فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما ما ينطف من السمن والعسل فهو القرآن لينه وحلاوته.
وأما المستكثر والمستقل فالمستكثر من القرآن والمستقل منه.
وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فهو الحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك الله تعالى ثم يأخذ به رجل بعدك فيعلو به ثم آخر بعده فيعلو به ثم آخر بعده فيعلو به ثم آخر فينقطع به ثم يوصل له فيعلو به أي رسول الله لتحدثني أصبت أم أخطأت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصبت بعضًا وأخطأت بعضًا، فقال: أقسمت بأبي أنت وأمي لتحدثني يا رسول الله ما الذي أخطأت؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا تقسم». اهـ. اللهم إلا أن يدعي أن المراد التعليم على الوجه الأكمل بحيث لا يخطئ من يخطئ به، وهو يستدعي كون الرجل بحيث يعرف المانسبات ومراتب النفوس ويلتزم القول بأن ذلك لا يكون إلا نبيًا، واختير أن المراد بالاجتباء الاصطفاء للنبوة. وبتعليم التأويل ما هو الظاهر. وباتمام النعمة تخليصه من المكاره، ويكون قوله عليه السلام: {يا بنى لاَ تَقْصُصْ رُءيَاكَ على إِخْوَتِكَ} [يوسف: 5] إجمالية منه إلى تعبير الرؤيا كما لا يخفى على من له ذوق وهو أيضًا متضمن للبشارة، وهذا أرداف لها بما هو أجل في نظر يوسف عليه السلام ووجه توسيط التعليم عليه لا يخفى.
وحاصل المعنى كما أكرمك بهذه المبشرة الدالة على سجود إخوتك لك ورفعة شأنك عليهم يكرمك بالنبوة والعلم الذي تعرف به تأويل أمثال ما رأيت وإتمام نعمته عليك: {وعلى ءالِ يَعْقُوبَ} بالخلاص من المكاره وهي في حق يوسف عليه السلام مما لا يخفى وفي حق آل يعقوب، والمراد بهم أهله من بنيه وغيرهم وأصله أهل، وقيل: أول، وقد حققناه في غير ما كتاب؛ ولا يستعمل إلا فيمن له خطر مطلقًا ولا يضاف لما لا يعقل ولو كان ذا خطر بخلاف أهل فلا يقال: آل الحجام.
ولا آل الحرم، ولكن أهل الحجام.
وأهل الحرم، نعم قد يضاف لما نزل منزلة العاقل كما في قول عبد المطلب:
وانصر على آل الصلي ** ب وعابديه اليوم آلك

وفيه رد على أبي جعفر الزبيدي حيث زعم عدم جواز إضافته إلى الضمير لعدم سماعه مضافًا إليه، ويعقوب كابنه اسم أعجمي لا اشتقاق له فما قيل: من أنه إنما سمي بذلك لأنه خرج من بطن أمه عقب أخيه العيص غير مرضى عند الجلة الفاقة والقحط وتفرق الشمل، وغير ذلك ما يعم.
أو يخص، ومنهم من فسر الآل بالبتين وإتمام النعمة بالاستنباء، وجعل حاصل المعنى يمنّ عليك وعلى سائر أبناء يعقوب بالنبوة، واستدل بذلك على أنهم صاروا بعد أنبياء.
وفي إرشاد العقل السليم أن رؤية يوسف عليه السلام إخوته كواكب يهتدي بأنوارها من نعم الله تعالى عليهم لدلالتها على مصير أمرهم إلى النبوة فيقع كل ما يخرج من القوة إلى الفعل من كما لا تهم بحسب ذلك تمامًا لتلك النعمة لا محالة، وأنت تعلم أن ما ذكر لا يصلح دليلًا على أنهم صاروا أنبياء لما علمت من الاحتمالات، والدليل إذا طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال ورؤيتهم كواكب يهتدي بأنوارها بمعزل عن أن تكون دليلًا على أن مصيرهم إلى النبوة، وإنما تكون دليلًا على أن مصيرهم إلى كونهم هادين للناس وهو مما لا يلزمه النبوة فقد قال صلى الله عليه وسلم: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» ونحن لا ننكر أن القوم صاروا هادين بعد أن منّ الله تعالى عليهم بالتوبة بل هم لعمري حينئذ من أجلة أصحاب نبيهم، وقد يقال أيضًا: إنه لو دل يؤيتهم كواكب على أن مصبرهم إلى النبوة لكانت رؤية أمه قمرًا أدل على ذلك ولا قائل به.
