فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)}
عمَّى عن قلوبهم العواقبَ، وأخفى دونهم السوابق، وألزمهم القيامَ بما كَلَّفهم في الحال، فقال: {فَاعْبُدْهُ} فإنْ تقسَّمَ القلبُ وتَرَجَّمَ الظَنُّ وخيف سوءُ العاقبة.. فتوكَّلْ عليه أي اسْتَدْفِعْ البلاَءَ عنك بِحُسْنِ الظَّنِّ، وجميل الأمل، ودوام الرجاء.
{وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}: أحاط بكل شيءٍ عِلْمًا، وأمضى في كل أمرٍ حُكْمًا. اهـ.

.من لطائف القاسمي:

اللطيفة الأولى:
أشار القاشاني عليه الرحمة إلى سر الصلوات الخمس في أوقاتها بما يجدر الوقوف عليه، فقال: لما كانت الحواس الخمس شواغل تشغل القلب بما يرد عليه في الهيئات الجسمانية، وتجذبه عن الحضرة الرحمانية، وتحجبه عن النور والحضور، بالإعراض عن جانب القدس، والتوجه إلى معدن الرجس، وتبدله الوحشة بالأنس، والكدورة بالصفاء؛ فرضت خمس صلوات، يتفرغ فيها العبد للحضور، ويسد أبواب الحواس؛ لئلا يرد على القلب شاغل يشغله، ويفتح باب القلب إلى الله تعالى بالتوجه والنية؛ لوصول مدد النور، ويجمع همه عن التفرق، ويستأنس بربه عن التوحش، مع اتحاد الوجهة، وحصول الجمعية، فتكون تلك الصلوات خمسة أبواب مفتوحة للقلب، على جناب الرب، يدخل عليه بها النور بإزاء تلك الخمسة المفتوحة إلى جانب الغرور، ودارًا للعين الغرور، التي تدخل بها الظلمة ليُذهب النور الوارد آثارَ ظلماتها، ويكسح غبار كدوراتها. وهذا معنى قوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}.
وقد ورد في الحديث: «إن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر». وأمر بإقامتها طرفي النهار، لينسحب حكمها ببقاء الجمعية، واستيلاء الهيئة النورية، في أوله إلى سائر الأوقات، فعسى أن يكون من الذين هم على صلاتهم دائمون، لدوام ذلك الحضور وبقاء ذلك النور، ويكسح ويزيل في آخره ما حصل في سائر الأوقات من التفرقة والكدورة. ولما كانت القوى الطبيعية المدبرة لأمر الغذاء سلطانها في الليل، وهي تجذب النفس إلى تدبير البدن بالنوم عن عالمها الروحاني، وتحجزها عن شأنها الخاص بها، الذي هو مطالعة عالم القدس بشغلها باستعمال آلات الغذاء، لعمارة الجسد، فتسلبها اللطافة، وتكدرها بالغشاوة؛ احتيج إلى تلطيفها وتصفيتها باليقظة، وتنويرها بالصلاة، فقال: {وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ} انتهى.
وقوله تعالى القول في تأويل قوله تعالى: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [115].
{وَاصْبِرْ} أي: على مشاق ما أمرت به من التبليغ، أو على ما يقولون، أو على الصلاة كقوله: {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: من الآية 132]، ولا مانع من شموله للكل.
{فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} أي: في أعمالهم فيوفيهم أجورهم من غير بخس.
قال أبو السعود: وإنما عبر عن ذلك بنفي الإضاعة، لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يمتنع صدوره عنه سبحانه، وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة مع الإيماء إلى أن الصبر على ما ذكر من باب الإحسان. انتهى.
وأشار الشهاب في العناية هنا إلى لطيفة من البلاغة القرآنية، وهو أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت عامة في المعنى، وفي المنهيات جمعت للأمة. وقوله تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ} أي: فهلا وجد: {مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ} أي: بعمل الشرور والمنكرات، فإنه لو كان منهم ناهون لم يؤخذ الباقون: {إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ} استثناء منقطع. أي: لكن قليلًا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد، وسائرهم تاركون للنهي.
