فصل: مطلب تعريف يوسف نفسه لاخوته وكرم أخلاقه معهم وتبشير يعقوب به:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب تعريف يوسف نفسه لاخوته وكرم أخلاقه معهم وتبشير يعقوب به:

فلما سمعوا ذلك انتبهوا وأقبلوا إليه وتقربوا منه: {قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} على طريق الاستفهام التقريري، ولذلك أكد باللام وأن، لأن التأكيد يقتضي التحقيق الذاتي للاستفهام الحقيقي، وذلك لأنهم لم يعرفوه، لأنه كان في ابّهة الملك وعظمته، إلا أن لهم علامة فيه وهي زائدة كالشامة في فرقه، وهي موجودة في إسحاق ويعقوب وسارة أيضا، وكانت مغطاة بالتاج، فلما خاطبهم بذلك القول رفع التاج عن رأسه فظهرت لهم تلك العلامة، وهذا أيضا قوله تعالى: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} الآية 15 المارة، وقيل أنّهم قالوا أولا على سبيل الشك والوهم لتشبيههم ثناياه بثنايا يوسف لشدة بياضها، فلما رفع التاج عن راسه عرفوه يقينا فصرخ و: {قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي} ذكر أخاه مع أنه معلوم لأن البحث كان دائرا حوله، وصرح باسمه هو تعظيما لما نزل منهم به، ولما عوضه اللّه تعالى من الظفر والملك، ثم أكد لهم تعريفه بقوله: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا} بالألفة بعد الفرقة، والمحبة بعد العداوة، وجمعنا وخلصنا مما وقع بنا، وفضلنا بالدين والدنيا والآخرة: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ} اللّه في جميع أموره ويأتمر بأمره وينتهي بنهيه: {وَيَصْبِرْ} على ما يصيبه وعلى ما حرمه اللّه وعلى مشاقّ الطاعة وشهوة المعصية، فإن اللّه تعالى يعده محسنا ويجزيه الجزاء الأوفى.
وذكر الصبر بعد التقوى من ذكر الخاص بعد العام، لأنه مندرج في معناها: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ 90} في هذه الدنيا، وهذا من كماله أيضا عليه السلام، إذ بدأهم بتذكير نعم اللّه عليه بالسلامة والكرامة ولم يفاجئهم بالتعنيف والملامة،: {قالُوا} كلهم بلسان واحد: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا} اختارك وفضلك بالعلم والحلم والصبر والتقوى والحسن والعقل والملك والرسالة، ومن قال بالنبوة فقد أخطأ المرمى، لأنهم كلهم أنبياء إذ ذاك، والنبوة من حيث هي متساوية بخلاف الرسالة، لأن منهم من هو من أولي العزم، وتفضيل الأنبياء الوارد في قوله تعالى، ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض الآية 55 من الإسراء المارة، إنما ذلك بكثرة الاتباع وما خص به بعضهم من النعم والمعجزات، وما نزل عليهم من الصحف، ثم بادروا بالاعتراف بخطئهم دون تقدم عذر ما بقولهم: {وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ 91} فيما صنعناه بك عمدا لأن فعل خطأ بمعنى تعمد بخلاف مخطئين فإنه من أخطأ إذا نسى وسها، أي لا جرم أننا لم نتّق اللّه والإثم فيك، ولم نصبر على ما رأيناه من اصطفاء أبينا لك دوننا حال صغرنا ولهذا فإن اللّه تعالى أعزك وأجلّك، وسلطك علينا، وأن اللّه تعالى قدّر سلطانك هذا على فعلنا فيك.