وقال بعضهم: لا مانع من أن يراد بآل يعقوب سائر بنيه، وباتمام النعمة إتمامها بالنبوة لكن لا يثبت بذلك نبوتهم بعد لجواز أن يراد: {يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} بالنبوة: {وعلى ءالِ يَعْقُوبَ} بشيء آخر كالخلاص من المكروه مثلًا، وهذا كقولك: أنعمت على زيد وعلى عمرو وهو لا يقتضي أن يكون الأنعام عليهما من نوع واحد لصدق الكلام بأن يكون قد أنعمت على زيد بمنصب.
وعلى عمرو باعطائه ألف دينار، أو بتخليصه من ظالم مثلا وهو ظاهر.
ورجح بعضهم حمل الآل على ما يعم الأبناء بأنه لو كان المراد الأبناء لكان الأظهر الأخصر وعلى إخوتك بدل ما في النظم الجليل، وقيل: إنما اختار ذلك عليه لأنه يتبادر من الإخوة الإخوة الذي نهى عن الاقتصاص عليهم فلا يدخل بنيامين، والمراد إدخاله، وقيل: المراد بآل يعقوب أتباعه الذين على دينه.
وقيل: يعقوب خاصة على أن الآل بمعنى الشخص ولا يخفى ما في القولين من البعد، وأبعدهما الأخير ومن جعل إتمام النعمة إشارة إلى الملك جعل العطف باعتبار أنهم يغتنمون آثاره من العز والجاه والمال هذا.
{كَمَا أَتَمَّهَا على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إبراهيم وإسحاق} أي إتمامًا كائنًا كاتمام نعمته على أبويك من قبل هذا الوقت أو من قبلك، والإسمان الكريمان عطف بيان لأبويك والتعبير عنهما بالأب مع كونهما أبا جده وأبا أبيه للاشعار بكمال ارتباطه بالأنبياء عليهم اللام وتذكير معنى الولد سر أبيه ليطمئن قلبه بما أخبر به، وإتمام النعمة على إبراهيم إما بالنبوة.
وإما باتخاذه خليلًا.
وإما بانجائه من نار عدوه.
وإما من ذبح ولده.
وإما بأكثر من واحد من هذه، وعلى إسحاق إما بالنبوة.
أو باخراج يعقوب من صلبه.
أو بانجائه من الذبح وفدائه بذبح عظيم على رواية أنه الذبيح، وذهب إليه غير واحد، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه، وأمر التشبيه على سائر الاحتمالات سهل إذ لا يجب أن يكون من كل وجه والاقتصار في المشبه به على ذكر إتمام النعمة من غير تعرض للاجتباء من باب الاكتفاء كما قيل فإن إتمام النعمة يقتضي سابقة النعمة المستدعية للاجتباء لا محالة ومعرفته عليه السلام لما أخبر به مما لم تدل عليه الرؤيا إما بفراسة، وكثيرًا ما تصدق فراسة الوالد بولده كيفما كان الوالد، فما ظنك بفراسته إذا كان نبيًا.
أو بوحي؟ وقد يدعى أنه استدل بالرؤيا على كل ذلك: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ} بكل شيء فيعلم من يستحق المذكورات: {حَكِيمٌ} فاعل لكل شيء حسبما تقتضيه الحكمة فيفعل ما يفعل جريًا على سنن علمه وحكته، والجلمة استئناف لتحقيق الجمل المذكورة. اهـ.

.قال القاسمي:

{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [4].
{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ} يعني يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام. والظرف بدل من المفعول قبله بدل اشتمال، أو مفعول لمحذوف: {يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} إنما ناجى يوسف أباه بهذه الرؤيا، لاعتقاده كمال علمه، وشفقته عليه، بحيث لو كانت رؤياه تسوءه لأمكنه صرفها عنه.
قال القاشاني: هذه من المنامات التي تحتاج إلى تعبير، لانتقال المتخيلة من النفوس الشريفة التي عرض على النفس من الغيب سجودها له، إلى الكواكب والشمس والقمر، وما كانت في نفس الأمر إلا أبويه وإخوته. (يا أبت) أصله يا أبي، فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في الزيادة، وكسرها لأنه عوض عن حرف يناسبها. وقرئ بفتحها لأنها حركة أصلها، أو لأنه كان (يا أبتا) فحذف الألف، وبقي الفتحة. وقرئ بالضم إجراء لها مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء، من غير اعتبار التعويض.
وقوله: {رأيتهم} استئناف لبيان حالهم التي رآهم عليها، فلا تكرير، أو تأكيد للأولى تطرية لطول العهد، كما في قوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35]، وإنما أجريت مجرى العقلاء في ضميرهم وجمع صفتهم جمعًا سالمًا؛ لوصفها بوصفهم، وهو السجود.
