فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



(سُنَّتُهُ تَعَالَى فِي جَعْلِ الْعَاقِبَةِ لِلْمُتَّقِينَ):
(الشَّاهِدُ السَّابِعُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ 49} هُوَ الْأَسَاسُ الْأَعْظَمُ لِسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ فِي فَوْزِ الْجَمَاعَاتِ الدِّينِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالشُّعُوبِ وَالْأُمَمِ فِي مَقَاصِدِهَا، وَغَلْبِهَا عَلَى خُصُومِهَا وَمُنَاوَئِيهَا، كَمَا أَنَّهُ هُوَ الْأَسَاسُ الرَّاسِخُ لِفَوْزِ الْأَفْرَادِ فِي أَعْمَالِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ مَالِيَّةٍ وَاجْتِمَاعِيَّةٍ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الْبَلِيغَةُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ كِتَابِ اللهِ الْكُبْرَى فِي جَمْعِ الْحَقَائِقِ الْكَثِيرَةِ، فِي الْمَقَاصِدِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي كَلِمَةٍ وَجِيزَةٍ، وَلَئِنْ سَأَلْتَ أَكْثَرَ عُلَمَاءِ الدِّينِ فِي الْأَزْهَرِ وَأَمْثَالِهِ، مِمَّنْ لَا بِضَاعَةَ لَهُمْ فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ إِلَّا مِثْلَ تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ وَمَا دُونَهُ كَالْجَلَالَيْنِ وَحَوَاشِيهِ وَكَذَا تَفْسِيرُ الْأَلُوسِيِّ الْجَامِعِ لِخُلَاصَةِ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ، فَقُلْتَ لَهُمْ: مَا مَعْنَى كَوْنِ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ؟ وَمَا التَّقْوَى الَّتِي جَعَلَهَا هَذَا النَّصُّ عِلَّةً لِكَوْنِ الْعَاقِبَةِ لَهُمْ عَلَى قَاعِدَتِكُمْ فِي تَعْلِيقِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُشْتَقِّ؟ لَيَقُولَنَّ أَوْسَعُهُمُ اطِّلَاعًا: إِنَّ التَّقْوَى فِعْلُ الطَّاعَاتِ وَتَرْكُ الْمَعَاصِي، أَوِ امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، وَأَنَّ اللهَ وَعَدَ هَؤُلَاءِ بِحُسْنِ الْجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ مُجْمَلٌ مُبْهَمٌ يُمْكِنُ اخْتِصَارُهُ بِأَنْ تَقُولَ: الْمُتَّقُونَ هُمُ الْمُسْلِمُونَ الصَّالِحُونَ، وَمَاذَا عَسَى أَنْ يَقُولَ قَارِئُوا هَذِهِ التَّفَاسِيرِ عَلَى قِلَّتِهِمْ غَيْرَ هَذَا أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، وَقَدْ قَصَّرَ كُلُّ مُؤَلِّفِيهَا فِيمَا يَجِبُ مِنَ الْبَيَانِ التَّفْصِيلِيِّ لَهَا فِي تَقْوَى الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ وَتَقْوَى الْأُمَّةِ؟ فَإِنَّهُ لَمْ يُشِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى مَعْنَاهَا الْعَامِّ، وَهُوَ اتِّقَاءُ كُلِّ مَا يُفْسِدُ الْعَقَائِدَ وَالْأَخْلَاقَ وَالرَّوَابِطَ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ، وَتَحَرِّي مَا يُصْلِحُهَا بِهَدْيِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي حَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَوْتِهَا، وَقُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا، وَبَقَاءِ دُوَلِهَا وَزَوَالِهَا، وَكَوْنُ هَذِهِ السُّنَنِ مُطَّرِدَةً فِي جَمِيعِ الشُّئُونِ الْعَامَّةِ مِنْ مَنْزِلِيَّةٍ وَمَدَنِيَّةٍ وَمَالِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ، لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ، وَلَا مُحَابَاةَ فِيهَا بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ، وَبِهَذَا كُلِّهِ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ الْمَرْجُوَّةُ لَهُمْ فِي السِّيَادَةِ وَالسَّعَادَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ لَعَلَّ أَجْمَعَهَا وَأَدَقَّهَا بِالْإِجْمَالِ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [8: 29] الْآيَةَ، وَمِنَ التَّفْصِيلِ لَهُ مَا تَرْمِي فِي هَذِهِ الشَّوَاهِدِ.
