فصل: مطلب خلاصة القول بالهم وبطلان أقوال من قال به والشهادات على براءة يوسف عليه السلام:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذا إعلام بكمال نزاهته وإظهار عفته، لأن عدم ميله إليها مع دوام مشاهدته لحسنها وقربه منها مثبت لذلك، وأن استعصاءه عليها مع كونه تحت يدها يؤذن بأنه في أعلى معارج العفّة ويعلن أنه بأسنى درجات النزاهة، كيف لا وقد شرفه اللّه بالنبوة وزاده عليها الحكم بين الناس وتعبير الرؤيا؟ ولما رأت عدم رغبته بما طلبته ناشئ عن أمر قلبي كرهه في تنفيذ طلبها غضبت عليه، وجرته لداخل الدار {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ} عليه، واعلم أن تضعيف الفعل يدل على التكثير، أي أنه ليس بابا واحدا بل أبواب كثيرة، قالوا إنها سبعة، واحد داخل الآخر والتفتت إليه {وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ} تعالى أقبل إلي، فقد هيئت لك، وهي لغة حوارن إذ ذاك، أي هلم أفعل ما آمرك به، وفيها معنى الحث على الفعل، وقيل إن هيت بالعبرانية.
بمعنى تعال فعرّبت إلى هيت لك، أو أنها في الأصل كلمة عربية وافقت العبرانية كما وافقت لغة العرب لغة الروم في القسطاس، ولغة العرب لغة الفرس بالتنور، ولغة العرب لغة الترك في الغسّاق، ولغة العرب لعة الحبشة في ناشئة الليل من باب توارد اللغات، وقد مر لك تحقيق هذا وغيره من الكلمات المقول فيها أنها أجنبية مفصلا في الآية 182 من سورة الشعراء، وقرئ {هيئت لك} بالهمز، أي تهيأت، وهو اسم فعل مبني على الفتح كأين، وما قيل إنها سريانية أو قبطية أقوال لا مستند لها إلا استعمالها، وإن استعمالها في اللغات الأخرى لا يدل على أنها منها دلالة قطعية، لأن اللغات متداخلة بعضها في بعض، والأحسن أن يقال عربية استعملها الغير كما أوضحناه هناك.
ولما سمع عليه السلام منها ذلك ورأى عزمها عليه من حالها وتعليق الأبواب عليه ولا محل للهرب منها، صدّ عنها وولاها ظهره وصارحها بقوله: {قالَ مَعاذَ اللَّهِ} اعتصم به وألجأ إليه ممّا دعوتني إليه وتريدينه مني {إِنَّهُ} زوجك العزيز {رَبِّي} ربّاني تربية حسنة وأكرمني و{أَحْسَنَ مَثْوايَ} عنده وأمرك بإكرامي، وقد عظمت منزلتي عنده وجلّ مقامي لديه وفوضني القضاء بين الناس قصدا لعلو شأني عندهم، وأنت زوجته ولك من الحق عليّ مثل ما له، فإن خنته فيك فأنا ظالم من وجهين لإقدامي على ما هو محرم وخيانتي لمن له فضل علي لأني عشت بنعمته {إِنَّهُ} أستعيذ به وألجأ إليه هو اللّه ربي وربك ورب العالم أجمع {لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ 23} عنده ولا يفرزون بالنجاح لديه والزناة يؤوبون إليه بخسران سعادة الدنيا والآخرة.
وهذا منه عليه السلام اجتناب ما وراءه اجتناب وامتناع ما بعده امتناع، لأنه قد علله من جهات أولا أنه منكر فاحش يجب أن يعاذ منه باللّه ويلجأ إليه بالخلاص من قربانه لما علم بتعليم اللّه إياه من قبحة وسوء عاقبته، ثانيا أن زوجها سيده وقد أحسن إليه وأوصاها بإكرامه فكيف يمكن أن يسيء إليه بالخيانة، وهو سبب ظاهري ذكره لها علّه أن يؤثر فيها وتتأثر منه فتردع وتزجر نفسها مما سولت لها به، ثالثا أن من يفعل هذا الفعل الخبيث يكون ظالما محروم الظفر بالبغية الطيبة والسعادة ورفاه العيش في الدنيا والآخرة.
