فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)}.
مسْخُ هذه الأمة حصل على القلوب، فكما أنهم لما تركوا الأمر واستهانوا بما أُلزموا به من الشرع- عجلت عقوبتهم بالخسف والمسخ وغير ذلك من ضروب ما ورد به النَّصُّ، فهذه الأمة مِنْ نَقْضِ العهدِ ورفض الحدِّ عوقبت بمسخ القلوب، وتبديل الأحوال، قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110] وعقوبات القلوب أنكى من عقوبات النفوس، وفي معناه أنشدوا:
يا سائلي: كيف كنتَ بَعْده؟ ** لقيتُ ما ساءني وسَرَّه

ما زلت أختال في وِصالي حتى ** أمِنت من الزمانِ مَكره

طال عليَّ الصدود حتى ** لم يُبْقِ مما شَهِدَت ذرَّه

.من فوائد ابن الجوزي في الآية:

قال رحمه الله:
السبت: اليوم المعروف، قاله ابن الأنباري: ومعنى السبت في كلام العرب: القطع، يقال قد سبت رأسه: إذا حلقه وقطع الشعر منه، ويقال: نعل سبتية: إِذا كانت مدبوغة بالقرظ محلوقة الشعر، فسمي السبت سبتًا، لأن الله تعالى ابتدأ الخلق فيه، وقطع فيه بعض خلق الأرض، أو: لأن الله تعالى أمر بني إسرائيل فيه بقطع الأعمال وتركها.
قال: وقال بعضهم: سمي سبتًا، لأن الله تعالى أمرهم بالاستراحة فيه من الأعمال، وهذا خطأ، لأنه لا يعرف في كلام العرب: سبت بمعنى: استراح.
وفي صفة اعتدائهم في السبت قولان.
أحدهما: أنهم أخذوا الحيتان يوم السبت، قاله الحسن ومقاتل.
والثاني: أنهم حبسوها يوم السبت وأخذوها يوم الأحد، وذلك أن الرجل كان يحفر الحفيرة؛ ويجعل لها نهرًا إلى البحر، فاذا كان يوم السبت فتح النهر، وقد حرم الله عليه العمل يوم السبت، فيقبل الموج بالحيتان حتى يلقيها في الحفيرة، فيريد الحوت الخروج فلا يطيق، فيأخذها يوم الأحد، قاله السدي.
الإشارة إلى قصة مسخهم.
روى عثمان بن عطاء عن أبيه قال: نودي الذين اعتدوا في السبت ثلاثة أصوات.
نودوا: يا أهل القرية، فانتبهت طائفة أكثر من الأولى، ثم نودوا: يا أهل القرية، فانتبه الرجال والنساء والصبيان، فقال الله لهم: {كونوا قردة خاسئين} فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون: يا فلان ألم ننهكم؟ فيقولون برءوسهم: بلى.
قال قتادة: فصار القوم قردة تعاوي، لها أذناب بعدما كانوا رجالا ونساء.
وفي رواية عن قتادة: صار الشبان قردة، والشيوخ خنازير، وما نجا إلا الذين نهوا، وهلك سائرهم.
وقال غيره: كانوا نحوًا من سبعين ألفًا، وعلى هذا القول العلماء، غير ما روي عن مجاهد أنه قال: مسخت قلوبهم ولم تمسخ أبدانهم، وهو قول بعيد، قال ابن عباس: لم يحيوا على الأرض إلا ثلاثة أيام، ولم يحيا مسخ في الأرض فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل.
وزعم مقاتل أنهم عاشوا سبعة أيام، وماتوا في اليوم الثامن، وهذا كان في زمان داود عليه السلام.
قوله تعالى: {خاسئين} الخاسئ في اللغة: المبعد، يقال للكلب: اخسأ، أي: تباعد. اهـ.

.من فوائد ابن عطية في الآية:

قال رحمه الله:
{علمتم} معناه: عرفتم، كما تقول: علمت زيدًا بمعنى عرفته، فلا يتعدى العلم إلا إلى مفعول واحد، و{اعتدوا} معناه تجاوزوا الحد، مصرف من الاعتداء، و{في السبت} معناه في يوم السبت، ويحتمل أن يريد في حكم السبت، و{السبت} مأخوذ إما: من السبوت الذي هو الراحة والدعة، وإما من السبت وهو: القطع، لأن الأشياء فيه سبتت وتمت خلقتها.