نَهْيُ أُولِي الْأَحْلَامِ عَنِ الْفَسَادِ يَحْفَظُ الْأُمَّةَ مِنَ الْهَلَاكِ:
(الشَّاهِدُ الثَّامِنُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ 116} جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ بَيَانِ إِهْلَاكِ الْأُمَمِ بِظُلْمِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ؛ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِمْ جَمَاعَاتٌ وَأَحْزَابٌ أُولُوا بَقِيَّةٍ مِنَ الْأَحْلَامِ وَالْفَضَائِلِ وَالْقُوَّةِ فِي الْحَقِّ يَنْهَوْنَهُمْ عَنْ ذَلِكَ لَمَا فَشَا فِيهِمْ، وَأَفْسَدَهُمْ وَإِذَنْ لَمَا هَلَكُوا، فَإِنَّ الصَّالِحِينَ الْمُصْلِحِينَ فِي الْأَرْضِ هُمُ الَّذِينَ يَحْفَظُ اللهُ بِهِمُ الْأُمَمَ مِنَ الْهَلَاكِ مَا دَامُوا يُطَاعُونَ فِيهَا بِحَسْبِ سُنَّةِ اللهِ، كَمَا أَنَّ الْأَطِبَّاءَ هُمُ الَّذِينَ يَحْفَظُ اللهُ بِهِمُ الْأُمَمَ مِنْ فُشُوِّ الْأَمْرَاضِ وَالْأَوْبِئَةِ فِيهَا، مَا دَامَتِ الْجَمَاهِيرُ تُطِيعُهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْوِقَايَةِ قَبْلَ حُدُوثِ الْمَرَضِ، وَمِنْ وَسَائِلِ الْعِلَاجِ وَالتَّدَاوِي بَعْدَهُ، فَإِذَا لَمْ يَمْتَثِلِ الْجُمْهُورُ لِأَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ فَعَلَ الْفَسَادُ فِعْلَهُ فِيهِمْ، وَقَدْ فَهِمَ الْوُعَّاظُ وَالْفُقَهَاءُ مِنْ خَلَفِنَا الْجَاهِلِ مَا كَانَ يَفْهَمُهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنْ بَرَكَةِ الصَّالِحِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَحَفِظِ اللهِ الْأُمَمَ بِهِمْ، فَظَنُّوا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الَّذِينَ يُكْثِرُونَ مِنَ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ وَقِرَاءَةِ الْأَوْرَادِ وَالْأَحْزَابِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ، وَضَرَبَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ بْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ الْمَثَلَ بِقَوْلِهِ فِي الزَّوَاجِرِ:
لَوْلَا أُنَاسٌ لَهُمْ وِرْدٌ يَقُومُونَا ** وَآخَرُونَ لَهُمْ سَرْدٌ يَصُومُونَا

لَدَكْدَكَتْ أَرْضُكُمْ مِنْ تَحْتِكُمْ سِحْرًا ** فَإِنَّكُمْ قَوْمُ سَوْءٍ لَا تُطِيعُونَا

كَلَّا، إِنَّ مِنْ أَصْحَابِ الْأَوْرَادِ مَنْ يَقُومُ لَيْلَهُ بِوِرْدٍ مِنْ تَشْرِيعٍ مُبْتَدَعٍ هُوَ بِهِ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى لِعِبَادَتِهِ بِغَيْرِ مَا شَرَعَهُ، فَكَانَ مِمَّنْ قَالَ فِيهِمْ: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} 42: 21 أَيْ بِهَلَاكِهِمْ. وَفِي الْحَدِيثِ: «رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ» كَمْ مِنْ مُصَلٍّ هُوَ مِصْدَاقٌ لِحَدِيثِ: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صِلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللهِ إِلَّا بُعْدًا» وَكَذَلِكَ كَانَ دَرَاوِيشُ مَهْدِيِّ السُّودَانِ، وَأَمْثَالُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْجَاهِلِينَ لِهِدَايَةِ الْقُرْآنِ، فَنَكَّلَ بِهِمُ الْإِفْرِنْجُ بِمُسَاعَدَةِ الْفَاسِقِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى بِلَادِهِمْ. وَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ أَخْبَارِ هَذَا الْمَهْدِيِّ أَنَّهُ كَانَ عَلَى عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ فِي صَلَاحِهِ، وَلَكِنَّ قُوَّادَهُ لَمْ يَكُونُوا بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَصَلَاحُ دَرَاوِيشِهِ لَا بَصِيرَةَ فِيهِ وَلَا عِلْمَ.