وفي اعترافهم بالخطأ استنزال لإحسانه عليهم واستعطاف لعفوه عنهم، فجاوبهم بما يثلج الصدر ويقرّ الأعين إذ: {قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ}، وأصل الكلمة الثرب وهو الشحم الرقيق على الكرش، وفي الجوف، وصيغة التفعيل للسلب أي إزالة الثرب كالتجليد والتقريع بمعنى إزالة الجلد والقرع، واستعير للّوم الذي يخرق الاعراض ويذهب بهاء الوجه، لأنه بإزالة الشحم يبدو الهزال وما لا يرضى، كما أنه باللوم تظهر العيوب، لذلك شبه به، والجامع بينهما طروء النقص بعد الكمال وإزالة ما به الكمال والجمال بكل، وهي اسم لا وخبرها مقدر تقديره كائن متعلق عليكم، واليوم ظرف متعلق بذلك الخبر المقدر أيضا، ولفظ اليوم هنا ليس لا قيد لأنه إذا لم يلمهم أول لقائه واشتعال ناره، فلأن لا يلومهم ولن يعاقبهم بعده بطريق الأولى.
وقال المرتضى إن اليوم موضوع للزمان كله، مستدلا بقوله:
اليوم يرحمنا من كان يغبطنا ** واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا

كأنه أريد بعد اليوم، قال هذا عليه السلام تطييبا لخاطرهم، وسدا عن بحث ما سلف منهم، وعلى هذا ينبعي أن يوقف على كلمة اليوم، لأنه راجع للتثريب ومتعلق بما تعلق به خبر لا كما ذكرنا، ويبتدأ بقوله عز قوله: {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} وهذه جملة دعائية لهم بالمغفرة من اللّه، لأن فعل الدعاء لا ينصب ما قبله غالبا، وإذا رجعناه لما بعده وعلقناه بقوله تعالى {يغفر} فينبغي أن يوقف على كلمة عليكم ويبتدأ بكلمة اليوم ويوصلها بما بعدها، وعلى هذا يكون المعنى مبادرته لهم بالبشارة بمغفرة ربهم عما سبق منهم بحقه وحق أخيه، وذلك لما لحقهم من الخجل والحياء، إذ لم يبق لهم بد من اعترافهم بالخطأ وندمهم على فعلهم، ويكون ذلك من قبيل الإخبار بالغيب، وعلى هذا قول صلّى اللّه عليه وسلم لقريش عند فتح مكة ما تروني فاعلا بكم؟
قالوا نظن خيرا أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت، فقال أقول كما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم، وقولهم هذا فضلا عن اعترافهم بالذنب فإنه توبة أيضا، ولا شك أن الذنب مرض وشفاؤه التوبة، ولهذا قال لهم ما قال، وهو مصدر العفو، ولما جاء أبو سفيان ليسلم قال له العباس اتل على رسول اللّه لا تثريب عليكم اليوم، ففعل، فقال صلّى اللّه عليه وسلم يغفر اللّه لك ولمن علمك.
وهذا قد يصح لأن السورة مكية، وأن سنة الفتح وإن كانت في السنة الثامنة وكان حضرة الرسول بالمدينة ولم يأت أبو سفيان إلى المدينة ويسلم، إلا أنه يجوز أنه تعلمها حين نزولها في مكة كالعباس لأنه آخر من هاجر ولم يتعلمها إلا في مكة، هذا والوقف على كلمة اليوم أولى وأحسن وأليق، وان أكثر القراء عليه، وجملة يغفر دعائية إذ يبعد على السيد يوسف أن يقولها بقصد الإخبار بالمغفرة من اللّه، ولو لم تكن الجملة بقصد الدعاء لقطعوا بالمغفرة لهم بمجرد سماعها من أخيهم الصديق، ولم يقولوا لأبيهم استغفر لنا كما سيأتي، ثم بشرهم بقبول عذرهم وأن اللّه تعالى سيغفر لهم برحمته بقوله: {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ 92} بي وبكم وبالخلق أجمع لأني إذا رحمتكم وأنا الفقير القتور، فبالأحرى أن يرحمكم ربي وهو الغني الغفور المتفضل على التائب بالعفو الشامل والرحمة الواسعة، ومن كرم يوسف عليه السلام أنه قدم لهم الطعام وجلس يؤاكلهم فقالوا له إنا نستحي أن نأكل معك بما فرط منا فيك، فقال لا يا إخوتي لأن أهل مصر وإن كنت ملكهم، فإنهم ينظرون إلي بالعين الأولى، لأنهم يعرفونني عبدا للعزيز وخادما له، ولقد شرفت بكم الآن وعظمت في أعينهم، إذ علموا حقيقة ما ذكرته لهم قبلا بأني ابن يعقوب من صلب إبراهيم عليه السلام.