وأن إجابة طلبها في غاية الخسة ونهاية الرذالة تجاه من يتعاهده بالخير ويعطف عليه، وكل هذا لم يؤثر فيها لما داخل قلبها من حبه، فأدركته وأقبلت عليه وحرّضته وحذّرته، فلم يفعل وأكد لها إعراضه، ووعظها بما أوتيه من فصاحة في اللفظ وبلاغة في المعنى وشدة في الخطاب، وهي عن ذلك بمعزل، فرمت نفسها إليه وعكفت بكلها عليه وهذا مغزى قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} عزمت عزما شديدا عليه إلّا أن يفعل وقربت نفسها منه، وهو يدافعها ولم ينجع بها الوعظ ولا غيره، إذ لم يبق عندها المزجر مسمع ولا للتحذير من سوء العاقبة مطمع، وهنا يحسن الوقف ثم الابتداء بقوله تعالى: {وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ} وهو النبوة الجليلة، فلولاها ولولا حصول العصمة بها شأن كل نبي لهمّ بها وقاربها، مثل الهم والقربان اللّه الذي فعلتهما هي، ولكن عهد إليه بالنبوة حال دون ذلك.
وقال السيد محمد رشيد رضا في تفسيره المنسوب إلى محمد عبده: أرادت قتله حين امتنع من إجابة طلبها وهو أراد قتلها ليتخلص مما دعته إليه، ولكن القتل أمر عظيم حال دونه مقام النبوة التي تتباعد عن كل مخالفة لما نهى اللّه.
وهو رأي جيد إلا أنه لم يقل به أحد من المفسرين، مع أن الهم قد يأتي بمعنى القتل.

.مطلب خلاصة القول بالهم وبطلان أقوال من قال به والشهادات على براءة يوسف عليه السلام:

هذا وكان الهم منه هم الطباع مع الامتناع لا كهمها هي الذي هو هم السباع المقصود منه إجراء الفعل، ولو كان كذلك وحاشاه من ذلك لما مدحه اللّه عليه بآخر هذه الآية بقوله: {إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ} وقيل إنه قصدها بخاطره قصدا غير مختار، وهو من دواعي القلب ولا صنع للعبد فيما يخطر في قلبه، ولا مؤاخذة عليه بل يثاب عليه ويكتب له به حسنات كثيرة، ومن سماء ذنبا فهو بالنسبة لمقامه لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وإلا فالهم الحقيقي منتف في حقه عليه السلام بنص قوله تعالى: {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ} وفيه كفاية، ويفهم مما تقدم أن هم النفس لا يؤاخذ عليه البشر مطلقا كما بيناه في الآية 84 من القصص، وله صلة في الآية 254 من البقرة، وقال إذا وطنت النفس على الهم فهو سيئة وإلا فلا، والقول الحق إن مطلق الهم لم يقع منه، ولم يجل بخاطره، ولم تحدثه به نفسه البتة، وحاشا أن تتوطن نفس السيد يوسف على مثل ذلك الهم، وأنى لها ذلك وهي مقدسة في جسد طاهر شريف عصمه اللّه تعالى من كل شائبة.