كَلَّا إِنَّ الْمُرَادَ بِالصَّالِحِينَ الَّذِينَ يَحْفَظُ اللهُ بِهِمُ الْأُمَمَ هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} 21: 105 وَهُمُ الْمُتَّقُونَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} 7: 128 وَقَالَ: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لِيَسْتَخْلِفْنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} 24: 55 الْآيَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِمْ قَرِيبًا، وَإِنَّ اللهَ لَا يَحْفَظُ الْأُمَمَ بِذَوَاتِهِمْ وَبَرَكَةِ أَجْسَادِهِمْ، وَلَا بِعِبَادَاتِهِمُ الشَّخْصِيَّةِ الْقَاصِرِ نَفْعُهَا عَلَيْهِمْ، بَلْ بِأَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيِهِمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَطَاعَةِ الْأُمَّةِ لَهُمْ.
نَعَمْ إِنَّ اللهَ لَا يُهْلِكُ الْأُمَّةَ كُلَّهَا بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ مَادَامَ فِيهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَلَكِنَّهُ يُعَذِّبُهَا بِذُنُوبِهَا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا فَصَّلْنَاهُ فِي عِلَاوَةِ قِصَّةِ الطُّوفَانِ الرَّابِعَةِ.
الطُّغْيَانُ وَالرُّكُونُ إِلَى الظَّالِمِينَ سَبَبُ الْحِرْمَانِ مِنَ النَّصْرِ:
(الشَّاهِدُ التَّاسِعُ) قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا 112} وَقَوْلُهُ بَعْدَهَا: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} 113 فِيهِمَا مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الِاجْتِمَاعِ أَنَّ الطُّغْيَانَ وَالرُّكُونَ إِلَى الظَّالِمِينَ مِنْ أَسْبَابِ هَلَاكِ الْأُمَمِ وَحِرْمَانِهِمْ مِنَ النَّصْرِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَهَذَا يَشْتَرِكُ مَعَ الظُّلْمِ فِي شَوَاهِدِهِ الْآتِيَةِ:
(الشَّوَاهِدُ: الْعَاشِرُ- الْخَامِسَ عَشَرَ عَلَى إِهْلَاكِ الْأُمَمِ بِالظُّلْمِ): (فِي الْآيَاتِ 100- 102 و112 و113 و116 و117): أَوَّلُهَا فِي هَذَا السِّيَاقِ قَوْلُهُ- عَزَّ وَجَلَّ- لِرَسُولِهِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} 100 وَالثَّانِيَةُ: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} 101 أَيْ بِإِهْلَاكِهِمْ، بَلْ أَنْذَرْنَاهُمْ عَاقِبَةَ ظُلْمِهِمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ظُلْمًا عَامًّا فَكَانَ هَلَاكُهُمْ عَامًّا، وَكَانَ أَكْبَرَ ظُلْمِهِمُ الشِّرْكُ، فَكَانُوا يَدْعُونَ آلِهَتَهُمْ أَنْ تَدْفَعَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، فَاتَّكَلُوا عَلَيْهَا فِي دَفْعِ مَا أَنْذَرَهُمُ الرُّسُلُ {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ} 101 الْآيَةَ.
