فصل: تفسير الآية رقم (63):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (63):

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ثم ذكر أنه لما أقلع عنهم تولوا عن الحضرة الشريفة إلى حضرات الشيطان فأكرموا المعاصي إشارة إلى أنهم أغلظ الناس أكبادًا وأكثرهم جرأة وعنادًا لا يرعوون لرهبة ولا يثبتون لرغبة فقال تعالى: {وإذ} وأخصر من هذا أن يقال إنه لما قرر سبحانه قوله للعالم العامل المذعن كائنًا من كان تلاه بما لليهود من الجلافة الداعية إلى النفور عن خلال السعادة التي هي ثمرة للعلم وما له سبحانه من التطول عليهم بإكراههم على ردهم إليه فقال وإذ أي اذكروا يا بني إسرائيل إذ {أخذنا} بما لنا من العظمة {ميثاقكم} بالسمع والطاعة من الوثيقة وهي تثنية العهد تأكيدًا كإثباته بالكتاب- قاله الحرالي.
{ورفعنا} ولما كان الجبل قد صار فوقهم كالظلة عامًا لهم بحيث إنه إذا وقع عليهم لم يفلت منهم إنسان نزع الجار فقال: {وفوقكم الطور} ترهيبًا لكم لتقبلوا الميثاق الذي هو سبب سعادتكم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كل جبل ينبت، وكل جبل لا ينبت فليس بطور، وقلنا لكم وهو مظل فوقكم {وخذوا ما آتيناكم} من الكتاب للسعادة بطاعتي والتزام أحكامي الموجبة للكون في حضرتي {بقوة} أي بجد واجتهاد، والقوة باطن القدرة، من القوى وهي طاقات الحبل التي يمتن بها ويؤمن انقطاعه- قاله الحرالي.
{واذكروا ما فيه} من التمسك به وللانتقال عنه عند مجيء الناسخ المنعوت فيه ذكرًا يكون بالقلب فكرًا وباللسان ذكرًا {لعلكم تتقون} أي لتكونوا على رجاء من أن تتقوا موجبات السخط.
ولما كان التقدير: فأخذتم ذلك وأوثقتم العهد به خوفًا من أن يدفنكم بالجبل عطف عليه وأشار إلى أنه من حقه البعد عن تركه بأداة البعد. اهـ.

.اللغة:

{ميثاقكم} الميثاق: العهد المؤكد بيمين ونحوه، والمراد هنا العمل بأحكام التوراة.
{الطور} هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام.
{بقوة} بحزم وعزم.
{توليتم} التولي: الإعراض عن الشيء والإدبار عنه.
{خاسئين} جمع خاسئ وهو الذليل المهين، قال أهل اللغة: الخاسئ: الصاغر المبعد المطرود، كالكلب إذا دنا من الناس قيل له: اخسأ أي تباعد وانطرد صاغرا.
{نكالا} النكال: العقوبة الشديدة الزاجرة، ولا يقال لكل عقوبة نكال حتى تكون زاجرة رادعة. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم}:

.قال الفخر:

