فصل: مطلب مبادئ رسالة يوسف عليه السلام وتعبير رؤيا السجينين ومشروعية الرجاء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب مبادئ رسالة يوسف عليه السلام وتعبير رؤيا السجينين ومشروعية الرجاء:

ثم شرع يدعوهم إلى الإيمان تأدية لأمانة ربه التي وكلها إليه، فقال: {يا صاحِبَيِ السِّجْنِ} يا ساكنيه جميعكم، على قراءة الجمع، اسمعوا ما أقول لكم وأطيعوني فيما آمركم به، وتأملوا فيه وتدبروا معناه، وعلى قراءة التثنية، يريد به رفيقيه الذي دخلا معه اللذين يطلبان تأويل رؤياهما، وعلى كل قال لهم {أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ} شتى، من حفر وحديد وخشب ونحاس وفضة وذهب وحجارة وغيرها من صورة صغيرة أو كبيرة وبين ذلك، لا تضر ولا تنفع، ولا عن نفسها شرا تدفع، {خَيْرٌ} بأن تتخذوها ربا وتعبدوها {أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ 39} لكل شيء القادر على الإحياء والإماتة والإغناء والإفقار، الذي قهر الجبابرة بالخذلان والموت الذي لا يشبهه شيء من خلقه، والمنفرد بالإلهية، المنقطع النظير، والقوي الذي لا يغلبه غالب ولا يطلبه طالب، لا زوجة له ولا ولد، ولا معين، ولا وزير، وهذا الخطاب عام للمخاطبين ولمن هو على دينهما من أهل مصر، وعلى هذا فتكون التثنية باعتبار أنهم جماعة من سلفهم جماعة على حد قوله تعالى: {فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ} الآية 45 من سورة النمل، ومن هنا تعلم أن هذا يشمل طالبي تعبير الرؤيا وغيرهما، وهذا أحسن في التعبير وأنسب بالمقام راجع تفسير الآية المذكورة، وعليه جاء قوله تعالى: {ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ} أربابا وآلهة من الأوثان {إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ} بلفظ اجمع على المعنى الأخير، وكذلك ما تدعون التقرب إلى اللّه به من عبادة الكواكب والحيوانات والجمادات، كلها إفك {ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ} يؤيد وجودها ولا برهان يثبت عبادتها، ولا يوجد دليل على تسميتها آلهة لأنها ذليلة حقيرة يقدر على إهانتها كل أحد، ويحطمها المرأة والولد، ثم قال مظهرا لهم التأثر على عكوفهم على عبادة ما لا يصلح للعبادة والأسف على الركون إليها وهي لا شيء {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} أي ما الحكم في أمر العباد والعبادة إلا للإله المنفرد بالحكم الذاتي الذي {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا} أيها الناس ملكا ولا بشرا ولا جنا ولا إنسا ولا جسما ولا شيئا {إِلَّا إِيَّاهُ} إذ لا معبود بحق غيره {ذلِكَ} تخصيص الإله الواحد القهار بالعبادة والسيادة ونفيهما عن غيره هو {الدِّينُ الْقَيِّمُ} الثابت بالأدلة القطعية والبراهين الساطعة {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 40 وهذا من مبادئ رسالته عليه الصلاة والسلام، لأنه نبئ بالبئر وهو ابن ثماني عشرة سنة، وأرسل وهو في السجن وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة على أصح الأقوال بدليل هذه الآية، وقد وصف الأكثر بأنهم لا يعلمون دين اللّه وأوامره ونواهيه لجهلهم الحجج السماوية والأرضية الدالة على الألوهية وعدم استعمالهم ما منحهم اللّه به من العقل ووقوفهم عند ما ألفوا عليه آباءهم وألفوه، ولما فرغ عليه السلام من دعوة الخلق إلى الحق حسبما أمره ربه رجع إلى تعبير رؤياهما فقال: {يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما} الساقي فإنه يرجع إلى وظيفته {فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} إذ تظهر براءته مما عزي إليه من العلم والاشتراك باغتيال الملك {وَأَمَّا الْآخَرُ} الطاهي فيثبت عليه الجرم المعزولة {فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ} لتسببه في اغتيال الملك ومباشرته لها فعلا لعدم امتثال أمر الملك بالأكل وبراءة الأول بالشرب، وهما دليلان كافيان على براءة الأول وحكم الثاني، وقال إن هذا سيكون بعد ثلاثة أيام، وذلك لأن الأول قال ثلاث عناقيد عنب، والآخر قال ثلاث سلال، فقال له ما رأينا شيئا فقال لهما {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ 41} ووجب حكم اللّه تعالى عليكما بما أخبرتكما، رأيتما أو لم تريا، وإنه آتيكم لا محالة بعد ثلاث، ومن هنا قيل البلاء موكل بالمنطق {وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ} تيقن وتحقق {أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي} إذا خرجت من السجن {عِنْدَ رَبِّكَ} سيدك ومولاك لعله يتذكر مظلمتي فيخرجني من السجن، قالوا وبعد ثلاثة أيام خرج الأول وصلب الثاني، وهذا حكم عدل من ملك مصر في براءة الساقي، لانه لم يقبل الجعل على المؤامرة في حق الملك ولم يباشر عملا.
