فصل: مطلب جرائم إخوة يوسف وفائدة العفو وصلاح الوالدين وعظيم فضل اللّه تعالى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أخرج أبو الشيخ وغيره عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تلقنوا الناس فيكذبوا فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الناس، فلما لقنهم أبوهم كذبوا، فقالوا أكله الذئب. والحزن ألم القلب لفقد محبوبه. والخوف انزعاج النفس لنزول المكروه: {قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخاسِرُونَ 14} عاجزون هالكون إذا لم نقدر على حفظه من الذئب بل من الأسد، كيف وهو أعزّ شيء عندنا، فلما رأى عزمهم على حفظه وحزمهم على محافظته بعد أن أقسموا إليه بإزالة ما خطر بباله واطمأنوا على سلامته ورأى رغبة يوسف بالذهاب معهم، عهد إليهم بمراقبته، وتعهدوا إليه بذلك كله، أذن لهم به، ففرح يوسف لموافقة أبيه ولم يصدقوا متى ينقضي الليل، فلما أصبحوا أخذوه معهم {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ} إلى البادية وبعدوا عن العمران وصرفوا النظر عن قتله اتباعا لقول يهوذا صاحب مشورتهم {وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ} المار ذكره فعمدوا إليه وقبضوه وطرحوه فيه. هذا ما قصه اللّه علينا في كتابه.
أما الأخباريون فقالوا لما بعدوا به عن العمران أظهروا له الجفاء والعداوة مما هو كامن في صدورهم، طفقوا يضربونه، وصار كلما استغاث بواحد منهم ضربه، فلما رأى عزمهم على قتله شرع يصيح يا أبتاه لو رأيت ما نزل بيوسف من اخوته لأحزنك وأبكاك، يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك وضيعوا وصيتك، فأخذه روبيل وضرب به الأرض وجثم على صدره ليقتله، فاستغاث بيهوذا فأدركته رحمة الأخوة ورقّ له، فقال يا اخوتي ما على هذا عاهدتموني فخلّصه من يده، وقال ألقوه بالجب، فإما أن يموت أو يلتقطه بعض السيّارة.
فذهبوا إلى بئر هناك ضيق الرأس واسع الأسفل فشدوه بحبل ودلوه فيه، فتعلق بشفيرها وكانوا شلحوه قميصة، فقال دعوه أستتربه، فلم يفعلوا، وقال لهم أتتركوني في هذه البرية وبهذا الجب فريدا وحيدا؟! فقالوا له دع الشمس والقمر والكواكب يسترونك ويؤنسونك، وأرسلوه في البئر وهو يستغيث بهم ولا مغيث، ولما بلغ نصف البئر ألقوه إرادة موته، وكان في البئر ماء فسقط فيه، وتركوه ورجعوا وقالوا إن ملكا أرسله اللّه إليه فحلّ وثافه، وأخرج له صخرة من البئر فأجلسه عليها، وقالوا إن يعقوب لما بعثه مع إخوته أخرج له قميص إبراهيم الذي كساء اللّه إياه في النار حين ألقي فيها وهو من الجنة، فجعله في قبعته وجعلها في عنقه، فأخرجه الملك وألبسه إياه، فأضاء له الجب من بريقه، وعذب ماء الجب، وصار له غذاء وشرابا، ولما نهض الملك ليذهب وكان جبريل عليه السلام قال له يوسف إذا خرجت استوحشت، فقال له إذا رهبت فقل: يا صريخ المستصرخين، ويا غوث المستغيثين، ويا مفرج كرب المكروبين، قد ترى مكاني، وتعلم حالي، ولا يخفى عليك شيء من أمري، فقالها فاستأنس وحفته الملائكة.
قال تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ} في البئر حال صغره كما أوحينا إلى عيسى ويحيى من بعده في صغرهما، وكان عمره سبعة عشرة سنة كما قدمناه في الآية 7 المارة: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا} الذي فعلوه بك وأنت صاحب السلطة عليهم {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ 15} أنك أنت يوسف كما أنهم لم يشعروا كيف آنسناك بالبئر وجعلنا ماءه لك طعاما وشرابا، ولا يعلمون حينما يأتونك في مصر ليمتاروا لأهلهم وأنت عامل فيها، ولا يعرفونك إذ يأتونها وأنت ملكها لطول العهد وعدم تصور أذهانهم بما تصير إليه إذ ذاك من علو الشأن وعظمة السلطان ولا يدرون بأنا أعلمناك بأنك ستخبرهم بصنيعهم هذا معك، وفائدة هذا الوحي تطبيب قلبه وإزالة الهم عنه وغم الوحشة تقوية لجنانه، وهذا الوحي إما بواسطة الملك الذي كان معه في البئر أو بإلهام من اللّه، والأول أولى لما مر.