هَذَا مَعْنًى لَا يُكَابِرُ فِيهِ أَحَدٌ يَدَّعِي التَّوْحِيدَ وَالْإِيمَانَ بِالْقُرْآنِ، وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْجَاهِلِينَ بِعَقَائِدِ الْقُرْآنِ إِذَا بَيَّنْتَ لَهُمْ مَا يُخَالِفُ تَقَالِيدَهُمْ مِنْهَا أَنْكَرُوهُ، وَأَوَّلُ مَا يُنْكِرُونَهُ أَسَاسُهَا الْأَعْظَمُ وَهُوَ تَوْحِيدُ اللهِ وَمَعْنَى الشِّرْكِ بِهِ مِنْهَا، إِذْ هُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ شِرْكَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ عِبَارَةٌ عَنْ عِبَادَةِ أَصْنَامٍ وَأَوْثَانٍ مِنَ الْجَمَادِ يَتَّكِلُونَ عَلَيْهَا لِذَاتِهَا. فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ أَصْلَهُ الْغُلُوُّ فِي الصَّالِحِينَ وَلاسيما الْمَيِّتِينَ مِنْهُمْ، وَاعْتِقَادُ تَصَرُّفِهِمْ فِي الْكَوْنِ، وَدُعَاؤُهُمْ فِي طَلَبِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضُّرِّ، وَأَنَّ مِثْلَهُ أَوْ مِنْهُ مَا كَانَ يُحْكَى عَنْ مُسْلِمِي بُخَارَى أَنَّ شَاهْ نَقْشَبَنْدَ هُوَ الْحَامِي لَهَا، فَلَنْ تَسْتَطِيعَ الدَّوْلَةُ الرُّوسِيَّةُ الِاسْتِيلَاءَ عَلَيْهَا، وَمَا كَانَ يُحْكَى عَنْ مُسْلِمِي الْمَغْرِبِ الْأَقْصَى مِنْ حِمَايَةِ مَوْلَايَ إِدْرِيسَ لِفَاسَ وَسَائِرِ الْمَغْرِبِ أَنْ تَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا فَرَنْسَةُ، أَنْكَرُوا عَلَى الْقَائِلِ: إِنَّ هَذَا كَذَاكَ، وَقَالُوا: إِنَّمَا هُوَ تَوَسُّلٌ بِجَاهِ الْأَوْلِيَاءِ عِنْدَ اللهِ، وَلَيْسَ مِنَ الْمُنْكَرِ أَنْ يَدْفَعُوهَا بِكَرَامَتِهِمْ. فَكَرَامَةُ الْأَمْوَاتِ ثَابِتَةٌ كَالْأَحْيَاءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا لَهُمْ جَهْلَهُمْ هَذَا بِتَبَدُّلِ الْأَسْمَاءِ، وَمُخَالَفَتِهِ لِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَسِيرَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الْأُمَّةِ فِي فُتُوحَاتِهِمْ وَتَأْسِيسِ مُلْكِهِمْ وَحِفْظِهِ، وَخَصَّصْنَا إِخْوَانَنَا أَهْلَ الْمَغْرِبِ الْأَقْصَى بِالْإِنْذَارِ مُنْذُ أُنْشِئَ الْمَنَارُ، وَأَرْشَدْنَاهُمْ إِلَى تَنْظِيمِ قُوَّاتِهِمُ الدِّفَاعِيَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ، وَطَلَبِ الضُّبَّاطِ لَهُ مِنَ الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَإِلَى الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْمُرْشِدَةِ إِلَى الْقُوَّةِ وَالثَّرْوَةِ وَالنِّظَامِ، وَإِلَّا ذَهَبَتْ بِلَادُهُمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ قَطْعًا. فَقَالَ الْمُغْوُونَ لَهُمْ مِنْ أَهْلِ الطَّرَائِقِ الْقِدَدِ بِلِسَانِ حَالِهِمْ أَوْ مَقَالِهِمْ: إِنَّ صَاحِبَ الْمَنَارِ مُعْتَزِلِيٌّ مُنْكِرٌ لِكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَمَا هُوَ بِمُعْتَزِلِيٍّ وَلَا أَشْعَرِيٍّ، بَلْ هُوَ قُرْآنِيٌّ سُنِّيٌّ، وَهَا هِيَ ذِي فَرَنْسَةُ اسْتَوْلَتْ عَلَى بِلَادِهِمْ كَمَا أَنْذَرَهُمْ، وَظَهَرَ أَنَّ أَكْبَرَ مَشَايِخِ الطَّرِيقِ نُفُوذًا وَدَعْوَى لِلْكَرَامَاتِ بِالْبَاطِلِ كَالتِّيجَانِيَّةِ، كَانُوا وَمَا زَالُوا مِنْ خِدْمَةِ فَرَنْسَةَ وَمُسَاعِدِيهَا عَلَى فَتْحِ الْبِلَادِ، وَاسْتِعْبَادِ أَهْلِهَا أَوْ إِخْرَاجِهِمْ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْإِلْحَادِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ مِنْ حَيْثُ يَدْرُونَ أَوْ لَا يَدْرُونَ.