ومن هنا تعلم سخافة قول من قال إن الشيطان جرى بينهما حتى أخذ بجيده وجيدها وجمع بينهما، وأنى للشيطان من مقاربة من تكفل اللّه بعصمته بقوله: {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ} الآية 43 من سورة الحجر الآتية، وقال تعالى حكاية عن إبليس: {إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} الآية 41 منها أيضا، وشناعة قول القائل إنه عليه السلام وحاشاه جلس منها مجلس الخائن، وقباحة قول الآخر بأنه حل سراويله وصار يعالج ثيابه، كأن هذين الخبيثين كانا ثالثهما والشيطان حاضرين معهما، قاتلهم اللّه، وكذب من قال أن البرهان المذكور في الآية هو أنه لما أراد مقاربتها رأى كفا مكتوبا عليه {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِرامًا كاتِبِينَ} الآية 10 فما بعدها من سورة الانفطار الآتية التي كانت في علم اللّه الأزلي الذي لم يطلع عليه أحد غيره، ولم يعلم بها جبريل مع قربه من ربه، لأنه لا يعلم ما في القرآن، وحتى القرآن لا يعلم ما هو إلا بعد نزوله ووضعه في بيت العزة، فمن أين يا ترى رأوا ذلك الكف فإن كان كما يقول فهو كاذب، وإن كان غيره فلا صحة له.
قال فلما رأى ذلك ولى هاربا ثم عاد فرأى {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا} الآية 32 من الإسراء المارة، قال فلم ينجع به، ثم رأى الآية 284 من سورة البقرة وهي {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} على ذلك الكف أيضا، ثم انفرج سقف البيت فرأى يعقوب عاضّا على إصبعه يقول له أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء، وأن جبريل ضربه بصدر الذي فخرجت شهوته من أنامله، وأقوال أخر يأبى القلم كتابتها ويندى الجبين من ذكرها، ويستحي الجاهل من سماعها فضلا عن قبولها، وباليته استشهد بشيء مما نزل على إبراهيم فمن قبله من الأنبياء، لأن هذه الآيات بلفظها نزلت في القرآن العظيم بعد يوسف بقرون كثيرة، واختلاق القائل أقاله اللّه من رحمته بأنه حل سراويله وقعد بين شعبها الأربع وهي مستلقية وأنه سمع صوتا يقول إياك وإياها مرتين، وصوتا ثالثا اعرض عنها، فلم ينجع به، فهذه كلها أقوال واهية باطلة منكرة لا نصيب لها من الصحة، ونسبة بعضها إلى ابن عباس وغيره من خيار الناس افتراء محض وافك خالص وبهت مختلق وكذب مدبر، وحاشاهم من هذه التهم التي لا تقع من أدنى الناس، وقد ألصقها بهم من لا خلاق له في الآخرة، قصد توجيه أنظار الناس إليها للأخذ بها والتصدي لكرامة الأنبياء المعصومين من النقائص المادية والمعنوية، قاتل اللّه الأفاكين المنافقين، فانظر أيها العاقل حماك اللّه أن هذه الآيات التي يزعمونها ظهرت إلى السيد يوسف عليه السلام، ولم يرتدع بها لو وقعت لأكبر زنديق وأفسق فاسق وأشقى شقي وأفجر فاجر وأدنى دنيء وأعصى العصاة وأعتى العتاة وأبغى البغاة وأطغى الطغاة لا نكف عن ذلك الفعل، فكيف يتصور أن يتصور رؤية ذلك كله من قبل السيد يوسف ولم يرتدع وهو نبي اللّه معصوم بعصمته محفوظ بوقايته؟! واعلم أن مما يفتد هذه الأقوال ويكذبها عدم إسنادها لنقل صحيح أو نص صريح من آية أو حديث.
وهاك الشهادات الواقعة ببراءته عليه السلام من الآيات:
أولا شهادة المرأة نفسها كما حكى اللّه تعالى عنها بقوله: {وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} وقوله تعالى: {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} أي في قوله بريء مما عزي إليه.
وثانيا شهادة زوجها فيما حكى اللّه عنه في قوله: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا} الأمر لا تتكلم به ولا تحدث أحدا فيه، فإني عالم ببراءتك.
ثم نظر إليها بغضب وقال: {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ} بادعائك على يوسف وإسنادك الفعل إليه.
ثالثا شهادة الولد كما حكى اللّه عنه بقوله: {وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها} إلخ {إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.
