فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ}
جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا لأنّ الكلام المتقدم يثير سؤالًا في نفوس السّامعين عن غرض القائلين ممّا قالوه فهذا المقصود للقائلين.
وإنّما جعلوا له الكلام السابق كالمقدمة لتتأثّر نفوس السّامعين فإذا ألقي إليها المطلوب كانت سريعة الامتثال إليه.
وهذا فنّ من صناعة الخطابة أن يفتتح الخطيب كلامه بتهيئة نفوس السّامعين لتتأثّر بالغرض المطلوب.
فإنّ حالةَ تأثّر النفوس تغني عن الخطيب غَناء جمَل كثيرة من بيان العلل والفوائد، كما قال الحريري في المقامة الحادية عشرة فلما دَفنوا الميْت، وفات قول ليت، أشرف شيخٌ من رِباوة، متأبّطًا لهراوة، فقال لمثل هذا فليعمل العاملون. وانهلّ في الخطب. والأمر مستعمل في الإرشاد. وأرادوا ارتكاب شيء يفرّق بين يوسف وأبيه عليهما السّلام تفرقة لا يحاول من جَرّائِهَا اقترابًا بأن يعدموه أو ينقلوه إلى أرض أخرى فيهلك أو يفْتَرَس.
وهذه آية من عبر الأخلاق السيّئة وهي التّخلّص من مزاحمة الفاضل بفضله لمن هو دونه فيه أو مساويه بإعدام صاحب الفضل وهي أكبر جريمة لاشتمالها على الحسد، والإضرار بالغير، وانتهاك ما أمر الله بحفظه، وهم قد كانوا أهل دين ومن بيت نبوءة وقد أصلح الله حالهم من بعد وأثنى عليهم وسمّاهم الأسباط.
وانتصب: {أرضًا} على تضمين: {اطْرَحوه} معنى أوْدعوه، أو على نزع الخافض، أو على تشبيهه بالمفعول فيه لأنّ: {أرضًا} اسم مكان فلما كان غيرَ محدود وزاد إبهامًا بالتّنكير عومِلَ معاملة أسماء الجهات، وهذا أضعف الوجوه. وقد علم أنّ المراد أرض مجهولة لأبيه.
وجَزم: {يَخْلُ} في جواب الأمر، أي إنْ فعلتم ذلك يخلُ لكم وجه أبيكم.
والخلوّ: حقيقته الفراغ.
وهو مستعمل هنا مجازًا في عدم التوجّه لمن لا يرغبون توجّهه له، فكأنّ الوجه خلا من أشياء كانت حالة فيه.
واللاّم في قوله: {لكم} لام العلة، أي يخل وجه أبيكم لأجلكم، بمعنى أنّه يخلو ممّن عداكم فينفرد لكم.
وهذا المعنى كناية تلويح عن خلوص محبّته لهم دون مشارك.
وعطف: {وتكونوا من بعده} أي من بعد يوسف عليه السّلام على: {يخل} ليكون من جملة الجواب للأمر.
فالمراد كونٌ ناشيء عن فعل المأمور به فتعيّن أن يكون المراد من الصلاح فيه الصلاح الدنيوي، أيْ صلاح الأحوال في عيشهم مع أبيهم، وليس المراد الصلاح الديني.
وأنّما لم يدبروا شيئًا في إعدام أخي يوسف عليه السّلام شفقةً عليه لصغره.
وإقحام لفظ: {قومًا} بَيْنَ كان وخبرها للإشارة إلى أنّ صلاح الحال صفة متمكّنة فيهم كأنّه من مقوّمات قوميّتهم.
وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى: {لآيات لقوم يعقلون} في سورة البقرة (164) وعند قوله تعالى: {وما تغني الآيات والنّذر عن قوم لا يؤمنون} في سورة يونس (101).
وهذا الأمر صدر من قائله وسامعيه منهم قبل اتّصافهم بالنبوءة أو بالولاية لأنّ فيه ارتكاب كبيرة القتل أو التّعذيب والاعتداء، وكبيرة العقوق. {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ}.