قالوا ولما أتموا فعلتهم هذه لم يروا ما يعتذرون به إلا ما لقنهم أبوهم، فعمدوا إلى ذبح سخلة ولطخوا ثوبه بدمها ليعرضوه إلى أبيهم علامة على صدقهم المموّه قال تعالى: {وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً} تأخروا عن موعدهم كل يوم تبريرا لعذرهم وصاروا {يَبْكُونَ 16} بأعلى صوتهم عند ما دخلوا الدار، فقال لهم يعقوب ما لكم هل أصاب أغنامكم شيء؟ قالوا لا وإنما أصابنا ما هو أعظم، فأحسّ هنالك وقال أين يوسف {قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ} في العدو والرمي في البادية {وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا} ثيابنا وزهابنا {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} حال غفلتنا عنه {وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا} ونعلم أنك لا تصدقنا بهذا {وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ 17} حقيقة فيما ذكرناه لك من واقع الحال لشدة محبتك له بل قد تتهمنا بالكذب، وقد تقدموا له بعدم تصديقهم لأنهم كاذبون مختلقون ما قالوه، وقالوا له إن الدليل على صدقنا هو هذا المحكي عنهم بقوله تعالى: {وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} دم سخلة، ومما يثبت كذبهم أن القميص غير ممزق ولا يعقل أن ذئبا يأكل إنسانا وهو لابس قميصه ولا يمزقه، كما لا يعقل أنه نزع عنه القميص ثم أكله، لذلك كذبهم {قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} عظيما أوقعتموه بيوسف، فاذكروا إلي ما هو حقا، قالوا لا غير ذلك، وأنكروا عليه أمره وأصروا على أقوالهم، فأعرض عنهم وقال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} لا شكوى فيه إلا إلى اللّه، ولا جزع ولا تحدث بالمصاب لغيره، ولا تزكية للنفس {وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ} به على ما أنا عليه لا أطلب العون من غيره {عَلى ما تَصِفُونَ 18} من الكذب في أمر يوسف، قال هذا إظهارا للتجلد وعزما على الصبر، وتفويضا لأمر اللّه، قال ابن الفارض:
ويحسن إظهار التجلد للعدى ** ويقبح غير العجز عند الأحبة

أي لا يحسن إظهار التجلد والصبر على صدمات الدهر مطلقا، بل يحسن للأعادي، أما عند الأحبة فيحسن العجز، لأن إظهار التجلد عندهم قبيح جدا، قال سحنون يخاطب ربه:
وليس لي في سواك حظ ** فكيفما شئت فاختبرني

قالوا فابتلاه اللّه تعالى بحصر البول، فاعترف بعجزه، فصار يطوف بسكك بغداد ويقول للأولاد أدعوا لعمكم الكذاب يعني نفسه، فعفا اللّه عنه.