وقصة اعتدائهم فيه، أن الله عز وجل أمر موسى عليه السلام بيوم الجمعة، وعرفه فضله، كما أمر به سائر الأنبياء، فذكر موسى عليه السلام ذلك لبني إسرائيل عن الله تعالى وأمرهم بالتشرع فيه، فأبوا وتعدوه إلى يوم السبت، فأوحى الله إلى موسى أن دعهم وما اختاروا من ذلك، وامتحنهم فيه بأن أمرهم بترك العمل وحرم عليهم صيد الحيتان، وشدد عليهم المحنة بأن كانت الحيتان تأتي يوم السبت حتى تخرج إلى الأفنية. قاله الحسن بن أبي الحسن. وقيل حتى تخرج خرطيمها من الماء، وذلك إما بالإلهام من الله تعالى، أو بأمر لا يعلل، وإما بأن فهمها معنى الأمنة التي في اليوم مع تكراره حتى فهمت ذلك، ألا ترى أن الله تعالى قد ألهم الدواب معنى الخوف الذي في يوم الجمعة من أمر القيامة، يقضي بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة فرقًا من الساعة» وحمام مكة قد فهم الأمنة، إما أنها متصلة بقرب فهمها.
وكان أمر بني إسرائيل بأيلة على البحر، فإذا ذهب السبت ذهبت الحيتان فلم تظهر إلى السبت الآخر، فبقوا على ذلك زمانًا حتى اشتهوا الحوت، فعمد رجل يوم السبت فربط حوتًا بخزمة، وضرب له وتدًا بالساحل، فلما ذهب السبت جاءَ وأخذه، فسمع قوم بفعله فصنعوا مثل ما صنع، وقيل بل حفر رجل في غير السبت حفيرًا يخرج إليه البحر، فإذا كان يوم السبت خرج الحوت وحصل في الحفير، فإذا جزر البحر ذهب الماء من طريق الحفير وبقي الحوت، فجاء بعد السبت فأخذه، ففعل قوم مثل فعله، وكثر ذلك حتى صادوه يوم السبت علانية، وباعوه في الأسواق، فكان هذا من أعظم الاعتداء، وكانت من بني إسرائيل فرقة نهت عن ذلك فنجت من العقوبة، وكانت منهم فرقة لم تعص ولم تنه، فقيل نجت مع الناهين، وقيل هلكت مع العاصين.
و{كونوا} لفظة أمر، وهو أمر التكوين، كقوله تعالى لكل شيء: {كن فيكون} [النحل: 40 مريم: 35، يس: 82، غافر: 68]، ولم يؤمروا في المصير إلى حال المسخ بشيء يفعلونه ولا لهم فيه تكسب.
و{خاسئين} معناه مبعدين أذلاء صاغرين، كما يقال للكلب وللمطرود اخسًا. تقول خسأته فخسأ، وموضعه من الإعراب النصب على الحال أو على خبر بعد خبر.
وروي في قصصهم أن الله تعالى مسخ العاصين {قردة} بالليل فأصبح الناجون إلى مساجدها ومجتمعاتهم، فلم يروا أحدًا من الهالكين، فقالوا إن للناس لشأنًا، ففتحوا عليهم الأبواب كما كانت مغلقة بالليل، فوجدوهم {قردة} يعرفون الرجل والمرأة، وقيل: إن الناجين كانوا قد قسموا بينهم وبين العاصين القرية بجدار، تبريًا منهم، فأصبحوا ولم تفتح مدينة الهالكين، فتسوروا عليهم الجدار فإذا هم قردة، يثب بعضهم على بعض.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت عن أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام؛ ووقع في كتاب مسلم عنه عليه السلام أن أمة من الأمم فقدت، وأراها الفأر، وظاهر هذا أن الممسوخ ينسل، فإن كان أراد هذا فهو ظن منه عليه السلام في أمر لا مدخل له في التبليغ، ثم أوحي إليه بعد ذلك أن الممسوخ لا ينسل، ونظير ما قلناه نزوله عليه السلام على مياه بدر، وأمره باطراح تذكير النخل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أخبرتكم برأي في أمور الدنيا فإنما أنا بشر».
