فصل: مطلب اختيار السجن ليوسف والمتآمرين على اغتيال الملك وتأويل رؤيا السجينين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} بدلا من الأترج لفرط دهشنهن بطلعته وخروج جوارحهن عن منهاج الاختيار، حتى أنهن لم يحسسن بالألم لا نشغالهن بالنظر إليه {وَقُلْنَ} بلسان واحد تعجبا من قدرة اللّه الكاملة على صنع ذلك القوام الرائع والحسن البديع {حاشَ لِلَّهِ} بالألف وإسقاطها وهو حرف وضع للاستثناء والتنزيه والتبعد معا، ثم نقل وجعل اسما بمعنى التنزيه وتجرد عن معنى الاستثناء، ولم ينون مراعاة لأصل المنقول عنه، وكثيرا ما يراعون ذلك فيقولون جلست من على يمينه فيجعلون على اسما ولم يعربوه، وكذلك عن في جلست من عن يساره ومن في غدت من عليه، ولم يثبتوا ألف على مع المضمر كما أثبتوا ألف فتى في فتاة، كل ذلك مراعاة للأصل، وقال ابن الحاجب إن {حاشَ لِلَّهِ} اسم فعل بمعنى برئ اللّه تعالى من السوء وليس بشيء، لأن الحرف لا يكون اسما إلا إذا نقل وسمي به وجعل علما، فجينئذ تجوز فيه الحكاية والإعراب وفيه أقوال كثيرة أعرضنا عنها خشية الإطالة والملالة، ولا طائل تحتها، على أن الذي يعلل الكلمات يرى الكل جائزا بحسب وسعته في اللغة، كما ان الذي له وقوف على العربية لا يكاد يغلط أحدا، إذ يرى لكل وجهة، وغير خاف أن وجوه الإعراب كثيرة ولغات العرب فيها أكثر، أي أن الذي ذكروه لنا بأنه عبد اغترت به زوجة العزيز ما هو عبد بل {ما هذا بَشَرًا} أيضا فضلا عن أنه ليس بعبد {إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ 31} نفين عنه صفة البشرية لما هالهن من جماله، لأنهنن لم يرين بشرا بشبهه بالحسن وقوام الجوارح، وأثبتن له الملكية لما ركز في الطبائع أن لا شيء أحسن من الملك ولو لم يره أحد، كما ركز في الأذهان أن ليس بشيء أقبح من الشيطان ولم يره أحد أيضا، أي بصورتهما الحقيقية وعليه قول بعض المحدثين:
ترك إذا قوبلوا كانوا ملائكة ** حسنا وإن قوتلوا كانوا شياطينا

ولاسيما وقد انضم لذلك الجمال الرائق نور النبوة وآثار خضوعها واخباتها لرافع السماء وباسط الأرض من الحالة التي أوقعته فيها مما زاده مهابة ووقارا، فلا غرو أن يصيبهن الدهش والذهول فيصرعهن ويصرف نظرهن عما في أيديهن من الأترج إلى أيديهن، فيغقلن عنه ويقطعن أيديهن بدله، ولم يشعرن بما عملن لأن طلعته البهية ألهبت في قلوبهن ما يمنعهن من الإحساس بألم الموسى، وانهماك انسان أعينهن في التطلع إليه حال دون رؤية الدماء التي سالت من أيديهن على ثيابهن، فلما رأت زليخا ما صنعن بأنفسهن وعلمت أنهن قد أعذرنها بما فعلت، ولو أنهن شاهدنه قبل مثلها واختلطن معه اختلاطها لما لمنها، لأنهن رأينه لحظة فوقع منهن ما وقع، فكيف وهي معه ليل نهار، لهذا تسلطت عليهن و{قالَتْ فَذلِكُنَّ} العبد الذي تتقولن وتتفوهن فيه، والفتى {الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} ثم صرحت أمامهن بما وقع منها فقالت مقسمة {وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} امتنع وأبى، والاستعصام مبالغة في الامتناع والتحفظ الشديدين، ثم أقسمت ثانيا فقالت {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ} به من الوقاع واللّه واللّه واللّه {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ 32} الأذلاء المهانين مع السراق والسفاك في السجن، قالت ذلك لأنها علمت مما شاهدته من