وإنما كذبهم عليه السلام لأنهم احتجوا بما قاله لهم، ولأنه وقع في خلده كذبهم، ولأنه يعلم حنقهم عليه، ولذلك فعلوا فعلتهم أول يوم ذهبوا به إذ لم يبق بوسعهم تصوّره، عفا اللّه عنهم، هلا صبروا عليه يوما أو أسبوعا ليرى صدقهم فيما تعهدوا به، ثم يفعلوا فعلتهم هذه، وإن مغزى قوله تعالى: {أَنْ تَذْهَبُوا} وقوله: {فذهبوا} ينمّ على ذهابهم به أي إهلاكهم إيّاه، لو قدرهم اللّه عليه، ولكن منعهم فألقوه في البئر وأوقع في قلوبهم أن هذا الإلقاء هلاك له، وبعد أن رأوا من أبيهم ما رأوا برد صدرهم، وقالوا قضي الأمر بهذه الكلمات وسيزول من صدره أولا بأول، وقد تم ما أردناه وانصرفوا لعملهم، قال تعالى: {وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ} الذي يستسقي لهم الماء، قالوا إنه مالك بن ذعر الخزامي من أهل مدين {فَأَدْلى دَلْوَهُ} في ذلك البئر لإخراج الماء لقومه، فتعلق يوسف بالدّلو فلما خرج إلى فمه ورآه الوارد على أحسن صورة من الغلمان، وقد جاء في الخبر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال أعطي يوسف شطر الحسن، قالوا وكان إذا تبسم رأيت النور في ضواحكه، وإذا تكلم رأيت شعاع النور في ثناياه، فلم يتمالك نفسه من شدة الفرح، إذ {قالَ يا بُشْرى} خاطب أصحابه بعد أن ذهب به إليهم وهم قريب منه بقوله: {هذا غُلامٌ} خرج مع الدلو فأمسكته وأتيت به إليكم، أن ناسا خطفوه من أهله {وَأَسَرُّوهُ} خبأوه هنا وجعلوه {بِضاعَةً} ليبيعوه كي لا يعلم به أحد {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ 19} لا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه، فابتهج به كل السيارة وكل تمنى أن يكون له، قالوا وكان أخوه يهوذا يتعهده الفينة بعد الفينة كلما يأتي قريبا من البئر لأجل المرعى وكان يأتيه بطعام خلسة عن أخوته فيطرحه في البئر، ولم يعلم أنه ليس بحاجة إلى طعامهم، إذ كفاه اللّه بالماء، وأنه جاء كعادته فنظر في البئر فلم يره، وقد مضى على إلقائه ما يقارب السنة، وإن إخوته الآخرين لم يعلموا يعمل يهوذا ولم يتعاهدوه وظنوا أنه قد هلك من وقته، فلما لم يجده رجع وأخبر إخوته بالأمر، فتحسس دمهم عليه وحدا بهم داعي حب الأخوة فندبهم إلى التحري عنه، فأجابوه وأطاعوه وساروا في طلبه يمينا وشمالا، فوجدوه عند السيارة، وتحدثوا بينهم عما يقولون، فاتفقوا على أن قالوا هذا عبدنا أبق ونظروا إليه وهددوه بالقتل إن هو كذبهم، فاعترف لهم بذلك خوفا منهم لما ذاق من ضرهم، لاسيما وقد أشار إليه يهوذا بذلك وهو أرقهم عليه وأرأفهم به، إذ لم ير العطف إلا منه، وهو الذي خلصه من الذبح من يد روبيل، وإذ ظهر للسيارة أنه عبد لهم بسكوته على قول إخوته وسكوته قبلا على قول الذي أخرجه من البئر طلبوا بيعه منهم، فاتفقوا على ذلك.

.مطلب جرائم إخوة يوسف وفائدة العفو وصلاح الوالدين وعظيم فضل اللّه تعالى:

