فصل: قال مجد الدين الفيروزابادي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال مجد الدين الفيروزابادي:

بصيرة في عرب:
العَرَب- بالتَّحْرِيك- والعُرْب- بالضمّ-: جِيل من النَّاس.
والنِّسْبة عَرَبىّ بيّن العُرُبة، وهم أَهل الأَمصار.
والعرب اسم جنس.
والعرب العاربة: هم الخلَّص منهم.
وأَخذت من لفظها فأَكدّت بها كليل لائل.
وربّما قالوا: العرب العَرْباءُ.
والعربيّة هي هذه اللُّغة.
وتصغير العَرب عُرَيب بلا هاء.
قال عبد المؤمن بن عبد القدّوس:
ومَكْن الضَّبَابِ طعام العُرَيب ** ولا تشتهيه نفوس العَجَمْ

وإِنما صغَّرهم تعظيما لهم كقول الحُبَاب: أَنَا جُذَيلها المحكَّك.
وقيل: سمّيت العرب بها لأَنَّه نَشأَ أَولاد إِسماعيل- صلوات الله عليه- بَعَربة وهى من تِهامة، فنُسبوا إِلى بلدهم.
ورُوى أَنَّ خمسة من الأَنبياءِ-صلوا الله عليهم- من العرب، وهم: إِسماعيل، ومحمّد، وشعيب، وصالح، وهود.
وهذا يدلُّ على أَنَّ لسان العرب قديم.
وأَن هؤلاءِ الأَنبياءَ-صلوات الله عليهم- كلّهم كانوا يسكنون بلاد العَرَب.
وكان شُعيب وقومه بأَرض مَدْين، وكان صالح وقومه ثمود بناحية الحِجْر، وكان هود وقومه ينزلون الأَحقاف من رمال اليمن، وكانوا أَهل عَمَد، وكان إِسماعيل ومحمّد المصطفى صلى الله عليه وسلَّم من سكَّان الحرم.
وكل مَن سكن بلاد العرب وجزيرتها ونطق بلسان أَهلها فهم عَرَب.
وقال الأَزهرىّ: الأقرب عندى أَنهم يسمَّون عربًا باسم بلدهم العَرَباتِ.
وقال إِسحاق بن الفرج: عَرَبَةُ باحة العرب.
وباحة دار أَبى الفصاحة إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما.
قال: وفيها يقول قائلهم:
وَعرْبة أَرضٌ ما يُحِلّ حرامَها ** من الناس إِلاّ اللوذعى الحُلاَحلُ

يعنى النبي صلى الله عليه وسلم: «أُحِلَّت لنا مكَّة ساعة من نهار ثم هي حرام إِلى يوم القيامة».
قال: واضطُرّ الشَّاعر إِلى تسكين الراءِ من عَرَبة فسكَّنها.
وأَنشد قول الشاعر:
ورُجّت باحةُ العربات رَجًّا ** ترقرقُ في مناكبها الدّماءُ