اللطيفة الثانية:
(البقية) إما بمعنى الباقية، والتأنيث لمعنى الخصلة أو القطعة، أو بقية من الرأي والعقل، أو بمعنى الفضيلة، والتاء للنقل إلى الاسمية كالذبيحة. وأطلق على الفضل (بقية) استعارة من البقية التي يصطفيها المرء لنفسه، ويدخرها مما ينفقه، فإنه يفعل ذلك بأنفسها. ولذا قيل: (في الزاويا خبايا، وفي الرجال بقايا) و(فلان من بقية القوم) أي: من خيارهم، وجوز كون (البقية) مصدرًا بمعنى (البقوى)، كالتقية بمعنى التقوى، أي: فهلا كان منهم ذوو إبقاء على أنفسهم، صيانة لها من سخطه تعالى وعقابه.
{وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ} أي: ما صاروا منعمين فيه من الشهوات، حتى فجأهم العذاب، وإتباعه كناية عن الاهتمام به وترك غيره، كما هو دأب التابع للشيء.
و: {الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أعم من المباشرين بأنفسهم للفساد، ومن تاركي النهي عنه، وقصره الزمخشري على الثاني، لأنهم المقصود بالنعي قبله، حيث قال: أراد بـ (الذين ظلموا) تاركي النهي عن المنكرات، أي: لم يهتموا بما هو ركن عظيم من أركان الدين وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعقدوا هممهم بالشهوات، واتبعوا ما عرفوا فيه التنعم والتترف، من حب الرئاسة والثروة، وطلب أسباب العيش الهنيء، ورفضوا ما وراء ذلك، ونبذوه وراء ظهورهم.
{وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} أي: بإتباعهم المذكور، أو كافرين. قال القاضي: كأنه أراد أن يبين ما كان السبب لاستئصال الأمم السالفة، وهو فشو الظلم فيهم، وإتباعهم للهوى، وترك النهي عن المنكرات مع الكفر، وقد أشير لذلك بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [117].
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} أي: بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر. و(بظلم) الباء فيه إما للملابسة، وهو حال من الفاعل، أي: استحال في الحكمة أن يهلك القرى ظالمًا لها، وتنكيره للتفخيم، والإيذان بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم. أو للسببية. والظلم: الشرك، أي: لا يهلك القرى بسبب إشراك أهلها وهم مصلحون يتعاطون الحق فيما بينهم، ولا يضمون إلى شركهم فسادًا آخر، وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه تعالى. ولذا قيل: (يبقى الملك مع الشرك، ولا يبقى مع الظلم) وهذا، وإن كان صحيحًا، إلا أن مقام دعوة الرسل إلى التوحيد، ومحو الشرك أولًا، ثم إلى الاستقامة في المعاملات ثانيًا؛ يقضي بحمل (الظلم) هنا على ما هو أعم من الشرك وأصناف المعاصي. وحمل الإصلاح على إصلاحه، والإقلاع عنه بكون بعضهم متصدين للنهي عنه، وبعضهم متجهين إلى الاتعاظ، غير مصرين على ما هم عليه من الشرك ونحوه. كذا أشار له أبو السعود.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [118].
{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: مجتمعة على الحق والإيمان والصلاح ولكنه لم يشأ ذلك: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} أي: في الحق، منهم المؤمن به ومنهم الكافر به.
القول في تأويل قوله تعالى: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [119].
{إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} أي: لكن ناسًا رحمهم بهدايتهم إلى التوحيد، وتوفيقهم للكمال، فاتفقوا في المذهب والمقصد، ووافقوا في السيرة والطريقة، قبلتهم الحق، ودينهم التوحيد والمحبة.