يَجْهَلُ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ الشِّرْكَ بِاللهِ تَعَالَى خَاصٌّ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، أَنَّ أَصْلَ هَذَا الشِّرْكِ هُوَ الْغُلُوُّ فِي تَعْظِيمِ الصَّالِحِينَ، وَالتَّبَرُّكِ أَوِ التَّوَسُّلِ بِأَشْخَاصِهِمْ لِإِبْطَالِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى وَأَوَّلُهُمْ قَوْمُ نُوحٍ، فَقَدْ كَانَتْ آلِهَتُهُمْ (وَدٌّ وَسُوَاعٌ وَيَغُوثُ وَيَعُوقُ وَنَسْرٌ) رِجَالًا صَالِحِينَ غَلَوْا فِي تَعْظِيمِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وَوَضَعُوا لَهُمُ الصُّوَرَ وَالتَّمَاثِيلَ لِلتَّذْكِيرِ بِهِمْ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ تُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أُولَئِكَ الصَّالِحِينَ هُمُ الَّذِينَ يَنْفَعُونَ وَيَضُرُّونَ، وَيَدْفَعُونَ الْعَذَابَ بِكَرَامَاتِهِمْ أَوْ بِشَفَاعَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ لَا تَمَاثِيلُهُمْ.
بَلْ نَرَى هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالَهُمْ مِنَ الَّذِينَ يَلْجَئُونَ إِلَى قُبُورِهِمُ الصَّالِحِينَ؛ لِدُعَائِهِمْ أَوْ مَا يُسَمُّونَهُ التَّوَسُّلَ بِهِمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، يَجْهَلُونَ جَمِيعَ عَقَائِدِ الْقُرْآنِ وَسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِيهِ الَّتِي أَجْمَلْنَاهَا فِي خُلَاصَةِ هَذِهِ السُّورَةِ، مِنَ التَّوْحِيدِ وَوَظَائِفِ الرُّسُلِ، إِلَى هَذِهِ السُّنَنِ فِي إِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ، وَأَمْثَالِهَا فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَأَكْبَرُ مَصَائِبِ الْإِسْلَامِ أَنَّ افْتِتَانَ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّالِحِينَ الَّذِي اتَّبَعُوا فِيهِ سَنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ «شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ» كَمَا أَخْبَرَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَانَ سَبَبًا لِإِلْحَادِ فَرِيقٍ كَبِيرٍ مِنَ الَّذِينَ يَتَعَلَّمُونَ عُلُومَ الْعَصْرِ وَمِنْهَا سُنَنُ الْخَلْقِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَمُرُوقِهِمْ مِنَ الدِّينِ بِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ خُرَافِيٌّ هُوَ الَّذِي أَضَاعَ مُلْكَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى إِنَّ حُكُومَةَ التُّرْكِ الْحَاضِرَةِ تَرَكَتِ الْإِسْلَامَ الْحَقَّ الْمُنَزَّهَ عَنِ الْخُرَافَاتِ، وَعَادَى رَئِيسُهَا وَمُؤَسِّسُهَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ وَلُغَتَهُمَا وَحُرُوفَهُمَا بِمَا لَمْ يُسْبَقْ لَهُ نَظِيرٌ فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالصَّلِيبِيِّينَ {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} 26: 4.
وَخُلَاصَةُ مَعْنَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ (102) أَنَّ أَخْذَ اللهِ الْقُرَى الظَّالِمَةَ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِهِمْ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ سَيَكُونُ عَلَى نَحْوِ أَخْذِهِ لَهَا فِي الْمَاضِي، أَلِيمًا شَدِيدًا لَا هَوَادَةَ وَلَا رَحْمَةَ وَلَا مُحَابَاةَ.
