فصل: مطلب تعهد أولاد يعقوب بأخيهم الثاني والإصابة بالعين وسببها وما ينفعها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وما أحسن ما قيل:
وزهدني في الناس معرفتي بهم ** وطول اختباري صاحبا بعد صاحب

فلم ترني الأيام خلأ تسرني ** مباديه إلا ساءني في العواقب

راجع الآية 29 من سورة الفرقان تجد ما يتعلق بهذا البحث، وله صلة في الآية 67 من سورة الزخرف الآتية فراجعها، قال تعالى: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ} لكم ولغيركم إيفاء مستمرا بدلالة استقبال الفعل لأن هذا الكلام وقع بعد أن كال لهم {وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ 59} المقرين للضيف سابقا ولا حقا بدلالة الجملة الاسمية ولم يقل هذا بطريق الامتنان بل قاله حتما لهم على تحقيق ما أمرهم به يدل عليه قوله: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي} مرة أخرى ففيه إيعاد لهم على عدم الإتيان بأخيهم المتضمن مخالفة أمره وزاد في الوعيد بقوله: {وَلا تَقْرَبُونِ 60} البتة إذ يظهر له عدم صحة قولكم هذا على قراءة الكسر، وعلى قراءة الفتح يكون المعنى لا تدخلوا بلادي لأني سأعاملكم معاملة العيون.
وتأتوني تقرأ بالهمز وبدونه مثل يأكل ويأكل، أي أنه يعاملهم معاملة الجواسيس فضلا عن عدم الإيفاء بالكيل والإحسان في الضيافة أي لا أمدكم ولا أدخلكم بلادي وسأردكم خائبين وذلك عبارة عن ترهيب وتضييق ووسيلة لاهتمامهم بجلب أخيه: {قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ} فنحتال عليه حتى ننتزعه منه ونحضره لك وأكدوا له تنفيذ ما أمرهم به بقولهم: {وَإِنَّا لَفاعِلُونَ 61} ما أمرتنا به إذ لا غنى لنا عن العودة لحاجتنا إلى الميرة لأنا آل بيت معروف تطرقه الضيفان من كل مكان وما تصدقت به علينا لا يكفينا، وأذن لهم بالانصراف: {وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ} من طعامهم الذي ابتاعوه منه: {فِي رِحالِهِمْ} أوعيتهم التي يحملون فيها أشياءهم: {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 62} إلينا، لأن ديانتهم وأمانتهم تحملهم على ردها فيحصل المطلوب من قصد حضورهم بأخيهم، وهذا التفسير أولى بالمقام وبسياق الكلام من أن يراد بالبضاعة معرفة كرمه وسخائه لأنهم قد علموا ذلك مما تقدم، أوانه رأى أخذ الثمن من أهله لؤما مع أنه ليس بشيء عنده، وقد صمم على بيعهم إليه أو أنه أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم به عيب فرده إليهم، فهذه الأوجه كلها وان كان يحتملها التفسير إلا أنها بعيدة عن المرمى نائية عن المغزى، واللّه أعلم.
قال تعالى: {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} قال لهم ولم ذلك قالوا إن ملك مصر أحسن وفادتنا وأكرمنا إكراما لو كان من ولد يعقوب ما فعل بنا مثله، إلا أنه ظن أنّنا جواسيس وعيونا على مملكته لأنا من قطر غير قطره، طلب أولا منا من يعرّفنا بعد أن عرفناه بحالنا ونسبنا فقلنا له إنا غرباء لا يعرفنا أحد، فازداد تنكرّه منا وأخذ أخانا شمعون رهنا على أن نحضر له أخانا بنيامين دلالة على صدقنا إذ ذكرنا له قصتنا وفقد أخينا الذي هو أحبنا لأبينا، وإننا لم نأت به لأن أبانا أبقاه يتسلى به، وقال لنا إن لم تأنوا به فلا أميركم بعد أبدا: {فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ}.