أما قتل الطاهي ففيه ما فيه لأنه وإن كان أتم جميع الأسباب إلا أنه لم يقع الفعل كما علمت، ولكن الملوك اعتادت قتل من يتآمر عليها وسنّت بذلك قوانين فهي تعمل بها حتى الآن، قال تعالى: {فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} أي أنسى الشيطان الساقي أن يذكر الملك بيوسف.

.مطلب في ضمير أنساه ورؤيا ملك مصر الأكبر وخروج يوسف من السجن:

وما قيل إن الضمير في أنساه يعود إلى يوسف غير وجيه، لأن المعنى بصير حينئذ أن الشيطان أنسى يوسف ذكر اللّه بطلبه الفرج عنه من ملك مصر دونه، وهو محال لما فيه من التعريض إلى الغفلة، والأنبياء بعيدون عنها منزهون منها، لذلك اخترنا ما عليه جل المفسرين من عود الضمير إلى الساقي لأنه أولى وأنسب بالمقام وأوفق للسياق واللّه أعلم {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ 42} بسبب ذلك، وعلى ما قالوا إنه أتم في في السجن سبع سنين، والبضع ما بين الثلاثة والعشرة، روي أن أنسا قال أوحى اللّه إلى يوسف من استنقذك من القتل حين همّ إخوتك أن يقتلوك؟ قال أنت يا رب، قال من استنقذك من الجب إذ ألقوك فيه؟ قال أنت يا رب، قال فمن استنقذك من المرأة إذ همت بك؟ قال أنت يا رب، قال فما بالك نسيتني وذكرت آدميا غيري؟
قال يا رب كلمة تكلم بها لساني، قال وعزتي وجلالي لأدخلنك في السجن بضع سنين.
وروي عن الحسن أنه قال: قال صلّى اللّه عليه وسلم رحم اللّه يوسف لولا كلمته التي قالها أي {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} ولما لبث في السجن ما لبث.
ويستدل من قول يوسف عليه أن الاستعانة بالعباد لقضاء الحوائج جائزة لقوله تعالى: {وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى} الآية 3 من سورة المائدة وقال صلّى اللّه عليه وسلم: اشفعوا تؤجروا ويقضي اللّه على لسان رسوله ما شاء.
وقال عليه الصلاة والسلام أبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغها، فمن أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت اللّه قدميه على الصراط يوم القيامة.
وقال تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها} الآية 85 من سورة النساء، إلا أن هذا يختلف باختلاف الأشخاص، والأليق بمقام الأنبياء تركه لأنفسهم والأخذ بالعزيمة، وهكذا جرت عليه عادتهم، قالوا إن جبريل عليه السلام دخل على يوسف في السجن وعاتبه على كلمته تلك.
وإن من يتمسك بهذه الأخبار استدل على عود الضمير من أنساه إلى يوسف لا إلى الساقي كما ذكرناه آنفا، ووكلنا علمه إلى اللّه تبرئة لساحة الأنبياء عما لا ينبغي، ولم نجزم به لأنا لسنا من أهل الترجيح.
هذا ولما أراد اللّه تعالى إخراج يوسف من السجن أرى ملك مصر الأكبر رؤيا عجيبة، وهي ما قصها اللّه تعالى بقوله: {وَقالَ الْمَلِكُ} الريّان بن الوليد لمن عنده من السّحرة والكهنة والمنجمين والمعبّرين {إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ} هزال ضعاف من البقر {وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ} سبع أيضا {يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ} هذه لأنها هالتني وإني لمتخوف منها {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ 43} تفسرون سمي المفسر معبرا لأنه يعبر من أول الرؤيا إلى آخرها ليستخرج المعنى المراد منها، والتعبير خاص في هذا، أما التأويل فعام فيه وفي غيره.