وَخُلَاصَةُ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ (112 و113) أَمْرُ اللهِ لِرَسُولِهِ بِالِاسْتِقَامَةِ هُوَ وَمَنْ تَابَ مَعَهُ كَمَا أَمَرَ، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الطُّغْيَانِ وَالْإِفْرَاطِ فِيهِ، وَعَنِ الرُّكُونِ إِلَى الظَّالِمِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْمُشَبَّهَةِ حَالُهُمْ فِي قَرْيَتِهِمْ (مَكَّةَ) لِحَالِ أُولَئِكَ الظَّالِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى الْمُهْلَكَةِ؛ لِأَجْلِ أَنْ يُنَجَّيَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ إِذَا وَقَعَ عَلَيْهِمْ أَتْبَاعُ أُولَئِكَ الرُّسُلِ قُبَيْلَ إِهْلَاكِ قَوْمِهِمْ؛ لِأَنَّ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي عِبَادِهِ وَاحِدَةٌ.
وَخُلَاصَةُ الْخَامِسَةِ (166) أَنَّ الْوَسِيلَةَ لِمَنْعِ وُقُوعِ الْعَذَابِ بِالْأُمَمِ الظَّالِمَةِ، هُوَ وُجُودُ أُولِي بَقِيَّةٍ فِيهَا يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فَيُطَاعُونَ، إِذْ بِفَقْدِهِمْ يَتَّبِعُ الظَّالِمُونَ مَا أُتْرِفُوا فِيهِ فَيَكُونُونَ مُجْرِمِينَ فَيَهْلِكُونَ، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِاسْتِئْصَالِهِمْ فَبِذَهَابِ اسْتِقْلَالِهِمْ.
وَخُلَاصَةُ السَّادِسَةِ (117) أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِ اللهِ تَعَالَى وَلَا مَنْ سُنَّتِهِ فِي عِبَادِهِ أَنْ يُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ مِنْهُ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْأَسَاسُ الْأَعْظَمُ لِعِلْمِ الِاجْتِمَاعِ فِي حَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَوْتِهَا وَعِزَّتِهَا وَذُلِّهَا، فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا.
إِنَّ عُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةَ الْأَمْصَارِ الَّذِينَ وَرِثُوا لُغَةَ الْقُرْآنِ بِالسَّلِيقَةِ وَسُنَّةَ النَّبِيِّ وَبَيَانَهُ لَهُ بِالِاتِّبَاعِ، كَانُوا يَفْهَمُونَ هَذِهِ السُّنَنَ الْإِلَهِيَّةَ فِي الْخَلْقِ وَيَهْتَدُونَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَضَعُوا لَهَا قَوَاعِدَ عِلْمِيَّةً وَفَنِّيَّةً لِتَفْقِيهِ مَنْ بَعْدِهِمْ فِيهَا، ثُمَّ زَالَتْ سَلِيقَةُ اللُّغَةِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُوَلِّدِينَ، فَصَارُوا يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِقَوَاعِدِ الْفُنُونِ الَّتِي وَضَعُوهَا لِلُّغَةِ وَلِلدِّينِ بِقَدْرِ مَعَارِفِهِمُ الْمَمْزُوجَةِ بِمَا وَرِثُوا وَمَا كَسَبُوا مِنَ الشُّعُوبِ الَّتِي اهْتَدَتْ بِالْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ عِلْمُ الِاجْتِمَاعِ مِمَّا دَوَّنَهُ أَحَدٌ، فَلِهَذَا لَا نَرَى فِي تَفَاسِيرِهِمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ السُّنَنِ الْخَاصَّةِ بِسِيَاسَةِ الْأُمَمِ، بَلْ تَنَكَّبُوا هِدَايَةَ الْقُرْآنِ فِيهَا فَكَانَتْ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ مَا نَشْكُو مِنْهُ وَنُحَاوِلُ تَلَافِيَهُ.