فصْل:
جملة: {قال قائل} جار على طريقة المقاولات والمحاورات، كما تقدّم في قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} في سورة البقرة (30).
وهذا القائل أحد الإخوة ولذلك وصف بأنّه منهم.
والعدول عن اسمه العَلَم إلى التنكير والوصفيّة لعدم الجدوى في معرفة شخصه وإنّما المهمّ أنّه من جماعتهم.
وتجنّبًا لما في اسمه العلم من الثقل اللفظي الذي لا داعي إلى ارتكابه.
قيل: إنّه (يهوذا) وقيل: (شمعون) وقيل (روبين)، والذي في سفر التّكوين من التّوراة أنه (راوبين) صدّهم عن قتله وأن يهوذا دل عليه السيارة كما في الإصحاح37.
وعادة القرآن أن لا يذكر إلاّ اسم المقصود من القصّة دون أسماء الذين شملتهم، مثل قوله: {وقال رجلٌ مؤمنٌ من آل فرعون} [سورة غافر: 28].
والإلقاء: الرمي.
والغيابات: جمع غيابة، وهي ما غاب عن البصر من شيء.
فيقال: غيابة الجبّ وغيابة القبر والمراد قعر الجبّ.
والجبّ: البئر التي تحفر ولا تطوى.
وقرأ نافع، وأبو جعفر {غيابات} بالجمع.
ومعناه جهات تلك الغيابة، أو يجعل الجمع للمبالغة في ماهية الاسم، كقوله تعالى: {أوْ كظلماتتٍ في بحرٍ لجّيّ} [سورة النور: 40] وقرأ الباقون {في غيابت الجبّ} بالإفراد.
والتّعريف في: {الجبّ} تعريف العهد الذهني، أي في غيابة جب من الجباب مثل قولهم: ادخل السوق.
وهو في المعنى كالنكرة.
فلعلّهم كانوا قد عهدوا جبابًا كائنة على أبعاد متناسبة في طرق أسفارهم يأوون إلى قربها في مراحلهم لسقي رواحلهم وشربهم، وقد توخوا أنْ تكون طرائقهم عليها، وأحسب أنّها كانت ينصب إليها ماء السيول، وأنّها لم تكن بعيدة القعر حيث علموا أنّ إلقاءه في الجبّ لا يهشّم عظامه ولا ماء فيه فيغرقه.
و{يلتقطه} جواب الأمر في قوله: {وألقوه}.
والتّقدير: إن تلقوه يلتقطه.
والمقصود من التسبب الذي يفيده جواب الأمر إظهار أنّ ما أشار به القائل من إلقاء يوسف عليه السّلام في غيابة جبّ هو أمثل ممّا أشار به الآخرون من قتله أو تركه بفيفاء مهلكة لأنّه يحصل به إبعاد يوسف عليه السّلام عن أبيه إبعادًا لا يرجى بعدَه تلاقيهما دون إلحاق ضرّ الإعدام بيوسف عليه السّلام؛ فإنّ التقاط السيّارة إياه أبقى له وأدخل في الغرض من المقصود لهم وهو إبعاده، لأنّه إذا التقطه السيّارة أخذوه عندهم أو باعوه فزاد بعدًا على بعد.
والالتقاط: تناول شيء من الأرض أو الطريق، واستعير لأخذ شيء مضاع.
والسيّارة: الجماعة الموصوفة بحالة السّير وكثرته، فتأنيثه لتأويله بالجماعة التي تسير مثل الفلاّحة والبَحّارة.
والتعريف فيه تعريف العهد الذهني لأنّهم علموا أنّ الطريق لا تخلو من قوافل بين الشام ومصر للتّجارة والميرة.
وجملة: {إن كنتم فاعلين} شرط حذف جوابه لدلالة: {وألقوه}، أي إن كنتم فاعلين إبعاده عن أبيه فألْقوه في غيابات الجبّ ولا تقتلوه.