قال: وأَقامت قريش بعَرَبة فتنَخَتْ بها. وانتشر سائر العرب في جزيرتها فنُسبوا كلّهم إِلى عَربة؛ لأَن أَباهم إِسماعيل-صلوات الله وسلامه عليه- بها نشأَ، ورَبَل أَولاده فيها فكثروا، فلمّا لم تحملهم البلاد انتشروا، وأَقامت قريش بها.
وقال ابن عبّاس رضى الله عنهما في قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}: هو العِرابَة في كلام العرب.
والعِرَابة كأَنَّها اسم من التعريب وهو ما قَبُح من الكلام.
وفى حديث عطاء: لا تحلّ العِرَابة للمحرم، ويروى أَنَّه كره الإِعراب للمحرم، وهو بمعنى العِرابة.
والأعراب: سكَّان البادية خاصّة، ويجمع على الأعاريب.
ولا واحد للأعراب؛ ولهذا نسب إِليها ينسب للجمع.
وليست الأعراب جمعًا للعرب كما أَن الأَنباط.
جمع للنّبَط، وإِنما العرب اسم جنس.
وأَعرب بحُجَّته: أَفصح بها ولم يَتَّق أَحدا، والرّجلُ: وُلد له وَلَدٌ عربىٌّ، والثور البقرةَ شهَّاها، وفلان: تكلَّم بالفُحْشِ.
وإِنما سمّى الإِعراب إِعرابًا لتبيينه وإِيضاحه.
وأَعرب الحروف وعرّبها بمعنى.
الفرّاءُ: عّرب أَجود من أَعرب، وقيل: هما سواءُ.
وقوله تعالى: {وَكَذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا}، قيل أَي مفصحًا، نحو: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ}، وقيل: أَي شريفًا كريمًا، وقيل: ناسخًا لما قبله من الأَحكام، وقيل: منسوبًا إِلى النبي صلىَّ الله عليه وسلم.
والعربىُّ إِذا نُسِبَ إِليه قيل: عربىٌّ فيكون لفظه كلفظ المنسوب إِليه.
وخير النساء اللَّعُوب العَرُوب.
وقد تعرّبت لزوجها: تغزلَّت له وتحبَّبت إِليه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، وفي سورة الزخرف: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3]، فورد هنا {جعلناه} موضع {أنزلناه} في الآية الأولى: فلسائل أن يسأل عن موجب هذا التخصيص لاتفاق الوارد في الآيتين لفظًا ومعنى في غير ما ذكر؟
والجواب عنه، والله أعلم: أن آية سورة يوسف لما كانت توطئة لذكر قصصه، عليه السلام، ولم تتضمن السورة غير ذلك إلا ما أعقب به في آخرها مما يعرف بعجيب ما تضمنته ما كان غيبًا عند قريش والعرب، مستوفيًا ما كان أهل الكتاب يظنون أنهم انفردوا بعلمه، فأنزل الله هذه السورة موفية من ذلك أتمة، ومعرفة من قصصه العجيب، ومؤدية أكمله وأعمه، ولا أنسب عبارة هنا من قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} ليعلم العرب والجميع أن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يتلق ذلك القصص من أحد من العرب، إذ لم يكن عندهم منه نبأ، ولا رحل في تعرفه إلى أحد، فكام قصصًا وآية معلمًا بصحة رسالته عليه السلام، وعظيم تلك العناية، فالتعبير بالإنزال هنا (بين).
وأما آية الزخرف فلم تبن على أخبار بل أعقبت بآي الاعتبار والتلطف في التنبيه والتذكار قال تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف: 5]، وهذا أعظم التلطف، وقال تعالى بعد: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9]، ثم مضت أكثر آي هذه السورة على نحو خذا الاعتبار وما يناسبه.
وقد ذكر سيبويه، رحمه الله، في أقسام جعل كونها بمعنى صير ملحقًا لها بظننت وأخواتها ومنه وقلهم: جعل الطين خزفًا، وذلك انتقال وتصيير فالمراد بالآية جعل الكتاب معتبرًا هدى ونورًا والمنبهون به والمعتبرون بآياته المخاطبون به مخلوقون تقدمهم العدم، وإنما صح خطابهم به مشاهدة بعد وجودهم، فصح بانتقال حالهم التصيير، وجل عن التغيير والحدوث كلام الحكيم الخبير، فكرمه سبحانه قديم ليس بمخلوق فيبيد ولا صفة لمخلوق فينفد، فقد وضح معنى الجعل هنا ومسوغه، وأنه لا يناسب هنا غير ذلك، ولا يناسب الآية الأخرى غير: {أنزل}، فجاء كل على ما يجب والله أعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{بسم الله الرحمن الرحيم}
الاسم من وسم، فمن وسم ظاهره بالعبودية، وسرائره بمشاهدة الربوبية فقد سمت همته إلى المراتب العلية، وأزلفت رتبته من المنازل السنية.
أو أن الاسم مشتق من السمة أو السمو.
وقد الله سبحانه اسم الله في هذا المحل على اسميه الرحمن والرحيم على وجه البيان والحكم، فبرحمته الدنيوية وصل العبد إلى معرفته الإلهية.
والإشارة من الباء التي هس حرف التضمين والإلصاق إلى أن به عرف من عرف وبه وقف من وقف فالواصل إليه محمول بإحسانه ن والواقف دونه مربوط بخذلانه.
{الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)}
التخاطُب بالحروف المتفرقة غير المنظومة سُنَّةُ الأحباب في سَتْر المحابِّ؛ فالقرآنُ- وإنْ كان المقصودُ منه الإيضاحَ والبيانَ- ففيه تلويح وتصريح، ومُفَصَّلٌ ومُجْمَلٌ، قال قائلهم:
أبكي إلى الشرق إنْ كانت منازْلُكم ** مما يلي الغربَ خوفَ القيل والقالِ