راجع بحثه في المقدمة: {قالُوا} السحرة وأمثالهم أشراف مملكته الذين قصها عليهم هذه {أَضْغاثُ أَحْلامٍ} أخلاطها وأباطيلها، وأصل الضغث الحزمة من أنواع الحشيش والأحلام جمع حلم مما يرى في النوم من وسوسة الشيطان وحديث النفس الخبيثة كما بيناه في الآية 5: {وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ} 44 فقلق الملك وتشوش أكثر من ذي قبل لتوقف الناس عن معرفة تأويل رؤياه، وصار يتعجب منها خاصة قضية تغلب ضعاف البقر على السمان على عكس العادة، لأن القوي من كل دائما يتغلب على الضعيف، وصار يبحث عمن يعبرها له، فتذكر الساقي إذ ذاك حذاقة يوسف في التعبير وشدة اختصاصه به، قال تعالى: {وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ} تذكر وتفطن {بَعْدَ أُمَّةٍ} مدة طويلة على تعبير رؤياه ورفيقه في السجن ووقوعها كما عبرها وصيّته له بأن يذكر سيده فيه {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} أيها الملك {فَأَرْسِلُونِ 45} لآتيكم بمن يعبرها، ولذلك لم يقل أفتكم وذكر الضمير لعوده على الأمر الذي استصعبه الملك من الرؤيا، قالوا قال هذا بعد أن تمثل أمام الملك بالاستئذان وجثى على ركبتيه احتراما على حسب عادتهم، فأرسله الملك بعد أن فهم مما ذكر له من أحواله ومما قص عليه من أطواره، وأنه من سلالة ابراهيم عليه السلام وانه يتمكن من تعبير رؤياه فذهب ودخل السجن وقال: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} سماه صديقا لصدقه في تعبير رؤياه وغيرها، {أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ} الملك وأتباعه وأهل مملكته، لأن هذه الرؤيا شاعت لدى العامة ولم يقدر أحد على تعبيرها وصارت شغلهم الشاغل، فبينها لنا مما علمك ربك لنذكرها للملك وملائه {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ 46} تأويلها، ويظهر لهم فضلك فتخلص من محنتك هذه، فسأله عن الرأي لأن له مدخلا في التعبير إذ المعبر يعبر لكل بحسبه وما هو عليه، فقال له الملك الأكبر، {قالَ} قل للملك ومن أهمه شأن هذه الرؤيا هي رؤيا مشؤومة وعاقبتها وخيمة، ولكن إذا أردتم أن تتخلصوا من هولها وتكونوا في مأمن من مغبتها {تَزْرَعُونَ} خبر بمعنى الأمر لأنه فسر البقرات السمان والسنبلات الخضر بسبع سنين مخصبة، والبقرات العجاف والسنبلات اليابسة بسبع سنين مجدبة، أي ازرعوا أيها الناس {سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} بحسب عادتكم لأن الدأب العادة المتمادية، حتى إذا بلغ الزرع الحصاد {فَما حَصَدْتُمْ} منه كل سنة {فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} لا تدوسوه ولا تذرّوه فإنه يسوس {إِلَّا قَلِيلًا} جدا بأن تدوسوا وتذروا منه بقدر {مِمَّا تَأْكُلُونَ 47} في كل سنة واحتفظوا بالباقي بسنبله واتركوه على حاله إلى السنين المجدبات المنوه بها في قوله: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ} السبع المخصبات.
ولم يؤنث الضمير تفخيما لشأنهن {سَبْعٌ شِدادٌ} مرهقات للناس لأنهن ممحلات مجديات {يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} أن يأكل الناس فيها ما ادخرتموه من السنين المخصبات ولم يتركوا منه {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ 48} تحززونه للبذر فتبقونه في الحصن ليحفظ فلا يسقع ولا يطرأ عليه ما يفسده، والإحصان هو الاحراز بعينه، كما أن البذر هو البزر {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ} السبع الممحلات {عامٌ} نون للتعظيم لما فيه من الخير الجسيم، وهو كالسنة إلا أنه يستعمل فيما فيه الرخاء والخصب غالبا كما تستعمل السنة فيما فيه الشدة والجدب، يدل عليه قوله تعالى: {فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ} بأمطار كثيرة نافعة {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ 49} الأعناب والزيتون والسمسم وكل ما من شأنه أن يعصر كالبرتقال والليمون والرّمان، وهو كناية عن كثرة الخيرات فيها والبركات الأرضية والسماوية، وقل لهم إذا فعلوا ذلك نجوا من سرها، وإلا فالويل كل الويل لهم، فرجع الساقي فرحا مسرورا وأتحف الملك بذلك، فاستحسنه ورآه مصيبا واعتقد الحكمة في المعبر لإرشاده لما يجب أن يعمل ويحتاط لذلك الأمر العصيب، واشتاق لرؤيته لينعم عليه جزاء لتعبيره هذا، وإراجة فكره من هول تلك الرؤيا، ومن التدبير المستقبل لحفظ رعيته من الهلاك، فالتفت لخدمه وذكر ما قص اللّه عنه بقوله عز قوله: {وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} من سجنه لأنظر اليه وأكافئه، فذهب منهم الأول بدليل قوله: {فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ} لأن أل هنا للعهد والمعهود وهو الأول الذي ذهب اليه إجابة لدعوته إذ اشتاق لرؤيته وأخبره بما قال الملك {قالَ} يوسف للرسول لا أذهب معك الآن ولا أخرج من السجن بل {ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ} الذي فعلنه بي واحتلن به عليّ {عَلِيمٌ 50} لم يرد عليه السلام اخبار الملك بأمر النسوة معه، وانما أراد أن يطلع هو والعزيز على حقيقة ذلك، ولهذا اكتفى عليه السلام بذكر تقطيع الأيدي ورمز إلى المراودة التي كلفته بها امرأة العزيز بالكيد الذي وقع منها على طريق المجاملة، واحتراز من سوء المقابلة ولعلهن يتكلمن إلى الملك بواقع الحال، إذ لم يصمهنّ بشيء ظاهرا، وكان ما ظنّ وكان تأنيه بالخروج من السجن إصابة لتظهر براءته عند الناس أجمع كما هو بريء عند اللّه، وليعلموا أنه سجن ظلما، ومن كرم أخلاقه عليه السلام لم يذكر اسم سيذته مع مع السبب في إحضار النسوة، وقد أثنى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم على فضله وحسن أناته بما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي وأخرجه الترمذي بزيادة ثم قرأ {فلما جاءه الرسول} إلخ، وجاء في حديث آخر: لقد عجبت من يوسف وصبره واللّه يغفر له حين سئل عن البقرات السمان والعجاف، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني، ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال إرجع إلى ربك إلخ الآية، ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرت الباب ولما ابتغيت العذر، وانه لحليم ذو أناة وهذا من تواضعه صلّى اللّه عليه وسلم، وإلا فحلمه وأناته وتحمله واهتمامه بما يترتب عليه من قول الخلق وامر الحق لا يقاس بغيره، فقد أعطى من كل شيء غايته ومنتهاه وعبر بحرا وقف الأنبياء بساحله الأدنى، فرجع الرسول وأخبر الملك بقوله، فأمر حالا بجمع النسوة واحضارهن ثم خاطبهن بقوله: {قالَ ما خَطْبُكُنَّ} ما شأنكن وأمر كن {إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} خاطبهن جميعا بهذا القول سترا لامرأة العزيز، ولا نهن أمرنه بمطاوعتها {قُلْنَ} للملك بلسان واحد {حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} ذنب أو خيانة في شيء ما وقد بالغن في نفي جنس السوء عنه بتكيد لفظ السوء، وزيادة من، وابتداء جوابهن بكلمة التبرؤ والتعجب من زيادة عفته، ثم {قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} بانفرادها للملك {الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} ظهر ظهورا واضحا بينا {أَنَا} يا حضرة الملك {راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ 51} بقوله هي راودتني اعترفت هنا اعترافا صريحا علنا، لأن اعترافها الأول في الآية 32 المارة كان بحضور النسوة فقط، فلم يكن كافيا لبراءته عند زوجها والعامة قالوا ثم أمر الملك الرسول أن يخبر يوسف بذلك، فذهب اليه وبشره بالاعتراف العلني العام ببراءته بحضور الملك مما عزى اليه قال يوسف عليه السلام {ذلِكَ} عدم خروجي من السجن وامتناعي من اجابة الملك أولا وسبب تثبتي وأناتي هو لظهور براءتي عند العزيز الذي كان أحسن إلي وأكرمني مدة إقامتي عنده {لِيَعْلَمَ} علما حقيقيا {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} في زوجته كما لم أخنه في ماله وخدمته ولا بحضوره {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ 52} ولا يسددها ولا يسهل مكرهم ولا يرشدهم لطريق الخلاص، فلو كنت خائنا لما أنقذني من هذه الورطة ولم يوفقني للنجاة منها.
وهذه الآية بالنسبة لما قبلها على حد قوله تعالى: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} من قول ملأ فرعون وقوله بعد {فَما ذا تَأْمُرُونَ} من قبل فرعون كما مر في الآية 110 من سورة الشعراء، وما قيل ان {ذلِكَ لِيَعْلَمَ} من قول امرأة العزيز تبعا للآية قبلها فليس بشيء كما أن من قال إن الضمير في ليعلم للملك، وفى لم أخنه له ليس بشيء أيضا، وما جرينا عليه هو الأولى وعليه أكثر المحققين، وكذلك قوله تعالى: {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي} هو من قول يوسف عليه السلام لا من قول المرأة كما قاله بعض المفسرين هذا ولما ذكر عليه السلام براءته مما عزي اليه قال على طريق هضم النفس والتواضع إلى ربه ولئلا يزكي نفسه على أتم وجه وليبين ما وفق اليه من الأمانة والعصمة التي منّ اللّه بها عليه قال: {وَما أُبَرِّئُ} إلخ من الهم الذي أوطنها عليه لأنه عبارة عن خطرات قلبية جارية عادة في طبيعة البشر مجردة عن القصد والعزم وكذلك لا أبرئ نفسي من الميل المجرد الذي هو من طبع النفس.