وفيه تعريض بزيادة التريّث فيما أضمروه لعلّهم يرون الرجوع عنه أولى من تنفيذه، ولذلك جاء في شرطه بحرف الشرط وهو: {إنْ} إيماء إلى أنّه لا ينبغي الجزم به، فكَانَ هذا القائل أمثل الإخوة رأيًا وأقربهم إلى التّقوى، وقد علموا أنّ السيّارة يقصدون إلى جميع الجباب للاستقاء، لأنّها كانت محتفرة على مسافات مراحل السفر.
وفي هذا الرأي عبرة في الاقتصاد من الانتقام والاكتفاء بما يحصل به الغرض دون إفراط. اهـ.

.قال الشعراوي:

{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ}
والقتل هو قمة ما فكّروا فيه من شرّ؛ ولأنهم من الأسباط هبط الشر إلى مرتبة أقل؛ فقالوا: {أَوِ اطرحوه أَرْضًا} [يوسف: 9].
فكأنهم خافوا من إثم القتل؛ وظنوا بذلك أنهم سينفردون بحبِّ أبيهم؛ لأنهم قالوا: {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف: 9].
والوجه هو الذي تتم به المواجهة والابتسام والحنان، وهو ما تظهر عليه الانفعالات.
والمقصود ب: {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف: 9]، هو ألا يوجد عائق بينكم وبين أبيهم.
وقولهم: {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف: 9]، أي: أنهم يُقدِّرون الصلاح؛ ويعرفون أن الذي فكَّروا فيه غيرُ مقبول بموازين الصلاح؛ ولذلك قالوا: إنهم سيتوبون من بعد ذلك.
ولكن: ما الذي أدراهم أنهم سوف يعيشون إلى أن يتوبوا؟ وهم بقولهم هذا نَسُوا أن أمر المَوْت قد أبهم حتى لا يرتكب أحدٌ المعاصيَ والكبائرَ.
أو: أن يكون المقصود ب: {قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف: 9]، هو أن يكونوا صالحين لحركة الحياة، ولعدم تنغيص علاقتهم بأبيهم؛ فحين يخلُو لهم وجهه؛ سيرتاحون إلى أن أباهم سيعدل بينهم، ويهبُهم كل حبه فيرتاحون.
أو أن يكون المقصود ب: {قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف: 9]، أن تلك المسألة التي تشغل بالهم وتأخذ جزءًا من تفكيرهم إذا ما وجدوا لها حلًا؛ فسيرتاح بالهم فينصلح حالهم لإدارة شئون دنياهم.
وهكذا نفهم أن سعيهم إلى الصلاح: منوط بمراداتهم في الحياة، بحسب مفهومهم للصلاح والحياة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ...}.
وهكذا نرى التخفيف في الشر حين يرفض واحد منهم مبدأ القتل، واستبدله بالإخفاء بإلقائه في الجُبِّ.
ولم يحدد الحق سبحانه لنا اسم القائل حتى يعصمهم جميعًا من سوء الظن بهم.
والجب هو البئر غير المطوي؛ ونحن نعلم أن الناس حين تحفر بئرًا، فمياه البئر تتدفق طوال الوقت؛ وقد يأتي الردم فيسُدُّ البئر؛ ولذلك يبنون حول فُوَّهة البئر بعضًا من الطوب لحمايته من الرَّدْم؛ ويسمون مثل هذا البئر بئر مطوي، وهكذا تظل المياه في البئر في حالة استطراق.
وكلمة: {غيابت الجب} [يوسف: 10]، أي: المنطقة المخفية في البئر؛ وعادة ما تكون فوق الماء؛ وما فيها يكون غائبًا عن العيون.
ولسائل أن يقول: وكيف يتأتَّى إلقاؤه في مكان مَخْفيٍّ مع قول أحد الإخوة: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة} [يوسف: 10].