رابعا شهادة يوسف عليه السلام بقوله كما ذكر اللّه عنه {هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} وهو لا ينطق عن هوى لاعتصامه بالنبوة الكاملة المبرأة من كل عيب، وقوله: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}.
خامسا شهادة اللّه تعالى ذاته بقوله عز قوله: {كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ} ومن أصدق من اللّه قيلا، ومن أصدق من اللّه حديثا، فتنبه رعاك اللّه، أبعد هذه الشهادات القاطعة يجترئ أحد على مس كرامته عليه السلام، إلا من أعمى اللّه بصره وأعمه بصيرته، ومن ناصب العداء لأولياء اللّه؟ هذا، أما ما حكاه اللّه عنه في قوله: {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي} أي ما أبرئ نفسي من مجرّد الهم النفسي ليس إلّا، على أنه يحتمل أن لا يكون هم نفسي أصلا، وإنما قال ما قال على طريق التواضع والاعتراف بمخالفة النفس لقولها.
أما عدم ضربها لدفعها عما همّت به كما يقول بعض المنهوكين فهو لحكمة أرادها اللّه، ولأنه أوّلا لا يجسر عليها لأنها سيدته بحسب الظاهر وهو تحت تربيتها ونعمتها وإسارتها أيضا، لأن سيدها اشتراه كالعبد، ثانيا لأنه لو ضربها لتسببت في قتله وادعت أنه ضربها لعدم انقيادها له، ثالثا لو دافعها فعلا باليد لمزقت ثيابه من قدام فيكون دللا على اقدامه بخلاف تمزيق ثيابه من خلف لأنه دليل على هروبه وتوليه عنها وتعلقها به مع نفوره منها.
هذا، ومن قال إن البرهان هو الآيات التي رآها ورؤيته إباه على الصورة المذكورة، أو أنه صنمها الذي قامت إليه وسترته لئلا يطلع عليها وغير ذلك مما بمجّه القلب، فقد مال عن الحق وتاه عن الرشد وضل الطريق القويم وعدل عن الصراط المستقيم وما البرهان إلا ما ذكرناه وهو مقام النبوة الشريفة التي هي حجة اللّه وبرهانه، وآيته في تحريم الزنى، والعلم بما يستحقه الزاني من العقاب الدنيوي والأخروي.
قالوا وحينما أدخلته الدار الداخلة ضمن دور سبعة وهو لا يعلم ماذا تريد به منه وإنما طاوعها على الدخول لأنه منقاد لأمرها كسائر الخدم، إذ لا يستطيع أحد أن يخالف أمرها، ولما رأى أنها غلّقت الأبواب أي ردتها دون ان تنفلها بالغال ليتم مراد اللّه بطهارة السيد يوسف، وكلفته بالفعل، امتنع ونفر إلى الباب الأول فنفذ منه، فتبعته فهرب إلى الثاني، وهكذا هو يهرب وهي تتابعه وتجذبه لجانبها وهو يزداد نفورا، حتى خرجا إلى صحن الدار، وكان ما كان عند باب الدار كما سيأتي.
هذا وإن نفوس الأنبياء مطهرة من كل خلق ذميم وفعل رذيل وسوء أدب، ومجبولة على الأخلاق الطاهرة والآداب السامية والأفعال المقدسة والأقوال العالية، وبعض هذا يحجزهم عن فعل ما لا يليق، بل عن قربانه، فظهر من هذا ان كل ما نقل عن ابن عباس وعلي رضي اللّه عنهم أو عن غيرهما من أعلام الإسلام بهت صرف لا ظل له من الحقيقة، وحاشاهم أن يقدموا على أقوال هكذا، ولاسيما بحق خلص عباد اللّه تعالى، ولا قصد لهؤلاء اللاصقين هذه الأقوال بهم إلا تقوية حججهم ليأخذ الناس بها، لأنها منسوبة إلى أولئك الأعلام، فينقلونها للخاص والعام كي يصدقوها، ولكن من عنده لمعة من عقل أو ذرة من دين يأنف سماعها فضلا عن نقلها، والقول بها هذا.