ثانيا لأن الزمن زمن قحط وإنا بحاجة للطعام كما تعلم، ولا تخف عليه فاتركه يذهب معنا: {وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ 63} لا نفرط به البتة، فلم يجب طلبهم، لأنه لما أجاب طلبهم بيوسف فعلوا ما فعلوا به، ولهذا {قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} أي كيف آمنكم عليه وقد فعلتم في أخيه ما فعلتم وقد قلتم مثل هذا القول المؤكد بأصناف التوكيد وأكثر ثم فرطتم به لا أسلمه لكم ولا آمنكم عليه: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظًا} منكم ومني ومن الخلق أجمع {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ 44} بي وبه وبكم وبسائر مخلوقاته ولكن اذهبوا إليه وقولوا له إن أبانا يصلي عليك أي يدعو لك على ما أوليتنا من معروف وهو يجيب طلبكم إن شاء اللّه، ولما رأوا جزم أبيهم على عدم إرساله سكنوا {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ} إذ رأوها مدسوسة بين أمتعتهم فدهشوا وعادوا إلى أبيهم {قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي} أيّ شيء نعمل وراء ما فعل بنا من الإحسان ملك مصر وأوفى لنا الكيل وأكبر وفادتنا فما نطلب منه بعد ذلك كله و: {هذِهِ بِضاعَتُنا} التي أعطيناها له من ثمن القمح الذي باعه لنا: {رُدَّتْ إِلَيْنا} أيضا فلا نحتاج إلى ثمن آخر، فهيء لنا أخانا لنذهب به إليه ثانيا: {وَنَمِيرُ} نحمل الطعام ونجلبه من بلد آخر من مار يمير والمصدر الميرة، أي نمير: {أَهْلَنا} به: {وَنَحْفَظُ أَخانا} من كل ما نخاف عليه مما خطر ببالك ومما لم يخطر حتى نرده إليك سالما: {وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} على السفرة الأولى، لأن الملك لا يعطي الرجل الواحد أكثر من حمل واحد: {ذلِكَ} القمح الذي جلبناه في المرة الأولى: {كَيْلٌ يَسِيرٌ 65} قليل لا يكفينا وأهلنا فضلا عن الضيفان، وأن الملك يسهل عليه ما يعطينا ولا يتعاظمه علينا لما شاهدنا منه من العطف واللطف: {قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ} بالتاء والياء: {مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} عهدا موكدا باليمين: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} سالما كما أخذتموه وتحسنوا رفقته، وهذا اليمين لا أقبله منكم على الانفراد بل من جميعكم، على أن لا تتركوه: {إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ} من قبل الأعداء فتغلبوا جميعكم عليه، بحيث لا تقدرون على خلاصه والرجوع به إليّ، بأن تقاربوا الهلاك، في ذلك تقول العرب أحيط بفلان إذا هلك أو قارب الهلاك.

.مطلب تعهد أولاد يعقوب بأخيهم الثاني والإصابة بالعين وسببها وما ينفعها:

فقبلوا ما اشترطه عليهم لأنهم رأوا أنفسهم مضطرين لأخذه لما ذكر ولإيفاء وعدهم للملك ولخلاص أخيهم الذي تركوه رهينة عنده،: {فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} على الصورة التي أرادها: {قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ 66} في هذا العهد وأذن لهم به وفوض أمره إلى اللّه وأرسله معهم، ولما خرج يودّعهم ويدعوا لهم ويوصيهم بعضهم ببعض ورأى هيئتهم وكثرتهم خاف عليهم من العين: {قالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ} فتتطرق إليكم أعين أهل مصر ولكن تفرقوا: {وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} أي كل ثلاثة أو أربعة من باب، وذلك حرصا عليهم من أعين أهل مصر لما هم عليه من الحسن وعظم القامة، وخوفا من الحسد أيضا لما في هاتين الخصلتين من تشعث القلوب من أنهما يؤثران بالإنسان من ذوي النفوس الخبيثة، ومذهب أهل السنة والجماعة أن العين إنما تفسد أو تهلك عند نظر العاين بفعل اللّه تعالى، وإذا أخبر الشرع بوقوع شيء وجب اعتقاده، ولا يجوز تكذيبه وإنكاره لأنه من مجوزات العقل، فلا يعتد بقول جساحده، روى أبو داود عن عائشة قالت: يؤمر العاين فيتوضا ثم يغتسل منه المعين وقد ورد بالوضوء لهذا الأمر في حديث سهل بن حنيفة لما أصيب بالعين عند اغتسالة رواه مالك في الموطإ، وقدمنا في الآية 52 من سورة القلم ما يتعلق بهذا البحث مفصلا وموثقا بالأدلة فراجعه، وكان صلّى اللّه عليه وسلم يعوذ بالحسن والحسين، فيقول أعيذكما بكلمات اللّه التامة من كل هامة، ومن كل عين لامة.