ونقول: إن في مثل هذا القول تنزيلًا لدرجة الشر التي كانت مُتوقِّدة في اقتراح بعضهم بقتل يوسف؛ وفي هذا الاقتراح تخفيض لمسألة القتل أو الطّرْح أرضًا.
وبعد ذلك عاد القائل لحالته العادية، وصَحَتْ فيه عاطفة الأخوة؛ وقال: {إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف: 10]، أي: أنه توقع عدم رفضهم لاقتراحه.
وهكذا يشرح لنا الحق سبحانه كيف تمَّتْ تصفية هذه المسألة؛ فلم يقف صاحب هذا الرأي بالعنف ضد اقتراح إخوته بقتل يوسف أو طَرْحه في الأرض؛ بل أخذ يستدرجهم ليستلَّ منهم ثورة الغضب؛ فلم يَقُلْ لهم لا تقتلوه، ولكنه قال: {لا تقتلوا يوسف}. وفي نُطْقِه للاسم تحنين لهم. ويضيف: {وَأَلْقُوهُ فِي غيابت الجب يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف: 10]. وكأنه يأمل في أن يتراجعوا عن مخططهم. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات:

{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}
الطرح للشيء رميه وإلقاؤه، وطرح عليه الثوب ألقاه، وطرحت الشيء أبعدته ومنه قول عروة بن الورد:
ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا ** من المال يطرح نفسه كل مطرح

والنوى: الطروح البعيدة.
الجب: الركية التي لم تطو، فإذا طويت فهي بئر.
قال الأعشى:
لئن كنت في جب ثمانين قامة ** ورقيت أسباب السماء بسلم

ويجمع على جبب وجباب وأجباب، وسمى جبًا لأنه قطع في الأرض، من جببت أي قطعت.
الالتقاط: تناول الشيء من الطريق، يقال: لقطه والتقطه.
وقال: ومنهل لقطته التقاطًا.
ومنه: اللقطة واللقيط.
{لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضًا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قومًا صالحين قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين}: آيات أي: علامات ودلائل على قدرة الله تعالى وحكمته في كل شيء للسائلين من سأل عنهم وعرف قصتهم.
وقيل: آيات على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم للذين سألوه من اليهود عنها، فأخبرهم بالصحة من غير سماع من أحد، ولا قراءة كتاب.
والذي يظهر أن الآيات الدلالات على صدق الرسول وعلى ما أظهر الله في قصة يوسف من عواقب البغي عليه، وصدق رؤياه، وصحة تأويله، وضبط نفسه وقهرها حتى قام بحق الأمانة، وحدوث السرور بعد اليأس.
وقيل: المعنى لمن سأل ولمن لم يسأل لقوله: {سواء للسائلين} أي سواء لمن سأل ولمن لم يسأل.
وحسن الحذف لدلالة قوة الكلام عليه لقوله: {سرابيل تقيكم الحر} أي والبرد.
وقال ابن عطية: وقوله للسائلين، يقتضي تحضيضًا للناس على تعلم هذه الأنباء لأنه إنما المراد آيات للناس، فوصفهم بالسؤال، إذ كل أحد ينبغي أن يسأل عن مثل هذه القصص، إذ هي مقر العبر والاتعاظ.
وتقدم لنا ذكر أسماء إخوة يوسف منقولة من خط الحسين بن أحمد بن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني، ونقلها من خط الشريف النقيب النسابة أبى البركات محمد بن أسعد الحسيني الجوّاني محرّرة بالنقط، وتوجد في كتب التفسير محرفة مختلفة، وكان روبيل أكبرهم، وهو ويهوذا، وشمعون، ولاوي، وزبولون، ويساخا، شقائق أمهم ليا بنت ليان بن ناهر بن آزر وهي: بنت خال يعقوب، وذان ونفتالي، وكاذ وياشير، أربعة من سريتين كانتا لليا وأختها راحيل، فوهبتا هما ليعقوب، فجمع بينهما ولم يحل الجمع بين الأختين لأحد بعده.