وجاء عن ابن عباس أن الملك قال يوما ليوسف عليه السلام: أحب أن تخالطني في كل شيء إلا في أهلي، وأنا آنف أن تأكل معي، أي لأنه غلام العزيز وزيره السابق، فغضب يوسف عليه السلام وقال: أحق أن آنف أنا ابن إبراهيم خليل اللّه.
وفي التوراة التي في أيدي اليهود اليوم أنه عليه السلام لما رأى من إخوته مزيد الخجل أدناهم إليه وقال لا يشق عليكم إذ بعتموني، وإلى هذا المكان أوصلتموني، فإن اللّه تعالى قد علم ما يقع من القحط والجدب وما ينزل بكم من ذلك ففعل ما أوصلني به إلى هذا المكان والمتكانة ليزيل عنكم بي ما ينزل بكم، ويكون ذلك سببا لبقائكم في الأرض وانتشار ذراريكم فيها.
(هذا وقد مضت سنتان من سني الجدب وبقي خمس سنين، إذ ابتدأت المجدبات بعد خروجه من السجن بثلاث سنين وبعد رؤيا الملك بستة وبعد تولية يوسف بسنتين) وقد صيرني اللّه تعالى مرجعا للعزيز وسيدا لأهله وسلطانا على جميع أهل مصر، فلا يضيق عليكم أمركم ثم سألهم عن حال أبيه فذكروا له شأنه كما هو عليه، ففال لهم: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا} وهذا بوحي من اللّه عز وجل، وهذا القميص قميص إبراهيم عليه السلام الذي ألبسه اللّه إياه حين ألقي بالنار بواسطة جبريل عليه السلام، إذ ألقي فيها عريانا كما ألمعنا إليه في الآية 31/ 15 المارتين، لأن فيه ريحه وريح الجنة، وهذا أمر معلوم عقلا، فضلا عما فيه من الكرامة، لأن الحبيب إذا رأى ثوب حبيبه أو شيئا مما يلازمه ينشرح صدره وتزول كآبته، وقيل في هذا المعنى:
وإني لأستشفي بكل غمامة ** يهب بها من نحو أرضك ريح

حتى إن الرجل وهو في سكرات الموت إذا كان له غائب عزيز وقيل له ها هو جاء يفتح عينيه وتبدو عليه ملامح السرور، حتى إنه إذا جيء له بشيء من ملابسه يضمه ويشمه وقال لإخوته أيضا: {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ 93} لينعموا بآثار ملكي كما اغتموا بأخبار هلكي، فأخذوه فرحين مسرورين قاصدين تبشير أبيهم به كما كدروه قبلا بفقده تكفيرا لما وقع منهم عنده، قال تعالى: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} عن أرض مصر وتوجهت لأرض كنعان: {قالَ أَبُوهُمْ} لأحفاده ومن عنده من أهله: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ 94} تنسبوني إلى الخرف والهرم وقلة العقل والجهل، وأصل التفنيد ضعف الرأي فقال أفند الرجل إذا خرف وفند إذا جهل، قال الأصمعي: إذا كثر كلام الرجل من خرف فهو التفنيد، أي لولا تنسبوني لذلك لصدقتموني، قالوا إن الريح استأذنت ربها بإيصاله ريح يوسف إلى يعقوب على مدة ثمانين فرسخا ولا يبعد على اللّه تعالى إيجاد ريح القميص بحاسة يعقوب عليه السلام، أو أنه أمر ريح الصبا بنقل ريحه إليه حين أعطاه يوسف لإخوته، وما ذلك على اللّه بعزيز، قال أهل المعاني إن اللّه تعالى أوصل ريح يوسف عند انقضاء المحنة وحلول وقت السرور من محله إليه بلحظة واحدة ومنع دخول هذا إليه مدة أربعين سنة من نفس المحل، ليعلم خلقه أن كل سهل زمن الإدبار صعب، وكل صعب زمن الإقبال سهل ثم انهم لم يلقوا بالا لكلامه وأكدوا له ما ظنه فيهم إذ: {قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ 95} الذي كنت عليه ولا تزال تلهج به من ذكر يوسف، ولما سمع ما أجابوه به سكت واستحضر للبشارة مما ذكره، والضلال الذهاب عن طريق الصواب.