وقوله تعالى: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} في المشار إليه أقوال. أظهرها أنه للاختلاف الدال عليه {مختلفين}. فالضمير حينئذ للناس، أي: لثمرة الاختلاف، من كون فريق في الجنة، وفريق في السعير، خلقهم. واللام لام العاقبة والصيرورة، لأن حكمة خلقهم ليس هذا، لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ولأنه لو خلقهم له لم يعذبهم عليه. أو الإشارة له وللرحمة المفهومة من {رحم} لتأويلها بـ (أن والفعل) أو كونها بمعنى الخير. وتكون الإشارة لاثنين، كما في قوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِك} [البقرة: من الآية 68]. والمراد لاختلاف الجميع ورحمة بعضهم خلقهم. وهذا معزو إلى ابن عباس رضي الله عنهما. وإن كان الضمير لـ (من) فالإشارة للرحمة بالتأويل السابق- كذا في العناية-.
وأشار القاشاني إلى بقاء اللام على معناها، وهو التعليل بوجه آخر، حيث قال: وللاختلاف خلقهم ليستعد كل منهم لشأن وعمل، ويختار بطبعه أمرًا وصنعة، ويستتب بهم نظام العالم، ويستقيم أمر المعاش، فهم محامل لأمر الله، حمل عليهم حمول الأسباب والأرزاق وما يتعيش به الناس، ورتب بهم قوام الحياة الدنيا، كما أن الفئة المرحومة مظاهر لكماله، أظهر الله بهم صفاته وأفعاله، وجعلهم مستودع حكمه ومعارفه وأسراره.
وقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} أي: أُحكمت وأبرمت وثبتت وهي هذه: {لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} والمراد من: {الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} عصاتهما، والتعريف للعهد، والقرينة عقلية لما علم من الشرع أن العذاب مخصوص بهم، وأن الوعيد ليس إلا لهم، ولا حاجة إلى تقدير مضاف كما قيل. بـ: {أَجْمَعِينَ} حينئذ ظاهر، وإن لم يحمل على العهد، وأبقي على إطلاقه، ففائدة التأكيد بيان أن ملء جهنم من الصنفين، لا من أحدهما فقط، ويكون الداخلوها منهما مسكوتًا عنه موكولًا إلى علمه تعالى، فاندفع ما أورد على ظاهرها من اقتضائه دخول جميع الفريقين جهنم، وبطلانه معلوم بالضرورة. أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فالمراد بلفظ {أجمعين} تعميم الأصناف، وذلك لا يقتضي دخول جميع الأفراد، كما إذا قلت: ملأت الجراب من جميع أصناف الطعام، فإنه لا يقتضي ذلك إلا أن يكون فيه شيء من كل صنف من الأصناف، لا أن يكون فيه جميع أفراد الطعام، كقولك: امتلأ المجلس من جميع أصناف الناس، لا يقتضي أن يكون في المجلس جميع أفراد الناس، بل يكون من كل فرد صنف، وهو ظاهر. وعلى هذا تظهر فائدة لفظ {أجمعين}؛ إذ فيه رد على اليهود وغيرهم، ممن زعم أنه لا يدخل النار- كذا في العناية-. ولما ذكر تعالى فيما تقدم من أنباء الأمم الماضية، والقرون الخالية، ما جرى لهم مع أنبيائهم؛ أشار هنا إلى سر ذلك وحكمته، بقوله: القول في تأويل قوله تعالى: {وَكُلًا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [120].
{وَكُلًا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} أي: نقوي به قلبك لتصبر على أذى قومك، وتتأسى بالرسل من قبلك، وتعلم أن العاقبة لك كما كانت لهم. و(كلًا) مفعول (لنقصّ) و{من أنباء} بيان له. و{ما نثبت} بدل من (كلًا) أو خبر محذوف.
{وَجَاءكَ فِي هَذِهِ} أي: السورة، أو الأنباء المقتصة: {الْحَقُّ} أي: القصص الحق الثابت: {وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: عبرة لهم يحترزون بها عما أهلك الأمم، وتذكير لما يجب أن يتدينوا به، ويجعلوه طريقهم وسيرتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} [121].
{وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي: بهذا الحق، ولا يتعظون ولا يتذكرون: {اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي: حالكم من إتباع الأهواء: {إِنَّا عَامِلُونَ} أي: على حالنا من إتباع ما جاءنا والاتعاظ والتذكر به.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} [122].