ويقال وقفت فهُومُ الخَلْق عن الوقوف على أسراره فيما خاطب به حبيبه صلى الله عليه وسلم، فهم تعبدوا به وآمنوا به على الجملة أفرد الحبيبَ بفهمه، فهو سِرُّ الحبيب عليه السلام بحيث لا يطلع عليه الرقيب، يقول قائلهم:
بين المحيين سِرُّ ليس يُفْشيه ** قولٌ، ولا قلم للخْلق يحكيه

وفي إنزال هذه الحروف المقطعة إشارة: وهي أنَّ منْ كان بالعقل والصحو استنبط من اللفظ اليسير كثيرًا من المعاني، ومن كان بالغيبة والمحو يسمع الكثير فلا يفهم منه اليسير؛ ذاك لكمال عقله وهذا لتمام وَصْلِه؛ فأنزل اللَّهُ هذه الحروف التي لا سبيلَ إلى الوقوف على معانيها، ليكون للأحباب فُرْجَةٌ حينما لا يقفون على معانيها بِعَدَم السبيل إليها فلا تتوجه عليهم مُطَالَبةٌ بالفهم، وكان ذلك لائقًا بأحوالهم إذا كانوا مستغرِقين في عين الجَمْع، ولذا قيل: استراح من العقل له.
وقوله تعالى: {تِلْكَ} يحتمل أن يكون إشارة إلى أن هذا خَبَرُ الوعد الذي وعدناك.
وقيل هذا تعريفنا: إليك بالتخصيص، وأفرادُنا لك بالتقريب- قد حقَّقْناه لكَ؛ فهذه الحروف بيانٌ للإنجاز ولتحقيق الموعود.
والإشارة من: {الْكِتَابِ الْمُبِينِ} هاهنا إلى حُكْمِه السابق له بأَنْ يُرَقِّيَه إلى الرتبة التي لا يبلغها غيرُه، وقد قال تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} [القصص: 46] أي حين كلَّمنا موسى عليه السلام، وأخبرناه بعلوِّ قَدْرِك، ولم تكن حاضرًا، وأخبرناه بأننا نُبَلِّغُك هذا المقامَ الذي أنت فيه الآن. وكذلك كلُّ مَنْ أوحينا إليه ذَكَرْنَا له قِصَتَكَ، وشَرَحْنَا له خِلقَتك، فالآنَ وقتُ تحقيق ما أخبرنا به، وفي معناه أنشدوا:
سُقْيًا لمعهدِكَ الذي لو لم يكن ** ما كان قلبي للصبابة معهدا

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا في الْزَّبُورِ مِن بَعْدِ الْذِّكْرِ} [الأنبياء: 105] يعني بعد التوراة: {أَنَّ اَلأَرْضَ يَرِثُهَا عِبادِىَ الْصَّالِحُونَ} يعني أمة محمد.
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)}
في إنزال الكتاب عليه، وإرسالِ الرسول إليه- تحقيقٌ لأحكام المحبة، وتأكيدٌ لأسباب الوصلة؛ فإنَّ مَنْ عَدِمَ حقيقة الوصول استأنس بالرسول، وَمنْ بَقِيَ عن شهود الأحباب تَسَلّى بوجود الكتاب، قال قائلهم:
وكتُبكَ حَوْلي لا تُفارقُ مضجعي ** ففيها شفاءٌ للذي أنا كاتِمُ