اعلم أن هذا هو الإنعام العاشر وذلك لأنه تعالى إنما أخذ ميثاقهم لمصلحتهم فصار ذلك من إنعامه عليهم:
أما قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم} ففيه بحثان:
الأول: اعلم أن الميثاق إنما يكون بفعل الأمور التي توجب الانقياد والطاعة، والمفسرون ذكروا في تفسير الميثاق وجوهًا، أحدها: ما أودع الله العقول من الدلائل الدالة على وجود الصانع وحكمته والدلائل الدالة على صدق أنبيائه ورسله، وهذا النوع من المواثيق أقوى المواثيق والعهود لأنها لا تحتمل الخلف والتبديل بوجه ألبتة وهو قول الأصم، وثانيها: ما روي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن موسى عليه السلام لما رجع من عند ربه بالألواح قال لهم: إن فيها كتاب الله فقالوا: لن نأخذ بقولك حتى نرى الله جهرة فيقول: هذا كتابي فخذوه فأخذتهم الصاعقة فماتوا ثم أحياهم ثم قال لهم بعد ذلك: خذوا كتاب الله فأبوا فرفع فوقهم الطور وقيل لهم: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم، فأخذوه فرفع الطور هو الميثاق، وذلك لأن رفع الطور آية باهرة عجيبة تبهر العقول وترد المكذب إلى التصديق والشاك إلى اليقين، فلما رأوا ذلك وعرفوا أنه من قبله تعالى علمًا لموسى عليه السلام علمًا مضافًا إلى سائر الآيات أقروا له بالصدق فيما جاء به وأظهروا التوبة وأعطوا العهد والميثاق أن لا يعودوا إلى ما كان منهم من عبادة العجل وأن يقوموا بالتوراة فكان هذا عهدًا موثقًا جعلوه لله على أنفسهم، وهذا هو اختيار أبي مسلم.
وثالثها: أن لله ميثاقين، فالأول: حين أخرجهم من صلب آدم وأشهدهم على أنفسهم، والثاني: أنه ألزم الناس متابعة الأنبياء والمراد هاهنا هو هذا العهد.
هذا قول ابن عباس وهو ضعيف.
الثاني: قال القفال رحمه الله: إنما قال: {ميثاقكم} ولم يقل مواثيقكم لوجهين، أحدهما: أراد به الدلالة على أن كل واحد منهم قد أخذ ذلك كما قال: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر: 67] أي كل واحد منكم.
والثاني: أنه كان شيئًا واحدًا أخذ من كل واحد منهم كما أخذ على غيره فلا جرم كان كله ميثاقًا واحدًا ولو قيل مواثيقكم لأشبه أن يكون هناك مواثيق أخذت عليهم لا ميثاق واحد، والله أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم} تذكير بنعمة أخرى، لأنه سبحانه إنما فعل ذلك لمصلحتهم، والظاهر من الميثاق هنا العهد، ولم يقل: مواثيقكم، لأن ما أخذ على كل واحد منهم أخذ على غيره فكان ميثاقًا واحدًا ولعله كان بالانقياد لموسى عليه السلام، واختلف في أنه متى كان؟ فقيل: قبل رفع الطور؛ ثم لما نقضوه رفع فوقهم لظاهر قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بميثاقهم} [النساء: 154] الخ، وقيل: كان معه. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا فوقكم الطور}:

.قال الفخر:

وأما قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا فوقكم الطور} فنظيره قوله تعالى: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} [الأعراف: 171] وفيه أبحاث:
البحث الأول: الواو في قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا} واو عطف على تفسير ابن عباس والمعنى أن أخذ الميثاق كان متقدمًا فلما نقضوه بالامتناع عن قبول الكتاب رفع عليهم الجبل، وأما على تفسير أبي مسلم فليست واو عطف ولكنها واو الحال كما يقال: فعلت ذلك والزمان زمان فكأنه قال: وإذ أخذنا ميثاقكم عند رفعنا الطور فوقكم.
الثاني: قيل: إن الطور كل جبل قال العجاج:
داني جناحيه من الطور فمر ** تقضي البازي إذا البازي كسر