دهشتهنّ به انهن لا يلمنها بعد بل يعذرنها، قالوا ثم قال النساء كلهن يا يوسف أطع مولاتك لئلا تسجن، فلم يصغ لهن وانصرف عنهن قائلا {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} أضاف الضمير إليهن كلهن مع أن مولاته وحدها تدعوه لأنهن أمرنه بامتثال أمرها بالفعل، فناجى ربه عز وجل ملتجئا إليه وآثر السجن لأن مشقته نافذة طلبا إلى راحته الأبدية برضاء اللّه تعالى، ومن هنا قالوا يختار أهون الشرين، وقد جاء في الخبر أنه عليه السلام لما قال هذا أوحى اللّه إليه يا يوسف أنت جنيت على نفسك ولو قلت العافية أحب إلي لعوفيت، ولهذا قال محمد صلّى اللّه عليه وسلم لما سمع رجلا يقول اللهم إني أسألك الصبر فقال سألت البلاء فاسأل اللّه العافية، ثم التجأ إلى ربه فقال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} ومكرهن واحتيالهن أخاف يا رب {أَصْبُ} أميل ميلا قلبيا لا اختيار لي فيه بحسب الطبيعة البشرية قد تحدّت النفس نفسيا ركوني {إِلَيْهِنَّ} ولو تخطرا بالقلب أو هاجا في النفس، وأخاف يا مولاي ان يؤثر (ومعاذ اللّه يا مولاي) فيّ لأني بشر، وحاشاك يا مولاي أن تريد ذلك مني أو تتغلب على نفسي بشيء من ذلك، وهذا فزع منه عليه السلام إلى ألطاف ربه جريا على سنن الأنبياء وطرق العارفين الكاملين في قصر نيل الخيرات والنجاة من الشرور على جناب اللّه تعالى، وسلب القوى والتصور عن أنفسهم مبالغة في استدعاء عطفه تعالى عليه في صرف كيدهن عنه بإظهار عدم طاقته بالمدافعة إلا بحوله وقوته عز شأنه كقول المستغيث أدركن يا رب وإلا أهلك، وقد لا يهلك، لأنه عليه السلام يطلب الالتجاء إلى ربه ليعصم وفي نفسه داعية سوء إن لم يعصمه، كلا وحاشاه من ذلك، وفي هذه الآية جواب استدلال للأشاعرة بأن العبد لا ينصرف عن المعصية إلا إذا صرفه اللّه تعالى: {وأصل إلا} أن الشرطية ولا النافية فأدغمت النون باللام {وأَصْبُ} مضارع صبا إذا مال ومنه ريح الصبا لأن النفوس تميل إليها لطيب نسيمها وروحها والصبابة إفراط الشوق، وفي القاموس صبى بمعنى مال، وصبى بمعنى حنّ، والصبوة جهلة الفتوة، ثم قال منددا من خوف ما سيكون من إحساسات قلبية خشية مغبته باثا سوء نتيجته إلى ربه {وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ 33} الذين لا يعلمون ما يعملون، وفي هذه الجملة إشارة إلى أن من يرتكب الذنب فإنما يرتكبه عن جهالة وهو ليس من أهلها، لذلك دعا ربه إنقاذه مما يراد فيه {فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ} كما هو عادته جل جلاله في أنبيائه وأوليائه وأحبابه في إجابة أدعيتهم عند الضيق كما سيأتي في الآية 110 من هذه السورة {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} وثبته بعصمته وأبقاه على عفته وحال بينه وبين المعصية ودواعيها {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لدعاء عباده المتضرعين إليه {الْعَلِيمُ} بأحوال الداعي ونيته وما يصلح له.
وتدل هذه الآية على أن الإنسان لو أتى بكل مكر وحيلة لإزالة ما وقر في صدره من حب وعداوة لعجز، لأن حصولها ليس باختياره ولو كان لتمكن من قلب الحب كرها والعداوة صداقة، وبالعكس، ولهذا لجأ يوسف عليه السلام إلى ربه ليصرف ما حاك في صدره الشريف، قال المتنبي:
يراد من القلب نسيانكم ** وتأبى الطباع على الناقل

ولهذا فإن العاشق كثيرا ما يريد إزالة العشق من قلبه ولكنه يعجز.