{وَانتَظِرُوا} أي: العواقب: {إِنَّا مُنتَظِرُونَ} أي: ما وعدنا به من الفتح، وقد أنجز الله وعده. ونصر عبده، فله الحمد وحده.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [123].
{وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: فلا تخفى عليه خافية مما يجري فيهما، فلا تخفى عليه أعمالكم: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ} أي: أمر العباد في الآخرة، فيجازيهم بأعمالهم. وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتهديد للكفار بالانتقام منهم: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} فإنه كافيك: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} بالياء التحتية في قراء الجمهور، مناسبة لقوله: {للَّذينَ لا يُؤمنُونَ} وفي قراءة بالتاء الفوقية على تغليب المخاطب، أي: أنت وهم. أي: فيجازي كلًا بما يستحقه- والله أعلم-. اهـ.

.التفسير الإشاري:

.قال نظام الدين النيسابوري:

التأويل: {ما دامت السموات والأرض} أي ما دامت سموات الأرواح والقلوب وأرض النفوس البشرية: {إلا ما شاء ربك} من الأشقياء، وذلك أن أهل الشقاء ضربان: شقي وأشقى. فالشقي بالمعاصي سعيد بالتوحيد فيخلص من النار آخرًا، والأشقى وهو الكافر يبقى فيها مخلدًا، ومن أهل الجنة سعيد يبقى خالدًا فيها، وأسعد وهم الذين يترقون إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر. وهناك مقام الوحدة الذي لا انقطاع له كما قال: {عطاء غير مجذوذ}، {لموفوهم نصيبهم} الذي قدر لهم في الأزل من الشقاء: {ولولا كلمة سبقت من ربك} باستكمال الشقاء لقضي بينهم بالهلاك عاجلًا: {لفي شك منه} إشارة إلى الضلال. وقوله: {مريب} إشارة إلى الإضلال: {وإن كلًا} أي كل واحد من الضالين ومن المضلين: {فاستقم} أمر التكوين ولذلك قال: {كما أمرت} أي في الأزل، وفي قوله: {ومن تاب معك} إشارة إلى أن النفوس جبلت على الاعوجاج فيحتاج إلى الرجوع من الطريق المنحرف إلى الصراط المستقيم إلى من اختص بالاستقامة بسبب أمر التكوين كالنبي صلى الله عليه وسلم: {إن الحسنات يذهبن السيئات} يعني أن الأعمال الصالحة في الأوقات المعدودة تزيل ظلمات الأوقات المصروفة في قضاء الحوائج النفسانية الضرورية، وذلك أن تعلق الروح النوري العلوي بالجسد الظلماني السفلي موجب لخسران الروح كقوله: {والعصر إن الإنسان لفي خسر} [العصر: 1] إلا أن يتداركه أنوار العمل الصالح فيرقيه من حضيض البشرية إلى ذروة الروحانية بل إلى الوحدة الربانية، فتندفع عنه ظلمة الجسد السفلي مثاله: إلقاء الحبة في الأرض فإنه من خسران الحبة إلى أن يتداركه الماء وسائر الأسباب فيربيها إلى أن تصير الحبة الواحدة إلى سبعمائة. وما زاد ذلك الذي ذكرنا من التدارك عظة للذاكرين الذين يريدون أن يذكروا الله في جميع الأحوال فإنهم إذا حافظوا على هذه الأوقات فكأنهم حافظوا على جميعها لأن الإنسان خلق ضعيفًا ليس يقدر على صرف جميع الأوقات في محض العبودية والعبادة: {فلولا كان من القرون} صورة التحضيض وحقيقته السؤال ليجاب بأنه لم يكن كذلك لأنك فاعل مختار، فعال لما تريد، خلقت خلقًا للإقرار وخلقت خلقًا للإنكار ولا اعتراض لأحد عليك يؤديه قوله: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة} طالبة للحق متوجهة إليه: {ولا يزالون مختلفين} منهم من يطلب الدنيا، ومنهم من يطلب العقبى، ومنهم من يطلب المولى وهم المشار إليهم بقوله: {إلا من رحم ربك ولذلك} أي لطلب الله: {خلقهم} بحسن الاستعداد ولأن رحمته سبقت غضبه، ولكن وقوع فريق في طريق القهر ضروري في الوجود وهو قوله: {وتمت كلمة ربك} جرى به القلم للضرورة وما نثبت به فؤادك التثبيت منه والتشكيك منه، بيده مفاتيح أبواب اللطف والقهر: {إنا عاملون} في طلب الحق من باب لطفه: {وانتظروا} نتائج أعمالكم: {إنا منتظرون} ثمرات أعمالنا: {ولله غيب السموات والأرض} أي ما غاب عنكم مما أودع من لطفه في سموات القلوب ومن قهره في أرض النفوس: {وإليه يرجع} أمر أهل السعادة والشقاء ومظاهر اللطف والقهر: {فاعبده} أيها الطالب للحق فإنك مظهر اللطف: {وتوكل عليه} في الطلب لا على طلبك فإنك إن طلبته بك لم تجده: {وما ربك بغافل} في الأزل: {عما تعملون} إلى الأبد والله حسبي. اهـ.

.قال الألوسي:

ومن باب الإشارة في الآيات: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ} كامل الشقاوة: {و} منهم: {سعيد} [هود: 105] كامل السعادة: {فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِى النار} [هود: 106] أي نار الحرمان عن المراد وآلام ما اكتسبوه من الآثام وهو عذاب النفس: {خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا إِنَّ رَبَّكَ} فيخرجون من ذلك إلى ما هو أشد منه من نيران القلب وذلك بالسخط والاذلال ونيران الروح وذلك بالحجب واللعن والقهر: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] لا حجر عليه سبحانه: {وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِى الجنة} أي جنة حصول المرادات واللذات وهي جنة النفس: {خالدين فِيهَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} [هود: 108] فيخرجون من ذلك إلى ما هو أعلى وأعلى من جنات القلب في مقام تجليات الصفات وجنات الروح في مقام الشهود وهناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقد يحمل التنوين على النوعية ويؤول الاستثناء بخروج الشقي من النار بالترقي من مقامه إلى الجنة بزكاء نفسه عما حال بينه وبينها: {فاستقم كَمَا أُمِرْتَ} أي في القيام بحقوق الحق والخلق وذلك بالمحافظة على حقوقه تعالى والتعظيم لأمره والتسديد لخلقه مع شهود الكثرة في الوحدة والوحدة في الكثرة من غير إخلال ما بشرط من شرائط التعظيم: {وَمَن تَابَ} عن انيته وذنب وجوده: {معك} من المؤمنين الموحدين إلى مقام البقاء بعد الفناء، وقيل: إن الاستقامة المأمور بها صلى الله عليه وسلم فوق الاستقامة المأمور بها من معه عليه الصلاة والسلام والعطف لا يقتضي أكثر من المشاركة في مطلق الفعل كما يرشد إليه قوله تعالىمطلق الفعل كما يرشد إليه قوله تعالى: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} [آل عمران: 18] على قول، ومن هنا قال الجنيد قدس سره: الاستقامة مع الخوف والرجاء حال العابدين، والاستقامة مع الهيبة والرجاء حال المقربين، والاستقامة مع الغيبة عن رؤية الاستقامة حال العارفين: {وَلاَ تَطْغَوْاْ} [هود: 112] ولا تخرجوا عما حدّ لكم من الشريعة فإن الخروج عنها زندقة: {وَلاَ تَرْكَنُواْ} أي لا تميلوا أدنى ميل: {إِلَى الذين ظَلَمُواْ} وهي النفوس المظلمة المائلة إلى الشرور في أصل الخلقة كما قيل:
الظلم من شيم النفوس فان تجد ** ذا عفة فلعلة لم يظلم

وروي ذلك عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر رضي الله تعالى عنهم، وقيل: المعنى لا تقتدوا بالمرائين والجاهلين وقرناء السوء، وقيل: لا تصحبوا الأشرار ولا تجالسوا أهل البدع: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار وَزُلَفًا مِّنَ الليل} أمر بإقامة الصلاة المفروضة على ما علمت، وقد ذكروا أن الصلاة معراج المؤمن، وفي الأخبار ما يدل على علو شأنها والأمر غنى عن البيان: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114] قال الواسطي: أنوار الطاعات تذهب بظلم المعاصي.
