْهَامِ وَالْمَنَازِعِ، وَفِي اللُّغَاتِ وَالْأَدْيَانِ وَالشَّرَائِعِ، وَمُتَنَازِعِينَ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ.

.الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ وَفِيهِ بِضْعَةَ عَشَرَ شَاهِدًا:

(سُنَّةُ اللهِ فِي تَوْبَةِ الْأُمَمِ مِنَ الذُّنُوبِ كَالْأَفْرَادِ) (الشَّاهِدُ الْأَوَّلُ) أَمَرُ الْقُرْآنُ الْأُمَمَ كَالْأَفْرَادِ بِاسْتِغْفَارِ الرَّبِّ وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فِي الْآيَاتِ 3 و52 و90، وَجَعْلُهُمَا سَبَبًا وَشَرْطًا لِمَا وَعَدْنَا بِهِ مِنَ التَّمْتِيعِ الْمَادِّيِّ وَالْفَضْلِ الْمَعْنَوِيِّ فِي الْأُولَى، وَمِنْ إِدْرَارِ الْغَيْثِ وَزِيَادَةِ الْقُوَّةِ فِي الثَّانِيَةِ بِصَرَاحَةِ الْمَنْطُوقِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ حَفْظِ النِّعَمِ بِدَلَالَةِ الْمَفْهُومِ فِي الثَّالِثَةِ، فَالْآيَاتُ الثَّلَاثُ بَيَانٌ لِسُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، وَهُوَ أَنَّ الصَّلَاحَ وَالْإِصْلَاحَ سَبَبٌ لِارْتِقَاءِ الْأَقْوَامِ وَالْأُمَمِ وَحِفْظِهَا، كَمَا أَنَّهُ سَبَبٌ لِارْتِقَاءِ الْأَفْرَادِ، وَالْخِطَابُ هُنَا لِلْأَقْوَامِ لَا لِلْأَفْرَادِ، وَمَا كُلُّ فَرْدٍ يُعَاقَبُ عَلَى ذُنُوبِهِ فِي الدُّنْيَا، وَلَكِنْ كُلُّ أُمَّةٍ تُعَاقَبُ عَلَى ذَنْبِهَا فِي الدُّنْيَا، وَعِقَابُهَا نَوْعَانِ فَصَّلْنَاهُمَا مِنْ قَبْلُ (أَحَدُهُمَا) دِينِيٌّ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِهْلَاكِ أَقْوَامِ الرُّسُلِ بِتَكْذِيبِهِمْ لَهُمْ وَظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ حَسَبَ إِنْذَارِهِمْ، وَمِثَالُهُ عِقَابُ الْحُكَّامِ لِمُخَالِفِي شَرَائِعِهِمْ وَقَوَانِينِ حُكُومَتِهِمْ. (وَثَانِيهِمَا) أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ اجْتِمَاعِيٌّ لِذَنْبِهَا الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِفُشُوِّهِ فِيهَا، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مُفَصَّلًا، وَنَذْكُرُهُ فِي شَوَاهِدِ هَذَا الْفَصْلِ مُجْمَلًا، وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ مَعْرُوفَةً لِلْمُهْتَدِينَ بِالْقُرْآنِ مِنْ سَلَفِنَا الصَّالِحِ، وَمِنَ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ الْعَبَّاسِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى نَفْسِهِ فِي صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ لِتَذْكِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقُرْبِهِ وَشَبَهِهِ بِهِ فَتَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ، كَانَ مِمَّا قَالَهُ الْعَبَّاسُ فِي دُعَائِهِ: اللهُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ وَلَمْ يُرْفَعْ إِلَّا بِتَوْبَةٍ. إِلَخْ.
أَمَّا كَوْنُ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ سَبَبًا لِانْحِطَاطِ الْأُمَمِ وَضَعْفِهَا وَهَلَاكِهَا، فَسَيَأْتِي فِي آخِرِ هَذَا الْفَصْلِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ سَبَبًا لِقِلَّةِ الْمَطَرِ وَالْقَحْطِ أَوِ الطُّوفَانِ وَالْجَوَائِحِ فَلَيْسَ مِمَّا ثَبَتَ فِي عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ؛ لِأَنَّ الِانْقِلَابَاتِ الْجَوِّيَّةَ لَا يَعْرِفُ لَهَا الْبَشَرُ اتِّصَالًا بِالذُّنُوبِ الشَّخْصِيَّةِ وَلَا الْقَوْمِيَّةِ الَّتِي تُوصَفُ بِالِاجْتِمَاعِيَّةِ. وَلَقَدْ شَرَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْعِلَاوَةِ الرَّابِعَةِ لِحَادِثَةِ الطُّوفَانِ.