قال تعالى: {وَشَرَوْهُ} منهم {بِثَمَنٍ بَخْسٍ} ناقص عن قيمة أمثاله فيما لو فرض أنه عبد أو مبخوس حرام، لأنه حر لا يجوز بيعه {دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ} إشارة إلى قلتها، قالوا هي ثلاثون درهما، لأنهم كانوا يعدون ما دون الأربعين، والأربعون أوقية فيزنونها وزنا، وفي هذا المبلغ عينه دلّ يهوذا الأسخريوطي اليهود على عيسى ليغتالوه، فألقى شبهه عليه، رفداه اللّه به، فقتل ورفع عيسى إلى السماء كما ستوضحه في الآية 58 من النساء، {وَكانُوا فِيهِ} أي تساهل أخوة يوسف في أمره حتى جعلوه عبدا وباعوه بقيمة بخسة بما يدل على أنهم {مِنَ الزَّاهِدِينَ 20} فيه الراغبين عنه لبقاء حنقهم عليه، قالوا وبعد أن قبضوا ثمنه من السيارة قالوا لهم استوثقوا منه لئلا يهرب منكم كما أبق منا، قالوا وسبب بيعه لهم لأنهم لم يقدروا على أخذه من السيارة لكثرتهم، ولم يقدروا على قتله بعد أن صار بأيديهم، وتأسوا بقولهم قد حصل ما كنا نريده من تغريبه والذين أخذوه من أهل مصر، وهي بعيدة عنا فيكون فيها بحكم المعدوم لعدم إمكان وصول خبره إلى أبيه، فتركوه وذهبوا ولما وصلوا إلى مصر باعوه إلى العزيز خازن ملكها الريان بن الوليد بن يزوان من العماليق بعشرين دينارا وزوج نعل وثوبين، هذا ولم يوقع اللّه في قلوب أخوته أن بيعه للسيارة قد يفضي إلى مجيئه أو إعلام أبيه به، ولم يوقع في قلوبهم أن ردوه إلى أبيهم واعتذروا له وأزاحوا عن قلبه الغم والهم الذي حل فيه من أجله بل أوقع في قلوبهم أنه صار بحكم الميت وأن حجتهم التي احتجوا بها لأبيهم تمت لئلا يظهر كذبهم لأمر أراده اللّه، ولا يكون إلا ما أراده، وقد اشتمل عمل أولاد يعقوب بأخيهم على عدة جرائم:
1- قطيعة الرحم 2- وعقوق الوالد 3- وقلة الرأفة بالصغير الذي لا ذنب له 4- والغدر بالأمانة 5- وترك الوفاء بالعهد 6- والكذب 7- وبيع الحر 8- والافتراء بأنه عبد أبق منهم 9 وقصد القتل دون جرم 10- واجتماعهم على هذه الخصال التي كل واحدة منها موجبة لغضب اللّه فضلا عن كذبهم على أبيهم فيما أخبروه به، ومع هذا فإن اللّه واسع الرحمة عفا عنهم وشرفهم بالنبوة وبارك في ذريتهم وجعل فيها الملك والنبوة، وذلك لصلاح والدهم وعفوه عنهم واستغفاره لهم واستغفار أخيهم لهم وعفوه عنهم حال القدرة، فصلاح الوالدين نافع بالدنيا والآخرة قال تعالى: {أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية 20 من الطور وبمعناها الآية من سورة المؤمن والآية 141 من سورة الكهف الآتيات، ألا فلا يقنط أحد أو بيأس من رحمة اللّه ولو عمل ما عمل إذا تاب وأصلح ورد المظالم لأهلها، راجع ما قدمناه في الآية 70 من سورة الفرقان وهذا من عظيم فضل اللّه الذي ألمعنا إليه في الآية 12 من سورة القصص وقرئ {يا بشراي} أي على إضافة البشرى لنفسه، أو على كونه اسم غلام عنده، وبعضهم أعاد ضمير {وَشَرَوْهُ} إلى مالك المذكور وبعض رفاقه من السيارة، أي خبأوه وجعلوه بضاعة ليبيعوه ويختصوا بثمنه دون بقية السيارة، وبعضهم فسر {شَرَوْهُ} بباعوه، وما مشبنا عليه أوفق لظاهر القرآن وأنسب للمعنى.