وقال يحيى بن معاذ: إن الله سبحانه لم يرض للمؤمن بالذنب حتى ستر ولم يرض بالستر حتى غفر ولم يرض بالغفران حتى بدل فقال سبحانه: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ} [هود: 411] وقال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات} [الفرقان: 70] ذلك الذي ذكر من إقامة الصلاة في الأوقات المشار إليها وإذهاب الحسنات السيآت ذكرى للذاكرين تذكير لمن يذكر حاله عند الحضور مع الله تعالى في الصفاء والجمعية والأنس والذوق: {واصبر} بالله سبحانه في الاستقامة ومع الله تعالى بالحضور في الصلاة وعدم الركون إلى الغير: {فإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} [هود: 115] الذين يشاهدونه في حال القيام بالحقوق: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد في الأرض} [هود: 116] فيه حض على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] قيل: القرى فيه إشارة إلى القلوب: {وَأَهْلُهَا} إشارة إلى القوى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} متساوية في الاستعداد متفقة على دين التوحيد.
{وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] في الوجهة والاستعداد: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} بهدايته إلى التوحيد وتوفيقه للكمال فانهم متفقون في المذهب والمقصد متوافقون في السيرة والطريقة قبلتهم الحق ودينهم التوحيد والمحبة وإن اختلفت عباراتهم كما قيل:
عباراتنا شتى وحسنك واحد ** وكل إلى ذاك الجمال يشير

{ولذلك} الاختلاف: {خَلْقَهُمْ} وذلك ليكونوا مظاهر جماله وجلاله ولطفه وقهره، وقيل: ليتم نظام العالم ويحصل قوام الحياة الدنيا: {لأملان جهنم من الجنة والناس أجمعين} [هود: 119] لأن جهنم رتبة من مراتب الوجود لا يجوز في الحكمة تعطيلها وإبقاؤها في كتم العدم مع إمكانها: {وَكُلًا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرسل مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} لما اشتملت عليه من مقاساتهم الشدائد من أممهم مع ثباتهم وصبرهم وإهلاك أعدائهم: {وَجَاءكَ في هذه} السورة: {الحق} الذي ينبغي المحيد عنه: {وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120] وتخصيص هذه السورة بالذكر لما أشرنا إليه، وقيل: للتشريف، وإلا فالقرآن كله كذلك، والكل يغرف من بحره على ما يوافق مشربه، ومن هنا قيل: العموم متعلقون بظاهره، والخصوص هائمون بباطنه، وخصوص الخصوص مستغرقون في تجلى الحق سبحانه فيه: {وَللَّهِ غَيْبُ السموات} على اختلاف معانيها: {والأرض} كذلك: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ} أي كل شأن من الشؤون فإن الكل منه: {فاعبده} اسقط عنك خظوظ نفسك وقف مع الأمر بشرط الأدب: {وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} الا تعمتم بما قد كفيته واهتم بما ندبت إليه: {وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُون} [هود: 123] فيجازي كلا حسبما تقتضيه الحكمة والله تعالى ولي التوفيق وبيده أزمة التحقيق لا رب غيره ولا يرجى إلا خيره.
انتهى ما وفقنا له من تفسير هود بمنّ من بيده الكرم والجود، ونسأله سبحانه أن ييسر لنا إتمام ما قصدناه، ويوفقنا لفهم معاني كلامه على ما يحبه ويرضاه، والحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على من لا نبي من بعده، وعلى آله وصحبه وجنده وحزبه، ما غردت الأقلام في رياض التحرير، ووردت الأفهام من حياض التفسير. اهـ.