أما الخليل فقال في كتابه: إن الطور اسم جبل معلوم وهذا هو الأقرب لأن لام التعريف فيه تقتضي حمله على جبل معهود عرف كونه مسمى بهذا الاسم، والمعهود هو الجبل الذي وقعت المناجاة عليه وقد يجوز أن ينقله الله تعالى إلى حيث هم فيجعله فوقهم وإن كان بعيدًا منهم لأن القادر أن يسكن الجبل في الهواء قادر أيضًا على أن يقلعه وينقله إليهم من المكان البعيد، وقال ابن عباس: أمر تعالى جبلًا من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتى قام فوقهم كالظلة وكان المعسكر فرسخًا في فرسخ فأوحى الله إليهم أن اقبلوا التوراة وإلا رميت الجبل عليكم، فلما رأوا أن لا مهرب قبلوا التوراة بما فيها وسجدوا للفزع سجودًا يلاحظون الجبل، فلذلك سجدت اليهود على أنصاف وجوههم.
الثالث: من الملاحدة من أنكر إمكان وقوف الثقيل في الهواء بلا عماد وأما الأرض فقالوا إنما وقفت لأنها بطبعها طالبة للمركز فلا جرم وقفت في المركز، ودليلنا على فساد قولهم أنه سبحانه قادر على كل الممكنات ووقوف الثقيل في الهواء من الممكنات فوجب أن يكون الله قادرًا عليه وتمام تقرير هاتين المقدمتين معلوم في كتب الأصول.
الرابع: قال بعضهم: إظلال الجبل غير جائز لأن ذلك لو وقع لكان يجري مجرى الإلجاء إلى الإيمان وهو ينافي التكليف.
أجاب القاضي بأنه لا يلجيء لأن أكثر ما فيه خوف السقوط عليهم، فإذا استمر في مكانه مدة وقد شاهدوا السموات مرفوعة فوقهم بلا عماد جاز هاهنا أن يزول عنهم الخوف فيزول الإلجاء ويبقى التكليف. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} الواو للعطف؛ وقيل: للحال، والطور قيل: جبل من الجبال، وهو سرياني معرب، وقيل: الجبل المعين.
وعن أبي حاتم عن ابن عباس أن موسى عليه السلام لما جاءهم بالتوراة وما فيها من التكاليف الشاقة كبرت عليهم وأبوا قبولها فأمر جبريل بقلع الطور فظلله فوقهم حتى قبلوا؛ وكان على قدر عسكرهم فرسخًا في فرسخ ورفع فوقهم قدر قامة الرجل، واستشكل بأن هذا يجري مجرى الإلجاء إلى الإيمان فينافي التكليف، وأجاب الإمام بأنه لا إلجاء لأن الأكثر فيه خوف السقوط عليهم، فإذا استمر في مكانه مدة وقد شاهدوا السموات مرفوعة بلا عماد جاز أن يزول عنهم الخوف فيزول الإلجاء ويبقى التكليف، وقال العلامة: كأنه حصل لهم بعد هذا الإلجاء قبول اختياري، أو كان يكفي في الأمم السالفة مثل هذا الإيمان وفيه كما قال الساليكوتي إن الكلام في أنه كيف يصح التكليف ب {خُذُواْ} الخ مع القسر، وقد تقرر أن مبناه على الاختيار فالحق أنه إكراه لأنه حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه لو خلي ونفسه فيكون معدمًا للرضا لا للاختيار إذ الفعل يصدر باختياره كما فصل في الأصول، وهذا كالمحاربة مع الكفار، وأما قوله: {لا إِكْرَاهَ في الدين} [البقرة: 256] وقوله سبحانه: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] فقد كان قبل الأمر بالقتال ثم نسخ به. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ}:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي بجد وعزيمة كاملة وعدول عن التغافل والتكاسل، قال الجبائي: هذا يدل على أن الاستطاعة قبل الفعل لأنه لا يجوز أن يقال: خذ هذا بقوة ولا قوة حاصلة كما لا يقال: اكتب بالقلم ولا قلم، وأجاب أصحابنا بأن المراد: خذوا ما آتيناكم بجد وعزيمة وعندنا العزيمة قد تكون متقدمة على الفعل.
وأما قوله تعالى: {واذكروا مَا فِيهِ} أي احفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه.
فإن قيل: هلا حملتموه على نفس الذكر؟ قلنا: لأن الذكر الذي هو ضد النسيان من فعل الله تعالى فكيف يجوز الأمر به.
فأما إذا حملناه على المدارسة فلا إشكال.
أما قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي لكي تتقوا، واحتج الجبائي بذلك على أنه تعالى أراد فعل الطاعة من الكل، وجوابه ما تقدم.
واعلم أن المفهوم من قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} أنهم فعلوا ذلك وإلا لم يكن ذلك أخذًا للميثاق ولا صح قوله من بعد: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} فدل ذلك منهم على القبول والالتزام. اهـ.

.قال الألوسي:

{خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ} هو على إضمار القول أي قلنا أو قائلين خذوا وقال بعض الكوفيين: لا يحتاج إلى إضماره لأن أخذ الميثاق قول، والمعنى: وإذ أخذنا ميثاقكم بأن تأخذوا ما آتيناكم، وليس بشيء والمراد هنا بالقوة الجد والاجتهاد كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ويؤول إلى عدم التكاسل والتغافل، فحينئذ لا تصلح الآية دليلًا لمن ادعى أن الاستطاعة قبل الفعل إذ لا يقال: خذ هذا بقوة، إلا والقوة حاصلة فيه لأن القوة بهذا المعنى لا تنكر صحة تقدمها على الفعل.
{واذكروا مَا فِيهِ} أي ادرسوه واخفظوه ولا تنسوه، أو تدبروا معناه، أو اعلموا بما فيه من الأحكام، فالذكر يحتاج أن يراد به الذكر اللساني والقلبي والأعم منهما وما يكون كاللازم لهما، والمقصود منهما أعني العمل {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} قد تقدم الكلام على الترجي في كلامه تعالى، وقد ذكر هاهنا أن كلما لعل متعلقة بخذوا، واذكروا إما مجاز يؤول معناه بعد الاستعارة إلى تعليل ذي الغاية بغايته أو حقيقة لرجاء المخاطب؛ والمعنى: خذوا واذكروا راجين أن تكونوا متقين ويرجح المعنى المجازي أنه لا معنى لرجائهم فيما يشق عليهم أعنى التقوى، اللهم إلا باعتبار تكلف أنهم سمعوا مناقب المتقين ودرجاتهم فلذا كانوا راجين للانخراط في سلكهم، وجوز المعتزلة كونها متعلقة بقلنا المقدر وأولوا الترجي بالإرادة أي: قلنا واذكروا إرادة أن تتقوا، وهو مبني على أصلهم الفاسد من أن إرادة الله تعالى لأفعال العباد غير موجبة للصدور لكونها عبارة عن العلم بالمصلحة، وجوز العلامة تعلقها إذا أول الترجي بالإرادة بخذوا أيضًا على أن يكون قيدًا للطلب لا للمطلوب، وجوز الشهاب أن يتعلق بالقول على تأويله بالطلب والتخلف فيه جائز، وفيه أن القول المذكور وهو {خُذُواْ مَا ءاتيناكم} بعينه طلب التقوى فلا يصح أن يقال خذوا ما آتيناكم طالبًا منكم التقوى إلا بنوع تكلف فافهم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} هذه الآية تفسّر معنى قوله.
تعالى: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} [الأعراف: 171].
قال أبو عبيدة: المعنى زعزعناه فاستخرجناه من مكانه.
قال: وكل شيء قلعته فرمَيْتَ به فقد نتقته.
وقيل: نتقناه رفعناه.
قال ابن الأعرابيّ.
الناتقُ الرافعُ، والناتقُ الباسطُ، والناتقُ الفاتقُ.
وامرأة ناتق ومِنتاق: كثيرة الولد.
وقال القُتَبِيّ: أُخذ ذلك مِن نَتْق السِّقَاء، وهو نفضه حتى تُقتلع الزُّبْدة منه.
قال وقوله: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} [الأعراف: 171] قال: قُلع من أصله.
واختلف في الطور؛ فقيل: الطور اسم للجبل الذي كلّم الله عليه موسى عليه السلام وأنزل عليه فيه التوراة دون غيره؛ رواه ابن جريج عن ابن عباس.
وروى الضحاك عنه أن الطور ما أنْبتَ من الجبال خاصة دون ما لم ينبِت.
وقال مجاهد وقتادة: أي جبل كان.
إلا أن مجاهدًا قال: هو اسم لكل جبل بالسريانية؛ وقاله أبو العالية.
وقد مضى الكلام هل وقع في القرآن ألفاظ مفردة غير معرّبة من غير كلام العرب في مقدمة الكتاب.
والحمد لله.
وزعم البكري أنه سُمِّيَ بطور بن إسماعيل عليه السلام.
والله تعالى أعلم.
القول في سبب رفع الطور.
وذلك أن موسى عليه السلام لما جاء بني إسرائيل من عند الله بالألواح فيها التوراة قال لهم: خذوها والتزِموها.
فقالوا: لا! إلا أن يكلّمنا الله بها كما كلّمك.
فصعِقوا ثم أُحْيُوا.
فقال لهم: خذوها.
فقالوا لا.
فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله؛ وكذلك كان عسكرهم؛ فجُعل عليهم مثل الظُّلة، وأُتُوا ببحرِ من خَلْفِهم، ونار من قِبَل وجوههم، وقيل لهم: خذوها وعليكم الميثاق ألا تضيّعوها، وإلا سقط عليكم الجبل.
فسجدوا توبةً لله وأخذوا التوراة بالميثاق.
قال الطبري عن بعض العلماء: لو أخذوها أوّل مرة لم يكن عليهم ميثاق.
وكان سجودهم على شِقّ؛ لأنهم كانوا يرقبون الجبل خوفًا؛ فلما رحمهم الله قالوا: لا سجدة أفضل من سجدة تقبّلها الله ورَحِم بها عباده، فأمَرّوا سجودَهم على شِق واحد.
قال ابن عطية: والذي لا يصح سواه أن الله تعالى اخترع وقت سجودهم الإيمان {في قلوبهم} لا أنهم آمنوا كرهًا وقلوبهم غير مطمئنة بذلك.
قوله تعالى: {خُذُواْ} أي فقلنا خذوا؛ فحذف.
{مَا آتَيْنَاكُم} أعطيناكم.
{بِقُوَّةٍ} أي بِجد واجتهاد؛ قاله ابن عباس وقتادة والسدّي.
وقيل: بنيّةٍ وإخلاص.
مجاهد: القوّة العمل بما فيه.
وقيل: بقوّة، بكثرة درس.
{واذكروا مَا فِيهِ} أي تدبّروه واحفظوا أوامره ووعيده، ولا تنسوه ولا تضيّعوه.
قلت: هذا هو المقصود من الكُتب، العملُ بمقتضاها لا تلاوتها باللسان وترتيلها؛ فإن ذلك نَبْذٌ لها؛ على ما قاله الشعبي وابن عُيَيْنة؛ وسيأتي قولهما عند قوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [البقرة: 101].
وقد روى النسائي عن أبي سعيد الخُدْرِيّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ مِن شرّ الناس رجلًا فاسقًا يقرأ القرآن لا يَرْعَوِي إلى شيء منه» فبّين صلى الله عليه وسلم أن المقصود العمل كما بيّنا.
وقال مالك: قد يقرأ القرآنَ مَن لا خير فيه.
فما لزم إذًا مَن قبلنا وأُخذ عليهم لازمٌ لنا وواجبٌ علينا.
قال الله تعالى: {واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} [الزمر: 55].
فأُمِرنا باتّباع كتابه والعمل بمقتضاه؛ لكن تركنا ذلك، كما تركت اليهود والنصارى، وبقيت أشخاص الكتب والمصاحف لا تفيد شيئًا؛ لغلبة الجهل وطلب الرياسة واتباع الأهواء.
روى الترمذيّ عن جُبَيْر بن نُفَيْر عن أبي الدّرداء قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: «هذا أوانٌ يُختلس فيه العلمُ من الناس حتى لا يقدرِوا منه على شيء».
فقال زياد بن لَبِيد الأنصاريّ: كيف يُختلس منا وقد قرأنا القرآن! فوالله لَنقْرَأنه ولنُقرِئنّه نساءنا وأبناءنا.
فقال: «ثَكِلَتْك أمُّك يا زياد إن كنتُ لأعُدّك من فقهاء المدينة هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تُغني عنهم» وذكر الحديث، وسيأتي.
وخرّجه النسائي من حديث جُبير بن نُفير أيضًا عن عَوف بن مالك الأشجعيّ من طريق صحيحة، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لزياد: «ثَكِلَتْك أُمُّك يا زياد هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى» وفي المُوَطَأ عن عبد اللَّه بن مسعود قال لإنسان: «إنك في زمانٍ كثيرٍ فقهاؤه، قليلٍ قُرّاؤه، تُحفظ فيه حدودُ القرآن وتُضَيّع حروفه، قليل مَن يسأل، كثيرٍ مَن يُعطِي، يطيلون الصلاة ويُقْصِرون فيه الخطبة، يبدأون فيه أعمالهم قبل أهوائهم وسيأتي على الناس زمان قليلٌ فقهاؤه، كثيرٌ قراؤه، تُحفظ فيه حروف القرآن، وتُضيّع حدوده؛ كثيرٌ من يسأل، قليلٌ من يعطى، يطيلون فيه الخطبة، ويقصِرون الصلاة، يبدأون فيه أهواءهم قبل أعمالهم» وهذه نصوص تدل على ما ذكرنا.
وقد قال يحيى: سألت ابن نافع عن قوله: يبدأون أهواءهم قبل أعمالهم؟ قال يقول: يتبعون أهواءهم ويتركون العمل بالذي افترض عليهم. اهـ.