واعلم أن أكثر ما يوقع في المعصية الجهل والخطأ، ولا تقع إلا بتقدير اللّه تعالى وقضائه وهي للمغفرة أقرب، أما والعياذ باللّه من يوقعها عالما عامدا فقد تؤدي إلى كفره، لأن العلم والعمد دليلان على الاستحلال واستحلال ما حرم اللّه كفر، قال بعض النادمين على ما فعلوا:
وما كانت ذنوبي عن عناد ** ولكن بالشقا حكم القضاء

ومن كان كهذا فباب العفو يشمله، قال تعالى: {ثُمَّ بَدا لَهُمْ} أي العزيز وأهله وأصحابه رأي آخر بعد ذلك الرأي، إذ أن زليخا قالت لزوجها إن هذا العبد قد فضحني، فإما أن تأذن لي بالخروج لأعتذر إلى الناس، وإما أن تحبسه ليقطع هذا الكلام ويقف عند حده، وذلك بعد ما أيست منه و{مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ} الدالات على براءته وطهارته بما قص اللّه عنه.
قال عكرمة سألت ابن عباس عن هذه الآيات، فقال ما سألني عنها أحد قبلك هي قدّ القميص وأثرها في جسده وشهادة الشاهد وأثر السكين في النساء، وفي قوله من الآيات إيذان بأن هناك آيات أخر لم يذكرها، كما أنه لم يذكر كثيرا من معجزات الأنبياء عليهم السلام، وفاعل بدا ضمير يعود إلى البداء بمعنى الرأي كما ذكرنا وعليه قوله:
لعلك والموعود حق لقاؤه ** بدا لك في تلك القلوص بداء

.مطلب اختيار السجن ليوسف والمتآمرين على اغتيال الملك وتأويل رؤيا السجينين:

واما السجن المفهوم من قوله تعالى: {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ 35} إلى أن ينسى الناس هذه الحادثة وينقطع ذكرها في المدينة، وإنما اختار الحبس على خروج زوجته واعتذارها من الناس، لأن الاعتذار لا يقطع الإشاعة عن زوجته بل يزيدها، والحبس قد يقطع خبرها بطول الزمن المستفاد من قوله: {حَتَّى حِينٍ}، والحين وقت من الزمن يقع على القليل والكثير، قالوا مبدأه خمس وآخره أربعون سنة، وسنأتي على بيانه مفصلا في تفسير سورة الإنسان، وعلى كل في هذه المدة تذهب استفاضة تلك الواقعة، قالوا فأمر به فحمل على حمار وسيق للسجن، قالوا وكانت تتأمل أنه بعد أن يذلل في السجن تلين عريكته وتنقاد لها قرونته فتظفر بما أرادته منه بطوعه بعد أن تصرمت حبال رجائها منه بعرض جمالها بنفسها وبإغوائها وبمالها وبتأثيرها فلم يجد شيئا، قال تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ} قالوا إن أحدهما خباز الملك صاحب طعامه، والثاني ساقيه وصاحب شرابه لأنهما أدينا بجرم الموافقة مع جماعة من أشراف مصر أعداء الملك لا غتياله لقاء جعل معلوم على أن يدسا السم في طعامه وشرابه، وأن الخباز قبل الجعل المسمى له والساقي أبى، وقد وصل إلى الملك بأن ما يوضع أمامه من الطعام والشراب مسموم، وحذره من أخبره من تناول شيء منه، وقيل إن الساقي أخبر الملك بأن الطعام الذي هيأه له الخباز مسموم، وأن الخباز قال للملك إن الشراب الذي أحضره لك الساقي مسموم بمقابلة قول الساقي له إن الطعام مسموم، فكلف الملك الساقي أن يشرب ذلك الشراب ففعل ولم يصبه شيء، ثم كلف الخباز أن يأكل الطعام الذي أحضره له فأبى، فأطعمه دابة فماتت لساعتها، فظهرت خيانته فحبسهما معا على توهم أن الساقي تواطأ مع الخباز أي الطاهي قبلا ولم يخبره إلا عند الأكل حتى يظهر التحقيق براءته، ولما كان هذه القصة عظيم من الأهمية فقد يظلم في بدايتها كثير من الناس ثم ينجو من قدر له النجاة.