قال تعالى: {فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ} وهو يهوذا المار ذكره، لأنه هو الذي فاجأه بأن يوسف أكله الذئب وأعطاه ثوبه الملطخ بالدم المزيف، فأحب أن يقابل هذه البشارة بتلك الإساءة، قالوا وكان تقدم إخوته لهذه الغاية وأخذ معه سبعة أرغفة زادا، فوصل قبل أن يستوفي أكلها حلال ثمانين فرسخا، لشدة عدوه بالطريق بسائق فرحه وسروره، فبادر والده بالتحية والبشارة بحياة يوسف، وقال له هذا قميصه علامة على صحة قولي، ثم: {أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} بأن عادت له قوة النظر كما كانت، وانقلب ضعفه قوة ووهنه فطنة، وهذا من باب خرق العادة، وليس بدعا في هذا المقام، وقيل إنه انتعش فقري قلبه وازدادت حرارته الغريزية، فأوصل نوره إلى الدماغ وأداه إلى البصر، ومن هذا الباب استشفاء العشاق بما يهبب عليهم من جهة أرض المعشوق، قال:
ألا يا نسيم الصبح مالك ** كلما تقربت منا فاح نشرك طيبا

كأن سليمى نبئت بسقامنا ** فأعطتك رياها فجئت طبيبا

وأن هنا ليست بزائدة لأن الزائد عبث ولا عبث في القرآن لأنها أفادت تحسين اللفظ والتأكيد واستقامة وزن الكلام: {قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ 96} أنتم ولا غيركم ثم قال لهم كيف تركتم يوسف قالوا هو ملك مصر قال ما أصنع الملك على أي دين هو يعامل الناس هناك قالوا على الإسلام قال الآن تمت النعمة فانبسط وظهر على وجهه السرور: {قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا} التي واوقعناها معك ومع أخينا يوسف وأخيه ولا تؤنبنا على ما مضى: {إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ 97} معكم ومع اللّه: {قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ 98} لعباده التائبين أمثالكم وهو كثير المغفرة لعباده أجمع، واسع الرحمة، جدير بأن يعفو عنكم ولا يعاقبكم عما وقع منكم.
قالوا إنه عليه السلام أخر طلب المغفرة لوقت السحر في ليلة الجمعة، لأنه أدعى للإجابة، وذكروا أنه قال اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه، واغفر لي ولأولادي مما أتوا إلى أخيهم وما أوقعوه فيه.
فأوحى اللّه إليه أني قد غفرت لك ولهم أجمعين، أما ما قاله عطاء الخراساني من أن طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها إلى الشيوخ مستدلا بقول يوسف: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} إلخ، وقول يعقوب: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ} فهو غير مطّرد، على أن يوسف نفى عنهم اللوم فقط، ووكل أمر المغفرة إلى اللّه، ويعقوب وعدهم بالاستغفار، لأنه من خصائص اللّه، وهذا من أدب الرسل، وأن يوسف طلب المغفرة لهم من اللّه فقط، لأن الوقف في الآية على كلمة اليوم كما نوهنا به آنفا في الآية 92 المارة، ولا عبرة بقول من قال إن الوقف على كلمة عليكم لأن الابتداء بكلمة اليوم يشمّ منه رائحة التحتم على اللّه بالمغفرة، ولا يتصور صدوره من مثل السيد يوسف واللّه تعالى لا يفرض عليه شيء بل هو الذي يفرض على خلقه إرادته الأنبياء فمن دونهم، قالوا ثم إن يوسف عليه السلام أرسل إلى أبيه مائتي راحلة وجهازا كثيرا مما يكفيه وأهله، وصار يترقب حضورهم، ثم ان أهل مصر صاروا ينظرون إليه بغير النظر الأول بعد أن تبين لهم أنه من آل إبراهيم حقيقة، وعظم بأعينهم، ووقر وقارا عظيما.