قال تعالى: {وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ} بعد وصوله إليها واسمه قطفير ويلقب بالعزيز {لِامْرَأَتِهِ} زليخا بنت يمليخا وقيل راعيل بنت رعابيل، ومقول القول: {أَكْرِمِي مَثْواهُ} إقامته عندك وقدمي له أحسن الطعام والشراب واكسيه أفخر الحلل وا أمري له بألين الفراش لأن فراستي فيه عظيمة ونحن ليس لنا ولد {عَسى أَنْ يَنْفَعَنا} في مصالحنا أو نربح به إذا أردنا بيعه {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} إذا تبين لنا صلاحه، وكان لا يولد لها وذلك لما رأى من سيماه وأخلاقه وما هو عليه من الحسن والأدب، قال ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة العزيز في يوسف، وابنة شعيب في موسى، وأبو بكر في عمر حين استخلفه على الأمة عند موته رضي اللّه عنه {وَكَذلِكَ} مثل ما أنجينا يوسف من القتل وأخرجناه من البئر وعطفنا عليه قلب العزيز {مَكَّنَّا} جعلنا قرارا ومكانة ومقاما عظيما كريما {لِيُوسُفَ} الصديق الصابر {فِي الْأَرْضِ} من مصر تمكينا ثابتا، وجعلنا له فيها منزلة راسخة عليه عند عزيزها حتى إنه أمر امرأته بإكرامه وعلمها بكرامته عليه دون سائر حاشيته وغرسنا حبه في قلبه وقلب زوجته حتى صار مقربا عندهما على غيره من الخدم وصارا ينظران إليه بصفة ولد {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ} بغير الرؤيا التي هي السبب في خلاصه ممّا سيبتلى به من السجن وبراءته مما يتهم به، ونملكه على مصر، إذ أن الملك سيفوضه بكل شيء ويقيمه مقامه كما سيأتي {وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ} الذي شاءه ليوسف عليه السلام، وهو المتولي عليه لا يكله إلى غيره حتى يبلغ منتهاه من الدارين، وهو الذي يفعل ما يشاء له ولغيره، ويفعل ما يريد لا رافع لأمره ولا راد لقضاه، ولا يغلبه غالب، وهو الذي يبلغه ما قدره له في علمه ويخلصه مما يبتلى به، وأعاد بعض المفسرين ضمير أمره إلى يوسف، ولا مندوحة فيه، لأنه غالب على أمر يوسف وغيره وكافة خلقه {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 21} صنع اللّه في يوسف وما يراد منه أن يكون، وعلم ذلك منوط به وحده، {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} تقدم معنى الأشد في الآية 212 من سورة القصص: {آتَيْناهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} يقضي به بين الناس بحسب شريعة آبائه لا بمقتضى ما يراه من ملكه لأن الأنبياء يلهمون خلقة من حين الولادة، فضلا عن أنه عليه السلام نبئ بالبئر كما مر وهو في الثامنة عشرة من عمره، وأدخل في السجن وهو أبن ثلاث وثلاثين، كما نبئ عيسى بالمهد ويحيي في السابعة من عمره، راجع الآيتين 41 من سورة مريم، و1 من سورة طه، فالنبوة سابقة لهذا، وما قيل إنه حين ألقي بالجب كان عمره عشر سنين ضعيف إذ يكون بقاءه في الجب ثماني سنين، ولم يقل به أحد، وقيل إن المراد بالحكم هنا الحكمة، وهي في لسان الشرع العلم النافع المؤيد بالعمل، لان العلم بدون العمل لا يعتدّ به، والعمل بخلاف العلم سفه، والمراد بالعلم هنا تأويل الرؤيا، والأولى أن يؤول الحكم على ما جرينا عليه كما عليه أكثر المفسرين، والمراد بالعلم الفقه بالدين لأنه عليه السلام كان يرجع إليه جل أهل مصر في أمورهم، حتى إن العزيز صار يحيل من يأتي إليه ليتحاكم مع خصمه إلى يوسف لما رأى من حدة عقله وإصابة رأيه، لهذا فإن ما قاله ابن عباس رضي اللّه عنهما إن المراد بالحكم هنا النبوة وبالعلم الشريعة وجيه أما القول برسالته فلا، لأنه أرسل بالسجن، وكذلك القول بأنه أعطي شريعة خاصة أو أنزل عليه كتاب، وهذا يقال إذا كان هناك نص صريح يستند إليه، وليس فليس، {وَكَذلِكَ} مثل هذا الجزاء الحسن {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ 22} في هذه الدنيا الصابرين على النوائب أمثال يوسف عليه السلام، وفي الآية إعلام بأنه كان محسنا في أعماله متقنا مسالك التقوى والورع في عنفوان شبابه، ومن هنا قال الحسن من أحسن عبادة اللّه تعالى في شبيبته آتاه اللّه الحكمة في اكتهاله، قال تعالى: {وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها} خادعته ودعته لنفسها وطلبت منه أن يواقعها، والمراودة مفاعلة من راد يرود، إذا جاء وذهب {عَنْ نَفْسِهِ} الطاهرة الزكية وجيء بعن بدل من دلالة على أن السيدة زليخا زوجة العزيز نازعته في ذلك لما هو عليه من حسن الأدب والصورة، بأن صارت تطلب منه الفعل وهو يطلب الترك، كما تقول جاذبته عن كذا، لأن عن، تدل على البعد، فكأنها تجذبه لنفسها جذبا بالغا وهو يتباعد عنها تباعدا مقصودا.