وزعم الطبيعيون أن العاين تنبعث من عينيه قوة سميّة تتصل بالمعان فيفسد أو يهلك كانبعاث قوة سمية من الأفاعي والعقارب فتصل بالملدوغ فيهلك، وإن كان غير محسوس لنا، فهكذا المعان تتصل به من عين العاين قوّة سمية غير مدركة فتصعقه أو تهلكه، إلا أن انبعاث السم من الأفاعي والعقارب يكون بالاتصال وهناك لا اتصال، فلا يحسن التمثيل، إذ لا يقره العقل الذي جعلوه مصدرا للقبول والعدم، ولذلك قال المازني هذا غير مسلم لأنا بينا في كتب الكلام أن لا فاعل إلا اللّه، وبينا فساد القول بالطبائع، وبينا أن المحدث لا يفعل شيئا فيبطل ما قالوه، على أن هذا المنبعث من العين، إما جوهر أو عرض، فباطل أن يكون عرضا، لأنه لا يقبل الانتقال، وباطل أن يكون جوهرا لأن الجواهر متجانسة، فليس لبعضها بأن يكون مفسدا لبعض بأولى من عكسه، فبطل ما قالوه، لكن من تخيل الإسلام منهم قال لا يبعد أن تنبعث جواهر لطيفة غير مرثية من عين العاين فتتصل بالمعين فتتخلل مسام جسمه فيخلق اللّه تعالى الهلاك عندها كما يخلق الهلاك عند شرب السموم، عادة أجراها اللّه تعالى، وليست ضرورية، ولا طبيعية الجاء الفعل إليها، ولكون العين حقا شرعت الرّقيا من أجلها، لأنها من جملة الأسباب الدافعة لها، فينبغي لمن عرف نفسه أنه ذو عين أن لا ينظر إلى الأشياء نظر إعجاب، وأن يذكر اللّه تعالى عند رؤية ما يستحسنه، وعلى السلطان أن يمنع من عرف ذلك منه منى مخالطة الناس، وقالت المالكية: لا فرق بين العاين والساحر، أي أنهما يقتلان إذا قتلا، ويحبسان إذا خيف وقوع ضرر منهما.
هذا وينبغي لكل أحد أن يقول كل يوم ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه، حصّنت نفسي بالحي القيوم الذي لا يموت، ودفعت عنها السوء بألف لا حول ولا قوة إلا باللّه.
وما قيل إن من له نفس شريفة لا تؤثر عينه مدفوع بما رواه القاضي أن نبيّا استكثر قومه فمات منهم في ليلة واحدة مائة ألف، فشكا ذلك إلى اللّه فقال له سبحانه أنت استكثرتهم فعنتهم، هلا حصّنتهم إذا استكثرتهم، فقال يا رب كيف احصّنهم؟
قال تقول حصنتكم بالحي القيوم إلخ.
ومن قال إن يعقوب عليه السلام خاف عليهم الاغتيال أو لئلا يفطن عليهم أعداؤهم فيهلكونهم أو يصل بنيامين قبلهم فيتصل بأخيه ينفيه قوله تعالى: {وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} لأن القدر كائن لا محالة لا قدرة لي على دفعه عنكم: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} وحده، إذ هو تفويض منه عليه السلام في أموره كلها إلى ربه عز وجل دون سواه، ومن جملتها ما خاف عليهم من العين، ولم يخطر بباله اتصال بنيامين بأخيه لأنه لو علم ذلك لما امتنع أولا من إرسال بنيامين معهم، ولما أخفى على أولاده كونه يوسف فيما بالغوا بإكرامه لهم، ولما وقع منهم هذا التفويض الذي ينم عن الأسف والحزن على يوسف الدال عليه قوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ 67} وفيه إرشاد لأولاده وغيرهم بالتوكل على اللّه في كل الأمور.