قال المهايمي: ولو صح كونها ناطقة فلا إشكال. قال: ولم أر من تعرض لهيئة السجود، ولعله تحريك جانبها الأعلى إلى الأسفل، مستديرة ظهرت أو مستطيلة.
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [5].
{قَالَ يَا بُنَيَّ} صغره لصغر سنه، وللشفقة عليه، ولعذوبة المصغر: {لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا} أي: فيفعلوا لأجلك أو لإهلاكك تحيلًا عظيمًا متلفًا لك: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أي: ظاهر العداوة، فلا يألو جهدًا في إغواء إخوتك وحملهم على ما لا خير فيه.
قال القاشاني: هذا النهي من الإلهامات المجملة، فإنه قد يلوح صورة الغيب من المجردات الروحانية في الروح، ويصل أثره إلى القلب، ولا يتشخص في النفس مفصلًا، حتى يقع العلم به كما هو، فيقع في النفس منه خوف واحتراز إن كان مكروهًا، وفرح وسرور إن كان مرغوبًا. ويسمى هذا النوع من الإلهام: إنذارات وبشارات، فخاف عليه السلام، من وقوع ما وقع قبل وقوعه، فنهاه عن إخبارهم برؤياه احترازًا. ويجوز أن يكون احترازه كان من جهة دلالة الرؤيا على شرفه وكرامته، وزيادة قدره على إخوته، فخاف من حسدهم عليه عند شعورهم بذلك. انتهى.
تنبيه:
قال السيوطي في الإكليل: قال الكيا: هذا يدل على جواز ترك إظهار النعمة لمن يخشى منه حسد ومكروه.
وقال ابن العربي: فيه حكم بالعادة أن الإخوة والقرابة يحسدون. قال: وفيه أن يعقوب عرف تأويل الرؤيا ولم يبال بذلك، فإن الرجل يود أن يكون ولده خيرًا منه، والأخ لا يود ذلك لأخيه.
وقال بعض المفسرين اليمانيين: قال الحاكم: هذا يدل على أنه يجب في بعض الأوقات إخفاء فضيلة، تحرزًا من الحسود. وهذا داخل في قولنا: إن الحسن إذا كان سببًا للقبيح قبح. ومنه آية الأنعام: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: من الآية 108].
وفي هذا ما ذكر عن زين العابدين:
إني لأكتم من علمي جواهره ** كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتننا

الأبيات المعروفة، ذكرها عن زين العابدين، والغزالي في منهاج العابدين والديلمي في كتاب التصفية وهذا يعقوب صلوات الله عليه أمر يوسف أن لا يقص رؤياه على إخوته، والمعنى واحد، فلا معنى لإنكار من ينكر ويزعم أن العلم لا يحل كتمه. انتهى.
ومقصوده: أن خوف الأشرار من الصوراف عن الصدع بالحق.
قال السيد ابن المرتضى اليماني في إيثار الحق: مما زاد الحق غموضًا وخفاء خوف العارفين، مع قلتهم، من علماء السوء، وسلاطين الجور، وشياطين الخلق، مع جواز التقية عند ذلك، بنص القرآن، وإجماع أهل الإسلام. وما زال الخوف مانعًا من إظهار الحق، وما برح المحق عدوًا لأكثر الخلق.
وذكر رحمه الله قبل في الاستدلال على التقية؛ أنه تعالى أثنى على مؤمن آل فرعون، مع كتم إيمانه، وسميت به سورة (المؤمن). وصح أمر عمار به، وتقريره عليه، ونزلت فيه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: من الآية 106]، وقد صح عن أبي هريرة أنه قال في ذلك العصر الأول: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، أما أحدهما فبثثته لكم، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم. قال الغزالي في خطبة المقصد الأسنى: من خالط الخلق جدير بأنه يتحامى. لكن من أبصر الحق عسير عليه أن يتعامى. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [6].
{وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} أي: مثل ذلك الاصطفاء، بإراءة هذه الرؤيا العظيمة الشأن، يصطفيك للنبوة والسيادة: {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} أي: تعبير المنامات، وإنما سمي التعبير تأويلًا؛ لأنه جعل المرئي آيلًا إلى ما يذكره المعبر بصدد التعبير وراجعًا إليه. والأحاديث اسم جمع للحديث، سميت به الرؤيا؛ لأنها إما حديث ملك أو نفس أو شيطان: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} أي: بما سيؤول إليه أمرك: {وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} وهم أهله من بنيه، وحاشيتهم، أي: يسبغ نعمته عليهم بك: {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ} بمن هو مستحق للاجتباء: {حَكِيمٌ} في صنعه.
تنبيهات:
الأول: قال أبو السعود: كأن يعقوب عليه السلام أشار بقوله: {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} إلى ما سيقع من يوسف عليه السلام، من تعبيره لرؤيا صاحبي السجن، ورؤيا الملك، وكون ذلك ذريعة إلى ما يبلغه الله إليه من الرياسة العظمى التي عبر عنها بإتمام النعمة. وإنما عرف يعقوب عليه السلام ذلك منه من جهة الوحي. أو أراد كون هذه الخصلة سببًا لظهور أمره عليه السلام على الإطلاق، فيجوز حينئذ أن تكون معرفته بطريق الفراسة، والاستدلال من الشواهد والدلائل والأمارات والمخايل، بأن من وفقه الله تعالى لمثل هذه الرؤيا، لابد من توفيقه لتعبيرها، وتأويل أمثالها، وتمييز ما هو آفاقي منها، مما هو أنفسي، كيف لا وهي تدل على كمال تمكن نفسه عليه السلام في عالم المثال، وقوة تصرفاتها فيه، فيكون أقبل لفيضان المعارف المتعلقة بذلك العالم، وبما يحاكيه من الأمور الواقعة بحسبها في عالم الشهادة، وأقوى وقوفًا على النسب الواقعة بين الصور المعاينة في أحد ذينك العالمين، وبين الكائنات الظاهرة على وفقها في العالم الآخر. وإن هذا الشأن البديع، لابد أن يكون أنموذجًا لظهور أمر من اتصف به، ومدارًا لجريان أحكامه، فإن لكل نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معجزة، بها تظهر آثاره، وتجري أحكامه.
الثاني: استدل بالآية على أن (الجد) يطلق عليه اسم (الأب)، فيدل أن من نسب رجلًا إلى جده وقال: (يا ابن فلان) أنه لا يكون قذفًا.
الثالث: قال المهايمي: من فوائد هذا المقام استحباب كتمان السر، وجواز التحذير عن شخص بعينه، ومدح الشخص في وجهه إذا لم يضره، واعتبار السبب وإن لم يؤثر، وأن لكل حادث تأويلًا عند الأولياء، وأنه تعبر الرؤيا من الصغار، وإن كان من عالم الخيال؛ إذ تصور المخيلة معاني معقولة بصور محسوسة، فترسلها إلى الحس المشترك فيشاهدها. والصادقة منها ما تكون باتصال النفس عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ، فيتصور بما فيها مما يناسب المعاني، فإن كانت شديدة المناسبة استغنت عن التعبير، وإلا احتاجت إليه. فالأخبار عن هذه الرؤيا آية، وعما ترتب عليها آيات.

.بحث في الرؤيا:

قال الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه الذريعة في بحث الفراسة ما مثاله: ومن الفراسة علم الرؤيا. وقد عظم الله تعالى أمرها في جميع الكتب المنزلة، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاس} [الإسراء: من الآية 60]، وقال: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِك} [الأنفال: من الآية 43] الآية، وقال في قصة إبراهيم: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك} [الصافات: من الآية 102]، وقوله: {يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} [يوسف: من الآية 4].
والرؤيا هي فعل النفس الناطقة، ولو لم يكن لها حقيقة لم يكن لإيجاد هذه القوة في الإنسان فائدة. والله تعالى يتعالى عن الباطل. وهي ضربان: ضرب وهو الأكثر أضغاث أحلام وأحاديث النفس بالخواطر الردية، لكن النفس في تلك الحال كالماء المتموج، لا يقبل صورة.
وضرب وهو الأقل صحيح، وذلك قسمان: قسم لا يحتاج إلى تأويل، ولذلك يحتاج المعبر إلى مهارة يفرق بين الأضغاث وبين غيرها، وليميز بين الكلمات الروحانية والجسمانية، ويفرق بين طبقات الناس؛ إذ كان فيهم من لا تصح له رؤيا، وفيهم من تصح رؤياه. ثم من صح له ذلك؛ منهم من يرشح أن تلقى إليه في المنام الأشياء العظيمة الخطيرة، ومنهم من لا يرشح له ذلك. ولهذا قال اليونانيون: يجب أن يشتغل المعبر بعبارة رؤيا الحكماء والملوك دون الطغام، وذلك لأن له حظًا من النبوة. وقد قال عليه الصلاة والسلام: «الرؤيا الصادقة جزءٌ من ستة وأربعين جزءًا من النبوة» وهذا العلم يحتاج إلى مناسبة بين متحريه ومبينه، فرب حكيم لا يرزق حذقًا فيه، ورب نزر الحظ من الحكمة وسائر العلوم توجد له فيه قوة عجيبة. انتهى.