قالوا ولما دخل يوسف السجن صار يعظ الناس وينصحهم ويحذرهم من الموبقات، ويأمرهم بالمعروف، ويحبّذ لهم عمله، وأن يحسنوا لأنفسهم وغيرهم ويتباعدوا عن المنكرات لئلا يقعوا في سوء عواقبها، ويقول لهم من رأى منكم رؤيا فليأت إليّ أعبرها له بما يلهمني اللّه تعالى مما يدل على خيرها وشرها، فقال الفتيان لنجربنّه ونتراءى له رؤيا، وكان عليه السلام يراهما مهمومين، فقال لهما ما شأنكما، فقصا عليه الأمر الذي حبسا من أجله وأتبعا حديثهما بما صوراه من الرؤيا {قالَ أَحَدُهُما} صاحب الشراب {إِنِّي أَرانِي} رأيت نفسي في المنام وعبّر في المضارع لاستحضار الصور الماضية في ذهنه {أَعْصِرُ خَمْرًا} عنبا سماه بما يؤول إليه، لأن الخمر لا يعصر، وإنما يعصر العنب، والعصر إخراج المائع من الفواكه وغيرها، قالوا وكان اسمه نيو فقال يا سيد إني رأيت في المنام حبلة من كرم حسنة لها ثلاثه أغصان فيها عناقيد عنب فكنت أعصرها وأسقي الملك {وَقالَ الْآخَرُ} صاحب الطعام واسمه مجلّت {إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} قالوا إنه قال أيها السيد إني رأيت في المنام كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وأنواع الطعام وسباع الطير تنهش منها {نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ} أي تفسير ما رأيناه وما يؤول أمر رؤيانا، وقد عرضنا عليك ذلك لحسن عقيدتنا بك {إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ 36} إلى الناس أجمع، لأنك تعود المرضى في السجن وتأخذ من عناء المسجونين بما تسديه إليهم من النصح، وتهديهم إليه من الرشد، وتوسع على فقيرهم وتجمع للمحتاجين ما يسد عوزهم ممن عنده فضل بما ترغبهم به من الثواب، وتجتهد في عبادة ربك ليل نهار، وإنك صبيح يرجى منك الخير ويؤمل منك الفلاح، ولذلك فإنا وكل أهل السجن يحبونك كأنهم يعلمون أن الرؤيا لا تقص إلا على من يحبه الرائي كما أخبر بذلك حضرة الرسول في أحاديث متعددة، وذلك لأنهم مخالطون للملك وليسوا من السوقة، فقال لا تحبوني فما جاءني البلاء إلا من المحبة، فإن عمتي أحبتني وكنت عندها، فطلبني والدي منها فلم تفعل، فلما أصر عليها كان عندها منطقة اسحق عليه السلام، لأنه أكبر من والدي يعقوب وثوب إبراهيم جدي الذي جاء به إليه جبريل من الجنة، فألبسه إياه حين ألقي في النار لأن اسحق ورثه من إبراهيم أبيه، وهي ورثته منه، وكان التوارث لمثل هذه الآثار للأكبر، فشدتها على بطني وأرسلتني إليه، ثم ادعت فقد المنطقة، وكان في شريعته أن السارق يؤخذ نفسه بما سرق، فتحروا المنطقة فوجدوها عندي، فأخذتني وبقيت عندها حتى ماتت، فدخل علي من حبها بلاء، وأحبني أبي فنشأ من حبه لي حسد اخوتي، فألقوني في الجب، وأحبتني امرأة العزيز فحبست بسبب محبتها، ثم أعرض عنهما كراهية أن يعبرها لهما لما في تعبيرها على أحدهما من الشرّ وهو لا يحب أن يجابه به أحد إلا بالخير، أخرج أبو حاتم عن قتادة قال: لما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قوما قد انقطع رجاؤهم واشتد بلاؤهم وطال حزنهم، فجعل يقول أبشروا واصبروا تؤجروا إن لكم بهذا لأجرا، فقالوا يا فتى بارك اللّه فيك ما أحسن وجهك وأحسن خلقك وخلقك لقد بورك لنا في جوارك ما نحب ان كنا في غير هذا منذ جئتنا لما تخبرنا به من الأجر والكفارة والطهارة، فمن أنت؟ قال أنا يوسف ابن صفى اللّه يعقوب بن ذبيح اللّه اسحق بن خليل اللّه ابراهيم، فقال له عامل السجن لو استطعت خليت سبيلك لما أنت عليه من اللطف وما لديك على الناس من العطف وكثرة البر والمجاملة ولكن سأحسن جوارك فكن في أي بيوت السجن شئت ومن هنا اعتيد تعيين وعاظ للسجون يخففون عن المظلومين بلاءهم ويحبذون للظالمين التوبة والرجوع إلى اللّه ورد المظالم ويمنونهم بعفو اللّه عنهم واطردت العادة حتى الآن، ثم إن الفتيين ألحا على يوسف بتعبير رؤياهما فقال أولا لتثقا في قولي فإني أقول لكم {لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ} في حبسكما هذا أو من أهلكما {إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ} بأن أبين لكما ماهيته وكيفيته ومن أين أتاكما ولونه وطعمه ووقت أكله {قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما} وقبل أن ترونه وهذا من معجزاته عليه السلام أظهرها إليهم ليركنوا إليه ويأخذوا بقوله أملا بهدايتهم، ونظيرها معجزة سيدنا عيسى عليه السلام المبينة في قوله تعالى: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} الآية 50 من آل عمران، فقالا له هذا منعلم الكهنة فمن أين جاءك، قال لست بكاهن وإنما {ذلِكُما} الذي ذكرته لكم {مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} من جملة العلوم التي منّ بها علي وعلمنيها بوحيه المقدس يشير إلى أن ذلك معجزة له وأنها جزؤ يسير مما أفاضه اللّه عليه، وكأنه قيل له أنى لك هذا ولما ذا علمك ربك هذه العلوم واختصك بتعبير الرؤيا فقال: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} يريد العزيز وقومه إذ أعرض عنهم وترك رأيهم وما يتعبدون به ويرجونه ولم يوافقهم على ما يريدون لأنهم عبدة أوثان {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ 37} جاحدون البعث بعد الموت منكروا المعاد وأن الجملة الأولى كافية للإشعار بكفرهم وأتى بالثانية تأكيدا وكرر لفظ هم لهذه الغاية، وليس المراد بالملة ملة آبائه كما قد يخطر بالبال السقيم باعتبار ما كانوا عليه قديما كما يقوله بعض الأغبياء لأن الأنبياء عليهم السلام من حين ولدوا وظهروا إلى الوجود هم على التوحيد الخالص {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ} ذكرهم عليه السلام ليعلمهم أنه من بيت النبوة وأنه نبي لأن آبائه مشهورون في مصر وغيرها بأنهم أنبياء مرسلون من اللّه إلى البشر ولعلهم إذا عرفوا نبوته ونسبه يسمعون نصحه وإرشاده ولعلهم يدينون بدينه ويتركون ما هم عليه من عبادة الأوثان وقال هذا ليفهمهم أن ما فاز بما فاز به من النبوة إلا باقتفاء آثارهم وعدم اتباع ملة الكافرين بإنكار الحشر والنشر حينما جئت إلى مصر، وقال إنا نحن قوم أبدا {ما كانَ لَنا} ما صح ولا استقام قط منذ القدم {أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} أي شيء كان بل نعبده وحده وقد عصمنا من عبادة غيره واختارنا لتحمل وحيه واصطفانا لتبليغ خلقه أوامره ونواهيه يسير بذلك عليه السلام أن ما أنتم عليه يا أهل مصر من الإشراك هو كفر محض وأن اللّه المنفرد بالألوهية لا يقبل ولا يرضى من المشرك عبادته {ذلِكَ} رفضنا عبادة الأوثان وعكوفنا على عبادة الرحمن والإخلاص إليه واختصاصنا بالنبوة كله {مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا} إذ علمنا ما لم نعلم وألهمنا طرق العدل ومسالك الصواب في كل ما يتعلق بنا وبالناس من أمور الدنيا والآخرة {وَ} فضله {عَلَى النَّاسِ} إذ بين لهم مناهج الهدى والرشد وأرسل إليهم من خلص خلقه من يرشدهم ويهديهم {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ 38} فضله ونعمه ويشركون بعبادته غيره مما لا يستحق العبادة فيخسرون الدنيا والآخرة ويندمون ولات حين مندم.