قوله جلّ ذكره: {نَحْنُ نَقُّصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرْآنَ}.
{أَحْسَنَ الْقَصَصِ}: لخلوِّه عن الأمر والنهي الذي سماعه يوجب اشتغال القلب بما هو يعرِّض لوقوع التقصير.
{أَحْسَنَ الْقَصَصِ}: ففيه ذكر الأحباب.
{أَحْسَنَ الْقَصَصِ}: لأن فيه عفوَ يوسف عن جناياتِ إخوته.
{أَحْسَنَ الْقَصَصِ}: لما فيه من ذِكْرِ تَرْكِ يوسف لامرأة العزيز وإعراضه عنها عندما راودته عن نفسه.
{أَحْسَنَ الْقَصَصِ}: بالإضافة إلى ما سألوه أن يقص عليهم من أحوال الناس.
{أَحْسَنَ الْقَصَصِ}: لأنه غير مخلوق.
ويقال لمَّا أخبره الله- سبحانه- أن هذه القصةَ أحسنُ القصص وجد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لنفسه مزايا وزوائد لتخصيصه؛ فَعَلِمَ أن الله تعالى لم يُرَقِّ أحدًا إلى مثل ما رقاه.
قوله جلّ ذكره: {وَإن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ}.
أي الذاهبين عن فهم هذه القصة. أي ما كنتَ إلا من جملة الغافلين عنها قبل أن أوحينا إليك بها، إي إنك لم تَصِلْ إلى معرفتها بكدَّك وجهدك، ولا بطلبك وجِدِّك.. بل هذه مواهبُ لا مكاسب؛ فبعطائِنا وَجَدْتَها لا بعنائك، وبِتَفَضُّلِنَا لا بتعلُّمِكَ، وبِتَلَطُّفِنا لا بتكلٌّفِك، وبنا لا بك. اهـ.

.تفسير الآيات (4- 6):