ارْتِقَاءُ الْأُمَمِ بِإِحْسَانِ الْأَعْمَالِ وَإِتْقَانِهَا:
(الشَّاهِدُ الثَّانِي) قُلْنَا فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ السَّابِعَةِ: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} فِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ. وَنَقُولُ هُنَا فِي بَيَانِهَا: إِنَّ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ هَذَا الْعِلْمِ أَنَّ ارْتِقَاءَ الشُّعُوبِ فِي مَصَالِحِهَا الْقَوْمِيَّةِ وَالْوَطَنِيَّةِ وَفِي عِزَّتِهَا الدَّوْلِيَّةِ، هُوَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِإِحْسَانِ أَعْمَالِهَا فِي أَسْبَابِ الْمَعَاشِ وَالثَّرْوَةِ وَالْقُوَّةِ الْحَرْبِيَّةِ، وَالتَّكَافُلِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْمَصَالِحِ وَالْمُقَوِّمَاتِ الْعَامَّةِ لَهَا، وَلَا يَتِمُّ مَا ذُكِرَ إِلَّا بِالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَالْأَمَانَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَلَا تَكْمُلُ هَذِهِ إِلَّا بِالْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
عِقَابُ الْأُمَمِ لَهُ آجَالٌ طَبِيعِيَّةٌ:
(الشَّاهِدُ الثَّالِثُ) قُلْنَا أَيْضًا: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} [8 ] سُنَّةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ، وَنَقُولُ هُنَا فِي بَيَانِهَا: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ السُّنَّةِ أَنَّ هَذَا الْعَذَابَ لَهُ أَجَلٌ عِنْدَ اللهِ مَعْلُومٌ، وَزَمَنٌ فِي كِتَابِ نِظَامِ الْخَلْقِ مَعْدُودٌ، وَهُوَ مَا يَبْلُغُ بِهِ ذَنْبُهَا حَدَّهُ فِي الْإِفْسَادِ. وَقَدْ عَلِمْتُ آنِفًا أَنَّهُ لَا يَقَعُ عِقَابٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَلَكِنَّ الْأُمَمَ الْجَاهِلَةَ لَا تَعْقِلُ هَذَا، وَإِنَّمَا يَعْقِلُهُ بَعْضُ حُكَمَائِهَا، وَقَدْ يُنْذِرُونَهَا وُقُوعَهُ فِي وَقْتِهِ فَلَا تُغْنِي عَنْهُمُ النُّذُرُ شَيْئًا، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قِصَصِ الرُّسُلِ وَسَنَبْسُطُهُ قَرِيبًا.
أَوَّلُ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ وَالْمُصْلِحِينَ: الْفُقَرَاءُ:
(الشَّاهِدُ الرَّابِعُ) قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ نُوحٍ: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} 27 الْآيَةَ. وَهُوَ نَصٌّ فِي سُنَّةِ اللهِ فِي السَّابِقِينَ إِلَى اتِّبَاعِ الرُّسُلِ، وَكَذَا غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُصْلِحِينَ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ الْخُلَاصَةِ، وَتَتِمَتُّهُ فِي الشَّاهِدِ التَّالِي وَهُوَ:
(فَلَاحُ الْجَمَاعَاتِ وَالْأُمَمِ بِتَكَافُلِ الْمُصْلِحِينَ فِيهَا):
(الشَّاهِدُ الْخَامِسُ) قَوْلُهُ عليه السلام فِي جَوَابِهِ لَهُمْ: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} 29 الْآيَةَ، مَبْنِيٌّ عَلَى سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ فِي الزَّعَامَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ، وَتَأْلِيفِ الْجَمَاعَاتِ الَّتِي تُحْدِثُ الِانْقِلَابَاتِ فِي الْأُمَمِ، وَكَوْنِ ثَبَاتِهَا وَظَفَرِهَا رَهْنًا بِإِيمَانِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي تَأَلَّفَتْ لِأَجْلِهِ إِيمَانَ يَقِينٍ عَقْلِيٍّ، وَوِجْدَانِيٍّ قَلْبِيٍّ، وَتَكَافُلٍ عَمَلِيٍّ، وَمِنْهُ وِلَايَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِصِفَةٍ يَكُونُ فِيهَا الزَّعِيمُ خَيْرُ قُدْوَةٍ لِلْأَفْرَادِ، بِتَفْضِيلِهِ أَدْنَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ عَلَى أَعْظَمِ الْكُبَرَاءِ مِنْ خُصُومِهِمْ، فَأَمَّا الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَقَدْ هَدَاهُمُ الْوَحْيُ إِلَى هَذِهِ السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَيَانِ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي عَدَاوَةِ كُبَرَاءِ الدُّنْيَا مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ لَهُمْ، وَأَمَّا زُعَمَاءُ الْأُمَمِ فِي الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ فَقَدْ هَدَتْهُمْ إِلَيْهَا عَبْرَ التَّارِيخِ وَالتَّجَارِبِ، إِلَى أَنْ دَوَّنَ عُلَمَاءُ فَلْسَفَةِ التَّارِيخِ عِلْمَ الِاجْتِمَاعِ وَفَصَّلُوا فِيهِ سُنَّتَهُ فَعَمِلُوا بِهِ، وَكَانَ إِمَامُهُمْ حَكِيمُنَا الْعَرَبِيُّ ابْنُ خَلْدُونَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
(تَنَازُعُ رِجَالِ الْمَالِ وَدُعَاةِ الْإِصْلَاحِ):
(الشَّاهِدُ السَّادِسُ) فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ مَعَ قَوْمِهِ مَسْأَلَةٌ مِنْ أَهَمِّ مَسَائِلِ الِاجْتِمَاعِ فِي الْعَالَمِ الْمَدَنِيِّ، وَهِيَ التَّنَازُعُ بَيْنَ رِجَالِ الْمَالِ وَرِجَالِ الْإِصْلَاحِ فِي حُرِّيَّةِ الْكَسْبِ الْمُطْلَقَةِ، وَتَقْيِيدِ الْكَسْبِ بِالْحَلَالِ وَمُرَاعَاةِ الْفَضِيلَةِ فِيهِ، فَقَوْمُ شُعَيْبٍ كَانُوا يَسْتَبِيحُونَ تَنْمِيَةَ الثَّرْوَةِ بِجَمِيعِ الطُّرُقِ الْمُمْكِنَةِ حَتَّى التَّطْفِيفِ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، فَإِذَا كَالُوا أَوْ وَزَنُوا لِلنَّاسِ نَقَصُوا وَأَخْسَرُوا، وَإِذَا اكْتَالُوا عَلَيْهِمْ لِأَنْفُسِهِمُ اسْتَوْفُوا وَأَكْثَرُوا، وَكَانُوا يَبْخَسُونَ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ فِي كُلِّ أَنْوَاعِهَا، وَكَانَ شُعَيْبٌ عليه السلام يَنْهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَيُوصِيهِمْ بِالْقِسْطِ فِيهِ، وَاجْتِنَابِ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَالْقَنَاعَةِ بِالْحَلَالِ، وَكَانَتْ حُجَّتُهُمْ حُرِّيَّةَ الْكَسْبِ مَقْرُونَةً بِحُرِّيَّةِ الِاعْتِقَادِ، كَمَا حَكَاهُ اللهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} 87 وَتَقَدَّمَ الِاسْتِشْهَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى رَذِيلَةِ التَّقْلِيدِ وَرَذِيلَةِ اسْتِحْلَالِ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَالْكَلَامِ عَلَى فَضِيلَةِ حُرِّيَّةِ الِاعْتِقَادِ وَمَنْعِ الْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ، وَنَذْكُرُهُ شَاهِدًا عَلَى كَوْنِ هَذَا التَّنَازُعِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْفَضِيلَةِ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَالرَّذِيلَةِ، مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْمَعْرُوفَةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ يَنْصُرُونَ الْحَقَّ وَالْفَضِيلَةَ بِالْوَعْظِ وَالْإِرْشَادِ الْمُؤَيِّدَيْنِ بِالْحُجَّةِ وَوَسَائِلِ الْإِقْنَاعِ، لَا بِالْقُوَّةِ وَوَسَائِلِ الْإِكْرَاهِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ مِنْهُمْ شَرِيعَةٌ مَدَنِيَّةٌ كَمُوسَى وَمُحَمَّدٍ- عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- كَانَتْ جَامِعَةً لِلْوَازِعَيْنِ: وَازِعِ النَّفْسِ بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ، وَوَازِعِ الشَّرْعِ يَمْنَعُ الِاعْتِدَاءَ عَلَى حُقُوقِ النَّاسِ، وَمَا زَالَ التَّنَازُعُ الْمَالِيُّ أَعْقَدَ مَشَاكِلِ الِاجْتِمَاعِ، وَزَعَمَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الِاقْتِصَادِ أَنَّ الْإِصْلَاحَ الْمَالِيَّ أَعْظَمُ أُسُسِ الْإِسْلَامِ، وَلِأَجْلِهِ عَادَى كُبَرَاءُ قُرَيْشٍ بَعْثَةَ مُحَمَّدٍ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ هَذَا فِي خُلَاصَةِ سُورَةِ التَّوْبَةِ وَفِي كِتَابِ (الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ).