فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



انتهى وفيه انها ربما لم تستند إلى ملك ولا إلى شيطان كالرؤيا المستندة إلى حالة مزاجية عارضة لنائم تأخذه حمى أو سخونة اتفاقية فتحكيها نفسه في صورة حمام يستحم فيه أو حر قيظ ونحوهما أو يتسلط عليه برد فتحكيه نفسه بتصوير الشتاء ونزول الثلج ونحوهما.
ورده بعضهم بأنه يخالف الواقع فان رؤيا يوسف ليس فيها حديث وكذا رؤيا صاحبيه في السجن ورؤيا ملك مصر انتهى وقد اشتبه عليه معنى الحديث وظن ان المراد بقولهم: ان الرؤيا من حديث الملك أو الشيطان الحديث على نحو التكليم باللفظ وليس كذلك بل المراد ان المنام يصور له القصة أو حادثا من الحوادث بصورة مناسبة كما ان تصوره المتكلم اللافظ يصور ذلك بصورة لفظية يستدل بها السامع على الأصل المراد وهذا كما يقال لمن يقصد امرا ويعزم على فعل أو ترك انه حدثه نفسه ان يفعل كذا أو يترك كذا أي انه يصوره فاراد فعله أو تركه كأن نفسه حدثته بانه يجب عليك كذا أو لا يجوز لك كذا وبالجملة معنى كون الرؤيا من الاحاديث انها من قبيل تصور الأمور للنائم كما يتصور الانباء والقصص بالتحديث اللفظى فهى حديث اما ملكى أو شيطاني أو نفسي كما تقدم لكن الحق انها من احاديث النفس بالمباشرة وسيجئ استيفاء البحث في ذلك ان شاء الله تعالى هذا.
لكن الظاهر المتحصل من قصته عليه السلام المسرودة في هذه السورة ان الاحاديث التي علمه الله تعالى تأويلها اعم من احاديث الرؤيا وانما هي الاحاديث اعني الحوادث والوقائع التي تتصور للإنسان اعم من ان تتصور له في يقظة أو منام فان بين الحوادث والاصول التي تنشأ هي منها والغايات التي تنتهى إليها اتصالا لا يسع انكاره وبذلك يرتبط بعضها ببعض فمن الممكن ان يهتدى عبد باذن الله تعالى إلى هذه الروابط فينكشف له تأويل الاحاديث والحقائق التي تنتهى هي إليها.
ويؤيده فيما يرجع إلى المنام ما حكاه الله تعالى من بيان يعقوب تأويل رؤيا يوسف عليه السلام وتأويل يوسف لرؤيا نفسه ورؤيا صاحبيه في السجن ورؤيا عزيز مصر وفيما يرجع إلى اليقظة ما حكاه عن يوسف في السجن بقوله: {قال لا يأتيكما طعام ترزقانه الا نبأتكما بتأويله قبل ان يأتيكما ذلكما مما علمني ربى} الآية 37 من السورة وكذا قوله: {فلما ذهبوا به واجمعوا ان يجعلوه في غيابت الجب واوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون} الآية 15 من السورة وسيوافيك توضيحه ان شاء الله تعالى.
وقوله: {ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب} قال الراغب في المفردات: النعمة (بالكسر فالسكون) الحالة الحسنة وبناء النعمة بناء الحالة التي يكون عليها الإنسان كالجلسة والركبة والنعمة (بالفتح فالسكون) التنعم وبناؤها بناء المرة من الفعل كالضربة والشتمة والنعمة للجنس تقال للقليل والكثير.
قال: والأنعام ايصال الاحسان إلى الغير ولا يقال الا إذا كان الموصل إليه من جنس الناطقين فانه لا يقال: انعم فلان على فرسه قال تعالى: {أنعمت عليهم}، {واذ تقول للذى انعم الله عليه وانعمت عليه} والنعماء بازاء الضراء.
قال: والنعيم النعمة الكثيرة قال تعالى: {في جنات النعيم} وقال تعالى: {جنات النعيم} وتنعم تناول ما فيه النعمة وطيب العيش يقال: نعمه تنعيما فتنعم أي لين عيش وخصب قال تعالى: {فأكرمه ونعمه} وطعام ناعم وجارية ناعمة انتهى.
ففى الكلمة- كما ترى- شيء من معنى اللين والطيب والملائمة فكأنها مأخوذة من النعومة وهى الأصل في معناها وقد اختص استعمالها بالانسان لأن له عقلا يدرك به النافع من الضار فيستطيب النافع ويستلئمه ويتنعم به بخلاف غيره الذي لا يميز ما ينفعه مما يضره كما ان المال والاولاد وغيرهما مما يعد نعمة يكون نعمة لواحد ونقمة لاخر ونعمة للإنسان في حال ونقمة في أخرى.
ولذا كان القرآن الكريم لا يعد هذه العطايا الإلهية كالمال والجاه والازواج والاولاد وغير ذلك نعمة بالنسبة إلى الإنسان الا إذا وقعت في طريق السعادة ومنصبغة بصبغة الولاية الإلهية تقرب الإنسان إلى الله زلفى واما إذا وقعت في طريق الشقاء وتحت ولاية الشيطان فانما هي نقمة وليست بنعمة والآيات في ذلك كثيرة.
نعم إذا نسبت إلى الله سبحانه فهى نعمة منه وفضل ورحمة لأنه خير يفيض الخير ولا يريد في موهبته شرا ولا سوء وهو رؤف رحيم غفور ودود قال تعالى: {وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها} إبراهيم: 34 والخطاب في الآية لعامة الناس وقال تعالى: {وذرنى والمكذبين اولى النعمة ومهلهم قليلا} المزمل: 11 وقال تعالى: {ثم إذا خولناه نعمة منا قال انما اوتيته على علم} الزمر: 49 فهذه وامثالها نعمة إذا نسبت إليه تعالى لكنها نقمة إذا نسبت إلى الكافر بها قال تعالى: {لئن شكرتم لا زيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} إبراهيم: 7.
وبالجملة إذا كان الإنسان في ولاية الله كان جميع الأسباب التي يتسبب بها في استبقاء الحياة والتوصل إلى السعادة نعما الهية بالنسبة إليه وان كان في ولاية الشيطان تبدلت الجميع نقما وهى جميعا من الله سبحانه نعم وان كانت مكفورا بها.
ثم ان وسائل الحياة ان كانت ناقصة لا تفى بجميع جهات السعادة في الحياة كانت نعمة كمن اوتى مالا وسلب الأمن والسلام فلا يتمكن من ان يتمتع به كما يريده ومتى واينما يريده وإذا كان له من ذلك ما يمكنه التوصل به إلى سعادة الحياة من غير نقص فيه فذلك تمام النعمة.
فقوله: {ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب} يريد أن الله أنعم عليكم بما تسعدون به في حياتكم لكنه يتم ذلك في حقك وفى حق آل يعقوب وهم يعقوب وزوجه وسائر بنيه كما كان رآه في رؤياه.
وقد جعل يوسف عليه السلام اصلا وآل يعقوب معطوفا عليه إذ قال: {عليك وعلى آل يعقوب} كما يدل عليه الرؤيا إذ رأى يوسف نفسه مسجودا له ورأى آل يعقوب في هيئة الشمس معها القمر وأحد عشر كوكبا سجدا له.
وقد ذكر الله تعالى مما أتم به النعمة على يوسف عليه السلام انه آتاه الحكم والنبوة والملك والعزة في مصر مضافا إلى ان جعله من المخلصين وعلمه من تأويل الاحاديث ومما أتم به النعمة على آل يعقوب انه أقر عين يعقوب بابنه يوسف عليه السلام وجاء به وبأهله جميعا من البدو ورزقهم الحضارة بنزول مصر.
وقوله: {كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم واسحاق} أي نظير ما أتم النعمة من قبل على إبراهيم واسحاق وهما أبواك فأنه آتاهما خير الدنياوالآخرة فقوله: {من قبل} متعلق بقوله: {اتمها} وربما احتمل كونه ظرفا مستقرا وصفا لقوله: {ابويك} والتقدير كما اتمها على أبويك الكائنين من قبل.
و{إبراهيم واسحاق} بدل أو عطف بيان لقوله: {ابويك} وفائدة هذا السياق الاشعار بكون النعمة مستمرة موروثة في بيت إبراهيم من طريق اسحاق حيث اتمها الله على إبراهيم واسحاق ويعقوب ويوسف عليه السلام وسائر آل يعقوب.
ومعنى الآية: وكما رأيت في رؤياك يخلصك ربك لنفسه بانقائك من الشرك فلا يكون فيك نصيب لغيره، ويعلمك من تأويل الاحاديث وهو ما يؤل إليه الحوادث المصورة في نوم أو يقظة ويتم نعمته هذه وهى الولاية الإلهية بالنزول في مصر واجتماع الاهل والملك والعزة عليك وعلى ابويك واخوتك وانما يفعل ربك بك ذلك لأنه عليم بعباده خبير بحالهم حكيم يجرى عليهم ما يستحقونه فهو عليم بحالك وما يستحقونه من غضبه.
والتدبر في الآية الكريمة يعطى: اولا: ان يعقوب أيضا كان من المخلصين وقد علمه الله من تأويل الاحاديث فأنه عليه السلام اخبر كما في هذه الآية بتأويل رؤيا يوسف وما كان ليخبر عن خرص وتخمين دون ان يعلمه الله ذلك.
على ان الله بعد ما حكى عنه لبنيه: {يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من ابواب متفرقة} الخ قال في حقه: {وانه لذو علم لما علمناه ولكن اكثر الناس لا يعلمون}.
على انه بعد ما حكى عن يوسف في السجن فيما يحاور صاحبيه انه قال: {لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل ان يأتيكما ذلكما مما علمني ربى} فأخبر انه من تأويل الحديث وقد علمه ذلك ربه ثم علل التعليم بقوله: {انى تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وبالاخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائى إبراهيم واسحاق ويعقوب ما كان لنا ان نشرك بالله من شيء} الخ فأخبر انه مخلص- بفتح اللام- لله كآبائه إبراهيم واسحاق ويعقوب نقى الوجود سليم القلب من الشرك مطلقا ولذلك علمه ربه فيما علمه تأويل الاحاديث والاشتراك في العلة كما ترى يعطى ان آباءه الكرام إبراهيم واسحاق ويعقوب كهو مخلصون لله معلمون من تأويل الاحاديث.
ويؤيده قوله تعالى في موضع آخر: {واذكر عبادنا إبراهيم واسحاق ويعقوب اولى الايدى والابصار انا اخلصناهم بخالصة ذكرى الدار} ص: 46 ويعطى ان العلم بتأويل الاحاديث من فروع الاخلاص لله سبحانه.
وثانيا: ان جميع ما اخبر به يعقوب عليه السلام منطبق على متن ما رآه يوسف ع من الرؤيا وهو سجدة الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا له وذلك ان سجدتهم له وفيهم يعقوب الذي هو من المخلصين ولا يسجد الا لله وحده تكشف عن انهم انما سجدوا امام يوسف لله ولم ياخذوا يوسف الا قبلة كالكعبة التي يسجد إليها ولا يقصد بذلك الا الله سبحانه فلم يكن عند يوسف ولا له الا الله تعالى وهذا هو كون العبد مخلصا بفتح اللام لربه مخصوصا به لا يشاركه تعالى فيه شيء كما يؤمى إليه يوسف بقوله: {ما كان لنا ان نشرك بالله من شى} ء وقد تقدم آنفا ان العلم بتأويل الاحاديث متفرع على الاخلاص.
ومن هنا قال يعقوب في تعبير رؤياه: {وكذلك أي كما رايت نفسك مسجودا لها يجتبيك ربك أي يخلصك لنفسه ويعلمك من تأويل الاحاديث}.
وكذلك رؤية آل يعقوب في صورة الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا وهى اجرام سماوية رفيعة المكان ساطعة الانوار واسعة المدارات تدل على انهم سترتفع مكانتهم ويعلوا كعبهم في حياتهم الإنسانية السعيدة وهى الحياة الدينية العامرة للدنيا والاخرة ويمتازون في ذلك من غيرهم.
ومن هنا مضى يعقوب في حديثه وقال: {ويتم نعمته عليك أي وحدك متميزا من غيرك كما رأيت نفسك كذلك وعلى آل يعقوب أي علي وعلى زوجي وولدى جميعا كما رأيتنا مجمتمعين متقاربي الصور كما اتمها على ابويك من قبل إبراهيم واسحاق ان ربك عليم حكيم}.
وثالثا: ان المراد باتمام النعمة تعقيب الولاية برفع سائر نواقص الحياة السعيدة وضم الدنيا إلى الاخرة ولا تنافى بين نسبة اتمام النعمة إلى الجميع وبين اختصاص الاجتباء وتعليم تأويل الاحاديث بيعقوب ويوسف عليه السلام من بينهم لأن النعمة وهى الولاية مختلفة الدرجات متفاوتة المراتب وحيث نسبت إلى الجميع ياخذ كل منهم نصيبه منها. على ان من الجائز ان ينسب أمر إلى المجموع باعتبار اشتماله على اجزاء بعضها قائم بمعنى ذلك الأمر كما في قوله: {ولقد آتينا بنى إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات} الجاثية: 16 وايتاء الكتاب والحكم والنبوة مختص ببعضهم دون جميعهم بخلاف الرزق من الطيبات.
ورابعا: ان يوسف كان هو الوسيلة في اتمام الله سبحانه نعمته على آل يعقوب ولذلك جعله يعقوب اصلا في الحديث وعطف عليه غيره حتى ميزه من بين آله وأفرده بالذكر حيث قال: {ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب}.
ولذلك أيضا نسب هذه العناية والرحمة إلى ربه حيث قال مرة بعد مرة: {ربك} ولم يقل: {يجتبيك الله} ولا: {ان الله عليم حكيم} فهذا كله يشهد بأنه هو الأصل في اتمام النعمة على آل يعقوب واما ابواه إبراهيم واسحاق فان التعبير بما يشعر بالتنظير: {كما اتمها على ابويك من قبل إبراهيم واسحاق} يخرجهما من تحت اصالة يوسف فافهم ذلك. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

12- سُورَةُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
هِيَ مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا مِائَةٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً فَقَطْ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الثَّلَاثَ مِنْهَا مَدَنِيَّاتٌ فَلَا تَصِحُّ رِوَايَتُهُ وَلَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهٌ، وَهُوَ يُخِلُّ بِنَظْمِ الْكَلَامِ، وَقَدْ رَاجَعْتُ الْإِتْقَانَ فَإِذَا هُوَ يَنْقُلُهُ وَيَقُولُ: وَهُوَ وَاهٍ جِدًّا فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنْ يُذْكَرَ هَذَا اسْتِثْنَاءً فِي الْمُصْحَفِ الْمِصْرِيِّ وَيُزَادَ عَلَيْهِ الْآيَةُ السَّابِعَةُ.
وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سُورَةِ هُودٍ أَنَّهَا مُتَمِّمَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- وَالِاسْتِدْلَالِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى كَوْنِهَا وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى دَالًّا عَلَى رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ صلى الله عليه وسلم بِآيَتَيْنِ مُتَشَابِهَتَيْنِ، فَفِي آخِرِ قِصَّةِ نُوحٍ مِنَ الْأُولَى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [11: 49] وَفِي آخِرِ الثَّانِيَةِ: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمَرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [12: 102] وَإِشَارَةُ التَّأْنِيثِ فِي الْأُولَى لِلْقِصَّةِ الْمُنَزَّلَةِ بِهَذَا التَّفْصِيلِ وَالْبَلَاغَةِ الْعَجِيبَةِ، وَقِيلَ: لِلسُّورَةِ، وَإِشَارَةُ التَّذْكِيرِ فِي الثَّانِيَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [12: 3].
وَالْفَرْقُ بَيْنَ قِصَّتِهَا وَقِصَصِ الرُّسُلِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا وَفِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا، أَنَّ تِلْكَ قِصَصٌ لِلرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ فِي تَبْلِيغِ دَعْوَةِ الرِّسَالَةِ وَالْمُحَاجَّةِ فِيهَا، وَعَاقِبَةِ مَنْ آمَنَ بِهِمْ وَمَنْ كَذَّبَهُمْ؛ لِإِنْذَارِ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَمُتَّبِعِيهِمْ مِنَ الْعَرَبِ، وَقَدْ كُرِّرَتْ بِالْأَسَالِيبِ وَالنُّظُمِ الْمُخْتَلِفَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ التَّأْثِيرِ وَوُجُوهِ الْإِعْجَازِ الَّتِي تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ، ثُمَّ فِي بَحْثِ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ.
وَأَمَّا سُورَةُ يُوسُفَ فَهِيَ قِصَّةُ نَبِيٍّ وَاحِدٍ وُجِدَ فِي غَيْرِ قَوْمِهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ صَغِيرَ السِّنِّ، وَبَلَغَ أَشُدَّهُ وَاكْتَهَلَ فَنُبِّئَ وَأُرْسِلَ وَدَعَا إِلَى دِينِهِ، وَكَانَ مَمْلُوكًا ثُمَّ تَوَلَّى إِدَارَةَ الْمُلْكِ لِقُطْرٍ عَظِيمٍ، فَأَحْسَنَ الْإِدَارَةَ وَالتَّنْظِيمَ، وَكَانَ خَيْرَ قُدْوَةٍ لِلنَّاسِ فِي رِسَالَتِهِ وَجَمِيعِ مَا دَخَلَ فِيهِ مِنْ أَطْوَارِ الْحَيَاةِ وَطَوَارِئِهَا وَطَوَارِقِهَا، وَأَعْظَمُهَا شَأْنُهُ مَعَ أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ آلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، فَكَانَ مِنَ الْحِكْمَةِ أَنَّ تُجْمَعَ قِصَّتُهُ فِي سُورَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا نَجْعَلُهُ فِي أَوَّلِهَا وَنُفَصِّلُهُ إِنْ شَاءَ اللهُ فِي خَاتِمَتِهَا. وَهِيَ أَطْوَلُ قِصَّةٍ فِي الْقُرْآنِ افْتُتِحَتْ بِثَلَاثِ آيَاتٍ تَمْهِيدِيَّةٍ فِي ذِكْرِ الْقُرْآنِ وَحُسْنِ قَصَصِهِ، ثُمَّ كَانَتْ إِلَى تَمَامِ الْمِائَةِ فِي تَارِيخِ يُوسُفَ، وَخُتِمَتْ بِإِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى مَا أَنْزَلَهَا اللهُ لِأَجْلِهِ مِنْ إِثْبَاتِ رِسَالَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَإِعْجَازِ كِتَابِهِ، وَالْعِبْرَةِ الْعَامَّةِ بِقَصَصِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}.
فَاتِحَةُ هَذِهِ السُّورَةِ هِيَ فَاتِحَةُ سُورَةِ يُونُسَ إِلَّا وَصْفَ الْقُرْآنِ بِ: {الْمُبِينِ} هُنَا وَبِـ: {الْحَكِيمِ} هُنَالِكَ، وَهُمَا فِي أَعْلَى ذروه مِنَ الْبَيَانِ، وَأَقْصَى مَدَى مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْإِحْكَامِ، اخْتِيرَ فِي كُلٍّ مِنَ الصُّورَتَيْنِ مَا يُنَاسِبُهَا، فَسُورَةُ يُونُسَ مَوْضُوعُهَا أَصْلُ الدِّينِ، وَهُوَ تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَإِثْبَاتُ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَهِيَ مِنَ الْحِكْمَةِ.
وَهَذِهِ مَوْضُوعُهَا قِصَّةُ نَبِيٍّ كَرِيمٍ تَقَلَّبَ فِي أَطْوَارٍ كَثِيرَةٍ كَانَ قُدْوَةَ خَيْرٍ وَأُسْوَةً حَسَنَةً فِيهَا كُلِّهَا، فَالْبَيَانُ بِهَا أَخَصُّ.
{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} أَيْ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ هِيَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْبَيِّنِ الظَّاهِرِ بِنَفْسِهِ فِي حَقِيقَتِهِ وَإِعْجَازِهِ، وَكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ، وَالْمُظْهِرُ لَمَا شَاءَ اللهُ مِنْ حَقَائِقِ الدِّينِ وَمَصَالِحِ الدُّنْيَا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بَيَّنَ اللهُ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مُبِينٌ لِلْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ وَالْحَلَالِ مِنَ الْحَرَامِ. تَقُولُ الْعَرَبُ: أَبَانَ الشَّيْءُ فِعْلًا لَازِمًا بِمَعْنَى ظَهَرَ وَاتَّضَحَ.