وروي عن مجاهد في تفسير هذه الآية أنه إنما مسخت قلوبهم فقط وردّت أفهامهم كأفهام القردة، والأول أقوى. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنكُمْ فِي السبت}.
فرق الفخر في المحصول بين العلم والمعرفة، أن العلم من قسم التصديق والمعرفة من التصور.
فردّ عليه بقوله: عرفت زيدا أبا من هو؟ وأجيب بأن متعلق العلم تصديق ومتعلق المعرفة تصور.
وانظر ما قيدت في سورة الرّحْمَان،. انتهى.
قوله: {فِي السبت}.
قال ابن عطية: والسبت أي في يوم السّبت أو في حكم السّبت.
قال ابن عرفة: الاعتداء إنما يتعلق بحكم اليوم لا بنفس اليوم فلابد من تقرير لفظ الحكم.
ابن عطية: السّبت إمّا من السّبوت وهو الراحة والدعة، وإما بمعنى القطع.
قال ابن عرفة: هما راجعان للقطع لأنّ الراحة إما تحصل بقطع الشواغل والمشوشات، أو هما متغايران تغاير العلة والمعلول فالقطع سبب في الراحة.
قال ابن عرفة: واعلم أن هذا انذار لهؤلاء الحاضرين أي أولئك عوقبوا بالمسخ مع أنهم مؤمنون بموسى، ومعصيتهم إنما هي بالتعدي في السبت وفيها سوى الكفر فهؤلاء الكافرون بالرسول الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فمعصيتهم أشد.
قوله تعالى: {خَاسِئِينَ}.
قيل: حال من فاعل {كُونُواْ} ومنع أبو حيان والطيبي أن يكون حالا من {قِرَدَةً} إذ لو كان حالا منها لقيل: خاسئة.
ورده ابن عرفة بجواز: من كانت أمك، ومن كان أمك؟
فقد أجازوا تذكير اسم كان مراعاة للفظ مع أن خبره مؤنث فلذلك يصح إتيان الحال جمع سلامة بالياء والنون من خاسئة وإن كان جمع ما لا يعقل لكونه خبرا عن مذكر عاقل.
قال ابن عطية: وثبت أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام.
قال ابن عرفة: وقول الإمام مالك رضي الله عنه: إن القرد لا يؤكل لأنه مسخ يريد أنه شبيه بالممسوخ وعلى صفته.
وخرّج مسلم في كتاب الزهد والرقائق في صحيحه عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدرى ما فعلت وإني لأراها إلا الفأرَ إذا وضع لها ألبان الإبل لا تشربه فإذا وضع لها ألبان الشاء شربته» قلت: وخرجه الإمام البخاري في كتابه.
ابن عطية: ظاهره أن الممسوخ ينسل، فإذا كان أراد هذا فهو ظن منه عليه الصلاة والسلام لا مدخل له في التبليغ ثم أوحي إليه بعده أنه لا ينسل.
قلت: وكذا تأوله ابن رشد في كتاب الجامع الثالث من البيان.
ونظير هذا نزوله عليه السلام على مياه بدر، وأمره لهم بترك تذكير النّخل فلم يثمر ذلك العام إلا يسيرا فقال لهم عليه الصّلاة والسلام: «إذا أخبرتكم برأي من أمور دنياكم فإنما أنا بشر وأنتم أعلم بدنياكم».
قلت: وخرّج مسلم في كتاب الصيد والذبائح عن جابر ابن عبد الله قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بضب فأبى أن يأكل منه وقال: «لا أدري لعله من القرون التي مسخت».
وخرج أيضا عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: قال: رجل يا رسول الله إنّا بأرض مضبة فما تأمرنا؟ قال: «ذكر لنا أن أمة من بني إسرائيل مسخت فلم يأمر ولم ينه».
وفي رواية «غضب الله على سبط من بني إسرائيل فمسخهم دواب يدبون في الأرض: فلا أدري لعل هذا منها، فلست آكلها ولا أنهى عنها».
قال ابن عرفة: فإن قلت: يعارض حديث مسلم، أي هذا الحديث لأنه أفاد بأن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام؟ فيجاب بأن مراده في الضب أنه مثل المسخ.
قيل لابن عرفة: مثل المسخ كونه شبيها لا يوجب تحريمه؟ فقال: حرمه لأنه مسخت أمة على صفته فلولا أنه مستقبح مستكره عند الله لما مسخت تلك الأمة على صفته.
فقيل له: أو يكون هذا الكلام منه قبل أن يوحى إليه لحديث: أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام والضبّ حيوان يشبه الحرضون إلا أن لونه أسود وسيره غير مسرع يكون في الصحاري.
قلت: وخرج مسلم في آخر كتاب القدر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال رجل: يا رسول الله القردة والخنازير هي مما مسخ؟ فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل لم يهلك قوما ويعذب قوما فيجعل لهم نسلا، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك».
ذكره في باب ضرب الآجال وقسم الأرزاق،. انتهى.
وهذا إنذار للموجودين حين نزول الآية.
أي القوم المتقدمون منكم عوقبوا مع أنهم مؤمنون بعيسى عليه السلام، ومعصيتهم إنما كانت في الفروع، وأنتم كافرون فمعصيتكم أشد وعقوبتكم أشد.
وجعل ابن التلمساني شارح المعالم صيغة أفعل هنا للتكوين كما قال ابن عطية. اهـ.

.من فوائد القرطبي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)}.
فيه سبع مسائل:
الأولى قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت} {علمتم} معناه عرفتم أعيانهم.
وقيل: علمتم أحكامهم.
والفرق بينهما أن المعرفة متوجّهة إلى ذات المُسَمَّى.
والعلم متوجّه إلى أحوال المسمَّى.
فإذا قلت: عرفت زيدًا؛ فالمراد شخصه.
وإذا قلت: علمت زيدًا؛ فالمراد به العلم بأحواله من فضل ونقص.
فعلى الأوّل يتعدّى الفعل إلى مفعول واحد، وهو قول سيبويه: {عَلِمْتُمُ} بمعنى عرفتم.
وعلى الثاني إلى مفعولين.
وحكى الأخفش: ولقد علمت زيدًا ولم أكن أعلمه.
وفي التنزيل: {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60].
كل هذا بمعنى المعرفة؛ فاعلم.
{الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت} صلة {الذين}.
والاعتداء.
التجاوز، وقد تقدّم.
الثانية: روى النَّسائي عن صفوان بن عسّال قال: قال يهوديّ لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبيّ.
فقال له صاحبه: لا تقل نبيّ لو سمعك! فإن له أربع أعين.
فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألاه عن تسع آيات بينات؛ فقال لهم: «لا تشركوا بالله شيئًا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا تمشُوا ببريء إلى سلطان ولا تَسْحَرُوا ولا تأكلوا الربا ولا تَقْذِفُوا المُحْصَنة ولا تُوَلُّوا يوم الزّحف وعليكم خاصّةً يهودُ ألاّ تعدوا في السبت».
فقبّلوا يديه ورجليه وقالوا: نشهد أنك نبيَّ.
قال: «فما يمنعكم أن تتبعوني»! قالوا: إن داود دعا بألاّ يزال من ذُرِّيته نبيّ، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود وخرّجه الترمذيّ وقال: حديث حسن صحيح، وسيأتي لفظه في سورة سبحان إن شاء الله تعالى.
الثالثة: {فِي السبت} معناه في يوم السبت؛ ويحتمل أن يريد في حكم السبت.
والأوّل قول الحسن وأنهم أخذوا فيه الحِيتان على جهة الاستحلال.
وروى أشهب عن مالك قال: زعم ابن رُومان أنهم كانوا يأخذ الرجل منهم خَيْطًا ويضع فيه وَهْقَة وألقاها في ذَنَب الحوت، وفي الطرف الآخر من الخيط وَتِد وتركه كذلك إلى الأحد؛ ثم تطرّق الناس حين رأوا مَن صَنَع لا يُبتلَى، حتى كثر صيد الحوت ومُشِيَ به في الأسواق، وأعلن الفَسَقة بصيده.
فقامت فرقة فنهت وجاهرت بالنّهي واعتزلت.
ويقال: إن الناهين قالوا: لا نساكنكم؛ فقسموا القرية بجدار.
فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد؛ فقالوا: إنّ للناس لشأنا؛ فعلَوْا على الجدار فنظروا فإذا هم قِردة؛ ففتحوا الباب ودخلوا عليهم، فعرفت القردة أنسابها من الإنس، ولا يعرف الإنس أنسابهم من القِردة؛ فجعلت القردة تأتي نسيبها من الإنس فتَشُمّ ثيابه وتبكي؛ فيقول: ألم نَنْهَكم! فتقول برأسها نعم.
قال قتادة: صار الشبان قِردة، والشيوخ خنازير؛ فما نجا إلا الذين نَهَوْا وهلك سائرهم.
وسيأتي في قول من قال: إنهم كانوا ثلاث فرق.
وهو أصح من قول من قال: إنهم لم يفترقوا إلا فرقتين.
والله أعلم.
والسَّبْت مأخوذ من السَّبْت وهو القطع؛ فقيل: إن الأشياء فيه سَبَتت وتمّت خِلْقتها.
وقيل: هو مأخوذ من السّبُوت الذي هو الراحة والدعة.
واختلف العلماء في الممسوخ هل يَنْسُل على قولين.
قال الزجاج: قال قوم يجوز أن تكون هذه القِردة منهم.
واختاره القاضي أبو بكر بن العربي.
وقال الجمهور: الممسوخ لا يَنْسُل وإن القردة والخنازير وغيرهما كانت قبل ذلك؛ والذين مسخهم الله قد هلكوا ولم يبق لهم نسل؛ لأنه قد أصابهم السّخط والعذاب، فلم يكن لهم قرار في الدنيا بعد ثلاثة أيام.
قال ابن عباس: لم يعش مَسْخٌ قطّ فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل.
قال ابن عطية: وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وثبت «أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام».
قلت: هذا هو الصحيح من القولين.
وأما ما احتج به ابن العربي وغيره على صحة القول الأوّل من قوله صلى الله عليه وسلم: «فُقِدتْ أمَّةٌ من بني إسرائيل لا يُدْرَى ما فعلت ولا أراها إلا الفأر ألاَ ترونها إذا وُضِع لها ألبانُ الإبل لم تشربه وإذا وُضِع لها ألبانُ الشاء شربته» رواه أبو هريرة أخرجه مسلم، وبحديث الضَّبّ رواه مسلم أيضًا عن أبي سعيد وجابر؛ قال جابر: أُتِيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بضبّ فأبى أن يأكل منه؛ وقال: «لا أدري لعله من القرون التي مُسختْ» فمتأوّل على ما يأتي.
قال ابن العربي: وفي البخاري عن عمرو بن مَيْمُون أنه قال: «رأيت في الجاهلية قِردة قد زَنَت فرجموها فرجمتها معهم» ثبت في بعض نسخ البخاري وسقط في بعضها، وثبت في نص الحديث: «قد زنت» وسقط هذا اللفظ عند بعضهم.
قال ابن العربي: فإن قيل: وكأن البهائم بقيت فيهم معارف الشرائع حتى ورثوها خَلفًا عن سلف إلى زمان عمرو؟ قلنا: نعم كذلك كان؛ لأن اليهود غيّروا الرجم فأراد الله أن يقيمه في مُسُوخهم حتى يكون أبلغ في الحجة على ما أنكروه من ذلك وغيّروه، حتى تشهد عليهم كتبهم وأحبارهم ومسوخهم، حتى يعلموا أن الله يعلم ما يُسِرّون وما يُعلنون، ويُحصي ما يُبدّلون وما يغيّرون، ويُقيم عليهم الحجة من حيث لا يشعرون، وينصر نبيّه عليه السلام وهم لا يُنصرون.
قلت: هذا كلامه في الأحكام، ولا حجة في شيء منه.
وأمّا ما ذكره من قصة عمرو فذكر الحميدي في جمع الصحيحين: حكى أبو مسعود الدمشقي أن لعمرو بن ميمون الأَوْديّ في الصحيحين حكايةً من رواية حُصين عنه قال: رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة فرجموها فرجمتها معهم.
كذا حكى أبو مسعود ولم يذكر في أي موضع أخرجه البخاريّ من كتابه؛ فبحثنا عن ذلك فوجدناه في بعض النسخ لا في كلها؛ فذكر في كتاب أيام الجاهلية.
وليس في رواية النعيميّ عن الفَرَبْرِيّ أصلًا شيء من هذا الخبر في القِردة؛ ولعلها من المُقْحَمات في كتاب البخاري.
والذي قال البخاريّ في التاريخ الكبير: قال لي نُعيم بن حمّاد أخبرنا هُشَيم عن أبي بَلْج وحُصين عن عمرو بن مَيمون قال: رأيت في الجاهلية قِردة اجتمع عليها قرود فرجموها فرجمتها معهم.
وليس فيه «قد زنت».
فإن صحت هذه الرواية فإنما أخرجها البخاريّ دلالة على أن عمرو بن ميمون قد أدرك الجاهلية ولم يُبال بظنّه الذي ظنّه في الجاهلية.
وذكر أبو عمر في الاستيعاب عمرو بن ميمون وأن كنيته أبو عبد اللَّه معدود في كبار التابعين من الكوفيين، وهو الذي رأى الرجم في الجاهلية من القردة إن صح ذلك؛ لأنّ رواته مجهولون.
وقد ذكره البخاريّ عن نُعيم عن هُشَيم عن حُصين عن عمرو بن ميمون الأَوْدِيّ مختصرًا قال: رأيت في الجاهلية قردة زنت فرجموها يعني القردة فرجمتها معهم.
ورواه عباد بن العوّام عن حُصين كما رواه هُشيم مختصرًا.
وأما القصة بطولها فإنها تدور على عبد الملك بن مسلم عن عيسى بن حِطّان؛ وليسا ممن يُحتّج بهما.
وهذا عند جماعة أهل العلم منكر إضافة الزنى إلى غير مكلَّف، وإقامة الحدود في البهائم.
ولو صح لكانوا من الجن؛ لأن العبادات في الإنس والجن دون غيرهما.
وأمّا قوله عليه السلام في حديث أبي هريرة: «ولا أراها إلا الفأر» وفي الضب: «لا أدري لعله من القرون التي مُسِخت» وما كان مثله، فإنما كان ظنًا وخوفًا لأن يكون الضب والفأر وغيرهما مما مُسخ، وكان هذا حَدْسًا منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يُوحَى إليه أن الله لم يجعل للمسخ نسلًا؛ فلما أوحى إليه بذلك زال عنه ذلك التخوّف، وعلم أن الضبّ والفأر ليسا مما مُسِخ؛ وعند ذلك أخبرنا بقوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن القردة والخنازير: هي مما مسخ؟ فقال: «إنّ الله لم يُهلكْ قومًا أو يعذّب قومًا فيجعل لهم نسلًا وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك» وهذا نص صريح صحيح رواه عبد اللَّه بن مسعود أخرجه مسلم في كتاب القَدَر.
وثبتت النصوص بأكل الضب بحضرته وعلى مائدته ولم يُنكر؛ فدلّ على صحة ما ذكرنا.
وبالله توفيقنا.
ورُوِي عن مجاهد في تفسير هذه الآية أنه إنما مُسِختْ قلوبُهم فقط، ورُدّت أفهامهم كأفهام القِردة.
ولم يقله غيره من المفسرين فيما أعلم.
والله أعلم.
قوله تعالى: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً} {قردة} خبر كان.
{خَاسِئِينَ} نعت، وإن شئت جعلته خبرًا ثانيًا لكان، أو حالًا من الضمير في {كونوا}.
ومعناه مبعَدين.
يقال: خَسَأته فَخَسأ وخَسِئ وانخسأ؛ أي أبعده فبَعُدَ.
وقوله تعالى: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا} [الملك: 4] أي مبعَدًا.
وقوله: {اخسئوا فِيهَا} [المؤمنون: 108] أي تباعدوا تباعد سخط.
قال الكسائي: خَسَأ الرجل خُسُوءًا، وخَسَأته خَسْأً.
ويكون الخاسئ بمعنى الصاغر القَمِيء.
يقال: قَمُؤَ الرجل قماء وقماءة صار قميئًا، وهو الصاغر الذليل.
وأقمأته: صغّرته وذلّلته، فهو قمئ على فعيل. اهـ.