الشَّاهِدُ السَّادِسَ عَشَرَ فِي الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ:
تَرَى فِي الْآيَتَيْنِ (118 و119) بَيَانَ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي اخْتِلَافِ الْأُمَمِ فِي الدِّينِ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي التَّكْوِينِ وَالْعُقُولِ وَالْفُهُومِ، وَحِكْمَةُ جَعْلِهَا فِي خَاتِمَةِ السُّورَةِ: أَنَّهَا أَهَمُّ مَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ أَكْمَلُ هِدَايَةً وَهَبَهَا اللهُ لِلْإِنْسَانِ، لِتَكُونَ كَافِلَةً كَافِيَةً لَهُ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، ذَلِكَ بِأَنَّ مَا قَبْلَهَا كُلُّهُ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْمُبَيِّنَةِ لِأَسْبَابِ فَسَادِ الْأَفْرَادِ وَالْأُمَمِ وَقَدْ أَرْشَدَهُمُ الْقُرْآنُ لِاتِّقَائِهَا، فَهُوَ جَامِعٌ لِوَصْفِ أَمْرَاضِ الْبَشَرِ كُلِّهَا وَلِوَصْفِ عِلَاجِهَا، فَمَنْ آمَنَ بِهِ وَتَدَبَّرَهُ مِنَ الْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ الصُّغْرَى (الْبُيُوتِ وَالْفَصَائِلِ وَالْعَشَائِرِ) وَالْكُبْرَى (الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ) عَمِلَ بِهِ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ سَلِمَ مِنَ الْفَسَادِ وَالْهَلَاكِ، وَالْهَلَاكُ حَتْمًا، وَإِنَّمَا يَنْحَصِرُ الْخَوْفُ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ، وَهَذَا التَّرْكُ إِذَا كَانَ مِنْ بَعْضِ الْأَفْرَادِ فَخَطْبُهُ سَهْلٌ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْ جَهَلَهُ بِالْحُكْمِ خَالَفَهُ وَدَوَاؤُهُ التَّعْلِيمُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ فَسَادِ تَرْبِيَتِهِ وَدَوَاؤُهُ النَّصِيحَةُ وَالْإِرْشَادُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَفْرُوضٌ عَلَى إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلِ النَّصِيحَةَ بِالْقَوْلِ فَعِلَاجُهُ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْ حُكُومَتِهِمْ مَعْرُوفٌ، وَكَذَا إِذَا كَانَ التَّرْكُ مِنَ الْجَمَاعَاتِ الْكَبِيرَةِ أَوِ الصَّغِيرَةِ لِلْجَهْلِ أَوْ لِأَسْبَابٍ مَالِيَّةٍ أَوْ عَدَاوَةٍ شَخْصِيَّةٍ، أَوْ عَصَبِيَّةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، عِلَاجُ كُلِّ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ ظَاهِرٌ.
وَإِنَّمَا الْبَلَاءُ الْأَكْبَرُ وَالْمَوْتُ الْأَحْمَرُ وَالْخَطَرُ الْأَسْوَدُ الْمُظْلِمُ فَهُوَ اخْتِلَافُ الشِّيَعِ وَالْأَحْزَابِ فِي الدِّينِ، وَالزَّيْغُ عَنِ الْقُرْآنِ بِاتِّبَاعِ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، فَهَذَا الَّذِي أُشِيرُ إِلَيْهِ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ بِحِرْمَانِ أَهْلِهِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} 118 و119 وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ فِي الدُّنْيَا مَا وَعَدَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَاخْتَصَّهُمْ بِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا مَا هُوَ فِي رَحْمَتِهِ الْمُطْلَقَةِ كَقَوْلِهِ: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} 9: 117، {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} 33: 43 وَمِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِرَحْمَتِهِ بِكِتَابِهِ الْأَخِيرِ الَّذِي أَكْمَلَ بِهِ دِينَهُ وَأَتَمَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ نِعْمَتَهُ، كَقَوْلِهِ فِيهِ: {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} 10: 57 وَمِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِرَحْمَتِهِ بِرَسُولِهِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَهُوَ وَصْفُهُ تَعَالَى إِيَّاهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي قَوْلِهِ: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} 9: 128 فَهَذِهِ الرَّحْمَةُ الْخَاصَّةُ بِالْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ الْأَوَّلِ الْآخَرِ، وَبِكِتَابِهِ الْأَخِيرِ وَبِنَبِيِّهِ الْخَاتَمِ صلى الله عليه