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تم ما أراد تعالى من تعليل الوصف بالمبين أبدل من قوله: {أحسن القصص} قوله: {إذ} أي نقص عليك خبر إذ، أي خبر يوسف إذ: {قال يوسف} أي ابن يعقوب إسرائيل الله عليهما الصلاة والسلام: {لأبيه} وبين أدبه بقوله- مشيرًا بأداة البعد إلى أن أباه عالي المنزلة جدًا، وإلى أن الكلام الآتي مما له وقع عظيم، فينبغي أن يهتم بسماعه والجواب عليه، وغير ذلك من أمره: {يأبت} تاءه للتأنيث لأنه يوقف عليها عند بعض القراء بالهاء، وكسرتها عند من كسر دالة على ياء الإضافة التي عوض عنها تاء التأنيث، واجتماع الكسرة معها كاجتماعها مع الياء، وفتحها عند من فتح عوض عن الألف القائمة مقام ياء الإضافة.
ولما كان صغيرًا، وكان المنام عظيمًا خطيرًا، اقتضى المقام التأكيد فقال: {إني رأيت} أي في منامي، فهو من الرؤيا التي هي رؤية في المنام، فرق بين حال النوم واليقظة في ذلك بألف التأنيث: {أحد عشر كوكبًا} أي نجمًا كبيرًا ظاهرًا جدًا مضيئًا براقًا، وفي عدم تكرار هذه القصة في القرآن رد على من قال: كررت قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تمكينًا لفصاحتها بترادف السياق، وفي تكرير قصصهم رد على من قال: إن هذه لم تكرر لئلا تفتر فصاحتها، فكأن عدم تكريرها لأن مقاصد السور لم تقتض ذلك- والله أعلم.
ولما كان للنيرين اسمان يخصانهما هما في غاية الشهرة، قال معظمًا لهما: {والشمس والقمر} ولما تشوفت النفس إلى الحال التي رآهم عليها، فكان كأنه قيل: على أيّ حال؟ وكانت الرؤيا باطن البصر الذي هو باطن النظر، فكان التعبير بها للإشارة إلى غرابة هذا الأمر، زاد في الإشارة إلى ذلك بإعادة الفعل، وألحقه ضمير العقلاء لتكون دلالته على كل من عجيب أمر الرؤيا ومن فعل المرتى الذي لا يعقل فعل العقلاء من وجهين فقيل: {رأيتهم لي} أي خاصة: {ساجدين} أجراهم مجرى العقلاء لفعل العقلاء.
فكأنه قيل: ماذا قال له أبوه؟ فقيل: {قال} عالمًا بأن إخوته سيحسدونه على ما تدل عليه هذه الرؤيا إن سمعوها: {يابني} فبين شفقته عليه، وأكد النهي بإظهار الإدغام فقال: {لا تقصص رؤياك} أي هذه: {على إخوتك} ثم سبب عن النهي قوله: {فيكيدوا} أي فيوقعوا: {لك كيدًا} أي يخصك، فاللام للاختصاص.
وفي الآية دليل على أنه لا نهي عن الغيبة للنصيحة، بل هي مما يندب إليه؛ قال الرماني: والرؤيا: تصور المعنى في المنام على توهم الإبصار، وذلك أن العقل مغمور بالنوم، فإذا تصور الإنسان المعنى توهم أنه يراه؛ وقال الإمام الرازي في اللوامع: هي ركود الحواس الظاهرة عن الإدراك والإحساس، وحركة المشاعر الباطنة إلى المدارك، فإن للنفس الإنسانية حواسَّ ظاهرة ومشاعر باطنة، فإذا سكنت الحواس الظاهرة استعملت الحواس الباطنة في إدراك الأمور الغائبة، فربما تدركها على الصورة التي هي عليها، فلا يحتاج إلى تعبير، وربما تراها في صورة محاكية مناسبة لها فيحتاج إلى التعبير، مثال الأول رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل المسجد الحرام، والثاني كرؤيا يوسف عليه الصلاة والسلام هذه.
وقال الرماني: والرؤيا الصادقة لها تأويل، والرؤيا الكاذبة لا تأويل لها- انتهى.
وهذا لمن ينام قلبه وهم من عدا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ولما كانت العادة جارية بأن شفقة الإخوة تمنع من مثل ذلك، علله تقريبًا له بقوله: {إن الشيطان} أي المحترق المبعد: {للإنسان} أي عامة ولاسيما الأكابر منهم: {عدو مبين} أي واضح العداوة وموضحها لكل واع فيوقع العداوة بما يخيله من فوت الحظوظ بتركها، وفي الآية دليل على أن أمر الرؤيا مشكل، فلا ينبغي أن تقص إلا على شفيق ناصح.
ولما علم يعقوب عليه الصلاة والسلام من هذه الرؤيا ما سيصير إليه ولده من النبوة والملك قال: {وكذلك} أي قد اجتباك ربك للإطلاع على هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز، ومثل ما اجتباك لها: {يجتبيك} أي يختارك ويجمع لك معالي الأمور: {ربك} المربي لك بالإحسان للملك والنبوة: {ويعلمك من} أي بعض. من الرؤيا وغيرها من كتب الله وسنن الأنبياء وغوامض ما تدل عليه المخلوقات الروحانية والجسمانية، لأن الملك والنبوة لا يقومان إلا بالعلم والتأويل المنتهي الذي يصير إليه المعنى، وذلك فقه الحديث الذي هو حكمة لأنه إظهار ما يؤول إليه أمره مما عليه معتمد فائدته، وأكثر استعماله في الرؤيا: {ويتم نعمته} بالنبوة: {عليك} بالعدل ولزوم المنهج السوي: {وعلى آل يعقوب} أي جميع إخوتك ومن أراد الله من ذريتهم، فيجعل نعمتهم في الدنيا موصولة بنعمة الآخرة، لأنه عبر عنهم في هذه الرؤيا بالنجوم المهتدي بها، ولا يستعمل الآل إلا فيمن له خطر وشرف، وإضافته مقصورة على إعلام الناطقين، قال الراغب: وأما آل الصليب إن صح نقله فشاذ، ويستعمل فيمن لا خطر له الأهل: {كما أتمها على أبويك}.
ولما كان وجودهما لم يستغرق الماضي، أدخل الجار فقال: {من قبل} أي من قبل هذا الزمان؛ ثم بين الأبوين بجده وجد أبيه فقال: {إبراهيم} أي بالخلة وغيرها من الكرامة: {و} ولده: {إسحاق} بالنبوة وجعل الأنبياء والملوك من ولده، وإتمام النعمة: الحكم بدوامها على خلوصها من شائب فيها بنقصها.
ولما كان ذلك لا يقدر عليه إلا بالعلم المحيط بجميع الأسباب ليقام منها ما يصلح، والحكمة التي بها يحكم ذلك السبب عن أن يقاومه سبب غيره، وكان السياق بالعلم أولى لما ذكر من علم التأويل مع ما تقدم من قوله آخر تلك: {ولله غيب السماوات والأرض} [هود: 123] الآية وما شاكل ذلك أول هذه، قال: {إن ربك عليم} أي بليغ العلم: {حكيم} أي بليغ الحكمة، وهي وضع الأشياء في أتقن مواضعها. اهـ.