قال تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُوا} أبواب المدينة الأربعة: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ} أي دخلوا متفرقين في أبواب المدينة تنفيذا لأمر أبيهم، وإلا في الحقيقة التي هي في علم اللّه: {ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ} ذلك التفرق في الدخول: {مِنَ اللَّهِ} إذا كان قدر عليهم شيئا من أقداره الأزلية أن يرد عنهم: {مِنْ شَيْءٍ} قط كما ذكرنا وفيها إيذان بتصديق قول يعقوب عليه السلام وما أغنى إلخ، لأنه بعد أن أمرهم بالدخول من الأبواب خوفا عليهم من العين والحسد رجع ففوض أمره إلى ربه، وما كان ذلك منه يقينا: {إِلَّا حاجَةً} هي شفقة الآباء على الأبناء، وقد كانت: {فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ} أن يقولها في وصيته لهم، فلما ذكرها لهم وذكرهم فيها: {قَضاها} فلم يبق في نفسه ما يوصيهم به، والاستثناء منقطع، وإلا فيه بمعنى لكن: {وَإِنَّهُ} يعقوب عليه السلام: {لَذُو عِلْمٍ} غزير وفهم كثير بأن الحذر لا يغني عن القدر، وأن لا دافع لما أراده اللّه، ولا مانع: {لِما عَلَّمْناهُ} بالوحي الذي أنزلناه عليه عند تشريفه بالنبوة.
ويشعر تأكيد الجملة بأن واللام والتنكير وتعليلها بالتعليم المسند إلى ضمير العظمة إلى جلالة قدر يعقوب عليه السلام وعلو شأنه وواسع علمه وعظيم تبجيله: {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ 68} ما يعلمه يعقوب لأنه على نور من ربه وعلم جليل علمه إياه، وأن جميع ما في الكون علويه وسفليه لا يعلمون شيئا مما يعلمه اللّه إلا بتعليمه إياهم.
قال تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ} قالوا له أيها الملك هذا أخونا الذي ذكرنا لك عنه وأمرتنا بإحضاره فشاهده وعرفه، ولكن لئلا يحسو بما أراده ودبره سأله عما قالوه لهم بشأنه وشأن أخيه، فذكر له ما ذكره له اخوته حرفيا فقال لقد تبين لي الآن صدقكم وقد أحسنتم بأن أزلتم الشبهة عن أنفسكم وعن ما كنت أتصوره فيكم، قالوا فزاد في إكرامهم وقراهم وأجلس كل اثنين على مائدة فجلسوا وبقي بنيامين وحده، فتنهّد وقال في نفسه لو كان أخي حيا لجلس معي، فأحسّ يوسف بما جال في خاطره وصار يتفقدهم ويبش في وجوههم ويجلب لهم الأكل والشراب الذي أحضره لهم، ومر في بنيامين فقال له أنت وحدك على مائدة وإخوتك كل اثنين، وجلس معه وصار يأكل، ولما جن الليل هيأ لكل اثنين غرفة وأمرهم أن يناموا فيها، فناموا كذلك وبقي بنيامين وحده في غرفة فيها سريران، فدخل عليه بعد أن تفقدهم أيضا ونام معه في غرفة واحدة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {آوى إِلَيْهِ أَخاهُ} قالوا فلما خلا به، قال له ما معنى بنيامين بالعربية لأنها كلمة عبرانية؟ فقال معناها المتوكل، فقال تعرف أخاك الذي قيل إنه هلك بالبرية؟ قال نعم ولكن لا يشبه أحدا من إخوتي ولا من غيرهم، قال تحب أن أكون أنا بدله؟ قال ومن يجد أخا مثل الملك وأنت الذي لا نظير لك في محاسن الأخلاق ومكارم الآداب والبهجة والجمال والكمال، إلا أنه لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف عليه السلام وضمه إليه و: {قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ} يوسف ابن يعقوب وراحيل: {فَلا تَبْتَئِسْ} لا تحزن ولا تأسف: {بِما كانُوا يَعْمَلُونَ 69} بي وبك فيما مضى، والابتئاس اجتلاب الحزن والبؤس، وقالوا قال له لا تخبر إخوتك بهذا واذهب معهم، قال لا أفارقك أبدا، قال افعل ما آمرك وسترى كيف آخذك منهم، قال نعم الأمر إليك قال تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ} تقدم مثله، وذلك بأن كال لهم وزودهم ووفى لهم بأحسن مما مر ثم انهم أخبروه ببضاعتهم، الأولى بأنهم وجدوها بين أمتعتهم وأتوا بها إليه قالوا إنا لا نستحل كتمها لأنا أخذنا قمحا بدلها ويحرم علينا في ديننا ذلك وقالوا إن أبانا يدعو لك ويحبك ويصلي عليك، لأنا ذكرنا له حسن وفادتك لنا وإكرامك إيانا، فلمّا سمع منهم ذلك لم يسئلهم كيف وصلت إليهم لأنه عالم بها فقال إذ كان ذلك منكم، وقد توسمت فيكم الخير، فإني أسمع لكم بها لقاء صدقكم وأمانتكم وإتيانكم بأخيكم، وهو قد سمع لهم بها حين وضعها بأمتعتهم، ولكن لقصد وقد حصل، ثم تفكر كيف يتمكن من إبقاء أخيه عنده فتخيل في نفسه أن لا يكون ذلك إلا بتدبير فيه تهمة لذلك: {جَعَلَ السِّقايَةَ} علبة الكيل وأصلها مشربة الملك التي كان يشرب فيها وكانت من ذهب وبسبب الغلاء الشديد، وعزة الطعام جعلها صاعا للكيل ووضعها بيده نفسه: {فِي رَحْلِ أَخِيهِ} لئلا يحس أحد فيما دبره لأخذ أخيه، وقيل أنه أمر الكيالين أو أحدهم بوضعها في حمل أخيه، لأن الملك عادة لا يباشر ذلك بنفسه كما يفهم من قوله وجهزهم، لأن المجهز فتيانه لا هو واللّه أعلم أي أنه دسه فيه من حيث لا يعلم هو أيضا، ثم أمرهم بنقل متاعهم وودعهم وتركهم يتحادثون في حسن صنيعه لهم دون سائر الممتارين، حتى إذا علم أنهم تجاوزوا عمران المدينة أرسل إليهم فتيانه وأخبرهم بفقد السقاية وأنهم آخر من خرج من حمل الكيل وأمرهم أن يسرعوا ليلحقوهم ويسألوهم عنها، فتبادروا يهرولون حتى قربوا منهم ولذلك عبر بأداة التراخي قال: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} نادى مناد منهم عليهم قائلا: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ} يا أهلها والعير الإبل المحملة: {إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ 70} وقصد بمناداتهم بلفظ السرقة سرقتهم إيّاه من أبيه، لأنهم لما احتالوا عليه بأخذه للنزهة وكان قصدهم قتله فكأنهم سرقوه، وهذا من المعاريض وفيها مندوحة عن الكذب، وهذا على القول بأن القائل هو يوسف عليه السلام، وعليه فلم يبق مجال لقول من قال إنه لا يليق به وهو نبي أن يتهمهم بشيء، يعلم أنهم براء منه وعلى القول بأنه أخبر فتيانه الموكلين بالكيل بفقد الصاع وأمرهم أن يتبعوهم لأنهم هم الذين أخذوه ليلحقوهم ويستردوه منهم، ولم يأمرهم بالمناداة عليهم بلفظ السرقة فليس في الأمر شيء من ذلك، والقضية لا تخلو ولكنها للمصلحة، تدبر.