وسلم لَا تَتِمُّ لِأَفْرَادِهِمْ إِلَّا بِتَمَامِ الِاهْتِدَاءِ وَالِاتِّبَاعِ لِمَا كَلَّفُوهُ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَلَا تَكُونُ لِجَمَاعَتِهِمْ- وَهِيَ الْأُمَّةُ- إِلَّا بِاعْتِصَامِهَا بِحَبْلِ اللهِ وَعُرْوَةِ الْوَحْدَةِ الْوُثْقَى، بِاجْتِنَابِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْهَا لِمَا نُهُوا عَنْهُ مِنَ التَّفَرُّقِ وَالتَّنَازُعِ فِي الْأُصُولِ الْقَطْعِيَّةِ مِنَ النُّصُوصِ وَالسُّنَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَرَدِّ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ فِي غَيْرِ الْقَطْعِيِّ إِلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ إِلَى تَرْجِيحِ أُولِي الْأَمْرِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ مِنَ السِّيَاسَةِ وَالْقَضَاءِ، وَتَرْجِيحِ الْأَفْرَادِ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الْخَاصَّةِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا فِي مَوَاضِعِهِ، فَالْحَقُّ فِيهِ ظَاهِرٌ، وَلَكِنَّ تَنْفِيذَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي أَمَرَنَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بِاتِّبَاعِهَا وَعَدَمِ مُفَارَقَتِهَا قِيدَ شَعْرَةٍ، وَهِيَ جَمَاعَةُ (أُولِي الْأَمْرِ) وَأَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَثِقُ بِهِمُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنَ الْأُمَّةِ، وَيَنُوطُ بِهِمُ الشَّرْعُ نَصْبَ الْأَئِمَّةِ (الْخُلَفَاءِ) وَالسَّلَاطِينِ عَلَيْهَا وَعَزْلَهُمْ، وَقَدْ فُقِدُوا مَنْ أُمَّتِنَا بِاسْتِبْدَادِ الظَّالِمِينَ مِنْ مُلُوكِ الْعَصَبِيَّاتِ الْمُخْتَلِفَةِ بَعْدَ أَنْ قَضَى عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ، وَتَبَرَّأَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَمِمَّنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ. فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُصْلِحِينَ وَضْعُ نِظَامٍ لِإِعَادَةِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ بَسَطْنَاهُ فِي كِتَابِ (الْخِلَافَةِ أَوِ الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى).
وَأَخْتِمُ هَذِهِ الْخُلَاصَةَ بِحَدِيثِ: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَأَبِي جُحَيْفَةَ مَرْفُوعًا وَأَشَارَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إِلَى صِحَّتِهِ. وَرُوِيَ عَنْ بِضْعَةِ نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِزِيَادَةِ (قَبْلَ الْمَشِيبِ) وَبِزِيَادَةِ «وَأَخَوَاتُهَا» مِنَ الْمُفَصَّلِ فِي بَعْضِهَا، وَبِتَسْمِيَةِ الْوَاقِعَةِ وَالْحَاقَّةِ وَالْمُرْسَلَاتِ وَالنَّبَأِ {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} وَغَيْرِهَا مَنْ سُورِ قِيَامِ السَّاعَةِ فِي بَعْضٍ. وَأَسَانِيدُهَا حَسَنَةٌ فَلْيَتَدَبَّرْهَا الْمُؤْمِنُونَ. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96)}
وخاتمة ذلك القصص هذه الإشارة إلى قصة موسى مع فرعون، لتسجيل نهاية فرعون وملئه، ونهاية قومه الذين ائتمروا بأمره. وتتضمن هذه الإشارة العابرة إيماءات كثيرة إلى وقائع القصة التي لم تذكر هنا، كما تضم مشهدًا من مشاهد القيامة الحية المتحركة. وهذا وذلك إلى تقرير مبدأ رئيسي من مبادئ الإسلام. مبدأ التبعة الفردية التي لا يسقطها اتباع الرؤساء والكبراء..
ويبدأ المشهد المعروض هنا بإرسال موسى بالآيات مزودًا بقوة من الله وسلطان، إلى فرعون ذي السلطان وكبراء قومه.
{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه}..
ويجمل السياق خطوات القصة كلها ليصل إلى نهايتها، فإذا هم يتبعون أمر فرعون، ويعصون أمر الله. على ما في أمر فرعون من حماقة وجهل وشطط: {فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد}... ولما كانوا تبعًا لفرعون في هذا الأمر، يمشون خلفه، ويتبعون خطواته الضالة بلا تدبر ولا تفكر، ودون أن يكون لهم رأي، مستهينين بأنفسهم، متخلين عن تكريم الله لهم بالإرادة والعقل وحرية الاتجاه واختيار الطريق.. لما كانوا كذلك فإن السياق يقرر أن فرعون سيقدمهم يوم القيامة ويكونون له تبعًا: {يقدم قومه يوم القيامة}..